أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عبدالله عطوي الطوالبة - المدارس الفلسفية والفكرية المعاصرة في الحضارة الغربية(6)















المزيد.....


المدارس الفلسفية والفكرية المعاصرة في الحضارة الغربية(6)


عبدالله عطوي الطوالبة
كاتب وباحث


الحوار المتمدن-العدد: 8333 - 2025 / 5 / 5 - 22:44
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


ظهرت الفلسفة الوجودية في الحضارة الغربية، خلال النصف الأول من القرن العشرين، وإن كانت أصولها الأولى تعود إلى المفكر الدنماركي كيركيجارد. وقد كان لأفكاره الفلسفية الوجودية تأثيرها في تلك الآونة غير البعيدة، رغم بُعده هو في الزمان (1813- 1855). لم يُقدم كيركيجارد نظامًا فلسفيًّا، بل شنَّ هجومًا عنيفًا على فلسفة هيجل بسبب طابعها العمومي بحسبه. قال كيركيجارد بأولوية الوجود على الماهية، وقد يكون أول من أعطى لكلمة "وجود" معنىً وجوديًّا.
الفلسفة الوجودية في المحل الأول عودة إلى ما يُعرف بالأسئلة الحارقة المتعلقة بالإنسان، ذات الأهمية في تحديد تصوره عن العالم. وتضم هذه الفلسفة تحليلات للوجود الإنساني على أسس أنطولوجية(وجودية) وميتافيزيقية (ما ورائية). وإلى جانب الاهتمام بمصير الإنسان، تتميز الفلسفة الوجودية بجانبها التكنيكي الفلسفي. فقد أثرى مفكروها، كما سنرى لاحقًا، الفلسفة بعدد من التحليلات السيكولوجية والفينومينولوجية المتميزة، بل استكشفوا ميادين تُطرق للمرة الأولى في الحقل الفلسفي، منها الارتباطات ذات الطابع الشخصي المحض بين البشر من نوع "الوجود- مع"، و "الوجود من أجل- الآخر"، و "الأنت"، و "التواصل". وكل منها يخفي مشكلات جديدة، توسعت الفلسفة في وضعها تحت مجهرها.
لقد تخطى الفلاسفة الوجوديون في تحليلاتهم الوضعيين، وذلك بالتركيز على أن الوجود الإنساني لا يمكن اختزاله في المادة. وتجاوزوا المثاليين، في تقريرهم أولية الوجود على الفكر.
كانت الفلسفة الوجودية موضع إقبال الجمهور الأوروبي، بعد الحرب العالمية الثانية رغم صعوبة مؤلفات مفكريها، مثل كتاب جان بول سارتر "الوجود والعدم"، إذ لا بد لفهمه من معرفة متعمقة بتاريخ الفلسفة، ناهيك بالتجريد والتخصص الشديدين في تحليلاته. ومن أهم فلاسفتها في القرن العشرين، مارتن هيدجر، وجان بول سارتر، وجابريل مارسل، وكارل ياسبرز.
السمة المشتركة الأولى بين هؤلاء الفلاسفة، أن فلسفاتهم تنبع من تجربة وجودية حية معيشة، مع اختلاف هذه التجربة بين فيلسوف وآخر. فهي عند هيدجر تجربة السير تجاه الموت، وبمنظور سارتر أخذت شكل الغثيان، ولدى ياسبرز تأخذ شكل إدراك هشاشة الوجود. ولعل المشترك الرئيس بين مفكري الوجودية اتخاذهم "الوجود" موضوعًا رئيسًا لفلسفاتهم، بمعنى الطريقة الخاصة بالإنسان في الوجود، مع أنهم قلَّما استخدموا كلمة إنسان. فقد دلوا على هذه الكلمة بتعبيرات من نوع "الموجود هناك"، و "الوجود"، و "الأنا"، و "الوجود لأجل ذاته". وعليه، فأينما وردت هذه التعابير تاليًا، فإنها تعني الإنسان.
ويَجْمَع الوجوديين أيضًا تصورهم الفاعل النشط للوجود، لجهة أنه لا يكون وإنما يخلق نفسه بنفسه بالحرية، ويتماشى مع الزمانية ويتطابق.
الإنسان عند الوجوديين بخلاف فلاسفة الحياة، ذاتية خالصة وليس "مظهرًا أو تجسيدًا لتيار حيوي أشمل منه"، أي التيار الحيوي الكوني، كما هو الحال عند برجسون. الإنسان يخلق نفسه بنفسه بمنظور فلاسفة الوجودية، إنه حريته هو، وليس منغلقًا على نفسه. إنه على العكس من ذلك، مرتبط مع العالم، وعلى وجه الخصوص أبناء جنسه الآخرين. وقد قالوا بما يُعرف بالتبعية المزدوجة للإنسان، ويعنون بذلك أن وجوده مضموم في العالم، قائم في داخله إلى حد أنه يكون دائمًا في موقف محدد. من جهة ثانية، هناك رِباط وصِلة بين البشر يكوِّنان الطبيعة الخاصة للوجود الإنساني، شأنهما شأن الموقف. وهذا هو معنى الوجود عند هيدجر، و "التواصل" عند ياسبرز و"الأنت" برأي مارسل.
يرفض الوجوديون التمييز بين الذات والموضوع، ويقللون من قيمة المعرفة العقلية في الفلسفة. فالمعرفة الحقَّة، كما يرون، لا تُكتسب بالعقل، بل ينبغي التعامل مع الواقع بالقلق، لأن الإنسان يدرك به أنه موجود محدود قاصر، ويدرك هشاشة وضعه في العالم.
لكن ورغم هذه المشابه ونقاط الإلتقاء بين فلاسفة الوجودية، ليس يفوت الباحث ملاحظة وجود اختلافات عميقة بينهم. فقد أعلن مارسل إيمانه بالألوهية مثل كيركيجارد، بينما يقول ياسبرز بالتعالي أو الوجود المتعالي، وهو لا يعادل القول بوجود الألوهية أو بوحدة الوجود. من جهته، يُنكر هيدجر الألوهية، وفي الإطار ذاته، يقيم سارتر مذهبًا متسق الأركان منكرًا للألوهية أيضًا.
ويختلف الوجوديون فيما بينهم بالمنهج والهدف، إذ يعتقد هيدجر أنه يقدم نظرية في الوجود بالمعنى الأرسطي ويطبق منهجًا دقيقًا. الشيء ذاته يعتقد به سارتر بشأن فلسفته، لكن في المقابل، يرفض ياسبرز الأنطولوجيا في مجال التعريف بالوجود، ويمارس نوعًا من التأمل الميتافيزيقي. ولا يتقيد بخطوات محددة على صعيد المنهج، إذ يبدو كما لو أنه يستخدم منهجًا متحررًا.
ونتناول الان بإيجاز قدر المستطاع أهم رؤى فلاسفة الوجودية، بدءًا بهيدجر(ولد عام 1889).
الوجود بمنظور هيدجر ليس شبيهًا بالمتواجد، بل هو الذي يحدد هذا الأخير من حيث هو متواجد. وللتعمق في دراسة معنى الوجود، لا بد برأي هيدجر من البحث عن متواجد يكون ممكنًا الوصول إليه على النحو الذي هو عليه في ذاته. من الواضح أن سؤال معنى الوجود هو أحد أوجه وجود متواجد معين، برأي هيدجر، إنه المتواجد الذي هو نحن أنفسنا. ويطلق هيدجر على هذا المتواجد الإنساني اسم "ديزاين"، أو "الموجود هناك"، على ما أنف بيانه. هذا "المتواجد هناك"، هو نقطة البدء للبحث الفلسفي عند هيدجر. وبحسبه، من غير الممكن تعريف ماهية "الموجود هناك" بذكر ما يحتويه، بل تقوم ماهيته في كينونته المتعيَّنَة ويكمن تفسيرها هناك. هذا يعني ان واقعة الكينونة وحدها ينبغي أن تجعلنا نفهم السؤال الخاص بالكينونة، وهو ما يسميه هيدجر "الفهم الوجودي". هذا الفهم يفسر الخصائص الأنطولوجية "للموجود هناك" مقابل الخصائص الأنطولوجية للمتواجدات الجامدة الخام. ويعني هيدجر بهذه الأخيرة، المتواجدات المختلفة عن "الموجود هناك" الإنساني والمقولات. ولهيدجر رأيه بدور الفينومينولوجيا، إذ يراه في التأويل، وقد استمده من فلسفة دلتاي، وخاصة على صعيد دراسة الكينونة، لتفسير تركيبها وتكوينها. على هذا الأساس، تصبح الفلسفة نظرية أنطولوجية عامة، تنتج عن تأويل "الموجود هناك". وهو، أي "الموجود هناك" ليس نُسَخًا متشابهة، ويتصرف بإزاء وجوده هو نفسه على أنحاء مختلفة متنوعة. ويسمي هيدجر أساس كل نحو من هذه الأنحاء "الوجود في العالم". وهو ذو علاقة متصلة بالمتواجدات الجامدة الخام. كما يتميز وجوده ب"الإهتمام"، أي أنه يدخل في علاقة مع غيره من الموجودات. والعالم بنظر هيدجر يتكون من أدوات، ومن جوهر كل أداة "شئٌ ما من أجل". الأداة يسميها هيدجر "ما في متناول اليد"، أو "ما تحت اليد"، وتدخل باستمرار في علاقة مع غيرها من الأدوات. فكل أداة في علاقة مع أداة غيرها، وترجع إلى ذلك الذي يتعامل بها ويستخدمها. إذن، طابع وجود الأداة هو وضعها، ويتحدد على أساس "ما هو لأجله"، أي استخدام الأداة، ويعني بحسب هيدجر "إرادة من أجل". ويتعلق ب"الموجود هناك" الإنساني، فهو شرط إمكان كشف الأداة.
يقول هيدجر ب"الهذيَّة" (من هذا)، وبالقلق، في سياقات فلسفته الوجودية. على صعيد الهذية، الموجود هناك (الإنسان) ليس داخل العالم فحسب، بل يتكون جوهريًّا من الوجود في العالم. وهذا هو المقصود بالظرف هناك في تعبير "الموجود هناك". في هذا تقوم هذية الموجود هناك، وهو ذلك ال"هذا" الذي يستضئ بذاته من داخله، أي يكشف. ومع أن مفهوم الإنكشاف هنا لا يتطابق مع المعرفة، لكنه يشير إلى حالة موجودية تتأسس عليها المعرفة. نحن هنا بإزاء ضرب من الوجود يتألف من ثلاثة عناصر تتعلق بالموجود هناك الإنساني، أولها الشعور بالتواجد في الموقف، أي شعور المرء بأنه في موقف معين. عن طريق هذا الشعور يكشف أنه كائن، تتحدد واقعة وجوده على نحو متعين. ويسمي هيدجر واقعة الوجود هذه "الإلقاء". ويعني بها تلك الخاصة للموجود هناك على صعيد الإلقاء به في كينونة الهذية، في داخل العالم، لكي يوجد.
العنصر الثاني، التفسير أو الفهم، بمعنى إمكان الوجود أمام شئ ما. يحوز التفسير على بنية يسميها هيدجر "خطة- مشروع". وهو نحو وجوب يصبح الموجود هناك بموجبه ما كان في إمكانه أن يصير إليه.
العنصر الثالث، النطق وهو أساس اللغة، لكنه ليس اللغة ذاتها. النطق بالمفهوم الهيدجري صياغة ذات مغزى تحدد قابلية الوجود في العالم كي يُفهم على نحو عقلاني. يوسع هيدجر إطار فهم النطق، ليشمل الإنصات والصمت. ويختلف القلق عنده عن الخوف، في ان التهديد في حالة القلق لا يكون محددًا معينًا، إنما منبع القلق هو العالم من حيث هو كذلك. أما موضوع قلقنا، فإنه إمكاننا أن نكون موجودين في العالم. وهكذا فإن القلق يُظهر "الموجود هناك" من حيث هو وجود في العالم، وموجود فيه وجودًا واقعيًّا.
الموت يراه هيدجر من زاوية الوجود أيضًا، فهو عنده الوجود الواصل إلى نهايته للموجود هناك. بهذه الرؤية الفلسفية العميقة، الموت إمكان من امكانات الوجود. والزمانية جوهر الوجود، وجود الموجود هناك. وما الحاضر والماضي والمستقبل إلا انجذابات الزمانية، والعنصر الأهم في هذا الثالوث هو المستقبل. الزمانية تجعل وجود الموجودين كلهم ممكنًا. لكن الموجود هناك، ليس وجوده مجموع حقائق لحظية، كما أن وجوده لا يعني ملء إطار فارغ معين، بل وجود يتميز بالقدرة على الإمتداد فاعلًا ومؤثرًا.
الزمانية تاريخ وجود الإنسان، لأن الموجود هناك هو موجود تاريخي في المحل الأول. وكل ما يتعدى العالم، أي الواقع، فإنه ليس تاريخيًّا إلا على نحو ثانوي. العالم ذاته لا يكون إلا بقدر انغماس الموجود هناك في الزمان.
الحرية تُشغل مكانة بارزة في فلسفة هيدجر، فهي عنده الأساس لكل معقولية، بل هي أساس الأساس.
بالإنتقال إلى أحد أبرز أعلام الوجودية المعاصرين، ونعني جان بول سارتر، نجد أنه أقرب الوجوديين إلى فلسفة الوجود. يتميز نظامه الفلسفي بالعقلانية، ولقد حاول بناءه على نحو منطقي صارم. رفض سارتر مذهب أرسطو "حالة ما بالقوة"، إذ يرى أن كل موجود يوجد على ما هو عليه فعلًا ولا يوجد شئ بالقوة، فكل شئ يوجد بالفعل. الوجود برأي سارتر، يوجد في ذاته وهو ما هو. الوجود يوجد، ولكن لا هو يملك وجوده ولا هو تلقاه من جهة ما. الوجود هو في ذاته، ويسميه سارتر "ما في ذاته". الوجود ليس فاعلًا ولا منفعلًا، لا هو اثبات ولا هو نفي، إنما يقوم معتمدًا على ذاته لا أكثر. وليست له علاقة مع الموجودات الأخرى، بله خارج إطار الزمان.
بخلاف الموجود في ذاته، هناك نوع مختلف من الوجود، هو "ما لأجل ذاته"، هو الوجود الإنساني. الموجود لأجل ذاته، يميزه سارتر بثلاثة انجذابات، أولها، ميله نحو العدم. والثاني، ميله نحو الآخر. والثالث، ميله نحو الوجود. الإنجذاب الأول، هو الوعي والحرية. الوعي المصاحب لكل معرفة، وهو كينونة خالصة يأتيه مضمونه من الموضوع. أما الحرية، فإنها ليست مجرد خاصية للموجود لأجل ذاته، بل هو الحرية والحرية هو. ويتطابق سارتر مع هيدجر في القول بأن الموجود لأجل ذاته هو مشروع، والإنجذاب الأساسي المحدد له هو المستقبل. على هذه الأسس، الإنسان من حيث هو إنسان ليس له ماهية أو طبيعة محددتان، بل ماهيته هي الحرية. في مذهب سارتر الفلسفي، الموجود هناك لا يسبق الماهية وحسب، كما هو الشأن في حالة الموجود في ذاته، إنما ماهية الموجود لأجل ذاته هي عين وجوده. وبذلك صاغ سارتر القضية المشتركة بين فلاسفة الوجودية. الحرية تكشف عن نفسها في القلق، الذي هو فعل وعي الإنسان بوجوده الذي يصنع نفسه بنفسه بِعَدِّهِ عَدَمًا، أي فعل الوعي بالحرية.
بخصوص الإنجذاب الثاني للموجود لأجل ذاته، وهو الوجود لأجل الآخر، يقرر سارتر أن العلاقات مع الآخر جوهرية وضرورية للإنسان، ولا حاجة لإثبات وجود الآخر. فهذا الوجود مُعطىً لنا بشكل مباشر، ويتبدى في ظاهرة الخجل. الآخر يظهر أمام الموجود لأجل ذاته، على هيئة النظرة في المكان الأول. وطالما لا يوجد شخص آخر في دائرة إدراكنا البصري، فإننا نرى أنفسنا مركزًا ينظم كل شئ حول ذواتنا. ونرى الأشياء موضوعات لنا. وعندما يظهر داخل هذه الدائرة آخر، ويأخذ بالنظر فيما حوله فإنه يتسبب بحدوث اضطراب ذلك أنه يجذب إليه ليس أشياءنا فحسب، بل نحن أنفسنا كذلك، فيصنع منا موضوعًا في عالمه. وعليه، فإن الرابطة الجوهرية القائمة بين الموجودات لأجل ذاتها، تقوم على أساس أن كلًّا منها يسعى لجعل الآخر موضوعًا (شيئًا) له.
بمنظور سارتر، الإنسان محكوم بأن يكون حُرًّا. وعلى سؤال: عمَّا يبحث الإنسان في نهاية الأمر دائمًا، وفيما يقوم مشروعه الأصلي واختياره الأول، يجيب سارتر، إن الموجود لأجل ذاته، لا يشتهي في نهاية الأمر إلا شيئًا واحدًا: الوجود. ما يريده الإنسان، هو أن يصير موجودًا في ذاته، وفي الوقت عينه أساسًا لذاته، بمعنى أن يصير موجودًا في ذاته ولأجل ذاته. الموجود في ذاته ولأجل ذاته، بمنظور سارتر، هو الإله. لكن الموجود في ذاته ولأجل ذاته تصور غير ممكن وغير معقول. وهكذا ينتهي الإنجذاب الثالث للإنسان(الموجود لأجل ذاته)، كما يرى سارتر، في بحثه عن الوجود إلى الإخفاق في نهاية الأمر، فالإنسان بحسبه عذاب بغير جدوى.
المعرفة عند سارتر تزامن ما بين الموجود لأجل ذاته، والموجود في ذاته من حيث هو آخر. وينتج عن هذا التزامن أن كل ما له علاقة مع المعرفة، هو أمر إنساني محض. العالم نفسه إنساني، يخلقه الموجود لأجل ذاته ابتداءًا من الوجود.
أما جابريل مارسل(ولد 1889م)، فإن مذهبه الفلسفي الوجودي الأصعب فهمًا في جملته بين الوجوديين. لذا، لا يتوفر حتى اليوم عرض منظم لفلسفته، ولكن بالإمكان الإضاءة على محاورها الجوهرية الأهم.
يلتقي مارسل مع كيركيجارد في رفض مثالية هيجل، لكنه مع ذلك يسير في طريق فلسفة وجودية ذاتية. فقد قال بفكرة "التجسد". فالوجود الموضوعي والكينونة الإنسانية برأيه ينتميان إلى جهات في الوجود مختلفة، وما ينبهنا إلى هذا الاختلاف هو واقعة التجسد. ويوضح مارسل مقصوده بالتجسد إذ يقول: "لا يمكنني أن أصف العلاقة بيني وبين جسمي، لا على أنها علاقة وجود، ولا على أنها علاقة تَمَلُّك، إنني جسمي، ولكنني مع ذلك، لا أستطيع القول أنني وهو شئ واحد". وقد أفضى بحث مارسل في موضوع التجسد إلى التمييز بين شيئين، هما المشكلة والسِّر. المشكلة تتعلق بأي شئ يوجد بكامله خارجًا عنا، وبمقدورنا النظر إليه نظرة موضوعية كمشاهدين خارجيين. بينما السر، على العكس من المشكلة، فهو "أمر أكون فيه أنا نفسي منخرطًا". وعليه، لا يمكن لذلك الأمر بحكم ماهيته، أن يوجد خارجًا عنا.
يعتقد مارسل أن ما يهم الفلسفة هو الأسرار وحدها، لذا ينبغي أن تتعدى الفلسفة الموضوعية وأن تكون شخصية ودرامية وتراجيدية. وما يؤكد أن هناك موجودًا برأيه، فهو الحقيقة ذات السر المتمثلة في "أنا موجود". وكل فلسفة تدعي تفسير الإنسان عن طريق نظام فلسفي، فإنها غير قادرة على فهم الإنسان. الذي يسمح بفهم الموجود الإنساني هو دراسة العلاقات الإنسانية، ودراسة الحقيقة التي تقابل أحكام المخاطب، ويقصد بها مارسل الخاصة المعبر عنها ب"أنت". ويصف مارسل العلاقات الخاصة بأنها خلاَّقة، ذلك أن المرء يخلق نفسه بنفسه من خلالها. وفي الوقت عينه، يساعد الآخر على خلق حريته. برأي مارسل، لا يمكن البرهنة على وجود الإله عن طريق الوسائل العقلانية. الإنسان يلتقي بالإله على المستوى ذاته الذي يلتقي فيه الأنت، أي مستوى من "أنت"، وذلك في إطار المحبة والعبادة. هذا اللقاء يصفه مارسل بأنه نوع من المشاركة في الوجود الحق، ربما تبدأ مع وضع الفيلسوف لتساؤلاته الفلسفية.
أما الفيلسوف الوجودي كارل ياسبرز (ولد عام 1883م)، فهو من أوائل المفكرين الذين أخرجوا مؤلفات في الإتجاه الوجودي. وضع ياسبرز نظامًا فلسفيًّا يقترب من الميتافيزيقا. الفلسفة برأيه ميتافيزيقا في جوهرها، لأنها تطرح السؤال الخاص بالوجود. لكن الوجود ليس واقعة أو مُعطىً أمامنا. ومن الجنون الظن بأن الوجود هو ما يمكن لكل منا أن يعرفه. وبذلك فإنه متأثر بكانط، وهو عند ياسبرز الفيلسوف على الحقيقة وفوق كل آخر. لا موضوع من دون ذات، وكل ما هو موضوعي يحدده الوعي، والوجود الموضوعي دائمًا محض ظاهرة. هذه هي القضية الفلسفية الأولى التي يقبلها ياسبرز من كانط. أما الثانية، من النبع الفلسفي ذاته فهي "الأفكار الأربعة"، أخذها ياسبرز من فلسفة كانط وطَوَّرَها. الكُل، وهو الفكرة الأولى، ليس مُعطىً لنا في التجربة. والأفكار الثلاثة التالية وهي العام، والنفس، والإله، تتحول عند ياسبرز إلى المحيطات الثلاثة. على هذا الأساس، فإن كل ما نعرفه، كما يرى ياسبرز، لا نعرفه إلا في حدود أفق معين. وهناك محيط يحيط بالمحيطات كلها، لا يمكن إدراكه بالمعرفة. هناك أولًا المحيط الذي هو العالم، والمحيط الذي هو انا نفسي، وأخيرًا المحيط الكلي أو التعالي. ويضيف ياسبرز إلى هذه الأفكار الكانطية تجربة وجودية، هي الفكرة المركزية لفلسفته. ونعني ما يعبر عنه ياسبرز بهشاشة كل موجود وتهافته وتساقطه. فالوجود الكامل لا يتحقق أبدًا، بحسبه، والإنسان ليس إلا مجرد كينونة تاريخية. والحقيقة الحقة للوجود، عند ياسبرز، لا تثبت إلا في هيئة التعالي. هذا الأخير، أي التعالي، ليس مُعطىً موضوعيًّا في الواقع. ولا هو ذات وجود حقيقي، إلا إذا قطعنا كل صلة مع الموجودات كلها، أي أنه يتحقق في القطيعة.
يتحدث ياسبرز عن الوجود بثلاثة معانٍ. الوجود الكائن أو ما يكون، ويعني به ما يكون موضوعيًّا ماثلًا أمامنا. وفي عملية المعرفة، هناك الوجود من حيث هو " من أجل ذاته"، ويختلف عن كل وجود للأشياء غيره. وأخيرًا، وجود "ما في ذاته"، وهو التعالي بمنظور ياسبرز، الذي لا يمكن للكائن ولا للذات إدراكه. تلك هي أقطاب الوجود الثلاثة، كما يرى ياسبرز، ومن أيٍّ منها نبدأ، ليس بمستطاعنا أن نجد الوجود كله، ولا الإحاطة به. لهذا السبب، يؤكد ياسبرز ضرورة تعالي الفلسفة بطرق ثلاث: التوجه إلى العالم، وإيضاح الوجود، وبالميتافيزيقا.
التعالي الأول من شأنه أن يُخرج العالم من وجوده الموضوعي المتماسك والمنظم إلى ذاته، فيصل به إلى الحدود التي لا يمكن أن يتعداها. التعالي الثاني، ينطلق من الأنا بحسبانها كائنًا وموضوع علم النفس، فيصل بها إلى الأنا على المعنى الصحيح بحسبانها الوجود. وبالميتافيزيقا لا يكون التعالي ممكنًا إلا للوجود الإنساني، الذي يخرج من دائرة الكائن ليعود إلى ذاته ويرتفع على سُلَّمِ التعالي.
الوجود بمنظور ياسبرز ليس موضوعًا، إذ ليس بمستطاعي أن أقول عن نفسي من أكون. والفكر الموضح للوجود ليس بمقدوره إدراك الحقيقة الوجودية، التي لا تقوم إلا في السلوك الفعلي. إذن، الوجود عند ياسبرز، ليس أمرًا موضوعيًّا قابلًا للقياس وخاضعًا للتجربة وكلي التطبيق. الوجود حُرٌّ، ولكل وجود زمانه، فيه أصول ومصادر، وفيه انبعاثات جديدة. في السياق ذاته، يرى ياسبرز أن التعريف الحقيقي للوجود مستحيل، ومع ذلك يعتقد أن أنسب تعريف له يفيد بأنه ما لا يصير موضوعًا على الإطلاق. الوجود ما نتحدث عنه بكلمات لا تعني شيئًا. هو ما يرجع إلى ذاته، ومن هنا يرجع إلى تعاليه. وإذا أراد المرء الاقتراب من الوصف الدقيق للوجود، لا بد له من فهم واضح لمفهومات ياسبرزية ثلاثة، هي التواصل والتاريخية والحرية، التي هي الوجود. فلا وجود إلا من حيث هو تواصل واعٍ. فالمرء لا يوجد إلا في التواصل. التواصل الوجودي عملية كشف، وتحقيق الأنا بحسبانها هي هي. دور التواصل في الفلسفة بالغ الأهمية أيضًا، لأنها فعل من أفعال الوجود لا يتأصل إلا في التواصل. أما التاريخية، فيبدأ الحديث فيها من أن الكائن لا يوجد إلا في الزمان. التاريخية الاتحاد بين الكائن الخام والوجود، وما بين الضرورة والحرية. وهي أيضًا، اتحاد ما بين الزمان والأبدية. الوجود ليس غياب الزمان ولا هو الزمانية بحسبانها محض زمانية، بله هذا في ذاك. وبخصوص الحرية، يرى ياسبرز أن الوجود حرية. الحرية الوجودية ليست موضوعية وغير قابلة للبرهنة، ولكن لا يمكن دحضها سواء بسواء. إنها ليست هي المعرفة، ولا الإرادة الحرة، ولا القانون. ومع ذلك، فلا حرية بغير معرفة ومن دون إرادة وبلا قانون.
أخيرًا، يُسجَّل للفلسفة الوجودية تركيزها على الإنسان، وجوده ومصيره. ولكن يؤخذ عليها تركيزها على عنصر المصير هذا، وإهمال العقل. وبهذا تبدو كما لو أنها فلسفة هندوسية تأملية وليست أوروبية. ويؤخذ عليها أيضًا أن فلاسفتها لم يتعدوا المثالية إلا قليلًا، وذلك بافتراضهم أن الموضوعي ينبغي إخضاعه لشروط الذات، وببحثهم عن الوجود في "ما يتعدى الموضوع"، الذي لا يمكن تصوره بالفكر، وبالتالي غير ممكن إدراكه بالكلمات.
المتعين مركز اهتمام الفلاسفة الوجوديين، حيث يبدون وكأنهم لا يشتغلون بشئ غير ذواتهم. وهكذا تحولت فلسفاتهم إلى ما يشبه السِّيَر الذاتية المعبرة عن حالات شعورية وعاطفية. ولم يتوصل أيٌّ من فلاسفة الوجودية إلى فحص مسألة الوجود من حيث هو وجود، إذ خلطوا بين درجة الوجود المخصوصة، التي هي خاصية للإنسان من حيث هو إنسان، وضربٍ للوجود معيَّن ينسبونه للإنسان خطأ.



#عبدالله_عطوي_الطوالبة (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الدولة المدنية هي الحل
- المدارس الفلسفية والفكرية المعاصرة في الحضارة الغربية(5).
- من تجليات العقل المُغيب !
- المدارس الفلسفية والفكرية المعاصرة في الحضارة الغربية(4)
- المدارس الفلسفية والفكرية المعاصرة في الحضارة الغربية(3)
- انتخابات الصحفيين الأردنيين.
- اطلالة عقل على صفحة في تاريخنا !
- المدارس الفلسفية والفكرية المعاصرة في الحضارة الغربية(2)
- العَرط !
- وما تزال الإشكالية قائمة !
- ملحمة التكوين البابلية -الإينوما إيليش-.
- كلامٌ نتغَيَّا أن يكون حقًّا !
- أوضاعنا ليست مطمئنة !
- المدارس الفلسفية والفكرية المعاصرة في الحضارة الغربية(1)
- يا حسرة علينا...!!!
- سؤال إلى كل عربي حُر ومحترم
- الإعلامي الفهلوي !
- القربان !!!
- ماذا ينتظرنا في عالم يتغير؟!
- الأقوياء يفرضون شروطهم


المزيد.....




- زفاف ذي يزن نجل سلطان عُمان ونانسي تتألق في ليالي القاهرة.. ...
- فيديو متداول لـ-بالونات غازية- في سوريا لصد الطائرات الإسرائ ...
- مصر.. تصاعد الجدل حول قانون الإيجار القديم بعد بدء مناقشته ف ...
- الدفاع الروسية: إسقاط 9 مسيرات أوكرانية خلال نصف ساعة
- السودان يطلب المساعدة من السعودية للسيطرة على حريق هائل في م ...
- تحذيرٌ لحماس في لبنان: هل يكون الخطوة الأولى نحو طرح مسألة ا ...
- بمشاركة 30 مقاتلة... الجيش الإسرائيلي يشن غارات على اليمن
- إيران تكشف عن صاروخ جديد بعيد المدى وسط توترات مع الولايات ا ...
- ردا على قصف مطار بن غوريون .. ضربات إسرائيلية على ميناء الحد ...
- ترامب يريد -العمل- مع أردوغان لإنهاء الحرب في أوكرانيا


المزيد.....

- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي
- قتل الأب عند دوستويفسكي / محمود الصباغ
- العلاقة التاريخية والمفاهيمية لترابط وتعاضد عالم الفيزياء وا ... / محمد احمد الغريب عبدربه
- تداولية المسؤولية الأخلاقية / زهير الخويلدي
- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - عبدالله عطوي الطوالبة - المدارس الفلسفية والفكرية المعاصرة في الحضارة الغربية(6)