الضرورة الملحة لمراجعة مفهوم المركزية وتعميم الديمقراطية منهجاً وسلوكاً..........


غازي الصوراني
الحوار المتمدن - العدد: 7832 - 2023 / 12 / 21 - 00:57
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     


إن مفهوم «المركزية الديمقراطية» الذي مثّل أسس الحياة الداخلية، كان الشعار الذي أسس لممارسات التفرد والاستبداد وعبادة الفرد في العديد من الأحزاب الشيوعية، لأن كلمة الديمقراطية في هذا المفهوم لم تكن ذات معنى، سوى بالممارسة الشكلية لحق الانتخاب، بينما عنت المركزية –في تلك الاحزاب- سيطرة «الهيئات الأعلى» فالأعلى، والأعلى هو الأمين العام و المكتب السياسي.
وإذا كان لينين هو الذي انتج هذا المفهوم، فقد عنى به اتحاد إرادات حرّة. في الممارسة من أجل تغيير الواقع. لهذا إشتمل عنده على مبدأ حق إبداء الرأي وحق الاختلاف، ومبدأ تقرير سياسات الحزب من خلال الحوار المكتوب، والعلني، ومن خلال إقرارها في مؤتمرات حقيقية. تشهد صراعات حقيقية، وتأتي نتيجة الانتخاب كتعبير عن هذه الصراعات.
لاشك أن الصيغة اللينينية للمفهوم لا تزال راهنة، وهي، صحيحة، ومهمة أيضاً، لكن لابد من أن نلاحظ، أولاً أن هذا المفهوم يمكن تفسيره بصورة أحادية انتهازية ومن ثم توليد الاستبداد اعتمادا على لفظ أو مصطلح المركزية ، وبالتالي اعترى المفهوم حالة من التشويه، عبر أساليب حزبية بيروقراطية في إطار العلاقة الميكانيكية والتابعة لأحزابنا الشيوعية مع المركز في موسكو، دون أي تفكير جدي موضوعي بانتقاد التجربة البيروقراطية وصيغ الاستبداد الحزبية واستبدالها بالمفاهيم والصيغ الديمقراطية الكفيلة بتطور واستنهاض وانتشار الحزب الماركسي/ الشيوعي الثوري.
ففي ضوء المتغيرات النوعية في حياة الأحزاب الشيوعية منذ ثورة أكتوبر 1917 وخاصة بعد وفاة لينين ، وتفشي مظاهر عبادة الفرد والاستبداد بذريعة أسبقية المركزية على الديمقراطية في معظم تلك الأحزاب – بدرجات مختلفة- استمرت حتى لحظة انهيار الاتحاد السوفياتي 1991، الأمر الذي يعني إن مختلف تلك التجارب قد أثبتت أن على كافة أحزاب وفصائل اليسار الماركسي إعادة النظر في كيفية تطبيق مفهوم المركزية الديمقراطية، ليس بمعنى نفيه، بل بتمحيصه، ومحاولة إعطائه معنى أشمل مما كان عليه خلال الحقبة الماضية، بما يجعل من هذا المفهوم أداة لتطور وتجدد الحزب ديمقراطياً على قاعدة الالتزام الخلاق بالماركسية اللينينية، بعيداً عن كل أشكال البيروقراطية والتفرد والجمود من ناحية، وبعيداً عن كل الممارسات التوفيقية أو المجاملة أو الحلول الوسط من ناحية ثانية، لكنني ادرك ان هذا المطلب مرهون بعمق التربية الحزبية المستندة الى الروح والأخلاق الرفاقية من جهة والى الوعي بالنظرية ومبادئ الحزب الى جانب مكونات الواقع السياسي الاقتصادي الاجتماعي في كل قطر من جهة ثانية.
إن تناولي لمظاهر الخلل في احزابنا وفصائلنا اليسارية الماركسية ، يفرض علينا، لا أن نعرف مكامن الاختلال فقط، بل أن نسعى عبر تزايد الوعي بالنظرية ومكونات الواقع المعاش بصورة نوعية، جنباً إلى جنب مع ممارسة الأخلاق الثورية الرفاقية، لأن يصبح مفهوم الديمقراطية، والمركزية الديمقراطية ذا معنى أشمل، يؤدي إلى الخروج من الأزمة التي تعيشها أحزاب اليسار راهنا إلى النهوض المأمول في استعادة دورها الطليعي ، بما يضمن منع الاختلال مستقبلاً، ويؤسس لبنية ديمقراطية حقاً في قيادة وقواعد الاحزاب، تكفل استقرار وحماية الحزب وصعوده وانتشاره في أوساط العمال والفلاحين الفقراء وكل المضطهدين في المرحلة الراهنة بما يعزز صعود مسيرته النضالية وانتصاره المستقبلي ، وهذا التوجه مطلوب بالضرورة لكافة الأحزاب في كل بلدان العالم عموما ، وفي البلدان المتخلفة في آسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية وبلدان مغرب ومشرق الوطن العربي خصوصا ، التي تعيش حالة من التطور الطبقي غير المتبلور والمشوه في ظل مجتمع محكوم حتى اللحظة بعوامل التخلف والتبعية والاستبداد والاستغلال، الى جانب غياب الوعي الطبقي لدى العمال والفلاحين والفقراء الكادحين والمضطهدين في بلادنا.
وفي هذا السياق، أشير إلى أنه إذا كانت الطبقة العاملة في البلدان الصناعية مارست تقاليد الديمقراطية التي اكتسبتها من خلال البنية التحتية التي أوجدتها البرجوازية (التقدم الصناعي والعلمي والتنويري)، فإنها عندنا لم تعرف ذلك بل عرفت –وما زالت- بنية بطركية بلباس حداثي شكلاني رث، هي أساس التسلّط، إلى جانب استمرار هيمنة الفكر التقليدي التراثي السلبي بذريعة الدين والعادات والتقاليد في خدمة مصالح الأثرياء القدامى منهم والجدد الكومبرادوريون، وفي ظل عفوية جماهيرية تكاد تكون مستسلمة لهذا الفكر ورموزه الطبقية والتراثية، وهو ما يجعل مسألة التنظيم في بلدان مغرب ومشرق الوطن العربي أكثر صعوبة، أو كمن يحفر في الصخر، ولا خيار لنا – من اجل التغيير الديمقراطي وتحقيق أهداف شعوبنا عموما وجماهيرنا الشعبية خصوصا- سوى مواصلة ذلك الحفر بإرادة جماعية واعية تتخطى كل المعوقات ، وتوفير الأسس والبرامج والاليات السياسية والفكرية والثقافية والتنظيمية اللازمة لتكريس الديمقراطية في مجتمعاتنا، فالديمقراطية عندنا تعتمد على الوعي أكثر من إعتمادها على الأطر والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية التابعة والمتخلفة الراهنة، وهذا ما له علاقة بالظروف الموضوعية ارتباطاً بأوضاع التبعية والتخلف التي نعيشها، وبالتالي فإن كل حزب او فصيل ماركسي في بلداننا ، يجب أن يجسد المعنى الحقيقي للمثقف العضوي – بالمعنى الفردي او الجمعي - الى جانب تجسيده الفعال لمفهوم المثقف العضوي الثوري الحامل الاجتماعي البديل للطبقة الغائبة أو غير المتبلورة.
أما الجانب المتعلق بالظروف الموضوعية، فإننا نتفق على أن تغيّر الظروف الموضوعية يؤدي إلى تأثيرات مختلفة في بنية التنظيم أيضاً. وما دامت الظروف الموضوعية ليست ثابتة بل تتطور باستمرار، فإن تأثيرات تطوّرها الاجتماعي أو الطبقي ، تنعكس أيضاً على البنية الديمقراطية في التنظيم، وبما أن تناول الوضع الطبقي في مجتمعاتنا ، تناول متعدد ، حيث ينقسم هؤلاء إلى مجموعات لكل منها وضع طبقي خاص، نتيجة الظروف "السياسية" التي تحكم كل مجموعة في كل بلد او مجتمع (كما هو الحال في الاختلافات التطورية الاجتماعية بين مصر و المغرب والجزائر وموريتانيا واليمن وبلدان الخليج والأردن وفلسطين ولبنان وسوريا ...الخ وما بينها من خصوصيات اجتماعية مختلفة) وبالتالي اختلاف ظروف كل منهما، رغم أنه ليس اختلافاً نوعياً في كل الأحوال ، حيث أن هذا التطور المشوه في مجتمعاتنا ، أدى إلى تكوين شرائح اجتماعية طبقية كومبرادورية جديدة مرتبطة ومتكيفة بدرجات متفاوتة مع شروط التبعية والتحالف الامبريالي الصهيوني ، وما يحمله هذا التكيف من مفاهيم مجتمعية، تابعة ومتخلفة ورثة في آن واحد ، ترى في الديمقراطية الحقيقية وممارستها، في ظل وحدة الموقف والنظام السياسي ، نقيضاً لمصالحها الطارئة والمستحدثة ، وقد يعود السبب في ذلك إلى أن بلداننا المتخلفة لم تشهد تجربة الثورة الديمقراطية البورجوازية ، وظل التسلط والقمع والاستبداد، جنباً إلى جنب مع العادات والتقاليد الاجتماعية والتراثية الأبوية أو البطركية السالبة ما قبل الرأسمالية، مكوناً جوهرياً في بلادنا ، فالوعي السائد لم يستطع تجاوز "العادات الاجتماعية" القديمة، الأمر الذي أدى إلى تسرب مظاهر التخلف الفكري والإداري والتنظيمي والاقتصادي إلى داخل معظم أحزاب وفصائل اليسار في بلادنا، حيث ظل دور المثقفين هامشياً في العديد من هذه الأحزاب، في مقابل استمرار حالة الارتباك والتشوش الفكري والهيمنة البيروقراطية عليها.
فإذا كان المفكر والقائد الشيوعي العبقري لينين قد رّكز على المركزية ، وعلى خضوع الأقلية للأغلبية، والأدنى للأعلى، فإننا –في كل أحزاب اليسار في الوطن العربي- بحاجة إلى وضعها في إطارها الحقيقي ضمن مفهوم أكثر شمولاً للمركزية الديمقراطية، وهو مفهوم يعتمد أساساً على الديمقراطية الواسعة ضمن تراتبية الأطر التنظيمية ووفق الالتزام الخلاق والمتجدد بهوية الحزب الفكرية وبرنامجه السياسي التحرري والطبقي، لأن التركيز على المركزية وحدها مرادفاً للانضباط والالتزام التنظيميين، وبتجاهل كامل للديمقراطية، سوف يقود إلى إختلال أساسي في مجمل العملية التنظيمية، خاصة في ظل ضعف وتراجع الدافعية الذاتية، والأخلاق الرفاقية التي تقوم على الاحترام المتبادل، ومن ثم ضعف تطبيق مفهومي الالتزام والانتماء الحزبي، الأمر الذي يؤدي إلى نشوء الظواهر السلبية والانتهازية التي أشرنا إليها.
اذن المركزية كما افهمها وادعو الى الالتزام بها، يجب أن تترافق مع الديمقراطية الواسعة.
وبالتالي فإن الممارسة الفعلية الواعية للديمقراطية داخل أحزاب وفصائل اليسار الماركسي في بلادنا، هي أحد الضمانات الكفيلة بتطبيق مبدأ المركزية تطبيقاً خلاقاً يوفر التناسق والانسجام الرفاقي بين الهيئات القاعدية والوسطى والعليا في الحزب، بمثل ما يضمن صيرورة التجدد النوعي في صفوف الحزب وهيئاته بعيداً عن كافة المظاهر البيروقراطية والشللية، بما يحقق الحفاظ على مركزية الحزب وجوهرها الديمقراطي وتماسك هيئاته عبر التفاعل الرفاقي بينهما بعد طرد وإزاحة مظاهر وأدوات الخلل فيه.
ولنلاحظ، ثانياً، أن المفهوم، أي مفهوم، محدّد في الزمان والمكان الذي أنتج فيه، وبالتالي فهو يخضع لتحوّلات الزمان والمكان، لذا يكون من الضروري عادة ، إعادة إنتاجه على ضوء التجربة الواقعية، ولاشك أن تجربة ثلاث أرباع القرن أو أكثر من الممارسة ، يجب أن تسمح بتحديد أعمق للمفاهيم، وإعادة إنتاجها لتغتني بثراء تجربة طويلة، ومفهوم المركزية الديمقراطية خاضع لإعادة الإنتاج هذه من أجل تطوير وتكريس العلاقات الداخلية في فصائلنا واحزابنا على أسس ديمقراطية أولا بالاستناد إلى أسس تشكيل الحزب الماركسي اللينيني الديمقراطي.
هذه هي المسألة التي يجب أن تشغلنا، وهي مسألة تتعلق بالبنية العامة للحزب (بالعضوية، بتطوير الوعي، وبتكوين الفرد)، مع التأكيد على جملة حقوق بديهية ، وهي حق إبداء الرأي، حق الاختلاف، حق الانتقاد، وحق إعلان كل ذلك، حق أن يعبر العضو عن آرائه بحرية تامة، وان يعلن اختلافه مع سياسات الحزب ، وأن ينتقد هذه السياسات ، وهي خطوات أو توجهات مقترحة تحتاج إلى جرأة معرفية من الرفاق عموماً وقيادات وكوادر أحزاب وفصائل اليسار الماركسي محكومة ومشروطة بالوعي العميق بالماركسية اللينينية ومنهجها وبكل جوانب الواقع السياسي الاقتصادي والاجتماعي والثقافي في هذا البلد أو ذاك من بلدان الوطن العربي .