عن اسباب الضعف الفكري والسياسي داخل فصائل واحزاب اليسار العربي وتزايد مساحة الاغتراب فيها ؟


غازي الصوراني
الحوار المتمدن - العدد: 5111 - 2016 / 3 / 22 - 20:02
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     



سأحاول الاجابة على هذا السؤال من خلال إبداء بعض الملاحظات :.
الملاحظة الأولى: تتعلق بحالة الضعف التاريخي للوعي العميق بمفهومي القومية( بالمعنى التقدمي النقيض للشوفينية ) والماركسية ، حيث جاء انهيار الاتحاد السوفيتي وتحولات العولمة الرأسمالية ليضفي مزيداً من الارباكات والحيرة والفوضى الفكرية على جميع فصائل وأحزاب اليسار العربي ، وفي هذا السياق أشير إلىبعض جوانب الخلل السياسي والمعرفي لدى معظم هذه الاحزاب والفصائل ، فمن يقبل بالمناهج الاصلاحية الليبرالية اليمينية اويقبل التحالف مع أي نظام عربي مستبد ، او يتخذ موقفا مؤيدا لهذه الطائفة الدينية او تلك او يقبل باتفاقات كامب ديفيد ووادي عربة واتفاق أوسلو أو يقبل بالتفاوض مع دولة العدو الإسرائيلي او الاعتراف بها ، ومن يقبل المشاركة في حكومات انظمة الاستبداد اوحكومة سلطة الحكم الإداري الذاتي، ومن وافق على الذهاب إلى ما يسمى بمؤتمر جنيف الذي استهدف شطب حق العودة وشطب الحقوق التاريخية ، فلا يجوز موضوعياً ان يندرج تحت مسمى اليسار، وبالتالي فإن هذه الأحزاب تعيش داخلياً حالة شديدة من الاغتراب لدى عموم الاعضاء عندما يصعب على هذا المكون الأيدلوجي إيجاد مكانه الطبيعي ويعيش نوعا من التيه والحيرة معا على مستوى الموقع أولا وقد يمتد إلى ذلك ليشمل المرجعية أيضا.
الملاحظة الثانية: هي أن اليسار العربي عموما لم يعد قادرا على إنتاج معرفة جديدة للواقع السياسي ، الاجتماعي ، الاقتصادي ، الثقافي ، القانوني ، برؤية وطنية وقومية يسارية ثورية وديمقراطية واضحة المعالم ، ويعود السبب في ذلك إلى أزمة القيادة المستفحلة تاريخياً ، والتي انتشرت في أوساط الهياكل والمراتب الحزبية الاخرى ، إلى جانب غياب أو ضعف الوعي العميق بالأفكار المركزية التوحيدية لهذه الأحزاب والفصائل من جهة وتراجع حالة الشغف والدافعية الذاتية أو القناعة لدى الأعضاء بتلك الأفكار من جهة ثانية ، ليس بسبب عدم صلاحية الفكر أو المنهج الماركسي ، بل بسبب الضعف الفكري والبنيوي للقيادة وعجزها أو قصورها في تطبيق البرامج الفكرية والسياسية والمجتمعية التثقيفية لدى أعضائها ؛ إذ أن أغلب تساؤلات اليسار اليوم لا تزال حبيسة ماضيه دون أي ابداع أو تجديد يتناسب مع المستجدات والمتغيرات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية الراهنة، الى جانب تفاقم الصراعات الطائفية الدموية تحت مظلة الحركات الاسلاموية التي اعادت انتاج التخلف والتبعية بصورة غير مسبوقة ، بل إن اليسار الفلسطيني – على سبيل المثال - رهن عدد من القضايا والإشكالات السياسية والمقاومة على حساب الاشكالات المجتمعية الديمقراطية والصراع الطبقي ، وعلى الرغم من أهمية ذلك فإنه لا يمكن من الناحية العلمية أن نرهن كل المشكلات بالقضايا التحررية أو السياسية ، فلا بد من مقاربات علمية لكافة الظواهر الاجتماعية وإيجاد علاقات سببية وروابط واضحة بين التحرر الوطني وقضايا التطور الاجتماعي الديمقراطي ، وإعمال أدوات تحليل مناسبة قادرة على إظهار هذه العلاقات ، بما يمكن الحزب أو الجبهة من الاقتراب والتفاعل مع القضايا المطلبية واقناع الجمهور المعني بالعلاقة التفاعلية المتصلة بينه وبين الحزب.
الملاحظة الثالثة: عدم قدرة اليسار على بلورة الدور الطليعي مع متطلبات التغيير الجديدة في المجتمعات العربية اثناء وبعد الانتفاضات الثورية الشعبية العفوية وعجزه عن قيادتها مما افسح المجال واسعا امام قوى الثورة المضادة في الانظمة وحركات الاسلام السياسي ، ومن ثم تحول ما سمي بالربيع العربي الى ربيع امريكي صهيوني رجعي ،الأمر الذي عزز عوامل الاغتراب لدى قوى واحزاب اليسار العربي في ضوء تفاقم ازماته او مآزقه وعزلته عن جماهيره.
الملاحظة الرابعة: اليسار بحاجة ماسة اليوم إلى مراجعة التنظيم وأسلوب العمل بمنهجيه ديمقراطية نقيضة للبيروقراطية تستلهم شكل وروح التطورات العلمية والتكنولوجية الحديثة وتتفاعل معها، بما يسمح له بإعادة ترتيب البيت الداخلي والفعل المباشر في المجتمع والالتحام بقضاياه المطلبية، مما يطرح السؤال العريض أين اليسار من حلم تأطير الجماهير وتحريك الشارع...؟ إن احوال التراجع السياسي والجماهيري لدى أحزاب وفصائل اليسار ترك –إلى جانب أسباب أخرى- مجالا خصبا للحركات الاسلاموية للاشتغال دون مزاحمة عندما عجز عن الاشتغال الطبيعي في أوساط الفقراء وتجمعاتهم السكنية في المدن والمخيمات والقرى في الوطن والشتات ، وبالتالي عجز عن الاجابة عن اسئلتهم.
والاشكالية هنا أن أحزاب وقوى اليسار ، اعتبروا على الدوام أن المشكلة الأساس تكمن في القضايا السياسية أو التحررية الكبرى، وهذا صحيح من حيث المبدأ ،لكن الفقير الذي لا يملك قوت اسرته أو علاج اطفاله أو تأمين دخل لائق له ولأسرته ، لا يمكن ، بل يستحيل أن يناضل من أجل القضايا السياسية الكبرى ، ولذلك فإن الموضوعية في مسيرة النضال السياسي لليسار الماركسي ، تقتضي ايلاء القضايا المجتمعية والاقتصادية المطلبية للجماهير الفقيرة اهتماماً فائقاً يتوازى ويندمج مع القضايا السياسية التحررية، ذلك إن الضعف الشديد في هذه الممارسة اتجاه الشرائح الفقيرة جعل اليسار يفقد البوابة الرئيسية للنشاط السياسي والتوسع التنظيمي في أوساط الفئات الفقيرة والالتحام بها تمهيداً لتأطيرها وقيادتها في خضم النضال الوطني التحرري والديمقراطي على طريق تحقيق اهداف الثورة الوطنية الديمقراطية بافاقها الاشتراكية.