تطور الرأسمالية منذ القرن الثامن عشر إلى العولمة الأحادية الامبريالية بداية القرن الحادي والعشرين .........


غازي الصوراني
الحوار المتمدن - العدد: 7704 - 2023 / 8 / 15 - 22:59
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     


إن رأس المال ينـزف دماً من كل مساماتـه..كارل ماركس.
--------------------------------------------------
تطور الرأسمالية منذ القرن الثامن عشر إلى العولمة الأحادية الامبريالية بداية القرن الحادي والعشرين .........

لقد بدأ تفسخ النظام الإقطاعي في أوروبا منذ القرن السادس عشر مع تطور الإنتاج السلعي ونمو السوق الداخلي والخارجي .. الخ ، وكان من أوائل أيدلوجيي البرجوازية ميكافيلي (1469 – 1527 ) الذي ذهب إلى أن المجتمع لا يتطور تبعاً لإرادة خارجية وميتافيزيقية ، وإنما وفقاً لأسباب طبيعية ، تضرب جذورها في التاريخ وفي النفسية البشرية والوقائع الملموسة .
وفي مرحلة تشكل العلاقات الرأسمالية تأثر الفكر الاجتماعي بحركة الإصلاح المناوئة للكنيسة الإقطاعية الكاثوليكية ، التي قادها مارثن لوثر ( 1483 – 1546 ) وتوماس مونزو (1453 – 1525 ) اللذان أكدا على فكرة الاتصال المباشر بالله دون واسطة الكنيسة .. أيضاً ظهرت في هذه المرحلة بعض الأفكار الاشتراكية الطوباوية ، ومن مفكريها توماس مور (1478 – 1535 ) الذي أكد في كتابه ( الأوتوبيا – أو الكتاب الذهبي ) إلى أن أصل ويلات الشعب هو الملكية الخاصة التي لابد من القضاء عليها في رأيه ، وجاء بعده المفكر الإيطالي ( تومازوكمبانيلا 1568-1639 ) ليؤكد ويطور نفس الأفكار الطوباوية في كتابه " مدينة الشمس " ولكن هذه الأفكار لم يقدر لها أن تنتشر بسبب الظروف الموضوعية السائدة في القرن السادس عشر .
ومع تطور الرأسمالية شرعت البرجوازية في التصدي لسلطة الإقطاعيين ، وطالبت بإلغاء الامتيازات والتقسيمات المراتبية ، وبرز في هذا السياق عدد من المفكرين من أبرزهم سبينوزا الذي طالب بتأسيس الدولة كتنظيم يخدم مصالح كل الناس ، وجون لوك ، الذي قال بأن الحالة الطبيعية للبشر تتأكد عند سيطرة الحرية والمساواة كمفاهيم أساسية تحكم المجتمع .
وفي القرن 18 تطور الفكر الاجتماعي في أوروبا تحت راية التنوير في فرنسا ، وكان فولتير (1694 – 1778 ) من أبرز مفكري التنوير ، أكد على الحق الطبيعي في نقده للنظام الإقطاعي ، وعنده أن القوانين الطبيعية هي قوانين العقل ، فالإنسان يولد حراً ولا يجب أن يخضع إلا لقوانين الطبيعة .
ومن بين المفكرين أصحاب النزعة الديمقراطية الثورية كان جان جاك روسو (1712-1778) صاحب المؤلفين ( في أسباب التفاوت ) و ( العقد الاجتماعي ) ، إنه يرى أن أصل الشرور والتفاوت بين البشر يعود إلى الملكية الخاصة كسبب أولي وحيد فهو القائل " إن العداء والكراهية والأنانية بين البشر، بدأت حينما وضع أول إنسان سياجاً حول قطعة من الأرض معلناً أنها ملكيته الخاصة " .
أما الفيلسوف المادي الفرنسي هولباخ (1723- 1789 ) فنادى بتأسيس دولة أو عقد اجتماعي قائم على الحرية والملكية والأمن ، واعتبر أن العالم الروحي للإنسان هو نتاج للوسط الاجتماعي ، وجاء رائد الفلسفة الكلاسيكية الألمانية ( كانط 1724- 1804) الذي اعتبر التاريخ تطوراً للحرية البشرية وبلوغاً لحالة قائمة على العقل ، واعترف بمساواة المواطنين أمام القانون .
وبعد "كانط" جاء فيلسوف الجدل هيجل (1770 –1831) الذي أسهم بقسط كبير في معالجة المشكلات الفلسفية لتاريخ المجتمع ، وهو يذهب إلى أنه في صلب الكون تقوم " الفكرة المطلقة " الدائمة التطور ، والتي تولد أو تخلق العالم كله – الطبيعة والإنسان ، والمجتمع ، لقد صَوَّر هيجل التاريخ العالمي على شكل مسيرة للروح ( الفكرة ) على الأرض ، وهذا الروح الكوني يسكن الشعب السائد في التاريخ العالمي بالعصر المعني ، ولم يكن غريباً – بعد حوالي مائة عام – أن يستلهم هتلر والنازية جوهر أفكار هيجل (إلى جانب أفكار شوبنهور ونيتشه وتريتشكه) وتطبيقها على الشعب الألماني باعتباره سوبرمان العالم أو " الشعب السائد " .
ولكن، رغم أهمية الفلسفة السابقة ودورها ، إلا أنها لم تتمكن من وضع الحلول الاجتماعية الملائمة للأغلبية الساحقة من البشر ، ومع تطور وتفاقم أوضاع الطبقة العاملة في النصف الأول من القرن 19 ، وباستخدام التحليل الفلسفي لأحدث منجزات العلم ، أمكن لماركس وانجلز وضع المادية التاريخية و القوانين العامة للتطور التاريخي وأشكال تحققها في نشاط الناس في ضوء معطيات النظام الرأسمالي وعلاقاته الاقتصادية والاجتماعية القائمة على الاستغلال.
ارتبط نشوء العلاقات الرأسمالية مع بداية تكون الملامح الأولى للطبقة البرجوازية ، كطبقة مالكه لوسائل وأدوات الإنتاج ، وقد كان مستوى التطور النسبي للإنتاج البضاعي ( السلعي ) في أواخر التشكيلة الإقطاعية ، السبب الرئيسي ( عبر الإنتاج والتجارة والمرابين والتراكم النقدي ) في نشوء الطبقة البورجوازية ومن ثم العلاقات الرأسمالية .
ومع تطور الرأسمالية ، تتطور قوى الإنتاج باستمرار ، وما ينتج عن ذلك من تعارض حاد بينها وبين علاقات الإنتاج القديمة ، وهذا لا يعني أن الرأسمالية تستطيع دائماً أن تحل أزماتها الداخلية بما يضمن استمرار صعودها ، فبالرغم من كل ما نلاحظه اليوم من تطور هائل وانتشار " واسع " ، إلا أن ذلك لا يلغي إطلاقاً طبيعة الأزمة والتناقضات الداخلية للنظام الرأسمالي منذ وصوله إلى مرحلة الامبريالية ، في نهاية القرن التاسع عشر ، وامتداده إلى عصرنا الراهن حيث أصبحت العولمة الأحادية الامريكية هي السمة الأساسية – حتى اللحظة - للإمبريالية في طورها الجديد ، اذ إن هذه العولمة " صيغة تهدف إلى إعادة صياغة النظم السياسية والاقتصادية السائدة في العالم ، بهدف إخضاع العالم لإرادة كونية واحدة ، إنها انفتاح عالمي بلا حدود ، وهيمنة بلا حدود ، تقوم على حرية حركة رؤوس الأموال والمنتجات والتسليم بسيادة السوق ، وفي اطار العولمة الامبريالية وشروطها، باتت دول العالم الثالث والوطن العربي تحديداً –بحكم عوامل/ مصالح طبقية خارجية وداخلية-، مجرد مشروعات يتم بواسطتها تدمير السوق الوطني أو القومي ومن ثم تكريس تبعيتها وتخلفها وارتهانها.
أيضا لا يمكن فصل العولمة الأحادية الامريكية عن ظاهرتين انبثقت عنهما وهما ظاهرة التدويل Internationalisation وظاهرة تعدد الجنسية Multinationalsation، فالعولمة تجد جذورها في المساعي الامبريالية المتواصلة لوضع قواعد قانون دولي عام ومنظمات دولية تسمو على القوانين الوطنية وتعبر عما هو مشترك بين المجتمعات والدول، وتعدد أو تعدي الجنسية تجلت في الشركات متعددة الجنسية.
وفي هذا السياق، علينا أن ندرك أن انتشار العولمة الامبريالية الاحادية لم يكن بسبب المخططات الامبريالية للسيطرة على الشعوب الفقيرة، وكذلك أيضاً لم يكن السبب ارتباطاً بالتقدم الهائل في المعلومات والمواصلات فحسب، بل إن السبب الرئيسي لذلك التغول الامبريالي المعولم يعود بالدرجة الأساسية إلى ضعف وتبعية وخضوع أنظمة البلدان الفقيرة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية مما مهد الطريق لكي تفرض العولمة الامبريالية مشروعها بالقوة العسكرية إلى جانب الوسائل الإعلامية والفروض والضغوط المالية الأخرى صوب المزيد من استغلال الشعوب في ظل دكتاتورية السوق والعولمة.
فمع نمو العولمة كما يقول هانس بيتر وهارولد شومان – في كتابهما " فخ العولمة"- " ازدادت الفوارق بين البشر، وأصبحت نظرية الخُمُس الثري بمثابة الحتمية التاريخية، عشرون في المائة من السكان يمتلكون الثروة وثمانون في المائة سكانٌ فائضون عن الحاجة يعيش جزء كبير منهم بالتبرعات والإحسان والتكافل الاجتماعي، وقلصت التكنولوجيا فرص العمل وألغت الفلسفةُ الليبراليةُ دورَ الدولة الاجتماعي واقتضت المديونية أن تنضبط الحكوماتُ بصرامة أمام مؤسسات النقد الدولية حيث يتحكم مضاربون كبار في اقتصاديات الدول وسياساتها من وراء وميض شاشات الكمبيوتر فتفاقم عجزها. كلُّ شيء كان مخططا له بدقة، والسؤال المحيّر حول: ماذا سنفعل بالفائضين عن الحاجة؟ كان مطروحا منذ البداية على منظري اقتصاد السوق، وقرّروا أن خليطا من التسلية المخدرة والتغذية الكافية يمكن أن يهدّئ خواطر المُحبطين.

وهنا أود التأكيد أنه على الرغم من أن العولمة الامبريالية الاحادية أحدثت تغييرات كبيرة في الاقتصاد والثقافة والسياسة على مستوى العالم، إلا أنها تواجه أيضاً تحديات ومشكلات مثل الاختلافات الثقافية والتوزيع الغير عادل للثروة وتلوث البيئة والتهديدات الأمنية والسياسية، علاوة على انها ظاهرة غير قابلة للديمومة والاستمرار نظرا الى الدور الاقتصادي والسياسي المتميز الذي امتلكته الصين الشعبية ومعها روسيا ودول البريكس ، ما يعني بداية مرحلة التعددية القطبية في كوكبنا وانها سيطرة الولايات المتحدة الامريكية قبل نهاية هذا العقد .
في هذا السياق أيضا ، أشير الى أن مصطلح العولمة Globalization، يفترض تحقيق وتكريس عملية التكامل الاقتصادي والثقافي والاجتماعي والسياسي على مستوى العالم، وتعني في الأساس التحول من اقتصاد قائم على الدولة إلى اقتصاد عالمي متكامل يعتمد على الحرية التجارية والاستثمارية والحركة السريعة للأفراد والأفكار والتكنولوجيا عبر الحدود الدولية، وهو أمر لم يتحقق حتى اللحظة على المستوى الدولي في ارجاء الكوكب، حيث استمرت أوضاع التمايز في بلدان العالم عموما والبلدان الصناعية في المركز الرأسمالي على حالها من ناحية استمرار الحرص على دور وفعالية الاقتصاد القطري المرتبط بهذه الدولة او تلك وقطاعها الرأسمالي الخاص( الأمريكي /الألماني/ الفرنسي /الإنجليزي / الصيني/ الروسي ...الخ ) دون أن تتبلور عملية التحول الى الاقتصاد العالمي، بل استمرت المنافسة بين الدول الرأسمالية في المراكز- بصورة أساسية – من اجل توسيع احتكاراتها سواء بالنسبة لتصدير بضائعها او بالنسبة لاستغلال شعوب العالم الفقيرة للحصول على المواد الخام ...الخ.
وبالتالي فإن من التضليل الحديث عن العولمة باعتبارها مفيدة لجميع الشعوب، لأن الواقع العالمي في ظل العولمة الإمبريالية الحالية على النقيض من ذلك، فالعولمة إذن هي من وجهة نظري حالة تطورية – امبريالية معولمة- باتجاه المزيد من التوسع والإحتكار اصابت رأسمالية بلدان المراكز– خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي-من جهة، وازدادت في الانتشار والتوسع مع تزايد الاكتشافات العلمية التكنولوجية وعلوم الكومبيوتر والفضاء والنانو في عصر ثورة الاتصالات والمعلومات الراهن، الذي أسهم في تجسير الفجوة التاريخية من حيث المكان والزمان بين الأمم والشعوب، وأصبح من الممكن الحديث عن أن عالمنا بات اليوم أشبه بقرية صغيرة من حيث الشكل فحسب، الأمر الذي برر انطلاق مفهوم العالمية أو العولمة الراهن، إذ أن هذه التطورات الهائلة في الإنتاج الرأسمالي والتطور التكنولوجي والعلمي المتسارع في إطار ثورة المعلومات والاتصالات، كان له تأثيراً واضحاً على الثقافة واللغة والفن والرياضة والموسيقى والازياء والمأكولات، والتي يمكن أن تنتشر في كافة دول العالم عبر الحدود الدولية، لكنها رغم ذلك التأثير الهام، لم تستطع الغاء ثقافات وتراث الشعوب التي ستظل دوما محافظة على خصوصياتها الثقافية والفولكلورية، رغم تفاعلها إيجابيا مع منتجات العولمة الثقافية مثل الانترنت والهواتف الذكية ووسائل الاتصالات وغيرها، وهنا يمكن القول بأن العولمة عكست فعلاً الفجوة الكبيرة من مظاهر التطور الحضاري بالمعنى النسبي بالطبع غير المتطابق بين بلدان المركز الرأسمالي من ناحية وبلدان آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية من ناحية ثانية.