8/يوليو/2023 في ذكراه الحادية والخمسون...الرفيق الأديب المبدع والقائد المناضل الثوري الشهيد غسان خالد في عقول رفاقه وأصدقائه ومحبيه في فلسطين والوطن العربي


غازي الصوراني
الحوار المتمدن - العدد: 7667 - 2023 / 7 / 9 - 13:01
المحور: القضية الفلسطينية     


في ذكرى غسان ، وفي رحاب هذا اللقاء في ظروف الحصار والانقسام والهبوط، سأبدأ كلمتي بهذا السؤال .. ماذا لو كان غسان كنفاني لا يزال على قيد الحياة ؟ "يعتكز عصا عادية ويحدق في خيبة غير عادية"، ماذا لو عاد إلى الوطن وهو على هذه الحالة من الانقسام وتشتت الهوية والشعب والقضية ، وألقى كلمة في جمع لا يعترف بأعماله ولا يستلهمها أو يهتدي بها حتى لو عرفها..!؟ .
لقد باتت قضيتنا اليوم محكومة –عموماً- لقيادات سياسية استبدلت المصلحة الوطنية العليا برؤاها وبمصالحها الخاصة ، ففي ظل الانقسام والصراع بين الأخوة الأعداء ، وغياب او تراجع وعدم تبلور المشروع الوطني الفلسطيني ، يحتفل عدونا الإسرائيلي بقيام دولته، ومرة أخرى نستعيد نحن الفلسطينيون في الذكرى الخامسة والسبعين للنكبة ، أطياف ذكريات ماضية ، ولكن في وضع مؤسف عنوانه "تزايد الصدام بين قطبي الصراع" وانسداد الأفق السياسي بالنسبة للدولة أو المشروع الوطني لا فرق ، والسؤال هو: ما هي تلك الغنيمة الهائلة التي يتنازع قطبي الصراع المتصادمين عليها؟ لا شيء سوى مزيد من التفكك والانهيارات والهزائم .. فالحرب بين الفلسطيني والفلسطيني لن تحقق نصرا لأي منهما ، وإنما هزيمة جديدة لمن يزعم انه انتصر ، يؤكد على هذا الاستنتاج الواقع الراهن الذي يعيشه أبناء شعبنا في الوطن والشتات .
وفي مثل هذه الأوضاع المختلةِ والمفاوضات العبثية فإن الحديث عن دولةٍ فلسطينيةٍ ذات سيادة كاملة على الأراضي المحتلة 67 نوع من الوهم ولا حل سوى في النضال القومي التحرري الديمقراطي من أجل استرداد حقنا التاريخي وإقامة فلسطينَ الديمقراطية في إطار المجتمع العربي الاشتراكي الموحد ، انطلاقا من أن الصراعَ هو عربيٌ صهيونيٌ بالدرجة الأولى ، شرط استناده إلى حركة ثورية قومية عربية تتجاوز أنظمة الخضوع والذل والارتهان الحاكمة في بلادِنا حتى اللحظة، رغم إدراكِنا العميق بأن المشوارَ ما زال طويلاً وشاقاً ،فبعد مرور حوالي 75 عاما على "دولة إسرائيل" ، لا يزال الفكرُ السياسي الفلسطيني في غير مكانه المطلوب .
وبالتالي فإن الحديثُ عن غسانَ الكاتبِ الروائي المناضلِ والمثقفِ الجب..هاوي –كما الحديثِ عن الحكيمِ ووديع وأبو علي مصطفى ومحمد الأسود وأحمد سعدات وكلِ الثوريين- لا معنىً له ولا قيمة إن لم يكن تحريضا ثوريا ًوديمقراطيا من أجل تغيير وتجاوز هذا الواقع الفلسطيني والعربي الذي بات اليوم خاضعاً ومرتهناً للتحالف الامبريالي الصهيوني .
أعودُ للحديث عن المثقف الثوري الاديب والفنان المناضل القائد الشهيد غسان كنفاني ، وهو حديث يحملُنا إلى رؤية ِالجبهة منذ تأسيسها للثقافة والمثقف، التي ترى أن الثقافةَ َهي بالمعنى العام إنتاجٌ اجتماعي ، وهي بالمعنى الخاص القدرُ من المعرفةِ الذي يتسلح به الإنسان عموماً – وعضوُ الحزب الثوري خصوصاً- في مواجهةِ كلٍ من الطبيعةِ والمجتمع من أجلِ تطوير قواهُ المنتجةُ وعلاقاتُه الإنتاجيةُ و تطويرِ وعيُه هو نفسه، وفي ضوء هذا التعريف ، فإن الثقافةَ بالنسبة لرفاقِنا في الجب..هةِ هي : جملةُ ما يستوعبُه ويراكمُه ويبدعُه هذا الرفيقُ او ذاك على صعيدِ الفلسفةِ الماركسية ومنهجِها ، واستيعابه بوعي عميق لمكونات واقعه السياسي الاجتماعي الاقتصادي من منظور طبقي واضح ، الى جانب استيعابه للتاريخِ الوطني والقومي من ناحية ، وعلى صعيدِ العلم ِوالأدبِ والفنِ بالارتباط ِالوثيقِ بمجالاتِ الحياةِ السياسيةِ والاجتماعيةِ والاقتصادية ِوكافةِ مجالاتِ الحياةِ المادية والروحية من ناحيةٍ ثانية ، من اجل استخدامِها للإجابةِ على أسئلةِ الجماهير الشعبية المطروحة على الجب..هة في كل مرحلة ٍمن مراحل مسيرتِها من أجل التحررِ والديمقراطيةِ والتقدم ، في إطار العلاقة الجدليةِ بين الأهدافِ الوطنيةِ والقومية ، وهنا تتجلى خصوصيةُ الواقعِ العربي وتخلفِه التاريخي ، واستتباعِه وخضوعِه الراهن عبر الشرائح الكومبرادورية البيروقراطية الحاكمة للنظام الامبريالي ، كما تتجلى أيضا في دروسِ وعبرِ الشهيد غسان كنفاني الذي أدرك وناضل من أجلِ تغيير هذا الواقع من خلال استلهامِه الخلاّقِ للثقافة الثورية التقدمية بكل أبعادِها ومكوناتِها العلمية، الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية وأهميةِ تكريسِها في صفوف رفاقِه الجبهاويين .
لذلك فإن الجب..هةَ الشع..بيةَ حينما تقدم ايقونتها القائد الثوري الشهيد غسان كنفاني ، لا ترى أي انفصام بين غسان المثقف المبدع حاملِ الرسالة، وغسان المثقف العضوي الملتزم تنظيمياً بمبادئِها وأهدافِها، بحكم تقاطع أو توحد الرؤيتين في نقطةِ التقاءٍ هامةٍ، وهي الوظيفةُ النقديةُ للمثقف، والوظيفةُ النقدية هنا تتخطى التبشيرَ أو الرسالةَ إلى الثورة والتغيير وتجاوز الواقع عبر محددين رئيسيين هما : قوةُ رسوخِ ووضوحِ الهويةِ الفكريةِ ، الماركسية ومنهجِها المادي الجدلي من ناحية ، وقوة ِرسوخ ووضوح الانحياز الطبقي للكادحين وكل المستغَلين والمضطهدين من ناحيةٍ ثانية .
لقد كان غسان – وما زال– تجسيداً للمثقف العضوي الحداثي والعقلاني التنويري والوطني والقومي الماركسي في آن واحد ، لكنه لم يكن صاحب رؤية أحادية معرفية يقينية ، قومية أو ماركسية يلتزم بجمود نصوصها بقدر ما كان مبدعاً في أدبه الثوري عبر تأويله للنصوص وتفسيره لها بما يقترب أو يتناسب أو يتطابق مع الواقع المعاش، فلم يكن ناطقاً باسم النص بل كان ثورياً يسعى إلى تغيير الواقع عبر وعيه له واستخدامه للمنهج المادي الجدلي في اكتشافه من جهة وعبر قناعته الموضوعية الثورية بمبادئ وأهداف الجب..هة الشع..بية من جهة ثانية.
هكذا أدرك غسان مهمة المثقف العضوي التي جسدها في انتماءه للجب..هة والتزامه الخلاق بهويتها ومبادئها ومواقفها الوطنية والقومية والأممية ، مدركاً أن مهمة المثقف هي ممارسة النقد الجذري لما هو كائن التزاماً بما ينبغي أن يكون عبر وظيفته النقدية بالمعنى الموضوعي ، وهي تتناقض كلياً مع وظيفة التبرير ، أو الاعتراف بالأمر الواقع ، هنا يتداخل عضويا مفهوم المثقف مع مفهوم الطليعة بالمعنى المعرفي والسياسي التي ترى الالتزام بأهداف النضال الوطني ضمن الإطار القومي تجسيداً لرؤيتها .

فما قيمة الثقافة التي لا تتعاطى وتتفاعل مع الهموم الوطنية والطبقية للجماهير الشعبية، وما قيمة المثقف الذي لا ينخرط في العملية التغييرية ؟ فإذا ما تفككت وتآكلت أو تراجعت جبهتنا الثقافية وأقصد بذلك بوضوح ، هوية حزبنا الفكرية ، الماركسية ومنهجها المادي الجدلي ، فإننا لا محاله سنخسر كل الجبهات الأخرى ، السياسية والتنظيمية والعسكرية الكفاحية .. تلك هي كلمات القائد الثوري المؤسس الراحل جورج حبش الذي أدرك أهمية الجبهة الثقافية في الواقع العربي المهزوم ، ليس كجبهة أخيرة فحسب ، بل أيضا كمنطلق لرفاقه ولكل الماركسيين القوميين العرب في مواصلة نضالهم واستعادة دورهم من اجل الثورة على هذا الواقع المهزوم وتغييره ، استجابة لنداء وتطلعات شعبنا وشعوبنا العربية وشوقها الكامن من اجل الحرية والنهوض والوحدة في ظروف تحولت فيها هذه الأمة إلى نعاج تنتظر الذبح..! أليس هذا ما آلت إليه هذه الأمة بسبب أنظمة فقدت وعيها الوطني والقومي بعد أن تحولت –بحكم مصالحها الطبقية- إلى أداة في خدمة التحالف الامبريالي الصهيوني ..
وبالتالي فإن رفضنا في الجب..هة الشعب..ية لهذا الواقع لن يجد مصداقيته إلا في الممارسة الثورية التحررية الوطنية والمجتمعية الطبقية المدركة – وبوعي عميق- بمبادئ وهوية ودور حزبنا الطليعي في هذه المرحلة تأسيساً للمستقبل، صوب النهوض الذي يتطلع إليه كل رفاقنا، فبالرغم من التجربة الطويلة والغنية، وما جسدته الجب..هة الشع..بية من نهج ثوري مميز، إلا أنها تعرضت للعديد من الاهتزازات الداخلية والخارجية التي لا يتسع المجال هنا للاستفاضة بها، ولكن أهم هذه الاهتزازات هو حالة التراجع الفكري والسياسي والتنظيمي الذي تشهده راهنا ، لكننا واثقين بإمكانات وقدرات رفاقنا وإيمانهم بهويتهم الفكرية ومنطلقاتهم الوطنية والقومية من الخروج من هذه الأزمة صوب النهوض واستعادة دور جبهتنا الطليعي.
ولذلك نحن مع غسان حينما يقول ما معناه : لن يكون الكفاح الفلسطيني مجدياً، إلا إذا كان كفاح مواطنين حررت إرادتهم وعقولهم، ولن يكون القائد الوطني الماركسي جديراً باسمه إلا إذا كان واجبه التحريض على هذه الإرادة وخلق أشكال سياسية بلا مراتب وبلا رعية وأعيان أو محاسيب أو شلل داخل الحزب ، إذ أن استمرار هذا الوضع لن ينتج سوى قيادة رخوة عاجزة وغير متجانسة ستدفع بالحزب إلى مزيد من التفكك والخراب .
على أي حال لا بد أن أتدارك إصراري على مركزية الموقع الطبقي وأهميته في صوغ المثقف وتحديد ماهيته ، لأقول أو أتقاطع مع شمولية مفهوم المثقف التي تتضمن الموقع الطبقي بالإضافة إلى مواقع أو رؤى إبداعية أخرى .. مثل المثقف المتخصص في مجال العلم أو المجتمع والعلوم الإنسانية، لكنني في كل الأحوال أرى نفسي منحازاً للمثقف وفق ارتباطه بالموقع الطبقي... فهذا هو الأصل عندي رغم أي خلاف بيني وبين الآخرين في هذا الجانب .
ولذلك نرى أن أعمال غسان كنفاني تضمنت رؤية استشرافية وواقعية استدعت التحريض على هذا الواقع المأزوم بمثل دعوتها الصريحة إلى المقاومة ، فهي رؤية ثورية مختلفة عن تلك التي تضمنتها العديد من أعمال الروائيين العرب الذين نقدر دورهم في تشخيص الواقع الاجتماعي دون الدعوة الصريحة إلى التغيير والثورة كما هو الحال عند محمود تيمور وتوفيق الحكيم و نجيب محفوظ ومحمد عبد الحليم عبدالله على سبيل المثال ، ذلك إن روايات غسان – كما يقول الاديب وعالم الاجتماع د.حليم بركات -كانت مسكونة بروح التحريض والتغيير الثوري، وهي بالتالي تقاطعت مع روائيين تقدميين من أمثال حنا مينا وعبد الرحمن الشرقاوي ويوسف إدريس ويوسف القعيد وعبد الرحمن منيف وحيدر حيدر وإلياس خوري بناحيتين أساسيتين :
هناك أولاً وحدة المعاناة الشخصية والوطنية والمجتمعية بحيث نشهد توجهاً نحو الدمج بين هوية الفرد وهوية المجتمع ، فتصبح الأماني والأزمات والانتصارات والهزائم والآلام والأفراح واحدة ، لان قضية المجتمع هي قضية الإنسان، والعكس صحيح ، فيصبح خلاص الأول هو خلاص الآخر، وهنا بالضبط تأثر غسان بالثورة كما عبرت عنها مبادئ الجب..هة الشع..بية وقبلها حركة القوميين العرب ، وكان إبداعه الأدبي نتاجاً لذلك التأثير .
وهناك ثانياً : مسألة المشاركة الفعلية والخوض في المعارك الوطنية الحقيقية التي يعيشها الشعب إلى جانب المعارك التي يعيشها المجتمع ، مما يؤدي لحصول تحول في المضمون وليس في الأسلوب فحسب، وفي مثل هذه الحالة تنبثق الأفكار والمشاعر من صميم الواقع المعيش ، وليس من مفاهيم مجردة، فقد شدد غسان في دراسته " العمل الفدائي ومأزقه الراهن عام 1970 " على ضرورة الترابط العضوي بين النظرية والممارسة والتنظيم وبين البعد القومي والبعد الطبقي، وكل منهما مسألة محورية ، كما انتقد التنظيمات الفلسطينية قائلاً بأنها " أضحت بعد سنوات قليلة من نشوئها مكتبية بيروقراطية".
من هذه الناحية ، تشترك رواية التغيير الثوري –لدى غسان- مع رواية التمرد الفردي برفضها الثقافة السائدة وبتشديدها على أهمية الإبداع الفني في الكتابة الروائية. غير انها تختلف في الوقت ذاته عن رواية التمرد الفردي بالتشديد على القضايا السياسية والخلاص المجتمعي والوقوف إلى جانب الطبقات المسحوقة ، ما يعني أن الدعوة للنفير الثوري عنده ، انطلقت من اهتماماته الذاتية التي توحدت مع رؤية الجب..هة الشع..بية السياسية التحررية ، الوطنية والقومية من ناحية والاجتماعية الطبقية من ناحية ثانية .
فقد تناول غسان الواقع الفلسطيني ، بمختلف جوانبه وتناقضاته وتعقيداته ، والتزام في نصوصه الروائية بتشخيص وتفكيك معظم جوانب المعاناة السياسية، والاجتماعية ، والإنسانية، للفلسطيني، دونما أن يشكل ذلك الالتزام الجبهاوي لديه قيداً على حريته الإبداعية وتعامله النقدي والتحريضي للواقع حيث اتخذت مضامين رواياته أشكالاً وصوراً جديدة وفريدة عكست مخيلته التي جسدت فنياً مبادئه السياسية التي عاش واستشهد في سبيلها .
هكذا كانت رواياته صورة خلاقة عن قراره الذاتي ربط مصيره الشخصي –بشكل مباشر وغير مباشر - بمصير شعبه كتابة وعملاً ، فتوحدت معاناة شعبه بمعاناته الخاصة، وتمثل في صوته ، صوت الفلسطينيين المقتلعين – المنفيين – المسحوقين – المكافحين . لقد تمثل في صوته خاصة ، صوت الجماهير الذين دفعوا غالياً ثمن الهزائم بحياتهم قبل ممتلكاتهم القليلة. ليس غريباً ، إذاً ، أن نكتشف في كتاباته المكونات المغفلة في المعاناة الفلسطينية. ففي روايته "رجال في الشمس" يظهر بشكل فريد – كما يستطرد د.حليم بركات- كيف ان الفلسطيني مهدد في صلب حياته بالموت من دون أن يسمع له صوت مهما دق ناقوس الخطر، لأنه مقتلع وبلا وطن لا يستطيع أن يكون عزيزاً في أي بلد آخر ، حتى ولو كان بلداً عربياً ، بل خاصة في البلدان العربية في ظل الأنظمة السائدة بما فيها النظام الفلسطيني نفسه ..
فبعد حوالي عامين على هزيمة حزيران 1967 ، ينشرشهيدنا القائد الثوري والاديب المبدع غسان روايته " أم سعد" التي يحرض فيها الفلسطيني مجدداً على التحرر الذاتي الداخلي بما يمكنه من التحرر من السجن الكبير الذي فرضه النظام العربي على الفلسطينيين بعد النكبة ، ففي هذه الرواية نلاحظ وعي غسان لحياته بأنها سجن في حد ذاتها ، فيتساءل : " أتحسب أننا لا نعيش في الحبس ؟ ماذا نفعل نحن في المخيم غير التمشي داخل ذلك الحبس العجيب ؟ الحبوس أنواع .. المخيم حبس ، وبيتك حبس ، والجريدة حبس والراديو حبس .. أعمارنا حبس ، والعشرون سنة الماضية حبس ... أنت نفسك حبس".
إن بداية مثل هذا الوعي هي بداية الدعوة من أجل التغيير الثوري، في ضوء إدراك الفلسطيني – كما يضيف د.حليم بركات -"أن التخلص من الوحل في المخيم لا يكون بجرفه كلما هطل المطر ، بل بسد مزراب السماء، ذلك أن الاكتفاء بجرف الوحل هو تكيف مع الواقع التعس وتصرف خضوعي انسجامي ، أما سد مزراب السماء فتحول راديكالي باتجاه التعامل مع مصادر المشكلة التي لا تحل من دون تغيير الواقع الذي نشأت عنه .
إن أعمال الاديب الفنان والقائد الثوري الشهيد غسان كنفاني ورواياته التي حرصت على إعادة صياغة الواقع ، لم تكن مجرد عمل فني قائم بذاته، أو انعكاس للبنية الاجتماعية والنشاطات والقيم والمعتقدات فحسب، بل هي أيضاً نتاج فني فريد لعملية الدمج الخلاق بين إبداعه والتزامه وانتمائه الحزبي للجبهة حيث تجلى هنا المعنى الثوري لمفهوم الالتزام في الرواية الأدبية كما هو حال غسان في كتاباته السياسية الأخرى ، حيث استطاع أن يكيف موهبته وإبداعه الذاتي مع قناعاته الثورية كما عبرت عنها وجسدتها الجب..هة الشع..بية، فجاءت رواياته تعبيراً عن مكنوناته الإبداعية التي حملت في نصوصها خطاباً متنوع المضامين والمفاهيم الثورية والتحريض المتفاعلة مع معاناة شعبه والتي شكلت في نفس الوقت "نوعاً من التنفيس أو التطهر الذاتي والمعرفي العام.
فالرواية كعمل فني أدبي -عن غسان وغيره من رواد الأدب التقدمي- لا تعترف بتجزئة المعرفة والفصل بين الفن والفلسفة والعلم. انها منظور معرفي ثوري يقوم على البحث في طبيعة المجتمع والإنسان كبقية الاختصاصات المعرفية، فلا تقل عن العلم والفلسفة دقة وعمقاً واكتناهاً لأسرار الحياة وأقانيمها .
لكن غسان – كما هو حال الروائيين العرب التقدميين الثوريين – كان مدركاً لسمات وتعقيدات المجتمع العربي المعاصر من حيث تخلفه وتبعيته وعجزه عن مواجهة تحديات تاريخية مهمة ، فهو مجتمع محكوم لأنظمة طبقية لا هم لها سوى مصالحها المتماهية مع مصالح المشروع الإمبريالي بما يجعل من الشرائح الاجتماعية الفقيرة حائرة بين الخوف والقلق واليأس والاستسلام أو التمرد والثورة ، من هنا كانت روايات غسان نوعاً من تحدي مظاهر القلق واليأس ، محرضة على التغيير والثورة ، وفي هذه النقطة بالذات تتجلى الدلالات الثورية لرواياته التي كانت وما زالت – بمثابة بيانات ثورية إبداعية تداولها قراءه من المثقفين والجمهور عموماً ورفاقه خصوصاً في حياته بمثل احرازهم على الاحتفاء بها وبه كل عام بعد استشهاده .
فبمثل ما حملت رواياته روحاً نقدية وتحريضية على الواقع المعاش ، فقد التحمت عبر نصوصها – بصورة مباشرة أو غير مباشرة- مع روح مبادئ ووثائق حزبه الثوري .. الجب..هة الشع..بية لتحر..ير فلسطين ، في إطار التحديات والأحداث التاريخية التي مر بها والتي أدت إلى ولادة روايات غسان وأدب وشعر المقاومة.
كما أن تضحيات شعبنا ونضاله الذي انشغل بموضوعات وقضايا الثورة والتحرر والتحرير والصراع الطبقي والتمرد ، كانت بالنسبة لشهيدنا المناضل الثوري غسان كنفاني نوعاً من العلاقة الجدلية الرائعة بين أيديولوجيا الجب..هة وهويتها الماركسية القومية من ناحية وبين تحديات الواقع بكل مكوناته السياسية والاجتماعية والثقافية من ناحية ثانية، ولم يكن ذلك غريباً على الروائي المناضل الحزبي غسان ، فلم يكن بإمكانه ان يكون جزءاً من هذه الصورة الاجتماعية المحكومة بالمعاناة والظلم والتشرد دون أن يهتم ومن ثم يلتزم جبهاوياً بقضية التحول الثوري وانحيازه الواضح إلى جانب المضطهدين وكل الكادحين الفقراء من أبناء شعبه ليس ضد العدو الصهيوني أو ضد القوى الرجعية الحاكمة فحسب، بل أيضاً ضد الثقافة الرجعية الرخيصة السائدة ، مؤكداً بذلك انحيازه الواعي مع ثقافة التنوير والحداثة والعقلانية والثورة على كل مظاهر التبعية والتخلف ، وهو ما يجعلنا نؤكد أن غسان أسهم في الثورة عبر التحاقه بالجب..هة ، بمثل ما أسهمت الجبهة ومفاهيمها ومبادئها الثورية في تحويله وبلورة اهتماماته بحيث كان هذا الإسهام جزءاً لا يتجزأ من موهبته الذاتية، وقد كان لهذين العنصرين: موهبته الخلاقة أولاً وانتماؤه لحركة القوميين العرب ثم الجب..هة الشع..بية ثانياً، الفضل الأكبر في ان يصبح غسان مبدعاً متميزاً وكبيراً ، مشغولاً وملتزماً بقضايا شعبه وأمته وفق رؤية ثورية تحررية ونهضوية ، فلم يكن روائياً توفيقيا أو خاضعاً لهذه السلطة أو تلك ، بل كان روائياً محرضاً على التغيير والثورة، والخلاص من أشكال الاضطهاد والظلم الوطني والطبقي ، وفي هذا الجانب ، يجدر بنا أن نميز بين مصدرين من مصادر رواية التغيير الثوري، وإن كان من الصعب الفصل بينهما ، فيتمثل المصدر الأول بأعمال روائية تنطلق في الأساس من منظور نفدي اجتماعي إنساني وحس حدسي فني إبداعي ، ويتمثل المصدر الثاني بالانطلاق من مواقف أيديولوجية ، وقد يجتمع المصدران معاً في تلاحم عضوي. وأشير بالروايات الثورية إلى تلك الأعمال التي كتبها يوسف إدريس وعبد الرحمن منيف وإميل حبيبي وإدوار الخراط وصنع الله إبراهيم ولطيفة الزيات وعبد الرحمن الشرقاوي ورضوى عاشور ورشيد بوجدرة والطاهر وطار ومحمد برادة وإلياس خوري وحيدر حيدر وبهاء طاهر وهاني الراهب .
إن شعبنا الفلسطيني هو اليوم أمام امتحان نهاية مرحلة كاملة من تاريخه ، أي انه أمام امتحان بداية جديدة ، كما يقول الياس خوري ، لكن البداية "هذه المرة لن تكون في فراغ ، فلقد سال دم كثير وحبر كثير، ومن مزيج الدم والحبر ولدت حكاية رسمت صورة وتشكلت هوية" ، هي الهوية الوطنية في وحدتها مع هويتها القومية العربية .. ذلك هو المستقبل ولا شيء سواه .
لذلك لا بد من استعادة البعد القومي ليصبح النواة المحركة للنضال الفلسطيني ، بالقطيعة عن "القرار الوطني المستقل" وعبر استعادة روح ونصوص الميثاق القومي الذي تأسست م.ت.ف بموجبه عام 1964 ليكون المحدد الأول في بنيتها يحررها من نتائج وآثار الاعتراف بدولة العدو ، ومن الخضوع للهبوط السياسي الذي يحمل رايته بعض قيادات فتح الذين يرون في جدول الأعمال الأمريكي الإسرائيلي مخرجهم الوحيد .
فإذا ما تأملنا مسيرتنا الوطنية من أجل التحرير نكتشف أننا نسينا أو تناسينا في غمرة تفاؤلنا، التوقف أمام قضايا أساسية : ما هي طبيعة الكيان الصهيوني الذي نحاربه ؟ ما هو دور ووظيفة هذا الكيان في إعاقة تحرر واستنهاض ووحدة شعوب الأمة العربية ؟ وما هي العلاقة بين الكفاح المسلح والعمل السياسي ، وهل يتكاملان ويتفاعلان ، أم أن لكل منهما قناة منعزلة عن الأخرى، ما علاقة الكفاح المسلح بالتسييس داخل المجتمع الفلسطيني نفسه، وما قيمة صراع الفلسطينيين مع العدو إذا كان معزولا عن محدده الأول والأخير كصراع عربي صهيوني ... باختصار نستذكر كلمات الشهيد غسان ومأثوراته وانتاجه الادبي والسياسي .
فعلى الرغم من استشهاد رفيقنا غسان عن عمر لم يتجاوز الستة والثلاثين ، فقد ترك لرفاقه وأبناء شعبه وأمته العربية عموماً والفقراء والكادحين خصوصاً، أضعاف ما تستوعبه تلك السنين القليلة، عبر مشاعل مضيئة ما زالت تغوص في معانيها مشاعر المناضلين، وعقول وأقلام المثقفين الذين كتبوا آلاف الصفحات عن زخم إنتاج شهيدنا المثقف العضوي المناضل والروائي المبدع والكاتب السياسي والإعلامي غسان كنفاني الذي استطاع أن يصنع هالته الفريدة، وترك لنا تاريخاً حافلاً بالإبداع والشموخ والتحريض على التغيير والثورة، يعتز به ويسير على هداه رفاقه في الجب..هة الشع..بية الموزعين على مساحة الوطن الفلسطيني كما في الشتات والمنافي وفي كل أرجاء هذا الكوكب ، يناضلون اليوم من أجل تحقيق الأهداف الوطنية والقومية ، التحررية والديمقراطية ، دون القفز عن المتغيرات التي أصابت القضية والمنطقة منذ استشهاده إلى اليوم .
في ذكراه الحادية والخمسون ، ربما نسأل أنفسنا ، ترى لماذا لا زال يُكتَب حتى اليوم عن غسان كنفاني وكأنه اغتيل أمس أو كان أدبه كتب قبل لحظة، والجواب بسيط ، فالقائد الثائر الشهيد غسان كنفاني يوصف – بحق - بأنه مبدع متعدد الأوجه والدلالات والأفكار وعمق الرؤية ، فمع كل مرة تقرؤه تكتشف جديداً، كلما رأيته اكتشفت في وجهه ملامح جديدة ، المؤسف أننا نستطيع الزعم بان العدو اكتشف مواهب الرجل قبل أن يكتشفها كثير من الفلسطينيين والعرب، فحسم أمره في حين لا زال البعض في الساحة الثقافية الفلسطينية والعربية غير منتبه إلى ذلك الكائن السري الساكن بين حروف كنفاني .
اغتاله الأعداء – كما قال شاعرنا الخالد محمود درويش- لأنه حمل فاعلية الكتابة التي تصنع جيلاً سيعثر على أداة التعبير عن فاعليته في سلاح الوعي بالنظرية الثورية والواقع وفي صيرورة بناء الحزب الثوري – الجب..هة – ضمانة رئيسية ووحيدة للمقاومة بكل أشكالها.
لقد كان ثوريا من حيث هو كاتب ثوري ، كان يعرف لماذا يكتب ولمن يكتب ، كان ممتلئا بحيوية نادرة ، كان مسكوناً بكهرباء لا تنضب –كما يضيف محمود درويش - ولم يترك لنشاطه الواعي مجالاً واحداً للراحة ، كان يجدد وقوده الإبداعي بتبذير قواه، كان يتزود بالطاقة تلقائياً ، فهل كان هاجس الموت يستدرجه لصب طاقاته في وقت قصير ؟ هل كان استشرافه لهذه النهاية – البداية دافعاً لتناول كل أشكال التعبير من قصة ورواية ومسرحية ودراسة وبحث ونقد، ليسجل دمه على أصابعنا وذاكرتنا ؟ وهل كان يسبق الموت إلى الحياة في الكتابة ؟ ربما ، وربما كان هذا السياق أحد أجمل تجليات "الأنانية " الخلاقة والتفاني في آن واحد .
كان أكثر من كاتب .. لكن ما أفدح الخطأ الذي يرتكبه صغار النقاد والصحفيين ويخدعون به الناس حين يضعون واو العطف ( للتمييز ) بين الكاتب والمناضل كأن يقولوا : كان كاتباً ومناضلاً. ليس الأمر في مثل هذا التفصيل فقد كان غسان كنفاني كاتباً واديبا وفنانا مبدعاً ومثقفا ثورياً قومياً تقدمياً مناضلاً .
كثيراً ما يجابه الكاتب الفلسطيني بأسئلة تأتيه من البراءة أو الاتهام : هل أنت كاتب أم مناضل؟ وقد بقي غسان كنفاني مطارداً بهذا السؤال إلى أن بلغ الشهادة ، فهزم السؤال وانتصرت كتابة غسان .
هذا هو غسان الذي لم يكن مبدعاً أو روائياً فحسب بل كان مناضلاً وكاتباً سياسياً ملتزماً بأهداف ورسالة الحزب والجب..هة واستشهد في سبيلها.