عبدالله عطوي الطوالبة
كاتب وباحث
الحوار المتمدن-العدد: 8361 - 2025 / 6 / 2 - 10:04
المحور:
دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
اتخذ الفراعنة القدماء مدينة "أبيدوس" مكانًا مقدسًا، لاعتقادهم أن رأس "أوزيريس" الشهيد مدفون فيها. ولم يلبث هذا الاعتقاد أن تحول في بداية العصر المتوسط الأول إلى فريضة حجٍّ اجبارية على كل مؤمن بالإله أوزيريس لها طقوسها، وعلى رأسها "زيارة البيت المقدس في أبيدوس والطواف حوله سبعة أشواط. وأمسى الدفن بجوار الشهيد سُنَّةً مستحبة، بحسبانه المكان الأقدس والأطهر في الأرض، بل هو في اعتقادهم مركز الكون، حتى أطلق الكُهَّان على مدفن أوزيريس "أباتون" أي الحَرَم"(سيد القمني: رب الزمان، ص262).
الحج بمعنى زيارة أماكن مقدسة في أزمنة موقوتة، للتقرب إلى الآلهة وإلى أصحاب تلك المواقع المقدسة،"معروف في الأديان جميعها تقريبًا، وهو من الشعائر الدينية القديمة عند الساميين"(د. جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ج6، ص347).
كلمة حج سامية أصيلة عتيقة، وردت في كتابات الشعوب المنسوبة إلى بني سام. وقد اعتقد الساميون القدماء "أن الأرباب لها بيوت تستقر فيها، أسموها في الأزمنة القديمة (بيوت الآلهة)، يشد المتعبدون والمتقون الرِّحال إليها، للتبرك بها وللتقرب إليها، وذلك في أوقات تُحدد وتثبت، وفي أيام تُعيَّن تكون أيَّامًا حُرُمًا لكونها أيَّامًا دينية ينصرف فيها الإنسان إلى آلهته، ولذلك تُعد أعيادًا"(المرجع السابق نفسه). وما يزال اصطلاح "بيت الله" يُستخدم حتى يوم الناس هذا.
كان الحجُّ مُتَّبعًا عند العرب قبل الإسلام، مع فوارق قليلة عما أصبح عليه بعده. قبل الإسلام عُرف العرب بتعدد أماكن التعبُّد، التي لم تكن محصورة بالبيت الحرام(التسمية ذاتها قبل الإسلام). ومن هذه الأماكن، بيت اللات في الطائف، وكعبة غطفان، وكعبة نجران، وكعبة شداد الايادي، وكعبة ذي الشرى، وبيت ذي الخلصة. يلي الحج إلى هذه البيوت المقدسة الحج إلى مكة، يتوافد إليها الحجيج أفواجًا من كل مكان، يتقربون إلى بيت الله بالهدايا والنذور. وكانت للبيت الحرام مكانة في نفوسهم، بلغت مستوى القَسَمَ به.
ولقد ميَّزَت العرب قبل الإسلام الشهر الذي يقع فيه الحج من الشهور، بتسميته ذا الحجة، بمعنى شهر الحج، وما تزال هذه التسمية مُتًّبعة.
في مرحلتي الحج تينك، كانوا يطوفون وكانوا يلبُّون. وتجدر الإشارة إلى تعدد تلبياتهم، نشير إلى بعض منها بدءًا بتلبية قريش: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، تملكه وما ملَك". تلبية ربيعة: "لبيك ربنا لبيك، إن قصدنا إليك، لبيك عن ربيعة، سامعة مطيعة". تلبية كندة وحضرموت: "لبيك لا شريك لك.، تملكه أو تهلكه، أنت حكيم فاتركه". تلبية بني كنانة: "لبيك اللهم لبيك، اليوم يوم التعريف، يوم الدعاء والوقوف". تلبية ثقيف: "لبيك اللهم إن ثقيفًا قد أتوك، وأخلفوا المال وقد رجوك". تلبية بني أسد: "لبيك اللهم لبيك، يا رب أقبلت بنو أسد، أهل التواني والوفاء والجلد". والتلبية في اللغة "إجابة المنادي، أي إجابة الملبي ربه. وقولهم لبيك اللهم لبيك، معناه إجابتي لك يا رب واخلاصي لك"(المرجع السابق، ص 377).
كانوا يزورون البيوت المقدسة والبيت الحرام في مكة، يطوفون حولها ويذبحون الذبائح عندها كلٌّ قَدَرَ طاقته وحسب مكانته، فيأكل منها الفقراء. وكان الطواف عندهم من أهم طرق التعبد والتقرب إلى الآلهة، يؤدونه كما يؤدون الصلاة. يؤدونه كلما دخلوا معبدًا فيه صنم أو كعبة أو ضريح، سبعة أشواط. لم يكن الطواف مقررًا عند العرب دون غيرهم، حيث كان العبرانيون يمارسونه(المرجع السابق، ص 356) في كُنسهم ومعابدهم سبعة أشواط أيضًا.
ومن شعائر الحج عند العرب قبل الإسلام، بالإضافة إلى الطواف والتلبية لمس الحجر الأسود خلال الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة.
الحجر السود يحيلنا إلى تقديس العرب قبل الإسلام الأحجار النيزكية والبركانية، لاعتقادهم أنها ساقطة من السماء لسوادها نتيجة عوامل طبيعية. ومن هذه الأحجار "معبود النبطيين، وهو حجر أسود يرمز للشمس، والإلهة مناة عبدها الهذليون ممثلة بحجر أسود، كذلك كان ذو الشرى حجرًا أسود. وقد تصوروا أن حجر الكعبة المكية الأسود ومقام إبراهيم، مثل بقية أحجارهم المقدسة...وبعد الإسلام عُدَّ الحجر الأسود ومقام إبراهيم ياقوتتين من يواقيت الجنة طمس الله نورهما. ولو لم يطمس الله نورهما لأضاءَا ما بين المشرق والمغرب"(رب الزمان، ص 256، 272). أما السعي بين الصفا والمروة، وفق أثبت ما تُجمع عليه الروايات، فقد كان خاصًّا بقريش، لا يشاركها بذلك غيرها من العرب. وكان على الصفا الصنم إساف، وعلى المروة الصنم نائلة. كان طواف قريش بينهما قَدَرَ طوافهم بالبيت، أي سبعة أشواط، يلمسون الصنمين ويلبون.
ويذكر الإخباريون أن الأنصارَ لما قدموا مع النبي في الحج، كرهوا الطواف بين الصفا والمروة، لأنه بنظرهم من شعائر قريش قبل الإسلام. وتذكر مصادرنا "أن قومًا من المسلمين خاطبوا النبي قائلين: يا رسول الله لا نطوف بين الصفا والمروة، فإنه شِركٌ كنا نصنعه قبل الإسلام. وتعزز هذا الرأي بعد تكسير الأصنام، حيث كره المسلمون الطواف بين الصفا والمروة، حتى حسمت الآية الكريمة الأمر(إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطَّوَّف بهما)(البقرة 158). كما أن السعي بين الصفا والمروة، شعار قديم يعود لهاجر أُم اسماعيل"(المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ج6، ص 380).
ويُروى أيضًا بخصوص الصفا والمروة، "أن الصنم إساف كان معبودًا ذكرًا على جبل الصفا، وأن الصنم نائلة كان معبودًا أنثى على جبل المروة، وأنهما كانا شخصين حقيقيين، دخلا فناء الكعبة، وهناك فَجَرَ إساف بنائلة، فمسخهما الله هذين الصنمين"(سيد القمني: الأسطورة والتراث، ص 140).
ومن مناسك الحج المتبعة عند العرب قبل الإسلام الوقوف بعرفة، في التاسع من ذي الحجة، ويُسمى يوم عرفة. وبهذا الخصوص، تقول رواية اسلامية "إن آدم وحواء عندما هبطا من الجنة نزلا مفترقين وظلا هائمين حتى التقيا على جبل عرفة، لذلك عُرف الجبل باسم عرفة، لأن آدم عرف حواء عليه"(المرجع السابق نفسه، ص 142). وتستخدم التوراة لفظ عَرَفَ بمعنى ضاجع: "وعرف آدم امرأته حواء فحبلت وولدت قايين"(التكوين 4: 1). وعلى هذا الأساس تَقَدَّس الوقوف بعرفة، وعدُّوهُ من أهم مناسك الحج. وكانوا يتجهون إليه جموعًا غفيرة رجالًا ونساء، يبيتون هناك حتى نهار اليوم التالي.
ومن عرفة تكون الإفاضة إلى المزدلفة، حيث يبيت الحجاج في العاشر من ذي الحجة. ويذكر الإخباريون "أن قصي بن كلاب، كان قد أوقد نارًا على المزدلفة حتى يراها من دفع من عرفة، وأن العرب سارت على سُنَّته هذه، وبقيت توقدها في الإسلام"(المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ج6، ص384). ومن المزدلفة يفيض الحجاج عند طلوع شمس العاشر من ذي الحجة إلى مِنى، وقد نُعت هذا المكان بالمشعر الحرام في القرآن الكريم (البقرة 198). في مِنى تُرمى الجمرات، وتُنحر الأضحية. وعُرف رمي الجمرات عند غير العرب، حيث أُشير إليه في التوراة: "وقال لابان ليعقوب: هو ذا هذه الرجمة، وهو ذا العمود الذي وضعت بيني وبينك"(التكوين 31: 51).
مواضع رمي الجمرات كانت مقدسة عندهم، فهي إما أماكن أصنام، أو قبور آباء وأجداد. أما الجمرات فثلاث: الجمرة الأولى، والجمرة الوسطى، وجمرة العقبة. ويصل عدد الجمرات التي تُرمى إلى إحدى وعشرين جمرة. ويرجع مبدأ رمي الجمرات، بحسب الإخباريين، إلى أحد وجهاء قريش، هو عمرو بن لحي. فيذكرون "أنه جاء بسبعة أصنامٍ فنصبها بِمِنى، عند مواضع الحجرات، وعلى شفير الوادي، ومواضع أُخرى، وقَسَّمَ عليها حصى الجمار، إحدى وعشرين حصاة، يرمى كل منها بثلاث جمرات، ويُقال للوثن حين يُرمى: أنت أكبر من فلان الصنم الذي يُرمى قبله"( المرجع السابق، ص 386).
عُرفت مِنى بهذه التسمية لما يُمنى بها من الدماء، فالذبائح التي تُنحر في مِنى، "هي الأُضحية في الإسلام والعتائر قبله. وعُرف اليوم الذي تُضحى به الأضحية بيوم النحر وبالأضحى وبيوم الأضحى (عيد الأضحى). وكانوا ينحرونها على الأنصاب وعلى مقربة من الأصنام، فتوزع على الحاضرين ليأكلوها جماعة أو تُعطى للأفراد. وقد تُترك لكواسر الجو وضواري البر...وتبلغ ذروة الحج عند تقديم العتائر، لأنها أسمى مظاهر العبادة في الأديان القديمة"(المرجع السابق، ص 388).
وكان بعض العرب "يسلخون جلود الهدي(الأضاحي)، ليأخذوها معهم، فاتفق هذا مع لفظة تشريق، وتعني تقديد اللحم. ومن التشريق جاءت تسمية أيام التشريق، وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر، لأن لحوم الأضاحي تشرق فيها، أي تشرر في الشمس"(المرجع السابق نفسه). وجاءت تسمية التشريق من نحر الهدي، بعد شروق الشمس.
وكان العرب يعتمرون أيضًا قبل الإسلام، وقد حددوا وقت العمرة في شهر رجب، وهو أول اختلاف عن العمرة بعد الإسلام. أما الاختلاف الثاني، فنجده في شعائر العمرة. ففيما اقتصر الاسلام العمرة على الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة، كان العرب يؤدونها قبل الإسلام كما يؤدون الحج. وكانوا يحرصون على ألا يوافق موعدها موعد مواسم الحج، لما كانت لها من أهمية كبيرة عندهم.
*من كتابنا الجديد قيد الطبع:(الإنسان والدين/بعقولها تتقدم الأمم وليس بأديانها).
#عبدالله_عطوي_الطوالبة (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟