عبدالله عطوي الطوالبة
كاتب وباحث
الحوار المتمدن-العدد: 8340 - 2025 / 5 / 12 - 20:50
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
عرفت أوروبا والغرب عمومًا، منذ مطلع القرن العشرين، وبشكل خاص بعد انتصار ثورة أكتوبر الإشتراكية العُظمى في روسيا عام 1917، بقيادة مؤسس الإتحاد السوفييتي السابق فلاديمير إيليتش لينين، انتشار الفلسفة المادية الماركسية اللينينية. وقد تعاظم تمددها هناك بعد هزيمة ألمانيا النازية على يد الجيش السوفييتي، عام 1945، وظهور أحزاب شيوعية وقوى يسارية كان لها دور فاعل في الحياة السياسية والاجتماعية. لن نعتمد في هذه الحلقة عن الفلسفة الماركسية المادية كتاب إ.م. بوشينسكي "الفلسفة المعاصرة في أوروبا)، كما في الحلقات السابقة. أما السبب فيعود إلى ضآلة المعلومات عن هذه الفلسفة في هذا المرجع، ناهيك بتحامل المؤلف على منظومتها الفكرية وعدم موضوعيته الملحوظ في هذا الجانب، رغم إقراره بتأثيرها وسعة انتشارها وتمددها.
عندما تُذكر الفلسفة الماركسية اللينينية المادية، يخطر بالبال منظروها الرئيسين، كارل ماركس (1818- 1883)، وفردريك انجلز (1820- 1895)، وفلاديمير ايليتش لينين (1870- 1924).
الفلسفة الماركسية المادية، هي فلسفة المعرفة العلمية بالواقع وأحداثه وتطوراته، وبالطبيعة والوجود والكون، وذلك بناء على كشوفات العلم وأصول المعرفة. يقول المفكر الماركسي الفرنسي جورج بولتزر(1903- 1942):"لا تنفصل الفلسفة الماركسية عن العلوم، لكنها تتميز عنها. فكل علمٍ يدرس جانبًا من الطبيعة، أما الفلسفة الماركسية فهي النظرة العامة للطبيعة، كما هي، وبهذا فإنها فلسفة علمية". ولكن أي نظرة للطبيعة وللتاريخ، تلك التي تقدمها الفلسفة الماركسية؟
الإجابة نلتقطها من قولة في صميم ما نحن بصدده لإنجلز، إذ يقول في كتاب (فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية): "المادية وجهة نظر عامة عن العالم تنهض على أساس فكرة محددة عن العلاقة بين المادة والعقل، وتنقسم إلى جزءَين: المادية الديالكتيكية وتخص الطبيعة، والمادية التاريخية وتتعلق بالتاريخ". بخصوص الأولى، العالم المادي هو الواقع، ندركه بحواسنا ونحن أنفسنا ننتمي إليه. الإدراك والفكر نتائج نشاط عضو مادي لدى الإنسان هو الدماغ، لكن المادة ليست من نتاج العقل الإنساني بل العكس هو الصحيح، العقل نفسه نتاج المادة الأرقى.
ويعرف لينين المادة بكونها موجودًا مستقلًا عن الشعور والإدراك، بمعنى أنها الواقع الموضوعي خارج الذهن. هذا يعني، نفي التصورات الفلسفية المثالية القائلة بخلق العالم. تؤكد الفلسفة الماركسية المادية إمكانية معرفة العالم بالتجربة من خلال الحواس، فلا يوجد في العالم ما لا يمكن معرفته. وكل الأشياء المجهولة، سيتوصل الإنسان إلى معرفتها بالعقل والعلم. هذا على مستوى الطبيعة، ولكن ماذا يعني التفسير المادي للتاريخ؟
يجيب كارل ماركس على السؤال المطروح توًّا في كتابه (أسس نقد الاقتصاد السياسي)، انطلاقًا من قاعدة أن الناس خلال عملية الإنتاج الإجتماعي لمعيشتهم يقيمون علاقات ضرورية فيما بينهم، مستقلة عن إرادتهم. وهناك تطابق دائمًا بين علاقات الإنتاج ومستوى تطور قوى الإنتاج. من علاقات الإنتاج يتكون البناء المادي الاقتصادي للمجتمع، ويُعرف في الفكر الماركسي اللينيني بالبنية التحتية. وعلى أرضية هذه البنية تتشكل ثانية تُعرف بالبنية الفوقية، وتشمل البناء السياسي والتشريعي والثقافي. على هذا الأساس، تبلور المبدأ الماركسي الشهير، ومؤداه أن الواقع الاجتماعي هو الذي يحدد الوعي الاجتماعي وليس العكس. هذا يعني باختصار أن البنية التحتية متمثلة بقوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج تحدد البنية الفوقية، أي مستوى الوعي والفكر والفلسفة والسياسة والدين.
للتوضيح أكثر، قوى الانتاج وعلاقات الانتاج تُكون معًا أسلوب الإنتاج. قوى الانتاج تشمل العمال وأدوات الإنتاج المُستخدمة في عملية الانتاج. إذن، عملية الإنتاج تتميز بأنها جماعية. ثمة علاقات مصلحية مشتركة بين العمال أنفسهم، من جهة، وبينهم وبين مالكي أدوات الإنتاج، من جهة ثانية. عملية الإنتاج في نمو وتغير مستمرين باعثها عاملان رئيسان: استغلال الرأسماليين مالكي أدوات الإنتاج ووسائله لتحقيق أكبر قدر من الأرباح، واضطرار هؤلاء الأخيرين تطوير الأدوات لضمان الإرتقاء بالإنتاج كمًّا ونوعًا. وأي تغيير في عملية الانتاج ينعكس بدوره على البنى الفوقية القائمة في هذه المرحلة التاريخية أو تلك. ومن هنا نفهم المبدأ الفكري المعروف في الفلسفة الماركسية القائل بأن تاريخ تطور المجتمعات هو تاريخ تطور الإنتاج. التطور الأخير، يبدأ بتغيير القوى المنتجة، يتلوه بالضرورة تغيير في علاقات الإنتاج.
على أرضية التفسير المادي للتاريخ، تبلور الهدف الرئيس للفلسفة الماركسية ومفاده أنها لا تتوقف عند تفسير العالم فحسب، بل هدفها تغييره لبناء مجتمعات خالية من استغلال الإنسان وقهره وظُلمه. يقول ماركس في مؤلفه (موضوعات عن فيورباخ) بهذا الشأن:"ما قام به الفلاسفة هو تفسير العالم، كل بطريقته، بيد أن المطلوب تغييره".
وقال انجلز في كلمة على قبر ماركس:"كما اكتشف داروين قانون تطور العالم العضوي، اكتشف ماركس قانون تطور التاريخ البشري".
خلافًا للميتافيزيقا، الطبيعة في الفلسفة الماركسية ليست تراكمًا عرضيًّا للأشياء أو حوادث منفصلة عن بعضها. الطبيعة كُل واحد متكامل ومتماسك، كل شئ فيها مرتبط عضويًّا مع غيره من الأشياء وفي هذا الارتباط شرط وجوده، ولا يمكن فهمه إلا في إطار هذه العلاقة.
الفلسفة الماركسية المادية لا ترى الطبيعة في حالة سكون وجمود، بل في حركة تجدد وتطور دائمين. في الطبيعة دائمًا شيء يولد ويتطور وآخر يتلاشى ويضمحل. هنا، كأننا دخلنا حقل أحد أهم قوانين الديالكتيك الماركسي، ونعني قانون نفي النفي. وينهض على أساس أن الأشياء والأحداث يحتوي كل منها تناقضات داخلية، هي باعث التجديد والتغيير الدائمين لجهة الصراع والتطور، ثم الإضمحلال، لتبدأ الحركة من جديد في المسار ذاته.
قانون نفي النفي يحيلنا إلى نظرية المعرفة بمنظور الفلسفة الماركسية، ونبدأ حديثنا الموجز عنها بقولة نقبسها من كتاب انجلز (لودفيغ فيورباخ): "النظرة المادية عزمت على وضع فهم حقيقي للعالم- الطبيعة والتاريخ-، فهم متحرر من الخيالات المثالية، إذ تُقرر بلا هوادة النأي عن كل خيال مثالي لا ينسجم مع الوقائع كما هي في علاقاتها الحقيقية وليس المتخيلة". في الفلسفة الماركسية تتأسس المعرفة على النشاط العملي الانتاجي للإنسان، وهو لا يعمل منفردًا، على ما أنف بيانه، بل بالتعاون مع آخرين. وعليه، فالمجتمع ككل حامل المعرفة. المعرفة بمفهومها الماركسي ليست ساكنة، بل تتحرك وتتطور على الدوام، من التأمل الحي المباشر إلى التفكير المجرد. يقول لينين:"من التأمل الحي إلى التفكير المجرد ومنه إلى الممارسة، هذا هو الطريق الجدي لمعرفة الحقيقة، لمعرفة الواقع الموضوعي"(لينين: المؤلفات الكاملة، المجلد 29، ص 152- 153). ويقول أيضًا في السياق ذاته: " الممارسة، بمعنى التجربة العملية الحياتية، ينبغي أن تكون أساس نظرية المعرفة، وهي تؤدي حتمًا إلى المادية"(لينين" المؤلفات الكاملة، المجلد 18، ص 145).
المعرفة بمعايير الفلسفة الماركسية في الانعكاس الهادف للعالم الموضوعي وقوانينه في ذهن الإنسان، مصدرها العالم الخارجي بتفاعلاته الاقتصادية والإجتماعية. الإنسان يؤثر في المجتمع ويتأثر به، والعالم الخارجي مصدر المعرفة، حيث يؤثر على أحاسيس الإنسان فتتشكل لديه التصورات والمفاهيم، وتزيد فاعلية الإنسان بتطور مستوى وعيه.
مقول القول بخصوص المعرفة، موضوع المعرفة في الفلسفة المثالية الوعي الغيبي خارج الواقع، أو ما يسميه هيجل "الفكرة المُطْلَقَة". أما في الفلسفة الماركسية، فتنهض المعرفة على أساس النشاط المادي الإنتاجي للإنسان. من خلال هذا النشاط، وعلى أرضيته، تتشكل معرفة الإنسان لواقعه وللظواهر والأحداث والتحولات الفاعلة فيه. المعرفة بالمفهوم الماركسي، غير متناهية تحمل إمكانات دائمة للتجدد والتطور.
ومع ذلك، لا تخلو الفلسفة الماركسية مما يدعو للتساؤل بحكم التقادم من وجهة نظرنا. في البيان الشيوعي، الصادر عام 1848، تأكيد على أن "تاريخ المجتمعات لم يكن سوى تاريخ صراع الطبقات". نعتقد أن هذا الأساس النظري في الماركسية قد تقادم كما منطلقاته والظروف التي نهض عليها، وخاصة في ظل ما يشهده عالمنا اليوم من تحولات وأزمات يختنق بها النظام الرأسمالي بعد انهيار الإتحاد السوفييتي السابق. لعل أول ما يتبادر إلى هنا تقسيم الماركسية ذاتها التاريخ إلى خمسة مراحل، أولها المشاعية البدائية. فأي طبقات كانت قائمة في تلك المرحلة من التاريخ الإنساني نتج عن صراعها الإنتقال إلى المرحلة التالية بعد المشاعية البدائية، ونعني مرحلة الرق(العبودية)، كما ترى الماركسية ذاتها؟! سؤال آخر بات يفرض نفسه في ضوء ما شهده العالم من تحولات هائلة بعد وفاة واضعي النظرية الماركسية، وهو: هل الطبقات بمفهومها الذي بلوره كارل ماركس وفريدريك انجلز في ظروف زمنهما ما يزال صالحًا في عصر الاقتصاد الرقمي؟! وإذا تعريف الطبقة كما حدده ماركس ما يزال صالحًا، فمن المفترض اندلاع الثورة في قلاع الرأسمالية المتقدمة، وعلى رأسها أميركا، بناءً على ما يعصف بالنظام الرأسمالي من أزمات. وما رأي مفكري الماركسية في أيامنا هذه بالرأي القائل بأن المفهوم الماركسي للطبقة العاملة لم يعُد موجودًا، حيث حل مكانه مفهوم آخر مختلف بحكم تطورات العصر، هو العمالة الماهرة؟ وهل بات ممكنًا التسليم بأن صراع الطبقات هو محرك التاريخ، وإهمال دور المصالح والعامل القومي والدين في الصراعات بين الأمم؟!
تكتسب هذه التساؤلات مشروعيتها من أن مفهوم الطبقة العاملة قد صاغه ماركس في مرحلة الرأسمالية الصناعية، لكن الرأسمالية مرت بمرحلة الرأسمالية المالية، ثم الرأسمالية الرقمية أو المعولمة اليوم. وعليه، نعتقد أن مفهوم الطبقة العاملة كما صاغه ماركس بحاجة إلى إعادة نظر.
تناقض آخر نرى أنه بات فاقعًا في الفلسفة الماركسية، يتعلق بالجزم بأن الشيوعية نهاية التاريخ. ولا شك أن هذا التناقض بات يفرض نفسه بعد انهيار التطبيق العملي الأهم للماركسية اللينينية على أرض الواقع في الإتحاد السوفييتي السابق. نرى تناقضًا فاقعًا يعتور النظرية في هذا الجانب نجد الدليل عليه في مبادئها الرئيسة، وعلى وجه التحديد، ما ذكرنا منها في سطورنا السابقة. إذا كانت الشيوعية نهاية التاريخ، فلماذا انهارت التجرية الاشتراكية في الإتحاد السوفييتي السابق، علمًا بأن الإشتراكية مرحلة تسبق الانتقال إلى الشيوعية، وفق التصنيف الماركسي؟! كما يتناقض القول بأن الشيوعية نهاية التاريخ مع المبدأ الماركسي المتعلق بلانهائية التجدد والتطور على أرضية الصراع بين القديم والجديد. ألا يقول قانون نفي النفي الماركسي بأن الأشياء والأحداث تحمل بذور فنائها داخلها، وذلك بانطوائها على تناقضات داخلية ستنفجر في لحظة ما وسيؤدي انفجارها إلى تجاوزها؟!
مأخذ نظري آخر نستله من تحولات العصر على صعيد التحولات الديمقراطية، نرى أنه يفرض نفسه على الفكر الماركسي. فالنظرية تكاد تلتقي مع الأديان في تهميش الإنسان، ولكن كل منهما بطريقته. الأديان تُلغي فاعلية الإنسان لصالح المطلق المتعالي، والماركسية تقيده بشروط واقعه المادي المعيش وتجعل منه رقمًا بين أرقام يتكون منها المجتمع. من هنا نرى أن الحتمية التاريخية التي تؤمن بها الماركسية كما لو أنها تقيم في غرفة مجاورة للجبرية الأموية ومبدأها الرئيس "الإنسان مُسَيَّرٌ وليس مخيَّرًا".
ما ذكرنا من ملاحظات لا يعيب الماركسية، فالفكر، أي فكر، لا بد وأن يتطور مع الحياة ويواكب مستجداتها وتحولاتها، وإلا فالجمود والتلاشي. ونعتقد جازمين أن ثوابت الفلسفة الماركسية، على صعيد الحيوية والتجدد خاصة، كفيلة بإيجاد المخارج والحلول.
#عبدالله_عطوي_الطوالبة (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟