|
الوجيز من حكاية الزوجة الضائعة
نعيم إيليا
الحوار المتمدن-العدد: 8115 - 2024 / 9 / 29 - 16:47
المحور:
الادب والفن
حين خرج دادوش وزوجته دوميا في الساعة الثامنة عشرة وخمس وأربعين دقيقة في بدء نهاية يوم الجمعة من شقتهما في الطابق الثاني من العمارة 12 شارع بودان حي شادرار؛ كانت سيارة الأجرة التي طلبها دادوش بالهاتف تقف بانتظارهما على باب العمارة، وكان الطقس دافئاً، والمطر ينذر بالهطول. اضطر دادوش وزوجته إلى ركوب سيارة أجرة (تاكسي) إلى محطة القطارات؛ لأن سيارة دادوش الخاصة كان أصابها عطل مفاجئ، وهو في طريق عودته من عمله إلى بيته. ولقد تحمّل دادوش تكاليف نقلها من هناك من حيث تعطلت إلى أقرب ورشة تصليح، وفي نفسه أمل أن يُعالج عطبُها في يوم أو يومين على الأكثر. لكن السيارة ظلت إلى الساعة التي حان فيها موعد سفره مع زوجته إلى مدينة (آشنا) جاثمة في مركنها داخل الورشة تنتظر الإصلاح. دون عوائق تتسبب في تأخير السيارة عن هدفها، من تلك التي ألفتها شوارع المدينة: كتصادم سيارات، مطاردة مجرم أو عصابة سطو، سباق ماراتون أو دراجات، كرنفال شعبي، مظاهرة سياسية أو حقوقية...، وصلت بهما سيارة الأجرة إلى محطة القطارات. وفي لحظة وصولها إلى المحطة انهمر المطر بغزارة. لكن المطر سرعان ما انقطع، وكان بقي على تحرك القطار إلى هدفه أكثر من ربع ساعة. محطة القطارات الرئيسية تقع في الجانب الشرقي من مدينة آلامو عاصمة جمهورية نوتيتسيا. إنها محطة عملاقة يضيع فيها الفيل على ضخامته. من هذه المحطة تنطلق القطر المحملة بالبضائع وبالبشر إلى كل المدن والمناطق القريبة من العاصمة، وأيضاً إلى كل المدن والمناطق البعيدة منها داخل حدود جمهورية نوتيتسيا وخارج حدود الجمهورية؛ إلى البلدان المحيطة بها كالطوق من أربع الجهات. ولو أنَّ عيناً رصدت الزوجين دادوش ودوميا وهما يسيران ليأخذا قطارَهما المنتظرَ لحظة انطلاقه في السابعة والنصف مساء من يوم الجمعة على الخط الحديدي رقم (3) إلى مدينة آشنا حيث تقطن ابنتهما تالا؛ لرأتهما يسيران وكأنهما توأم سيامي ملتصق أحدهما بالآخر. إن سير الزوجين بتلك الوضعية داخل المحطة، ليس مما يلفت الانتباه باعتباره شاذاً غريباً نافراً عن المألوف، لكنه مع ذلك لا يحول دون أن ينبثق في ذهن من يرصدهما عن قرب أو عن بعد سؤالٌ عن سبب سيرهما بوضعية الالتصاق تلك داخل محطة القطارات: هل هو الزحام ؟ ربما… الزوج دادوش وزوجته دوميا يسيران داخل محطة شديدة الازدحام. دادوش في الحادية والخمسين، وامرأته في التاسعة والأربعين. فإذا افتُرض أنهما – وهما في هذه السن التي تقترب بخطوات منفرجة من سن التقاعد - لا يزالان مرتبطين بوثاق الزوجية المحكم؛ ساغ أن يكون الزحام هو السبب الذي ألجأهما إلى اتخاذ وضعية الالتصاق. غير أن الزحام سبباً - وإن ساغ استنتاجه من المعطيات المتقدمة: المحطة، عمر الزوجين، وثاق الزوجية الذي يربط أحدهما بالآخر - قد لا يكون السبب الأول والأخير، إن ظُنَّ أنه كذلك. فمن يدري ؟ لعل لسيرهما ملتصقين كتفاً بكتف سبباً آخر (مجهولاً) مع أنه ليس مقنعاً في لغة أحد الفلاسفة أن يُطلق لفظ المجهول على سببٍ أيّ سبب. دادوش كان شاهدَ هذا الفيلسوف في التلِفزيون في حلقة من البرنامج الثقافي الرصين (سلاسلُ الجُمان) الحائز على جائزة الدولة التقديرية في العام الفائت. وكان استضاف هذا الفيلسوفَ إعلاميٌّ مقدم برامج بارز من هذه القناة إثر ضجة في الوسط الثقافي فجّرها كتابُه (مستوياتُ التفكير في علاقته باللغة) في المجلات والصحف ووسائل الثقافة الأخرى. لكن دادوش الذي يصغي باهتمام إلى أحاديث الثقافة بالرغم من أنه لم يقرأ كتاباً واحداً منذ أن بدأ حياته العملية، لم يصغِ إلى حديث الفيلسوف حتى النهاية؛ لأن زوجته إذ عادت إلى غرفة الجلوس من المطبخ، رجته رجاء حاراً أدنى إلى الضراعة أن يسمح لها بتغيير القناة. فسمح لها دادوش بتغييرها. دادوش رضخ لرجائها، بلفظ أصدق، وهو يبذل جهداً في إخفاء امتعاضه عنها. ليس من النادر أن تتوتر الأجواء بين الزوجين حين يجلسان مساء إلى شاشة التلِفزيون. دوميا تهوى البرامج الترفيهية والمسلسلات وبرامج الطبخ والموضة والأزياء ودروس التمارين البدنية، وتكره البرامج الثقافية والعلمية وكرة القدم والأخبار التي يحبها زوجها إلى حد الشغف. لكن الزوج الحليمَ دادوش لا يدع الجوَّ يتكهرب فيشعل بينهما نار الخصام. يعزف عينيه عن الفرجة على التلفزيون حال أن يجد صدر امرأته ضاق ببرامجه المفضلة، وحال أن يجد رغبتَها في الفرجة على البرامج التي تحبها تأججت كالجمرة حين يُنفخ فيها، ويذهب بعينيه في استكانة وطيبة متكلفة إلى الفرجة على شاشة تليفونه الصغيرة. الفيلسوف ذاك الذي شاهده دادوش في القناة الأولى، كان يعالج بطلاقة وثقة قضية (المجهول) في ارتباطه بالسبب. ولم يكن يعالجها بعقله وحده، بل كان يشرك مع عقله كلّ جارحة من جوارحه الظاهرة من بدنه: يديه، ساقيه، رأسه، عينيه مستبسلاً في تبيين أن مجهولاً لا يكون سبباً؛ لأن المجهول لا وجود له. ولأنه كذلك أي لا وجود له، لا يجوز – في لغته - أن يقال عليه إنه سبب. فإذا قيل عليه إنه سبب، صار موجوداً بلفظ السبب، فاجتمع فيه ضدان لا يصح أن يجتمعا معاً لشيء واحد في آن واحد كما هو معلوم: هما الموجود والمعدوم. فإن أبى العقل الضعيف إلا أن يجمع بينهما بوصف أو إضافة، استفدح العقل السليم خطأ هذا الجمع بينهما وأنكره. وهكذا فإنه لا يجوز ألبتة في رأي هذا الفيلسوف أن يقال على سبب إنه مجهول، ولا يجوز أيضاً أن ينسب إلى مجهول فعلُ السببية أو فعلٌ آخر سواه، كما لا يجوز فضلاً عن ذلك أن يُنعت مجهولٌ بوصف على الإطلاق، ما دام مجهولاً. إن وصف الجنة، على سبيل المثال، بكيت وكيت من الصفات يعد من الشناعات في نظر من لقّفَتهُ الحكمةُ ولو شيئاً منها؛ لأن الجنة مجهولة لا وجود لها حتى يثبت وجودها. إنها عدم، فمن أضاف إلى العدم فعلاً، أو وصفه بشيء آخر غير وصفه بأنه ( لا وجود ) جعله وجوداً فزلّ عقله عن محجة الصواب، وسقط في تناقض بعيد المهوى. فلما اعترض عليه محاوره بأن السبب إذا قيل عليه إنه مجهول، فالمقصود من ذلك أنه مجهول منا، من قِبلنا نحن البشر، ببرهان أن الأمراض في العصور الغابرة، كانت مسبباتُها مجهولة منا، لكنَّ الأمراض مع ذلك، كان لها مسببات سيكتشفها فيما بعد حكماء في الطب جهابذة، اعتدل الفيلسوف في جلسته على كرسيه الوثير، ثم رفع كفّه في وجه محاوره إشارة منه إلى احتجاجه على رأيه وقال: " لقد علّمت الخبرةُ البشر أن لكل ظاهرة سبباً يتسبب في نشوئها سواء أعُلم هذا السبب من قبل البشر، أو لم يعلم به، حتى أمسى ذلك عادة فيهم. بيد أنّ ما اعتاده البشر ليس يحتمل بالضرورة أن يكون صواباً دائماً… وبوجه الإجمال فإن المجهول بالنسبة إلى من يجهل، معدومٌ ". ثم لم يلبث الفيلسوف بعد ذلك أن انقضّ على مثال الأمراض الذي أورده محاوره حجةً، وشرع في هدمه بمنطق عجيب، وبنبر شابهَ الطرقَ على صفيحة من نحاس: " الأمراض لم تكن لها مسبباتٌ في الوقت الذي كان الناس فيه يجهلون أنّ لها مسبباتٍ. وإنما صار لها مسبباتٌ بعد أن عرف الناس مسبباتِها ". وجعل يتمثّل بالينبوع ولكن بنبر جديد حاكى نبرات الوتر حين تضربه ريشة عازف: " إننا إذا كنا لا نعلم لجريان ماء الينبوع في جدول سبباً، فعلينا ألَّا نقول إن لجريانه سبباً مجهولاً. إذ كيف يكون للجريان سببٌ، ويكون السبب مجهولاً، والمجهول هو المعدوم؟“. والحق أن مثال الينبوع – وإن جيء به على وجه الافتراض من قبل الفيلسوف - يصعب إدراك ما فيه من حجة على صحة رأيه في أن السبب لا يكون مجهولاً، وأيضاً على صحة رأيه في أن ما يكون مجهولاً، لا ينبغي بحالٍ أن يُحمل عليه وصفٌ أو فعل، إلا إذا كان هذا الفيلسوف أراد من التمثّل به أن حركة ماء الينبوع بما هي حركة ذاتية لا تُفَسَّر بسببٍ خارجي؛ لأنها ملازمة للماء على الدوام مذ كان الماء ماء؛ أي إنها من طبيعته. وآية ذلك أنْ لو سئل امرؤ ها هنا: "ما سبب حركة الماء.. ؟ ما الذي يدفعه إلى أن يتحرك حركته الذاتية الظاهرة أو الخفية؟" لوجم هذا الذي سُئل – أغلب الظن - إذ ما عسى أن يكون جوابه عليه؟ فإن أبى من سئل السؤال إلا أن يجيب عنه، فأجاب عنه بأن التناقض أو المضادّةَ بين جزيئات الماء، سببُ حركته، لم يكن لجوابه قيمة أو فائدة؛ وذلك لأن جوابه هذا لا يفسر الحركة، وإنما يصف ما يشاهده من حركة جزيئات الماء. والوصف ليس كالتفسير. إنَّ الماء إن كان يتحرك بسبب المضادة أو التناقض في داخله كما زعم، فما الذي يتسبب في التناقض أو المضادة الداخلية بين جزيئات الماء؟ هذا هو السؤال، فكيف الجواب عنه؟ هل يا ترى يستطيع هذا الذي سئل فأجاب بأن المضادةَ بين جزيئات الماء سببُ حركة الماء، أن يفسر سبب ذلك تفسيراً علمياً مستخلصاً من التجربة لا من الوصف وزخارف اللفظ؟ هذا، فبالاتكاء على ما تقدم بسطُه، كان يجمل بالفيلسوف أن يتمثل بمثال آخر أكثر دقة وإفادة؛ لأن جريان ماء الينبوع في جدول قابل للتفسير بسبب معلوم. لقد كان يجمل بالفيلسوف أن يتمثل بحركة الأشياء، ما الذي يتسبب في حركتها؟ سواء أكانت حركتها داخلية أو خارجية، أو يتمثل بالكون – وهو أفضل الأمثلة وأوضحها - ما الذي تسبّب في وجوده؟ فيكون مثاله حينئذ حجة كافية لا تثريب على عقل مَن يعوّل عليها في إثبات أن مجهولاً لا يجوز أن يقال عليه إنه سبب، أو العكس أي أن يقال على سبب إنه مجهول. ولكن الفيلسوف، في هذا الموضع، إذا اختار مثَلَ الكون، فقد لا يخلو أن يقع في وهم السامع من مثاله المختار أن الانفجار العظيم سببُ وجود الكون؛ فينشأ من هذا الوهم أن الكون مثالاً، لا يحسم القضية. لكن المحقَّق بالمنطق العقلي والعلمي أن الكون لم ينشئه الانفجار؛ لأن الكون كان موجوداً قبل الانفجار، ولكنْ في صورة مختلفة عن صورته التي تشكلت له بعد الانفجار. وإلا فما الذي انفجر؟ (أشيء) لم يكن له وجود قبل الانفجار، فصار له وجود بعد إذ انفجر؟ ! ومما راع ذهنَ دادوش من حديث الفيلسوف الذي سمعه قبل أن تقطعه زوجته برجائها، وظل زمناً يترقرق أمام ذهنه، جوابُ الفيلسوف عن سؤال المذيع المحاور: " إن كان رأيك هذا صائباً كما تعتقد، فلماذا لا يأخذ به الناس ولا سيما المفكرون من أمثالك؟" لا لأن جواب الفيلسوف عن سؤال المذيع المحاور كان جواباً مقبولاً لا ينفر منه عقل سليم؛ بل لأن جوابه اتصف بالشمول والاتساع، فأشْبَهَ في شموليته واتساعه الحكمةَ تستخرج من التجارب وتطلق في أكثر من مناسبة، وفي أكثر من مجال من مجالات الحياة المتعددة. الحكمة تطلق فيها فيكون للناس منها جوابٌ لأكثر من سؤال حائر مستغلَق ومؤرق. كان جواب الفيلسوف هذا الذي راع ذهن دادوش من البساطة في غاية: „ إن أكثر الناس قد ألفوا أفكاراً شائعة حتى إنهم باتوا غير قادرين على تقبل أفكار جديدة، ولو رأوا اليقينَ يقطر من حواشيها قطران العسل من شهده ". وبعدُ، فإن كان القول بأنّ الزوج أو الزوجين دوميا ودادوش، كانا يسيران جنباً إلى جنب في وضع الالتصاق التام، أو في وضع قريب جداً جداً جداً من الالتصاق لسببٍ (مجهول)، غيرَ جائز في منطق هذا الفيلسوف إلا في حالات الهذر والإفاضة غير المجدية، فإن هذا القول مع ذلك لا ينحّي من ساحة التفكير أن يكون لالتصاقهما سببٌ ولكن غير مجهول. وليكنِ الحبَّ. فإن الحب الذي يربط بين قلبي الزوجين يحرّض جسديهما على الالتصاق تحريضاً، لا في فراش الزوجية وحسب، ولا في الزحام وحسب، بل أيضاً عندما يسيران جنباً إلى جنب على درب خارج المدينة لا يغصُّ بالسائرين. دادوش ودوميا اعتادا على أن يتريضا ويستنشقا الهواء النقيَّ النديَّ - إذا سمح لهما الطقس بذلك - في صباح كل يوم أحد بعد الإفطار، بالرغم من معرفتهما أن التريُّض قبل الإفطار أحسن من التريض بعده. وكان يشاركهما في التريض واستنشاق الهواء النقي تنفثه رئة الغابة حتى وقت قريب، كلبُهما (رَكْروك) قبل أن تتوفاه الشيخوخة. توفي ركروك، ومضى على وفاته ثلاثة أشهر ويومان، وهي مدة قصيرة بالنسبة إليهما لا تكفي لأن يتغلبا فيها على حزنهما الناشئ عن فقدانه. لذا فإنهما إلى يومهما هذا لم يقوَ قلبهما على خلع ثياب الحداد عليه، كما لم يقو أيضاً على قبول العرض من ابنتهما تالا أن تشتري لهما جرواً صغيراً ينسيهما – في تقديرها - الحزنَ على كلبهما المتوفى المحبوب. والزوجان لا يتريضان إلا على الدرب الترابي المعشب الضيق الذي لا يؤمه للسير من المشاة المتنزهين وهواة الجري والمشي السريع إلا عدد قليل منهم؛ قد تُرى بينهم أحياناً العداءة لاميديا مع مدربها. لاميديا الحائزة على الميدالية الفضية في الأولمبياد الأخير، مفخرةُ مدينتهم آلامو عاصمة نوتيتسيا. أما الدرب الترابي المعشب فيمتد على طول الجانب الشرقي من الغابة الكثيفة المنتصبة على كتف الهضبة المطلة على مدينتهما. يبدأ الزوجان السير من بحيرة السمك الملون البحيرة الصغيرة المصنوعة بيد الطبيعة المحصورة بين جدران طينية أربعة مستطيلة تحت قدم الغابة؛ والتي ألف دادوش أن يطفئ محرك سيارته بالقرب منها. من هذه البحيرة يبدآن السير فور ترجلهما من السيارة بحركة بطيئة متزنة كسلى في بادئ الأمر، وبشعور بالرضى عن النفس، ثم يشرعان بعدئذ في السير على الدرب جنباً إلى جنب بصدر مفتوح لألحان الطبيعة وأنفاسها الطيبة، وركروك كلبهما يتبعهما ضابطاً قوائمه على إيقاع سيرهما. في بدء انطلاقتهما لا يسيران إلا على مهل جنباً إلى جنب في وضع يغري كتفيهما بالالتصاق كما يغري الزهرُ النحلَ بالرحيق. فإذا قطعا مسافة خمسين متراً تقريباً، تعجلا في سيرهما. وحين يتعجلان فيه ينفصل أحدهما عن الآخر، أو يسبق أحدهما الآخر بتعبير أكثر دقة. وغالباً ما يكون الزوجُ دادوش هو السابق. طول دادوش متر وتسعة وسبعون سنتيمتراً وهو ضامر قليل اللحم، وطول دوميا متر وسبعة وستون سنتيمتراً ، فإذا وازن المرء بينها وبين زوجها، خلص من الموازنة إلى أنها مكتنزة اللحم شيئاً. ولا يزالان يسيران ويسيران متعجلين على الدرب في وضعية السابق والمسبوق حتى يصلا إلى برج المراقبة على التل الذي في نهاية الغابة. وعندما يصلان إليه يتنفسان تنفساً عميقاً متبعين فيه الطريقة التي توصي بها مدربة التربية البدنية (هَيلا) في برنامجها (الرياضةُ للجميع) هذا الذي تعرضه إحدى القنوات الخاصة، في الصباح الباكر من كل يوم أحد. والبرنامج يعرض في اليوتيوب أيضاً بعد عرضه في التلفزيون، وله جمهور واسع من المتفرجين أكثره من النساء. بعد عملية التنفس يقوم الزوجان بتأدية بعض الحركات الرياضية الخفيفة لتليين عضلاتهما المتوترة المشدودة من السير ؛ وفق القواعد التي تنصح المدربة هَيلا باتباعها. فإذا فرغا من عمليتي التنفس وعملية تليين العضلات، كرّا راجعَين على الدرب عينه، إلى حيث أوقف الزوج دادوش سيارته بالقرب من بحيرة السمك الملون ذات الماء الرائق في أغلب الأحيان. وإذ يرجعان إلى نقطة البدء، يكونان قطعا مسافة تقدر بأربعة كيلومترات. ولذلك فلا غرابة في أن يراهما المرء – في الصيف خاصة - والعرق ينضح من الأجزاء العارية المكشوفة من جسديهما، كما ينضح من مرآة غشّاها بخار الماء، ولا غرابة أيضاً في أن يرى كلبهما ركروك – قبل وفاته - ولسانه متدلٍ يلهث وكأنه قادم للتو من رحلة صيد شاقة. ولأنّ الزوجين يلتصقان ببعضهما في الفراش على السرير، ويلتصقان ببعضهما في أول سيرهما على الدرب الترابي المعشب بمحاذاة الغابة؛ فالصائب الحسن أن يقال ههنا: إن الزحام في المحطة هو سبب التصاقهما ببعضهما إذ هما يسيران داخل المحطة، لا أن يقال: إن الزحام هو السبب الأول والأخير لوضعية الالتصاق؛ لأن وضعية الالتصاق التي تحققت للزوجين في المحطة المزدحمة، لم تتحقق لهما لأول مرة، ولا لآخر مرة. لكنّ الزحام - وإن كان لا يُشكُّ في أنه هو الذي ألجأ الزوجين اللذين يدنوان من سن التقاعد إلى أن يلتصق أحدهما بالآخر داخل المحطة - ليس بذاته السببَ الحقيقيّ. الزحام عند التدقيق في أمره ليس أكثر من وعاء وقد حوى السبب الحقيقي. هذا ما سيكتشفه من يدقق في أمره لا محالة. وإذ يستكشفه؛ أي حين يستكشف أنه وعاء لسببٍ، فلا محالة أيضاً من أن يستكشف هذا السببَ الكامن في جوف الوعاء، والذي هو (الخوف) الخوفُ من أن يفقد أحدهما الآخر في لجّ الزحام. وليس هذا كل شيء، فللخوف أيضاً سبب: فإما أن يكون الحبَّ، وإما أن يكون المحبة – بعض علماء النفس يميز بين الحب والمحبة، يرون فرقاً بينهما، وإن كان ضئيلاً. فالحب تتخلله شهوة الاتصال الجنسي، أما المحبة فلا يتخللها مثل هذا الضرب من الاتصال - وإما أن يكون السببُ الألفة؛ إذ ربما يكون الزوجان ألفا العيش معاً من بعد أن أخمد الزمن صخب الحب المجلجل كالسحاب في قلبيهما، ومن بعد أن أنصل المحبةَ فيه من ألوانها التي كانت تسرُّ عين كل منهما الداخلية، كما يسر البخور والعطر حاسة الشم لديهما. وكان دادوش - وهو في محطة القطار المزدحمة الغاصة بالرائحين والقادمين وأصحاب الحاجات ملتصقاً بامرأته دوميا - يجرُّ حقيبة سفر خلفه بانتباه ويقظة من خشية أن تصطدم الحقيبة بالأقدام. لم تكن حقيبة السفر كبيرة منتفخة ثقيلة مرصوصة؛ لأن الزوجين كانا اتفقا على ألا تتجاوز زيارتهما لابنتهما تالا يومي العطلة الأسبوعية. وكانا اتفقا أيضاً على ألا يحملا لها هدايا من ثياب وأحذية وكتب وعطور وحلي، أو هدايا من أدوات كهربية وغير كهربية للمطبخ والحمام، أو هدايا من لوحات فنية وتماثيل وأشياء أخرى لغرفة النوم والصالون غرفةِ الجلوس على مجرى العوائد؛ بل يحملا لها عوض تلك الهدايا مبلغاً من المال ادخراه لها مما فاض عن حاجتهما في الأشهر الثلاثة المنصرمة. تالا ابنتهما شابة في الثانية والعشرين من عمرها، ذوقها صعبُ الإرضاء. فالأفضل إذاً أن تكون هديتهما لها مبلغاً من المال. الأم دوميا اقترحت هذا الاقتراح، والأبُ صادقَ على اقتراحها على الأثر دون أخذ ورد. تالا بهذا المبلغ تستطيع أن تشتري ما يروق لذوقها من أغراض تحتاج إليها هي، ومن أغراض يحتاج إليها صديقها حبيبها وزوجها المؤمَّل (سِيرْتْ) وقد لا تشتري تالا شيئاً بالمبلغ المهدى إليها منهما؛ بل تودعه في البنك في دفتر التوفير على حسابها الخاص. على الدرج المتحرك الصاعد إلى قطارهما على الخط رقم (3) انفصل الزوجان عن بعضهما انفصالاً يسيراً. اضطرا إلى الانفصال عن بعضهما. أضحت درجةٌ واحدة من السلم المتحرك فاصلاً بينهما احتلته حقيبةُ السفر الخفيفة الصغيرة خلف الزوج أمام قدمي الزوجة؛ فتقوضت بهذا الانفصال اليسير أركانُ وضعية الالتصاق. دادوش سبق زوجته – وهو الذي غالباً ما يسبق زوجته - إلى الصعود على الدرج المتحرك. دوميا تلته في الصعود دون إبطاء. ما كان سيسر دوميا أو يحظى بلامبالاتها أن يحتل مسافر آخر من هؤلاء المزاحمين لهما إلى القطار درجةً تفصل بينها وبين زوجها في هذا الوقت والظرف؛ فتمسي المسافة بينهما بعيدة. ولو أنها في الواقع، في حال تحققها، لن تمسي أبعد من مسافة نحليّة. صعد الزوجان إلى العربة مع من صعد إليها من الركاب. بحث الزوج عن مقعدهما فيها، فعثر عليه في آخر العربة بجانب الباب. جلسا جنباً إلى جنب، لكنّ كتفيهما لم يلتصقا التصاقاً تاماً. حال دون التصاقهما التصاقاً تاماً عضادةٌ تفصل بين المقعدين. وما استوى كل منهما على مقعده واستراح، حتى انتاب كليهما شعور بالرضا جعل يمسّد بأنامله الطريئة اللينة الشغافَ المحيط بقلب كل منهما.. شعور طيب لذيذ غضٌّ يكاد يضارع شعورهما بالحرية والانطلاق حينما يترجلان من السيارة بالقرب من بحيرة السمك؛ ويبدآن السير على الدرب الضيق المعشب وهما يعبّان في أنفاس الغابة الندية. لكن شعوراً آخر ملازماً لهما مذ افترقت عنهما ابنتهما تالا، سرعان ما أعقب شعورهما الطيب بالرضا.. أزاحه عن موضعه وحل محله. إنه الشوق إلى رؤية تالا ابنتهما الحبيبة التي قد مرت شهور ثلاثة على آخر زيارة منها لهما. وإنه لشوق لاهفٌ فيهما، لم تنجح كل المكالمات اليومية المتكررة المستمرة المتتابعة عبر التليفون خلال الشهور الثلاثة التي مرت، في أن تقصيه عن قلبيهما. انطلق القطار من محطة آلامو إلى مدينة آشنا هدفِهما من الرحلة، في اللحظة المحددة لانطلاقه. وما كادت تمر دقيقتان على انطلاقته، حتى دس الأب دادوش يده في جيب سترته، وأخرج منه تليفونه بخفة يد ساحر. دقَّ أنملةَ سبابته برقم تليفون تالا ابنته حال أن ظهرت أرقام التليفونات المخزنة على لوحة تليفونه. رفع الجهاز إلى أذنه اليمنى، وإذا صوت ابنته العذب يصدح فيها: - أي بابا، أين أنتما الآن؟ أين أمسيتما؟ - ما زلنا في القطار. رد الأب. فسألت تالا متذمرة، - ألم ينطلق بعد؟! أجاب: - انطلق للتو. فصاحت تالا: - رائع ! ثم: - سأكون في انتظاركما قبل وصولكما... لكن الأب نهاها عن انتظارهما في المحطة، أمرها: - لا تنتظري في المحطة، انتظرينا في بيتك. - بل سأنتظركما في المحطة. ستجدانني في مقدمة المنتظرين واقفة كالعمود أمام لوحة المغادرة والوصول، وإلى جانبي سيرت. - لن نصل قبل العاشرة والنصف يا ابنتي. في العاشرة والنصف لن يكون ممتعاً أن تنتظرا. - بابا، قلت لك: سننتظر. وسننتظر في معجمي المستبد تعني سننتظر. لماذا ترفض أن تمنحني ولو لمرة حقَّ أن أعقَّك.. حقَّ أن أعلن عليك العصيان؟ افترت شفتا الأب، سرته فكرة العقوق والعصيان تطلقها عليه ابنته المتمردة، لكنه لم يكف عن محاولة إقناعها بألا تنتظر قدومهما في المحطة: - لماذا عليكما أن تنتظرا؟ أنجهل الطريق إلى بيتك؟ إن كنا نجهله فسائق التاكسي لا يجهله. ثم إن القطار قد يتأخر عن موعد وصوله. - فليتأخر إن شاء أن يغيظنا، سننتظركما حتى لو تأخر إلى الثانية صباحاً. المقاهي داخل المحطة وخارجها، لن تغلق أبوابها في وجهينا. - لن يقنعك شيء. عنيدة مشاغبة...! - كما يجب أن أكون. على فكرة بابا، لا تتناولا شيئاً في القطار، قد أعددنا لكما وجبة عشاء ستأكلان أصابعكما معها. انفرجت ابتسامة الأب. لكنه أظهر لها الأسى في غير ما جِدّ، وهو يقول لها محاولاً ببراعة ممثّل أن تكون نبرات صوته الشاكية ذات ظلال عميقة الصدى: - أصابعنا قد أخشنها الدهر، لو تبرعنا بها طعاماً لضبع أنهكه الجوع ما طابت له فلوّى عنها. - ها ها هااا… - تضحكين ؟ هل حكيت لك نكتة؟ - لست أضحك من نكتة. - فممَّ تضحكين؟ - من مبالغتك عزيزي بابا. مبالغتك جاوزت حدَّها. والمبالغة إذا جاوزت حدها، انقلبت إلى نكتة مضحكة. - قد تعمدت المبالغة. - هيء هيء هيء.. تعمدتها؟ تقصد أنك أردت أن تنكّتَ مع سبق الإصرار والترصد؟ أنتّ؟! أبي دادوش الرزين رزانة جدار صخري على شاطئ بحر، ينكّت ليضحكني؟ عاقل يحكي، مجنون يسمع. متى تعلم الرزين حتى الجهامة والنكد أن يروي نكاتاً؟ هئ هئ هي.. - لا تعجبي أيتها المشاغبة! قد تعلمت النكتة للتو من أمك. - نكتة ثانية. هيء هيء هئ… - مشاغبة لا حيلة لي عليها! خذي كلمي أمك واضحكي معها بعيداً عني ، اضحكا معاً ملء شدقيكما. وكاد يضحك وهو ينحّي جهازه عن أذنه، ويناوله الأمَّ. تناولت الأم الجهاز بأسرع من تناولها كأس ماء وهي ظامئة، مالت بعنقها إلى جهة النافذة، وما هي حتى انشغفت بحديث طويل مع ابنتها. أما داودش فأسبل جفنيه على عينيه بوداعة فَقْمةٍ تستريح على الشاطئ عقب أن تنفس ملء رئتيه نفحات سعادة هادئة.. في محطة آشنا كانت سعادتهما، وهما يضمان إلى صدرهما ابنتهما تالا ويعانقانها معاً ويقبلان خديها ورأسها وجبينها، خارج دائرة أجمل وأبدع فن من فنون الوصف. ولقد كحّل عينَ سعادتهما وجودُ سيرت إلى جانبها. سيرت شاب عاقل مهذب سَنَد لابنتهما في مدينة نائية عنهما. أحبه الاثنان قبل أن يلتقيا به حبهما لفرد أصيل من أفراد العائلة. أمضى الزوجان يومين في ضيافة ابنتهما، لو صحَّ أن تدعى إقامتهما عند ابنتهما ضيافة. زيارتهما لها حفلت بشتى ألوان المسرة، وبشتى ضروب الإمتاع: تجولا في المدينة بصحبة تالا وسيرت، زارا معالمها التاريخية البارزة تلك التي تجتذب السياح، ركبا مركباً فارهاً مخر بهم نهر (سيبا) من أول المدينة إلى آخرها، تمّ التعارف بينهما وبين والدي سيرت. والدا سيرت احتفيا بهما، أظهرا لهما مودة حلوة مريئة صادقة، وقد عبرا عن احتفائهما بهما بدعوتهما للعشاء في مطعم فاخر على ضفة نهر سيبا مساء السبت. اغتبط دادوش ودوميا زوجته أيما اغتباط بالتعارف، أسعدهما سعادة عميقة الجذور أن تنضم أسرة سيرت إلى أسرتهما بمصاهرة مرتقبة. نام الزوجان ليلتين هانئتين في غرفة نوم ابنتهما تالا: ليلةَ السبت، وليلة الأحد. وكان سيرت لا يفارقهم إلا وقت النوم، رغم انشغاله بأطروحته ودوام تفكيره بها. وما كان سيرت ليفارقهم وقت النوم، لو أن الشقة المشتركة بينه وبين تالا، كانت تتسع لنومه. سيرت كان ينصرف في الساعة العاشرة والنصف ليلاً. ينهض فيودع الثلاثة بدماثته المعهودة، ثم يمضي على قدميه إلى أمه وأبيه لينام في شقتهما في شارع (لون) من الحي نفسه، في حجرة نومه القديمة المهجورة. سيرت ثالث أشقائه: الأول مهندسُ جُسور ٍهاجر إلى قارة بعيدة عن نوتيتسيا بعقد عمل مغرٍ وتزوج فيها من امرأة مثقفة تنشر قصصاً للكبار والصغار وقد أنجبت له طفلاً ذكراً، والثانية شقيقته (مادي) موظفة رفيعة المستوى في إحدى سفارات نوتيتسيا، متزوجة ولها طفلتان. في الليلة الأخيرة، بعد عودة الأبوين وابنتهما إلى البيت من المطعم حيث تناولوا العشاء مع والدي سيرت على شاطئ النهر، وبعد أن غادرهم سيرت على عادته في الساعة العاشرة والنصف، طاب للأم دوميا أن تخوض من جديد في موضوع سبق لها أن خاضت فيه وقت أن زارتهما تالا أول مرة من بعد انتقالها إلى مدينة آشنا وافتراقها عنهما ذلك الافتراق القاسي المرَّ المبرح الظالم الذي أجبرتها وظيفتها على تجرعه. كانت تالا قدمت طلبها للعمل ممرضة إلى كل مستشفيات نوتيتسيا. لكن طلبها لم يحظ بالقبول والموافقة إلا من إدارة مستشفى آشنا الكبير، فلم تجد بداً أو مفراً من الانتقال إليها. وإنما في آشنا، في حفل عيد ميلاد صديقتها الجديدة دوروسا، التقت بسيرت. وكان لقاء بين قلبين مهيَّأين، حالَ أن يلتقيا، لأن ينثر الحب في حقلهما بذاره. في تلك الزيارة، زيارة تالا الأولى لوالديها في آلامو بعد انفصالها عنهما، باحت تالا بالعلاقة التي نشأت بين قلبها وقلب سيرت، فكان أن بادرت الأم إلى إقناعها بالزواج منه في أقرب وقت. وها هي الأم في هذه الليلة أيضاً.. في الليلةِ الأخيرة من الزيارة، تحاول للمرة الثانية أن تقنع ابنتها بالزواج المعجل من سيرت. غير أن تالا المشهورة لدى والديها بعنادها، لم تتزحزح في هذه المرة أيضاً عن موقفها من مشروع الزواج بسيرت قيد مليمتر واحد. بلغةٍ تمركز كلُّ حرف من كلماتها المنطوقة بلسانها الذرب في موضعه الثابت منها، كررت تالا على أمها جوابها القاطع الأخير: - ما زلت تعجّلينني على الزواج به يا أمي. كلا، لا أتزوج به إلا في الوقت المناسب لزواجي به. ونقطة على السطر. نقطة في نهاية الجملة. مفهوم؟ أنا وسيرت قد اتفقنا على هذا وانتهى الأمر. ثم لاهيةً زادت على ما قالته لأمها، وهي تلوّح بقبضتها في الهواء أمام وجهها: - اطمئني لن يفلت سيرت من قبضتي، فلم التعجيل؟ وغمغم أبوها مؤيداً: - على سيرت أن ينتهي من وضع أطروحته أولاً، وأن يتعين مدرساً أصيلاً لا بالوكالة في الجامعة ثانياً. لكن الأم لم تستسلم لهما في الحال، استثمرت عاطفتها في محاولة ذكية بارعة منها لإقناعهما: - حلمنا ونحن في هذا العمر، أن يكون لنا حفداء. - في هذا العمر؟! بدهشة مبالغ فيها، مدت تالا صوتها في أذن أمها، ثم هتفت بها مستنكرة: - أمي، أنت في الثامنة أو التاسعة والأربعين. اللواتي في عمرك لم يتزوجن بعد. ماما، نحن في القرن الواحد والعشرين، فانتبهي ! لسنا في القرن السابع يوم كانت الفتاة ترغم على الزواج في سن الطفولة، وترحل عن الدنيا في عمر لا يتجاوز - بالمتوسط – الأربعين عاماً إلا فيما ندر. لكن الأب أبدى تراجعاً وضعفاً، إذ تأثر بحلم زوجته أن يكون لهما أحفاد، بعكس ابنته التي لم يؤثر فيها حلم أمها ألبتة. حرَّر دادوش ساقه التي كان طواها تحته وهو جالس على الصوفا، ووضعها على الأرض إلى جانب الأخرى، وقال بعد أن حبس تنهيدة في صدره: - مع الأحفاد سيغدو لحياتنا معنى جديد. فرشقته تالا بنظرة خيل إليه أنها انطوت على لوم عابس، ثم قالت وهي تتصنع شقاوة الأطفال: - لو كنتما أنجبتما لي أخاً وأختاً، لكان لحياتكما أكثر من معنى واحد جديد. - لو.. ؟ - أدري، لا تنفع لو، لكنها كانت ستنفعني. بهذا ردت تالا. وفجأة تنبهت لأمر جعلها تتخلى فوراً عن شقاوتها ومرحها، وتقبل على أمها حزينة فتعانقها طالبة منها الصفح: - آسفة حبيبتي ! كنت أمزح. تالا أنَّبها ضميرها. ثقل على ضمير تالا أن تُشِعر أمَها ولو بالمزاح وشقاوة الأطفال أنها مذنبة إذ لم تنجب لها أخاً وأختاً. أمها ليس باختيارها لم تنجب لها أخاً وأختاً. إنه الداء الخبيث هاجم رحمها فأرغمها على الموافقة على استئصاله. فما ذنب أمها؟ لو كان لأمها أن تختار، لاختارت أن تنجب ثلاثة أطفال ذكرين وأنثى معارضة بهذا الاختيار رغبة زوجها في أن يكون لهما أربعة أطفال أنثيان وذكران. تالا تعلم هذا وتتألم. لكن أمها لم تحمل شقاوة ابنتها على هذا المحمل. ردت عليها بهدوء وبلهجة الناصح دون اكتراث منها بما توهمته تالا: - سيعوضك زوجك من الأخ والأخت، كما عوضني منهما والدك. فاستردت تالا عند هذا مرحها. ضميرُها خلع عنه الذنب الذي استشعره. ابتسمت، بل كادت تضحك عالياً وهي تعقب على قول أمها: - يعوضني عن الأخ – صدَّقنا - ولكن كيف سيعوضني عن الأخت؟ هنا لم تجد الأم بداً من الاستسلام، فاستسلمت. وفي اللحظة التي قامت فيها من مقعدها، التفتت إلى زوجها، وهي تنفض أمامه يدها من ابنتها: - لا فائدة من الحديث إليها. الحديث إليها في هذا الشأن كمثل دق الماء. تدق الماء والماء ماء. ثم زلقت بمكانها قاصدة حجرة النوم لتستبدل بثيابها غلالتها الرقيقة. ولم يفتها وهي تخطو خطواتها الأولى باتجاه حجرة النوم أن تَعِز إلى قسمات وجهها في طبع علامات الخيبة والانكسار. لكنّ تالا لم تبالِ بشكوى أمها لأبيها، ولا بعلامات الخيبة المنطبعة على وجهها. تالا تعلم حق العلم أن أمها تتمنى، تتمنى وبس. إنها تعلم أن ليس في أمنيتها ما يحزنها. لو أن تالا لم تكن واثقة من ذلك، فلربما كانت تأثرت فخففت من غلواء عنادها. إن تالا بالرغم من كل شيء لا يسهل عليها أن ترى أمها حزينة بالفعل. أمها وأبوها معاً مصدر غزير رائق لطمأنينتها وقوتها وشعورها بالأمان في هذه الحياة التي لا يؤتمن جانبها على الدوام، فكيف يسهل عليها أن ترى هذا المصدر يعكر صفاءه الحزنُ؟ وأزفت النهاية.. نهايةُ زيارة الأبوين لابنتهما. حان موعد عودتهما إلى مستقرهما في آلامو. غداً هو يوم الاثنين ولا مناص لهما من المداومة على عملهما. استيقظ دادوش وزوجته دوميا من نومهما في وقت مبكر. استيقظا في الساعة الخامسة والنصف من صباح يوم الأحد. وإذ استيقظا، استيقظت تالا أيضاً. صبّحتهما، تثاءبت، تمطت ثم قفزت من فراشها كما تقفز هريرة رشيقة، وهرعت إلى المطبخ لتعد لهما قهوة الصباح. في السابعة والربع عاد سيرت إليهم حاملاً فطائر يحبانها. عاتبته تالا: - كنزي، ما الذي أخَّرك؟ فتأملها سيرت متعجباً: - إنها السابعة حبيبتي! بيننا وبين العاشرة موعد انطلاق القطار ثلاث ساعات... ثلاث ساعات كاملة. ما بك تالا؟! - لا شيء، تأخرتَ بجلب الفطائر. بابا يحب أن يتناولها مع القهوة. احتج أبوها إذ سمعها تقول ذلك وقطب: - لا ألتزم بهذا الطقس دائماً. أشرب القهوة مع الفطائر ومن دون فطائر، وكذلك أمك. ثم أسرع فمسح تقطيبته عن جبينه، وأضاف بلغة من يكيد للآخر: - لا تزعلي، سنتناول الفطائر مع القهوة. اذهبي فأعدي لنا قهوة من جديد. ابتهج سيرت، هتف مازحاً: - يحيا العدل، عقوبة تستحقها . في التاسعة تماماً، ودع دادوش ودوميا والدي سيرت بالتليفون. في الساعة التاسعة والنصف كان الأربعة في طريقهم إلى محطة آشنا بسيارة تالا. استطاع الأبُ دادوش أن يردع شعوره بالاغتمام من فراق ابنته عن الظهور. أما الأم، فكان الاغتمام قد احتشد في طيات قلبها مذ استيقظت من نومها، وتجسد بوضوح في كل حركة من حركاتها، وفي كل كلمة من كلماتها. ما أمرَّ الفراق في قلب الأم! أحست دوميا بغصة في حلقها كأنها الشجا، وهي تعانق سيرت مودعة في صحن محطة آشنا للقطارات. فلما جاء دور ابنتها، عانقتها فأطالت عناقها. وكانت دوميا أرادت قبل معانقتها أن تحبس دموعها، لكنها لم تستطع أن تحبس دموعها. خذلتها إرادتها، فتساقطت دموعها على وجنتيها كقطرات المطر التي كانت تتساقط على زجاج نوافذ المحطة وأبوابها الزجاجية في تلك الساعة الرمادية. بخلاف الأم، تمكن الأب دادوش وهو يودعهما أن يكبح رغبة عينيه الرعناء الملحة في ذرف الدموع. دادوش تجالد وما زال يتجالد حتى انتصر على شعوره الضمني القاتم بالكآبة، بيد أنه لم يتحرر من كآبته واغتمامه. صامتَين جلس الزوجان على مقعديهما المتقابلين داخل العربة المقطورة. في ذهابهما إلى آشنا كان الزوجان قعدا جنباً إلى جنب. في إيابهما إليها ها هما يقعدان متقابلين وجهاً لوجه. لاحظ دادوش هذه المفارقة، ثم فكر: ليس الذهاب كالإياب. بين الاثنين فرقٌ، بينهما اختلاف! في الذهاب إلى ابنتهما لم يكونا صامتين، وها هما الآن في الإياب وقد عقد الصمت لسانيهما. في الذهاب إليها لم يكونا حزينين كئيبين، وفي الإياب عنها ها هما وقد خيم الحزن على قلبيهما والكآبة. حقيبتهما في الذهاب لم تكن مرصوصة ثقيلة منتفخة، وها هي الآن في الإياب قد أثقلتها تارا ورصرصتها ونفختها بالهدايا من غير أن تحفل قلامة ظفر باعتراضاتهما الشديدة. صحيح أن الذهاب كالإياب. كلاهما طريق. كلاهما من… إلى. لكنّ سير القطار بهما في طريق الإياب ليس كسيره بهما في طريق الذهاب. ودادوش لا يحتاج إلى التفكير في السبب الذي جعل السير بهما في طريق الإياب مختلفاً عن السير بهما في طريق الذهاب. إن السبب جلي معلوم، إنه على السطح، وليس مجهولاً ومعقداً مثل سبب ذلك الفيلسوف الذي شاهده في القناة الأولى يتكلم بثقة وطلاقة في حلقة من حلقات برنامج القناة الأولى، سلاسل الجمان . الاختلاف بين الاثنين، بين الذهاب والإياب، سببُه ابنتهما تالا. هذا هو السبب باختصار، بكلمة واحدة. في الذهاب كان الشوق إلى لقائها يستخف روحيهما. في الإياب صار الحزن لفراقها يضطرم في قلبيهما. ولا عجب في هذا، العجب كل العجب من أن يختلف الذهاب والإياب عن بعضهما هذا الاختلاف، وهما شيء واحد… طريق! على أن دادوش وهو يفكر بهذا النحو، لم يراع الدقة في التعبير لنفسه عن أفكاره – سيستكشف هذا فيما بعد - لقد غاب عن ذهن دادوش أن سير القطار بهما ذهاباً وإياباً، في حالتهما تلك، لم يطرأ عليه اختلاف يذكر. الاختلاف الحاسم طرأ على شعورهما. شعورُهما هو الذي أمسى في الإياب مختلفاً عن شعورهما في الذهاب، وسير القطار بهما واحد. هذه هي الحقيقة التامة لا تلك المنقوصة. وإنما تحت وطأة الشعور بالحزن لفراق ابنتهما، غرق دادوش في التفكير والتأمل. لا يطفو ذهنه فوق سطحهما إلا بين الفينة والفينة. وكان إذا طفا بين فينة وأخرى، راقب ما يجري حوله في العربة ولكنْ ببصرٍ كأنه حسير. أما دوميا فشاغلت نفسها بالتليفون. راحت تقلب صفحات الفيسبوك، والتيك توك والانستغرام حتى استنفد جهازُها طاقته المدخرة. وحين استنفدها لم تشحنه، بل أغلقته في ضجر، وألقت به من يدها في حقيبتها، ثم أغمضت عينيها، وفتحت قلبها للصور التذكارية. المسافة بين آلامو وآشنا ليست قصيرة. لكن القطار السريع يقطعها في ثلاث ساعات. إن لسرعته الفضلَ في وصوله إلى محطة آلامو ظهراً في الساعة الواحدة وخمس دقائق، وهو الوقت المحدد نظرياً للوصول. وما كاد القطار السريع يتوقف في محطة آلامو، حتى هبّ الركاب القاصدون هذه المدينة للنزول من القطار. ومع أن الركاب لم يتدافعوا داخل العربة، فإن دادوش وجد نفسه وقد جرفته حركة النزول بعيداً عن زوجته. ها هو قد نزل من القطار، لكن زوجته دوميا لم تزل خلفه على مسافة منه تنتظر أن ينزل الركاب الذين سبقوها تباعاً لتنزل وتلحق به. دوميا تبطَّأت في النزول معه من القطار وفي اللحاق به، ومع ذلك فإن دادوش - في أول الأمر - لم يفكر في السبب الذي جعل زوجته تبطئ بالنزول واللحاق به. ولم يلمها في نفسه، بل لم يخطر في باله على الإطلاق أن يسأل: لماذا تبطأت دوميا؟ فإنه لمن السخف وهو في هذا الموقف العادي البسيط أن يطرح على نفسه سؤالاً عن أمر مفروغ منه كهذا السؤال. حين يكون أمر ما مفروغاً منه، فأي معنى ينتج من السؤال عنه؟ زوجته ستلحق به ولو تأخرت قليلاً. هذا أمر قطعي الحدوث، هذا أمر مفروغ منه. وسيهبط هو قبلها بالسلم المتحرك إلى رحبة المحطة وينتظرها حتى تهبط، هذا كل شيء. دقيقتان أو ثلاث دقائق من الانتظار في رحبة المحطة حتى تلحق به دوميا، لن ترفع ضغط دمه. مشى دادوش على طوار السكة مع حشد من الركاب فصل بينه وبين زوجته حتى بلغ السلم المتحرك الهابط إلى رحبة المحطة جاراً خلفه الحقيبة الثقيلة. وإذ وضع قدمه على الدرجة الأولى من السلم المتحرك، التفت إلى الخلف لينظر زوجته، فرأى زوجته. رآها وقد نزلت من القطار، وشرعت تمشي مع الحشد الذي كان يفصل بينهما بمسافة تقدر بثلاثة أمتار؛ فتعززت من رؤيته إياها خلفه على مقربة منه لامبالاتُه بتأخرها عنه. هبط السلمُ المتحرك بدادوش وبالحشد الذي أمامه والذي إلى جانبه والذي خلفه، إلى صحن المحطة. لامست قدما دادوش نهاية السلم المتحرك. رفع قدمه اليسرى فثبتها على الأرض الصلبة، ثم أتبعها بالثانية اليمنى على الفور ثم جاء دور الحقيبة فسحبها وهو يخطو إلى الأمام خطوات واسعة. خطا دادوش عدة خطوات إلى الأمام مبتعداً عن السلم المتحرك. ووقف ينتظر زوجته، كما كان ينبغي عليه أن يفعل. مرت ثوان، ودادوش لا يشعر بالضيق. الثواني القليلة التي مرت به لم تقلقل هدوء دادوش ولم تخلخل ركانته. لكن عقرب الثواني الذي يقفز الآن داخل ساعة معصمه بنزق، قد جاوز الدقيقةَ الأولى، وزوجته دوميا لم تظهر بعد لعينيه. مرت دقيقة ثانية، مرت دقيقة ثالثة، مرت دقيقة رابعة، ولم تظهر لعينيه دوميا. الدقيقة الخامسة تجري الآن في ساحة انتظاره فتلتهم من زمنها داخل ساعته لقمتها الأخيرة، ولا تظهر دوميا. فانتاب دادوش عندها شعورٌ بالضيق، ولم يلبث هذا الشعور أن اشتد في الدقيقة العاشرة. جميع الركاب خلال عشر الدقائق التي مرت، هبطوا إلى صحن المحطة إلا دوميا. لم يبق من الركاب أحد إلا هبط ما عدا دوميا. السلم المتحرك يتحرك الآن حركته من الأعلى إلى الأسفل، وليس يقف على درجاته أحد من الركاب. وها هو السلم يتوقف عن الحركة، يسكن إلى جموده. فأين دوميا؟ لماذا لم تهبط ؟ ما الذي أخَّرها عنه وكانت على بعد ثلاث خطوات منه لا أكثر؟ أتكون انشغلت عن النزول بمحادثة تالا على طوار سكة الحديد بالتلفون ؟ لكنّ تليفون دوميا لا يعمل، استنفد تليفونها طاقته ولم تشحنه. هل تكون التقت بواحدة من صويحباتها، فانشغلت بمحادثتها على رصيف السكة؟ ولكنَّ لقاءها بواحدة من صويحباتها ومحادثتَها لها، لا ينبغي أن يسمّراها بالرصيف إلى هذه التَكَّة. أوَلا تستطيع أن تحادثها وهي تسير وتهبط معها إلى حيث ينتظرها؟ وألقى دادوش نظرة أخيرة على ساعته. عقرب الدقائق يقترب من الدقيقة الخامسة عشرة. الخامسة عشرة، ودوميا لم تظهر! لا، هذا كثير. إلى متى ينتظر؟ إن للانتظار تخماً لا يجب أن يتخطّاه. حين يتخطى الانتظار تخمه، يبدأ ينهش أعصاب صاحبه. نعم، إن دادوش يملك أعصاباً متينة ليس لانتظارٍ ولو طال أن يهشّمها، لكن انتظاراً بليداً كهذا الانتظار لا تستطيع أعصابه أن تتوقى نتائجه وآثاره. كل الذين يعرفون دادوش، يعرفون أنه متماسك كالبنيان صبور كالجمل كما يقال وقليل الانفعال، غير أنهم لن تتملكهم دهشة عظيمة حين يرونه في هذه اللحظة، ومنسوبُ الغضب من إهمال زوجته يرتفع درجة في دمه مع كل دقيقة من الانتظار، ويرتفع أيضاً مع ارتفاع منسوب غضبه منسوبُ قلقه. ألا يُغضِب كلَّ رجل انتظارُ زوجته، وهي تثرثر مع صديقة لها التقت بها على حين فجأة ثرثرة فارغة دقائق طويلة متغافلة عن وجوده في انتظارها؟ ألا يقلق من كان محباً لزوجته إذا انتظر زوجته طويلاً وهو متعب وزوجته غائبة عن بصره لا يدري سبباً لغيابها عنه؟ إن لم يغضب الرجل من امرأته في الحالة الأولى، وإن لم يقلق عليها في الحالة الثانية، فأيُّ رجل هو؟ وما عتمت هذه النجوى المهموسة داخله أن شحذت عزيمته، فقبض على معناها المحفِّز بعنف كي لا يفلت منه. إن المعنى المنطوي في النجوى يحفّزه إلى أن يحطم قضبان الانتظار التي حبس إرادته المستكينة الذليلة خلفها، فعلام التردد؟ إلى متى؟ فليفعل شيئاً. ونفض دادوش عنه التردد. اندفع وهو يقبض على عزيمته نحو السلم الآخر الصاعد إلى الخط رقم (4) حيث توقف بهم القطار للنزول محطماً باندفاعته قضبان انتظاره العبثي. وكانت اندفاعته حافلة بكثير من القلق وبقليل من الغضب. ارتفع السلمُ بدادوش إلى رصيف الخط رقم 4. لكن الرصيف كان قد خلا من الركاب، وكان القطار انطلق إلى المحطة التالية. لا أحد الآن يقف أو يمشي على الرصيف. الرصيف مكان مهجور. أين دوميا؟ ووجب قلب دادوش، وأوشكت عيناه من التحديق أن تجحظا. ألم تنزل دوميا من القطار؟ بلى، دنيا نزلت من القطار، لا ريب في أنها نزلت منه! ولكن إلى أين تكون ذهبت بعد نزولها منه؟ غريب، غريب... ألم يرها خلفه على بعد ثلاث خطوات منه حين وضع قدمه على سلم الهبوط، أم يكون خُيّل إليه أنه رآها؟ أين دوميا؟ أين هي؟ لماذا لا يراها حيث يجب أن تكون؟ وما أحس إلا وهو يهرول بوعي تهافتت جدرانه على طول رصيف السكة المهجور حتى إذا بلغ نهايته انبثق في وجهه، كما ينبثق رجاء لملهوف، رجلان من أعلى السلم المتحرك بزي رجال أمن القطارات. بريقٍ جفَّ سأل الرجلين هل رأيا امرأته. فاستفسراه عنها، فوصفها لهما، وهو يلهث. هزَّ الرجلان رأسيهما بأسف. ثم سأله أحدهما: - أتقرأ زوجتك وتكتب؟ أجاب: - نعم. سأله ثانية: - أليس هاتفها معها؟ - بلى. - فتلفن لها. - لا جدوى. تلفونها لن يرد. بطاريته فارغة. - أهي من آلامو؟ - هي ابنة آلامو مولداً وإقامة. - إذن فلن تضيع. - فأين هي؟ - قد تكون بقيت في العربة، لم تنزل منها لسبب ما. ليس نادراً أن يحدث هذا لراكب أجهده السفر. - كيف؟! كنت وإياها... رأيتها بأم عيني خارج القطار على بعد أمتار مني. - لا داعيَ للقلق. - كيف وهي غائبة لم تظهر؟! - إن لم تظهر بعد ساعة من الآن، فليس لنا إلا أن ننصحك بتبليغ الشرطة عن اختفائها. ستساعدك الشرطة في العثور عليها. ارتاع دادوش، وكاد دمه يجف في عروقه، كما جفّ ريقه في حلقه. لماذا الشرطة؟ دوميا ليست ضائعة، دوميا ليست… لم يختطفها مجرمٌ قاتل نساء فعلام تبليغ الشرطة؟ ابتعد عنه الرجلان. وظل هو واقفاً في مكانه. إنه على يقين من أن تليفونها لن يرد إذا هاتفها، ومع ذلك فقد أخرج تليفونه من جيبه، أخرجه بيد مضطربة مرتجفة. لكن تليفونها، كما توقع، لا يرد. تليفونها لا حياة فيه. صامت تليفونها صمت شجرة جافة. ولم يرجع تليفونه إلى جيبه. كتب لها رسالة صوتية وانتظر، لكنه لم يتلق عليها رداً أيضاً. وإذا القنوط يهيمن على روح دادوش كما يهيمن ليلٌ على دنيا بلا أضواء. لكنه بالرغم من قنوطه لم يفقد كلَّ أمله. صوت في أعماقه هتف به أنِ ابحث عنها. فهب يبحث عنها. بحث عنها في كل مكان داخل المحطة وخارجها، بين تجمعات الناس، في دورات المياه، في المصاعد، في المتاجر الصغيرة، في الأكشاك، لكنه لم يعثر لها على أثر. دادوش لم ييأس كل اليأس. فإن لم يكن عثر عليها في هذه الأمكنة، فلينتظر قليلاً على باب من أبوابها، فلا بد أن تعود إليه بعد أن تكون ضلّت إليه السبيل. وانتظر عشر دقائق، لكن دوميا لم تعد إليه. وإذ ذاك عزم على إجراء البحث عنها مرة ثانية. عاد دادوش يبحث عنها جاراً خلفه الحقيبة الثقيلة داخل المحطة وخارج المحطة.. مشّط المحطة من ألفها إلى يائها بعين قائف، ولم يقع لها على أثر. وفي خلال البحث تلفن لها ثلاث مرات على رقم هاتف البيت، إذ لعلها تكون سبقته إلى البيت بعد أن ضلت إليه السبيل. لكن سماعة هاتف البيت لم ترتفع من مكانها. وما زال دادوش يبحث عن دوميا في كل مكان، حتى يئس البحث منه، وتخاذلت عن حمله ركبتاه. فتهاوى كالمغمى عليه على مقعد قريب من باب المحطة الرئيس، وهو ينهج، وجلده يتفصد عرقاً بارداً مرة وحاراً مرة، والقلق يضطرم في نفسه فينقلب إلى خوف، وبصره يذبل، وشعلة وعيه تخبو وتخبو. وفي اللحظة التي تهاوى فيها دادوش بثقله على المقعد، رنَّ جرس تليفونه؛ فاستقام بظهره من فوره على رنينه، ويده تنتشل تليفونه من جيبه. التمع في جسد دادوش المحطم شيء من النشاط. رنين تليفونه بزَّغ أملاً في روحه كان أوشك أن يموت، وانتباهاً كاد يتبلد. لعلها دوميا ! ليتها دوميا! لكنها لم تكن دوميا. كانت تالا ابنته: - بابا؟ وصلتما ؟ أأنتما الآن في البيت أم في الطريق إليه؟ أين ماما؟ هاتفتها قبل أن أهاتفك فلم ترد علي. لماذا لم ترد؟ خوف دادوش الشديد من أن تعلم تالا باختفاء أمها، غلّبه على ما به من انهيار، ومنحه ما كان في حاجة إليه من يقظة وانتباه وحذر، وهو في هذا الموقف العصيب. أجاب: - أمك في الحمام تحت الدوش، وأنا متعب. سأبدل ثيابي وأخلد للراحة. تالا، في المساء أكلمك. - كيف كانت رحلتكما؟ حدثني. - سأحدثك عنها في المساء. - حدثني عنها متى شئت، وإذا أحبت أمي أن تكلمني بعد خروجها من الحمام، فلتكلمني. - سأبلغها... - حسناً بابا، أتركك الآن لترتاح. -… يرتاح؟! أنى له أن يرتاح ودوميا عن عينيه غائبة؟ ودوميا ضائعة، أين دوميا؟ أحقٌّ أنها غائبة ضائعة؟ لااا...، إنه اللامعقول! غياب دوميا حدث لامعقول. غيابها حدث لا يقع مثله إلا في الأساطير، وحكايات الأطفال وفي الروايات البوليسية. ما أشد حيرته! ما أحلك يأسه! ويا لبؤسه بين هؤلاء المارين عن يمينه وشماله وأمامه وخلفه العابرين به دون علم منهم بما يقاسيه. ماذا عليه الآن أن يفعل؟ أيذهب إلى الشرطة ليبلّغ عن اختفائها كما نصحه رجلا أمن القطارات؟ يرعبه التبليغ! وفجأة تذكر أخاه.. أخاه الأصغر شلبين: - شلبين، أين أنت؟ - في البيت. - ماذا تفعل؟ - أتناول غدائي. - تعال إلي بعد الغداء! - بل تعال أنت ودوميا إلينا. خسارة ألا تتناولا معنا هذه الأكلة اللذيذة من يد داشا، داشا قمر سمائي المضيء. متى وصلتما ؟ سأله أخوه والمرح يزخرف صوته. - وصلنا للتو. - أأنتما الآن في البيت؟ - شلبين، أتستطيع المجيء إلي؟ - أستطيع، ولكن لماذا؟ - ستعلم إذا جئت إلي. - دادوش، أشتم رائحة غريبة في صوتك. خير؟ - لا أظنه خيراً. - ماذا ؟ تتكلم وكأنك في ورطة. - شلبين، أنا بالفعل في ورطة، تناول غداءك ثم تعال إلي . - فليذهب الغداء إلى حاوية القمامة. أخبرني، هيا... عمّ تتكلم؟! أين أنت؟ في أي مكان؟ - أنا في المحطة هنا في آلامو. - ماذا تفعل في المحطة؟ - دوميا يا شلبين. - دوميا؟ ما بها دوميا؟ - اختفت. - نعععم... دوميا اختفت؟! دادوش، أهذا وقت المزاح؟ - لست أمزح يا شلبين. - بل تمزح. - لا أمزح يا شلبين. - فما معنى اختفت؟ - لا أعلم. - أين اختف؟ كيف... ؟ - لو كنت أعلم كيف، وأين ! - طيب، طيب. انتظرني في المحطة حيث أنت. قادم إليك من فوري. وجاء إليه شلبين وهو بعد لاصق بمقعده بالقرب من مدخل المحطة الأول. شلبين لم يجئ إليه وحده، داشا زوجته جاءت معه أيضاً. حين وقعت عيناهما عليه ارتاعا. زلزل قلبهما داخل صدريهما. وكان للروع في قلبيهما والزلزلة، عنف لم يتمكنا معه من حجب مظاهرهما عنه بغطاء من التمويه المتكلف. بحركة فطرية تلقائية اندفع شلبين نحو أخيه الجالس على مقعده بإعياء، فهزه من كتفه كما يُهز المغمى عليه ليصحو. ثم بصوت بَحَّه جزعٌ بدائي، سأل أخاه : - ما الذي حدث؟ قل لي... يللّا! - اختفت دوميا. دوميا يا شلبين، اختفت. - يا إله الكون، ما هذا الكلام؟ ما هذا الذي تقوله؟ دوميا تختفي؟ - اختفت، دوميا ضاعت. -أبحثت عنها، ولم تعثر عليها؟ أنَّ دادوش: - في كل مكان بحثت عنها. في كل مكان من هذا المكان بحثت عنها يا شلبين، ولم أعثر عليها. اختفت دوميا، اختفت... - هل أخبرت تالا؟ - لا، لم أخبرها. كيف لي أن أخبرها؟ أأطعن قلب ابنتي بنبأ مشؤوم؟! - حسناً فعلت. ليس حسناً أن ينقل إليها خبر كهذا قبل أن يتوضح أمره. قالت داشا التي استطاعت أخيراً أن تتمالك أعصابها وتتظاهر بقلة الاهتمام، في محاولة منها للتسرية عنه: - وأين ستكون اختفت؟ دوميا لم تختفِ. ولماذا تختفي؟ هي الآن في البيت، أو في طريقها إلى البيت. - لا، ليست في البيت. لو كانت دوميا في البيت، لردت على مكالماتي.. طبطب شلبين على عاتقه، وقال: - سأقوم بجولة في المحطة. تلبّثْ بمكانك لا تتحرك حتى أعود. - لا تفعل، لن تجدها. لكن شلبين لم يحفل بكلام أخيه، انطلق وعيناه في كل مكان. أما داشا فاستدارت على كعب حذائها استدارة أحدثت صريراً، واتجهت بانفعال نحو كشك قريب خلفها، ثم عادت إليه وفي يدها زجاجة من ماء بارد، فرجته أن يشرب، وألحَّت: - خذ اشرب. عليك أن تشرب. لا مبرر للخوف. حسا دادوش حُسوة من الماء بصعوبة، ثم عاد فاستسلم لمخاوفه. عبثاً راحت داشا تطمئنه. وحين عاد شلبين بعد أن جال طويلاً في المحطة جولة مرهقة، رأى الاثنان الإحباط وقد نثر على وجه شلبين نثاره. بصوت ونى حتى كاد يصعب سماعه، قال له دادوش: - قلت لك لن تجدها. أما داشا فغالبت تشاؤمها، حاولت من جديد أن تبدد مخاوفه: - أكاد أجزم أنها في طريقها إلى البيت. - ولماذا تنفرد بالذهاب إلى البيت دوني؟ هل أنا إبرة سقطت تحت الأقدام، فلم ترني؟ ضبط شلبين أوتار صوته لتتسق نبراته مع محاولته الساعية أيضاً إلى كشط المخاوف عن قلب أخيه: - لا أجد لقلقك مسوغاً. الحكاية بسيطة. - هذا ما تقوله أنت. - لا، بل هو رجل أمن القطارات أكد لي أنها لا بد أن تكون الآن في طريقها إلى محطة (زابيرا) التالية، وأنها حين تصل إليها ستأخذ قطاراً آخر يعود بها إلى آلامو. أسمعت؟ هذه هي الحكاية بكل بساطة، فلا تضخمها بخيالاتك وأوهامك. لا يوجد سبب آخر لاختفائها. - لو كانت في القطار لشحنت تليفونها، وكلمتني. قالت داشا. - قد يكون التليفون ضاع منها. - احتمال وارد. صادق شلبين على قولها وهو يتلفت حوله كمن يبحث عن شيء ضائع بالفعل. - ضاع منها؟ عمّ تتكلمان؟ تساءل دادوش من غير اقتناع، ثم أضاف: - ألا تقدر، إن كان ضاع منها، أن تكلمني بتليفون أحد الركاب أو أحد العاملين في القطار؟ حدجته داشا بنظرة ثاقبة: - أتحفظ رقم تليفونك غيباً، أو رقم تليفون أحد منا؟ فرفع إليها وجهه المصفر كمن فوجئ، تأملها دادوش بذهول. ثم لم يعتم وقد طرق ذهنَه سؤالهُا أن صحا من ذهوله. أجابها وخيط من أمل يشعُّ في أعماقه المظلمة: - لا. - فكيف لها أن تكلمك؟ سكت دادوش، أطرق برأسه. فصاح به شلبين وهو يمسك بالحقيبة من مقبضها، ويضغط بقوة على شعوره بالقلق كي لا ينفجر أمام بصر أخيه: - ترهق أعصابك بلا سبب. - يوجد سبب يا شلبين، لا تهوّنِ الخطب. اختفاء دوميا سببٌ لا يرهق أعصابي وبس، بل... - حسن، حسن. أصغِ إليّ بانتباه! الساعة الآن الثالثة بعد الظهر، المسافة بين آلامو وزابيرا تستغرق ساعتين من الزمن، وهذا يعني أن دوميا سترجع من زابيرا في أول قطار منطلق نحو آلامو؛ أي في حوالي السابعة والنصف… - وما مفاد كلامك هذا؟ - نذهب إلى البيت. ننتظر عودتها، ثم نرجع إلى المحطة لاستقبالها قبل وصولها، أو نرسل واحداً من الأولاد لهذه المهمة. - لن أذهب. - ستذهب! هيا انهض وانفض عن رأسك وعث الأفكار المتشائمة والخواطر البئيسة المعوجة. - اذهبا، أنتما اذهبا. أما أنا فسأبقى هنا في مكاني قليلاً، فلعلها... - لن تبقى هنا وحدك. يللَّا، قم ! - فإن لم تعد دوميا، إن لم تظهر...؟ استاءت داشا من عناده: - تفاءلْ يا رجل! استبشر، ستعود دوميا، ستظهر لا محالة. لم تخطفها كائنات من كواكب أخرى، لم تنشق الأرض تحت قدميها. ثم مدّت إليه ذراعها لتعاونه على الوقوف. لكن دادوش أبى أن يقف على قدميه. قال لهما وهو يرتد بظهره إلى مسند المقعد: - اذهبا، أرجوكما! أما أنا فسأذهب لتبليغ الشرطة باختفائها. - لن نذهب إلا وأنت معنا. أصرت داشا. أما شلبين فمتجهماً قال: - وماذا ستقول للشرطة؟ لم تحدث جريمة تستدعي تبليغ الشرطة. - من يدري؟ في كل الأحوال قد تساعدنا الشرطة في العثور عليها. فكرتُ الآن فيما نصحني به رجلا الأمن، واستنتجت أنهما على حق. لا محيد لنا عن اتباع نصحهما. فحنى شلبين عنقه إلى الأرض، وغاص لحظة في لجة من التفكير، ثم رفع رأسه وقد ومضت عيناه: - حسن. نذهب إلى الشرطة. أنت على حق، فقد تساعدنا الشرطة في العثور عليها. وأنت يا داشا، عودي إلى البيت. ليس من فائدة في بقائك معنا. إليكِ مفتاح السيارة، وخذي معك الحقيبة. سار الشقيقان إلى قسم الشرطة المجاور للمحطة. توقف دادوش عن السير على بعد متر من الدرج الصاعد إلى مكتب التحقيقات، فجاراه شلبين في الوقوف. أخرج دادوش تليفونه. دقّ على أرقام تليفون البيت الثابت، فرن تليفون البيت، رنّ طويلاً، لكن سماعة التليفون كما في المرات السابقة، لم ترتفع من مكانها. دقّ بعد ذلك على أرقام تليفون دوميا، فلم يحصل على نتيجة أيضاً. فردّ دادوش تليفونه إلى جيبه بخيبة ذات ملمس شائك، وتمتم بصوته الذي لم يتغلب بعد على وهنه في استسلام، وهو يضع قدمه على الدرجة الأولى: - فلنصعد. بادر شلبين موظفة الاستعلامات بالكلام، أخبرها بغايتهما بدلاً من أخيه ذي السحنة المنقبضة المرشوشة بالصفرة والفم المزموم، فوجهتهما إلى الغرفة رقم 6. وطلبت منهما الجلوس في الردهة أمام باب الغرفة في انتظار أن يناديهما رجل التحقيقات المناوب. لم يرفض المحقق رغبة شلبين في أن يكون إلى جانب أخيه أثناء التبليغ والتحقيق. قدم شلبين نفسه إلى المحقق بكياسة، وأعلمه أنه لم يكن مع أخيه وقت وقوع الحدث. وجلس على كرسي إلى جانب دادوش، أمام طاولة طويلة عريضة سطحها مزدحم بأشياء كثيرة. ثم أخذ شلبين يتأمل هيئة المحقق: محقق أنيق الهندام، يصعب تقدير سنه، هادئ القسمات، طويل القامة، قوي البنية، مرجّل الشعر، له شارب ولحية قصيرة معتنى بها، وعلى عينيه نظارة طبية. وظل يتفحّص هيئته، لم يكفّ عن تفحصها إلا بعد أن سمع صوته الصقيل وهو يطلب البطاقة الشخصية من دادوش. أخرج دادوش بطاقته الشخصية، وقدمها للمحقق. أخذها المحقق منه شاكراً إياه. صورها ثم أعادها إليه: - الاسم من فضلك! اسم زوجتك. - دوميا إيتاس. - العمر؟ - في التاسعة والأربعين. - الطول؟ - 169 - ماذا ترتدي؟ - بنطلون جينز أسود، بولوفر أبيض، وحذاء رياضي أبيض بنعل سميك. في عنقها قلادة من ذهب، وفي بنصرها خاتم الزواج، تحمل حقيبة يد من الجلد رقشاء. - علامات فارقة؟ - لا توجد. - ألديك صورة حديثة عنها؟ - أجل. ونقّب دادوش في تليفونه، فعثر على صورة لها التقطها لها في آشنا وهي تقف على جسر قديم على نهر سيبا. استأذنه المحقق في نقل نسخة عنها، ثم عاد فسأله. - أما يزال مسكنكما في شارع بودان 25 حي شادار 12055، أم تغير؟ - لم يتغير - المهنة؟ مهنة زوجتك؟ - بائعة في سوبرماركت ألبيّا، شارع القلعة في حي شادار. - هل لي أن أعرف مهنتك؟ - أنا موظف في البنك التجاري. شارع رودما في حي تسِلين. - رقم تليفونك من فضلك! - 017….. - شكراً لك، متى وقعت الواقعة؟ - في هذا اليوم. - الساعة من فضلك. - في الواحدة وعشر دقائق تقريباً. - بتفصيل أكثر، لو سمحت! - كنا معاً عائدين من آشنا بالقطار، نزلتُ منه في المحطة، ونزلت هي أيضاً… قاطعه المحقق: - هذا يعني أنها كانت إلى جانبك أو بالقرب منك أمامك أو خلفك وقت النزول من القطار، أليس كذلك؟ - كلا، كان فصل بيننا ركاب قبل النزول من القطار وأثناء النزول منه، وكنت أنا أسير أمامها مع الركاب السائرين على بعد خطوات منها. رأيتها خلفي وأنا أنزل السلم المتحرك وكانت هي على الرصيف على بعد ثلاث خطوات مني. - ثم؟ - سبقتها إلى صحن المحطة وانتظرت أن تلحق بي. انتظرتها على مبعدة من سلم الهبوط المتحرك. جميع الركاب هبطوا بالسلم المتحرك إلى صحن المحطة، إلا زوجتي... - متى صار في علمك أنها اختفت بالفعل؟ - وقت أن صعدتُ إلى رصيف السكة بعد حوالي ربع ساعة من انتظارها في صحن المحطة. - متى بالضبط؟ - وقت أن بحثت عنها في كل مكان من المحطة، ولم أعثر لها على أثر في كل مكان منها. قال المحقق وهو يرمقه بنظرة مبهمة المعاني من خلف نظارته الطبية: - حدث غريب! إذن فقد بحثت عنها ولم تعثر عليها. - هو ذاك. وتنفس دادوش بمشقة. أرهقه تكرار حكاية ما حدث. تمنى في تلك اللحظة أن ينصرف المحقق عن طرح الأسئلة عليه، ويقفلَ ملفّ التحقيق على جوابه الأخير، ويسمح له بالعودة. لكن المحقق الذي لم تخفَ حالة دادوش عن عينه الصقرية المدققة، لم يرأف بحاله. واصل إلقاء الأسئلة عليه وأمعن في تدقيق إجابات دادوش عنها: - هل أنت متأكد من أنها رجعت معك من آشنا؟ - لست متأكداً من شيء قدر تأكدي من رجوعها معي. - حسن، أواثق أنت من أنك رأيتها نزلت من القطار؟ - كل الثقة. - فكيف لم تعثر عليها في المحطة، إن تكن حقاً نزلت من القطار فيها؟ هل تعرضت للاختطاف مثلاً؟ - لا أدري. - ولكنك تدري بلا شك، أن امرأة مثل زوجتك لا يمكن أن تتعرض للاختطاف وقت النزول من القطار. لم يحدث قط في كل سني خدمتي أن تعرضت امرأة للاختطاف وقت نزولها من القطار مع زوجها ضمن حشد من الناس. - أدري. - إذن فلنستبعد الاختطاف، ولنبحث عن سبب آخر. لا بد من سبب آخر وراء اختفائها. - ما عساه أن يكون؟ - أحب أن أسمع منك الجواب. - مني أنا؟ بم أجيب؟ لست أعلم سبباً لاختفائها. - لا بد من وجود سبب. - ما السبب؟ إن كنت لا أعلم السبب، فلا سبب. - لا سبب؟! - حتى يُعلم السببُ. - كأن لك صلة ما بالفلسفة. - لا، لا أذكر أني قرأت كتاباً منذ تخرجي من كلية التجارة. قد يحدث أحياناً أن أشهد حواراً لفيلسوف في التليفزيون أو حديثاً له في اليوتيوب. - الاختفاء لا يحدث إلا ووراءه سبب. - فإن لم يُعلم السبب؟ - سنعلم السبب عاجلاً أو آجلاً. - فإن لم يعلم السبب عاجلاً أو آجلاً. - عندما نعثر على زوجتك الضائعة سيُعلم السبب، ولا بد. السبب معها. أأنت في شك من أننا لن نعثر عليها عاجلاً أو آجلاً؟ - لا، ولكن ماذا لو لم يتمّ العثور عليها؟ - يبدو عليك التعب. سنكمل التحقيق غداً، لدينا الكثير من الأسئلة، إلا إذا ظهرت زوجتك قبل مجيء الغد. سأله دادوش بسذاجة: - ألن أكون في موضع الشبهة إن لم تظهر؟ أجاب المحقق: - قد أستنتج أنك تكثر من مشاهدة أفلام الجريمة. - الجريمة ؟! - أعني أن أول من يشتبه به عند اختفاء الزوجة، هو الزوج. تعلم هذا. ثم قام فاستلّ من الطابعة أوراقاً، ووضعها أمام دادوش، وطلب منه بلفظ مهذب أن يوقّع عليها. فوقع عليها دادوش بأصابع مرتعشة، ثم نهض على ساقين ركّتا. وإذ نهض نهض أيضاً أخوه شلبين. كان ذهن شلبين في نهاية التحقيق قد غدا فضاء فسيحاً تدوّم فيه طيور من الحيرة المبهمة ومن القلق. أما دادوش فبالرغم من كل ما حاق به من الجهد ومن نكاية الحدث، ومن احتمال أن يشتبه به، فقد أحس بشيء من الارتياح. سرّى عنه قليلاً تبليغُ الشرطة عن اختفاء زوجته. انتابه ما ينتاب العاجز من ارتياح حين يهب إلى مساعدته على ما عجز عنه، جهازٌ مقتدر من أجهزة الدولة. فلما أصبح الاثنان خارج قسم الشرطة. ناشد دادوش أخاه أن يتركه وحده ويعودَ إلى بيته: - لا خير يجتبى بعد من بقائك إلى جانبي في المحطة. عد إلى بيتك يا أخي، ودعني أنتظر عودة دوميا المفترضة من محطة زابيرا. لكن شلبين الذي لسعه الغضب في تلك اللحظة، انتهر أخاه: - فقدتَ صوابك؟ أأتركك وحدك وأنت في هذه الحالة؟ لن أدعك تنتظر عودتها في المحطة. أفهمت؟ تذهب معي، ترتاح ، ثم نعود إلى المحطة معاً قبل السابعة والنصف بقليل. محال أن تكون دوميا في المحطة قبل السابعة والنصف أو الثامنة. - تتكلم وكأنك واثق مئة بالمئة من أنها لم تنزل من القطار . - دوميا لم تنزل من القطار. أنا واثق من هذا أكثر من مئة بالمئة. - وما أدراك؟ - يدريني أنها اختفت، ضاعت. هل لدوميا أن تختفي، أن تضيع إن كانت نزلت من القطار؟ - لا أدري ! أنا حائر. قل لي: كم الساعة الآن؟ - الرابعة والنصف. ستذهب معي، لا تركب رأسك. لن أدع لك خياراً آخر. ورضخ دادوش. أومأ لأخيه برأسه موافقاً على مضض. إصرارُ أخيه العنيد آيسَهُ من الانفلات من قبضته. ابتعد عنه شلبين ليستوقف سيارة أجرة إلى بيته. في لحظة ركوبهما التاكسي، وَبَلَتِ السحب الرمادية المتراكمة في السماء، ولم يبرح الوبل يتدفق منها دون انقطاع حتى بلغت بهما السيارة الهدف. كانت داشا وحدها في البيت، الأولاد الذين كانوا خرجوا إلى الملعب لمشاهدة مباراة في كرة القدم، لم يعودوا إليه بعد. وماذا في استطاعة داشا أن تفعل غير أن تبذل كلّ ما في وسعها في تسليته عن (المصيبة) وفي فتح شهيته للطعام والشراب؟ ولقد فعلت ذلك بأريحية ودهاء دون أن يعتريها ملل ولا يأس، بيد أن كل الذي بذلته داشا وكذلك أخوه شلبين، ظلّ عقيماً بلا ثمر. قال لها دادوش بلهجة صارمة: - داشا، لا حاجة بي إلى طعام وشراب. لن آكل ولن أشرب. ثم تأوّه وهو يتمدد بطوله المتداعي على الصوفا ويغطي وجهه المكفهر بساعده. - جيد، قد يفيدك أن تغمض عينيك قليلاً. زيَّن له شلبين الخلود إلى الراحة، وهو يجسُّ جبينه، فرد عليه دادوش فيما يشبه الأنين: - ما أشدَّ توقي إلى معرفة السبب! ألا ليتني علمت سبب اختفائها ! - دوميا لم تختفِ لتعلم سبب اختفائها. - فأين هي ؟ - أين هي، أين هي…؟ ما توقعت أن يبلغ بك الضعف هذا المبلغ. - شلبين، أسألك أين هي؟ فلا تسخر من سؤالي؟ وتولت داشا الرد عليه بدلاً من شلبين: - إنها في طريق العودة. اطمئن، ما لك تعذب نفسك بالوساوس؟ - هيهات يا داشا! هيهات… ليت قولك يصدق! - سيصدق قولي، ولسوف ترى... وفي اللحظة التي رأته فيها يرتجف، أسرعت إلى حجرة النوم فجاءته ببطانية، ودثرته بها. أخلد دادوش إلى الصمت عقب التدثير، ولم يلبث أن غطَّ بعد دقائق في النوم رغماً عنه. ارتاحت داشا وارتاح شلبين لنومه، ولكنهما ترامقا بحيرة واهتمام وفي قلبيهما ينبض غير قليل من الوجل. ومضى الوقت. دنت عقارب الساعة من السابعة، فهبَّ دادوش من رقاده مذعوراً. رأى فيما يرى النائم دوميا على رصيف سكة القطار يلفُّها فراغ من كل حدب كما الضباب... وإذا يدٌ، ما أبصر مثلها في الضخامة والخشونة واللون، تنبثق من الضباب فتقطفها من مكانها كما تقطف ثمرة ناضجة من شجرة. كان شلبين في اللحظة التي هبّ فيها دادوش مذعوراً من رقاده، يبدل ثيابه في حجرة النوم استعداداً للخروج إلى المحطة، وكانت داشا في المطبخ؛ فلم يشهدا ما حلّ به من ذعر. فلما فرغ شلبين من ارتداء ملابسه في حجرة النوم، عاد إلى غرفة الجلوس، فرأى أخاه وقد استيقظ واستوى في جلسته على الصوفا مدلياً ساقيه، ومطرقاً برأسه. استنهضه بإشارة منه إلى ساعة معصمه، فنهض وتبعه صامتاً. قاد شلبين السيارة. في منتصف الطريق إلى المحطة، رنّ تليفون دادوش. وسمع دادوش رنينه لكنه خشي أن تكون تالا على الخط، فتباطأ في الرد، فنبَّهه شلبين قائلاً: - تليفونك يرن. ألا تسمعه ؟ ردّ… لم يكن الرقم الذي ظهر على شاشة تليفونه، رقم تالا. كان رقماً غريباً مجهولاً. ولما تعرف المحقّقَ من صوته، بدأ قلبه يخفق تحت جناجن صدره: - أأكلم السيد فيتاري دادوش؟ سأل المحقق. - نعم، أنا دادوش. - عرفتك من صوتك. - كما عرفتك أنا أيضاً من صوتك. - لدي خبر سيسعدك. تم العثور على زوجتك. - حقاً ! أ.. أ...؟ انعقد لسان دادوش من المفاجأة، وكاد من روعة النبأ يقفز عن كرسيه داخل السيارة: - زوجتك ستكون في انتظارك في المحطة بعد حوالي نصف ساعة من الآن. بلهفة صاح دادوش: - أهي بخير؟ - إنها بخير. - أين عثرتم عليها؟ - زوجتك ستروي لك كل شيء بالتفصيل. وأنهى المحقق المكالمة. لم ينتظر أن يشكره دادوش. شلبين الجالس وراء المقود، تلقف النبأ في بادئ الأمر بضحكة عصبية لشدة توتره. ثم ثابت نفسه، فقال وهو يخبط فخذ أخيه براحته، وبهجة عارمة تملأ الفجوات التي كان الغم يملأها: - ألم نقل لك إنها ستظهر؟ ها هي قد ظهرت. أرأيت؟ ولكنك رجل جزوع... ومدّ شلبين يده إلى هاتفه المعلق أمامه ليزفَّ البشرى إلى زوجته داشا. دادوش تنفس الصعداء، مسح على صدره المنشرح براحته، وقد اندفق تيار جارف من الحياة في مجرى عروقه وشرايينه بعد جفاف. لم يكن شلبين قد انتهى بعد من مكالمة داشا، عندما ردّ عليه دادوش مدافعاً عن نفسه: - إنها دوميا يا شلبين، فكيف لا أجزع؟! لم يطل بهما الانتظار. صدق المحقق، ها هي دوميا تظهر لعينيهما المقرومتين إلى لقائها، كما يظهر الحق السعيد. ويهرع إليها دادوش، يضمها إلى صدره، يلتصق بها فيصيران جسداً واحداً. نشجت دوميا ورأسها على كتفه، ثم همست في أذنه وهي لا تزال تنشج: - سامحني! تسبّبت في ترويعك بحماقتي، إنه ذنبي أنا. سامحني… ثم انفصلت عنه لتعانق شلبين الذي احمرت عيناه من غير أن تدمعا. في أول الطريق إلى منزلهما كلّمت دوميا ابنتها تالا، وهي ملتصقة بزوجها في المقعد الخلفي من السيارة. لم تتبسط دوميا في مكالمتها، أوجزت، ثم تلفنت لداشا فأوجزت أيضاً. كان توق الاثنين إلى معرفة سبب اختفائها عارماً لا يحتمل الانتظار. أدركت ذلك داشا منذ الوهلة الأولى. ثم وهي تقبض على أصابع زوجها بيدها الدافئة شرعت تروي لهما الحكاية، قالت: انتبهت وقت أن نزلت من القطار إلى أني نسيت أن آخذ حقيبتي، فعدت إلى القطار، صعدت إلى العربة وسرت إلى حيث تركت الحقيبة، فلم أجدها. سألت عنها المسافر الجديد الذي احتل المقعد الذي كنت جالسة عليه، فأومأ برأسه إلى العربة التالية، وقال لي: "راكب سبقني إلى المقعد الخالي، فتناولها ومضى قدماً باتجاه العربة التالية“. وأنا عزّ علي أن أفقد حقيبتي وفيها مصاغي وتليفوني وبطاقة هويتي وبطاقة التأمين الصحي والبنك والمفاتيح وأشياء أخرى عزيزة علي، فزاحمت الركاب وسرت في طلب الرجل ولكن عبثاً من عربة إلى أخرى. سرت في طلبه، وأنا غافلة عن كل شيء غفلة تامة. فلما صحوت من غفلتي كان القطار تحرك وغادر المحطة. وتوقف القطار في محطة زابيرا فنزلت منه، وانتظرت قدوم قطار يعود بي إلى آلامو. وأنا في المحطة أنتظر والغيظ يأكلني، والارتباك يعصف بعقلي، والتفكير بدادوش يمضُّني، تقدم مني ثلاثة رجال وامرأة يرتدون زي الشرطة. سألني أحدهم عن اسمي فذكرت له اسمي، فردد بصره بيني وبين تليفونه، ثم سألني: أهذه صورتك؟ وأراني صورتي. فأجبت: إنها… ثم سألتني المرأة: هل أنت على ما يرام، أم لك حاجة عندنا نقضيها لك؟ فأخبرتهم أن حقيبتي سرقت مني، ففهموا المعنى مما أخبرتهم به. فساروا بي إلى مكتب حجز بطاقات السفر، فاستحصلوا لي على بطاقة سفر بالقطار. هذا الذي كان. وضحكت دوميا وألصقت خدها بخد دادوش. فقال شلبين معلقاً: - ما أعجب إلا من أنها حكاية بسيطة بساطة الخروج إلى نزهة، ومع ذلك كادت تصدّع قلب دادوش. فرد دادوش: - الحالات الغامضة تثير الهواجس. - لكنك لم تهجس، بل تصدعت. فرد دادوش متهكماً به: - كأنها لم تفعل فعلها فيك. تكابر؟ - أنا كنت واثقاً من عودتها، وإنما جزعتُ أن رأيتك تنهار كبناء أصابته قذيفة هائلة من طائرة مقاتلة. وتزعم أنك رابط الجأش؟! رسم دادوش علامات الجد على جبينه: - لو كنت علمت السبب، وعلمت ما كان سينتج عنه، لكنت تماسكت، بل كنت مضيت في طريقي إلى البيت بثبات جأش، وهدوء ضمير. ولكن أنّى لي ذلك وأنا أواجه حدثاً غامضاً مهولاً … اختفاء زوجتي الحبيبة. - آسفة، آسفة! أنا السبب. هتفت دوميا معتذرة، والدموع تملأ عينيها. لكن شلبين عارضها: - لست أنتِ، بل اللص الذي سرق حقيبتك. - لا، ليس هو … نفى دادوش رأي شلبين، فسأله شلبين: - فمن هو؟ ضغط دادوش على يد زوجته بحنان، وأجاب: - سيارتي. سيارتي هي السبب. لو لم تتعطل، ما سافرنا بالقطار. - تبرئان ساحتي؟ شكراً لكما. ولكني مذنبة في كل الأحوال. لولا حماقتي إذ رحت دون أن أُعلم زوجي أسير في طلب رجل نشّال داخل قطار على أهبة الانطلاق؛ ما نسج لي يومي حكايةَ خيبتي وضياعي. قال دادوش: - العبرة في خاتمة الحكاية. لا تكترثي بالتفاصيل يا عزيزتي. فردت دوميا. - خاتمة سعيدة. وأوقف شلبين السيارة على باب العمارة حيث يسكن دادوش ودوميا. ودعهما على أن يجلب لهما الحقيبة مساء الغد، ووعدهما أن يصحب معه داشا لتناول العشاء معهما ابتهاجاً بعودة (الابنة الضالة) وعندما ارتقى الزوجان درج العمارة إلى شقتهما جنباً إلى جنب، تشابكت أصابعهما. فتح دادوش الباب بمفتاحه، دخلا معاً شقتهما. معاً وقفا تحت الدوش، معاً أعدا طعام العشاء، وبعد العشاء ارتديا ثياب النوم العشاء، ونظّفا أسنانهما في الحمام معاً في نفس الوقت، ومعاً جلسا جنباً إلى جنب على الأريكة أمام التلفزيون والسعادة لسان حالهما ترفرف بجناحيها فوق قلبيهما،حتى إذا شارفت الساعة على الحادية عشرة نهضا معاً إلى النوم. تحت اللحاف الرقيق التصق دادوش بها. أحس بدفئها يتغلغل فيه، فهمس لها برقة: - دوميا، أنتِ المعنى. أنت معنى وجودي، ما كان سيحل بي لو كان ضاع مني هذا المعنى؟ كيف كنت سأحيا ؟ - تتزوج بامرأة ثانية. فقال متصنعاً عتابها: - مزاحك ثقيل. - أكثر الرجال يفعلونها. - ولكني من القلة. - برهانك؟ فشدها إليه بقوة: - ليت أني أرحل عن الدنيا قبل أن ترحلي عنها. فضربت قدمَه بقدمها تحت اللحاف محتجةً: - يا لك من أنانيّ. لا تفكر إلا بنفسك. وأنا؟ كيف سأحيا من بعدك إن رحلتَ عني؟ تنشد الراحة لنفسك والعذابَ من بعدك لي؟ فتمتم في أذنها وخدر النوم اللذيذ يزحف على أوصاله: - إذن فلنرحل عن الدنيا معاً.
#نعيم_إيليا (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
دوَّامةُ النّهرِ الكبير 12
-
الأخلاق بين فريدريش إنجلز ولودفيج فويرباخ
-
دوَّامةُ النّهرِ الكبير 11
-
منطقُ الجاحظ في ردِّه على النصارى
-
مُشادّة على مائدة الحوار المتمدن
-
دوَّامةُ النّهرِ الكبير 10
-
الوعي والحياة بين هيغل وماركس
-
مناظرة السيرافي والقُنَّائي
-
دوَّامةُ النَّهرِ الكبير 9
-
البعد الفلسفي لفرضية الانفجار الأعظم
-
محاورة ملحد الكريتي
-
ثالوث الديالكتيك الماركسي
-
الطعن على رأي الأستاذ منير كريم في الديالكتيك والمادية
-
دَوّامةُ النَّهرِ الكبير 8
-
الزمان بعداً رابعاً
-
سُلَّم الوجود
-
مشكلة النسبية
-
ميزتا التعليق والتصويت في صحيفة الحوار المتمدن
-
دَوّامةُ النَّهرِ الكبير 7
-
الإلحاد والتطرف
المزيد.....
-
أحلى أفلام الكرتون وأجمل الألعاب.. تردد قناة كراميش 2024 وكي
...
-
زاخاروفا تعلق لـ RT على فضيحة كبرى هزت أمريكا والعالم بطلها
...
-
عاصي الحلاني ووائل جسار يعتذران لمهرجان الموسيقى العربية بسب
...
-
بسبب الأوضاع في لبنان.. عاصي الحلاني ووائل جسار يعتذران عن ا
...
-
رحيل فخري قعوار.. الأديب الأردني العروبي المفتون بقضية التقد
...
-
إنييستا.. اعتزال فنان لا ماسيا الخجول وقاتل دفاعات الخصوم
-
-تحت الركام-.. فيلم يحكي مأساة مستشفى كمال عدوان وصمود طاقمه
...
-
مسلسل عن محمد عبده وفيلم -كابتن ماجد-.. هذا ما كشفه تركي آل
...
-
الدنماركي توماس فينتربيرغ رئيسا للجنة تحكيم مهرجان الفيلم في
...
-
شموع وصلوات وموسيقى في إسرائيل لإحياء ذكرى 7 أكتوبر
المزيد.....
-
إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ
/ منى عارف
-
الخلاص - يا زمن الكلمة... الخوف الكلمة... الموت يا زمن ال
...
/ السيد حافظ
-
والله زمان يامصر من المسرح السياسي تأليف السيد حافظ
/ السيد حافظ
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل مسرحية "سندريلا و ال
...
/ مفيدةبودهوس - ريما بلفريطس
-
المهاجـــر إلــى الــغــد السيد حافظ خمسون عاما من التجر
...
/ أحمد محمد الشريف
-
مختارات أنخيل غونزاليس مونييز الشعرية
/ أكد الجبوري
-
هندسة الشخصيات في رواية "وهمت به" للسيد حافظ
/ آيةسلي - نُسيبة بربيش لجنة المناقشة
-
توظيف التراث في مسرحيات السيد حافظ
/ وحيدة بلقفصي - إيمان عبد لاوي
-
مذكرات السيد حافظ الجزء الرابع بين عبقرية الإبداع وتهمي
...
/ د. ياسر جابر الجمال
-
الحبكة الفنية و الدرامية في المسرحية العربية " الخادمة وال
...
/ إيـــمـــان جــبــــــارى
المزيد.....
|