سؤال العولمة ؟


غازي الصوراني
الحوار المتمدن - العدد: 7939 - 2024 / 4 / 6 - 22:11
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     


السؤال الذي أطرحه هنا وأحاول الإجابة عليه، هل العولمة نظام جديد ظهر فجأة عبر قطيعة مع السياق التاريخي للرأسمالية أم أنه جاء تعبيراً عن شكل التطور الأخير للإمبريالية منذ نهاية القرن الماضي؟ وهل تملك العولمة كظاهرة إمكانية التفاعل والتطور والاستمرار لتصبح أمراً واقعاً في العقود القادمة من القرن الحادي والعشرين؟
للإجابة على هذا السؤال، أرى أن من الضروري الاستناد إلى عاملين رئيسيين:
أولاً : المعروف أن الرأسمالية منذ نشأتها الأولى في القرن السادس عشر، ومن ثم في سياق تطورها اللاحق، لم تكن في صيرورة فعلها حركة محدودة بإطار وطني أو قومي معين .
فالإنتاج السلعي وفائض القيمة وتراكم رأس المال لدى البورجوازية الصاعدة منذ القرن الخامس عشر التي استطاعت تحطيم إمارات وممالك النظام الإقطاعي القديم في أوروبا، وتوحيدها في أطر قومية حديثة في فرنسا وبريطانيا وألمانيا وايطاليا وغيرها، لم تكن هذه الدول القومية الحديثة والمعاصرة (حسب معاهدة ويستفاليا) سوى محطة لتمركز الإنتاج الصناعي ورأس المال على قاعدة المنافسة وحرية السوق، للانطلاق نحو التوسع العالمي اللا محدود.
لكن الأزمات (أو ظاهرة الكساد) التي تعرض لها الاقتصاد الأوروبي / الأمريكي في العقدين الثاني والثالث من القرن العشرين (1929 - 1932) من جهة، وبروز دور الاتحاد السوفيتي وما رافقه من انقسام العالم عبر ثنائية قطبية، فرضت أسساً جديدة للصراع لم يشهده العالم من قبل من جهة أخرى.
وبتأثير هذه العوامل لم يكن أمام دول المعسكر الغربي سوى إعادة النظر – جزئياً – في آليات المنافسة الرأسمالية وحرية السوق والتوسع اللا محدود، كما عبر عنها آدم سميث الأب الأول لليبرالية، حيث توصلت للخروج من أزمتها عام 1929، الى ضرورة إعطاء الدولة دوراً مركزياً لإعادة ترتيب المجتمع الرأسمالي.
وقد تبلور هذا التوجه في قيام هذه الدول بتطبيق الأسس الاقتصادية التي وضعها المفكر الاقتصادي " جون ماينارد كينز " حول دور الدولة، ومن أهم هذه الأسس:
تمكين الدولة الرأسمالية من الرد على الكوارث الاقتصادية .
إعطاء الدولة دور المستثمر المالي المركزي في الاقتصاد الوطني أو رأسمالية الدولة (القطاع العام).
حق الدولة في التدخل لتصحيح الخلل في السوق أو في حركة المال .
دور الدولة في تفادي التضخم والديون وارتفاع الأسعار .
وقد استمرت دول النظام الرأسمالي وحلفاؤها في الأطراف في تطبيق هذه السياسات الاقتصادية الكينزية طوال الفترة الممتدة منذ ثلاثينات القرن العشرين حتى نهاية العقد الثامن منه، حيث بدأت ملامح انهيار منظومة البلدان الاشتراكية وبروز الأحادية القطبية الأمريكية وأيديولوجية الليبرالية الجديدة .
وقد بدأ ذلك في عصر كل من تاتشر عام 1979 على يد مستشارها الاقتصادي " فردريك فون هايك، ورونالد ريجان عام 1980 ومستشاره الاقتصادي " ميلتون فريدمان " وكلاهما أكد على أهمية العودة الى قوانين السوق وحرية رأس المال وفق أسس نظرية الليبرالية الجديدة التي تقوم على :
" كلما زادت حرية القطاع الخاص كلما زاد النمو والرفاهية للجميع "! .
" تحرير رأس المال وإلغاء رقابة الدولة في الحياة الاقتصادية "،وتحرير التجارة العالمية.
أنها باختصار، دعوة الى وقف تدخل الدولة المباشر، وتحرير رأس المال من كل قيد.
ثانياً : بالطبع لم يكن ظهور مفهوم العولمة الاقتصادي معزولاً عن الانهيار الأيديولوجي الذي أصاب العالم بعد تفكك وانهيار الاتحاد السوفيتي، بل هو مرتبط أشد الارتباط بالمفاهيم الفكرية التي صاغها فلاسفة ومفكرو الغرب الرأسمالي، بدءاً من " عصر نهاية الأيديولوجيا " الى " صراع الحضارات "، و " نهاية التاريخ عند الحضارة الغربية"، وهي مجموعة أفكار تتقاطع مع الأفكار النازية كما صاغها تريتشكه ونيتشه، عندما تتحدث عن تفرد الحضارة الغربية – ضمن إطارها الثقافي والجغرافي – بالقوة والعظمة دون أي دور أو ترابط مع حضارات العالم الأخرى، كما يقول " فرنسيس فوكوياما " الذي رأى (عام 1992) أنه " بسقوط الأنظمة الاشتراكية يكون الصراع التاريخي بين الليبرالية والماركسية قد انتهى بانتصار ساحق لليبرالية الجديدة، وبهذا النصر تكون البشرية قد بلغت نقطة النهاية لتطورها الأيديولوجي"!؟ وقد تراجع عن موقفه هذا فيما بعد عام 2004.
"هذه الرؤية الأيدلوجية العنصرية تستهدف بصورة مباشرة توضيح الجوهر الحقيقي للامبريالية في ظل العولمة الرأسمالية السائدة اليوم" .
والواقع، انه منذ أن نشأت الرأسمالية كنظام عالمي، وهي تسعى دائماً لأن تخضع العالم أجمع لمتطلبات نموها وشروط حركتها، فمنذ نشا نظام رأس المال في اسبانيا والبرتغال ثم في هولندا والنمسا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا منذ منتصف القرن الخامس عشر حتى نهاية القرن الثامن عشر، حيث تطورت الرأسمالية، عبر "تحول النظام الرأسمالي من النطاق القومي إلى النطاق الدولي، من خلال الانتشار والتوسع الاستعماري الأوروبي.
وقد "أخذت الرأسمالية العالمية (الأوروبية) على النحو السابق صيغة أسماها سمير أمين في بعض كتاباته "الرأسمالية-العالم"، لتواكب مختلف تحولات الرأسمالية كنظام اقتصادي - اجتماعي، من محض رأسمالية زراعية وتجارية، في القرنين السادس عشر والسابع عشر وشطر من القرن الثامن عشر، إلى رأسمالية صناعية استوى عودها ونضجت ثمارها من أوائل القرن الثامن عشر إلى أواخر القرن التاسع عشر.
جاءت بعد ذلك "رأسمالية مالية" راكمت الثروات النقدية الهائلة من فائض القيمة الداخلي وعائد المبادلات غير المتكافئة مع عالم المستعمرات وأشباه المستعمرات وراء البحار، وتكونت في السياق شركات ضخمة ومصارف، حولّت النقود إلى أموال مقترضة عبر العالم وديون وخاصة خلال الثلث الأخير من القرن التاسع عشر (مصر –إندونيسيا نموذجا) . حينذاك نضجت الظاهرة التي كرس لها لينين مؤلفه الشهير (الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية) ليقرن التوسع الرأسمالي – الاستعماري الحديث بتبلور "رأس المال المالي" على صعيد عالمي".
وسوف نميز هنا بين ستة مراحل أساسية، لتطور الرأسمالية، بدأت منذ القرن الخامس عشر حتى اللحظة الراهنة من القرن الحادي والعشرين، وهذه المراحل هي:
1. مرحلة الكشوف الجغرافية .
2. المرحلة المركنتيلية (الرأسمالية التجارية).
3. مرحلة الثورة الصناعية.
4. مرحلة الاستعمار.
5. مرحلة الإمبريالية.
6. مرحلة العولمة الاحاديه الرأسمالية .
المرحلة الأولى: مرحلة الكشوف الجغرافية :
وهي مرحلة التمهيد لنشأة الرأسمالية، أي فترة الكشوف الجغرافية التي امتدت من نهاية القرن الخامس عشر حتى منتصف القرن السابع عشر، وهي الفترة التي مهدت لتكوين السوق العالمية فيما بعد.
المرحلة الثانية : المرحلة المركنتيلية (الرأسمالية التجارية):
وهي المرحلة التي تمتد من منتصف القرن السابع عشر وحتى النصف الثاني من القرن الثامن عشر، والتي سيطر فيها رأس المال التجاري الأوروبي على أسواق العالم وظهر فيها ما يسمى بالدول القومية.
فقد استطاعت الرأسمالية التجارية من خلال جماعات التجار المغامرين والشركات الاحتكارية الكبرى (مثل شركة الهند الشرقية، وشركة الهند الغربية...) أن تُخضع البلاد المفتوحة لعمليات نهب لا رحمة فيها، وأن تتاجر في أحقر تجارة عرفتها البشرية، وهي تجارة العبيد الذين كانوا يقتنصون من أفريقيا، بأبشع وسائل القنص، ويرسلون إلى مزارع السكر والدخان في أمريكا الجنوبية والشمالية وأوروبا.
المرحلة الثالثة : مرحلة الثورة الصناعية :
بدأت هذه المرحلة مع ظهور رأس المال الصناعي، وتحققت الثورة الصناعية خلال الفترة الممتدة بين النصف الثاني من القرن الثامن عشر وحتى سبعينيات القرن التاسع عشر، مع استمرار المراكز الرأسمالية في تطويع وتكييف المناطق المسيطر عليها.
فلم تعد حاجة الرأسمالية قاصرة على السكر والدخان والبهارات والتوابل والرق والمعادن النفيسة، بل اتسعت لتشمل المواد الخام التي تلزم لاستمرار دوران عجلات الصناعة، والمواد الغذائية (القمح واللحوم والزبد...) التي تلزم لإطعام سكان المدن والعمال الصناعيين.
وقد لعبت "ثورة المواصلات" –النقل البحري والسكك الحديدية- وما أتاحته من اتصال بأبعد مناطق العالم، دورا خطيرا في فتح هذه المناطق وغزوها بالمنتجات الصناعية الجديدة.
وعند هذه المرحلة أُرسيت دعائم تقسيم العمل الدولي غير المتكافئ بين البلاد الرأسمالية الصناعية والمستعمرات وأشباه المستعمرات.
ومنذ تلك اللحظة التاريخية، سيتحدد مركز وقوة كل بلد في النظام الرأسمالي العالمي بدرجة نموه وتفوقه على الآخرين في التجارة العالمية، وبموقعه في نظام التخصص وتقسيم العمل الدوليين.
المرحلة الرابعة: مرحلة الاستعمار :
بدأت هذه المرحلة مع دخول الرأسمالية مرحلة الاحتكار في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث زادت درجة تركز الإنتاج ورأس المال، وبرزت قوة رأس المال المالي، وهو رأسمال يستخدم في الصناعة بصورة أساسية، وتسيطر عليه البنوك والشركات الصناعية.
فلم تعد مهمة البنوك مجرد التوسط لجمع المدخرات وإعادة إقراضها لمن يريد بل "غدت احتكارات قوية" تجمع تحت أيديها الجزء الأكبر من رأس المال النقدي للجماعة، وتتحكم في جانب من وسائل الإنتاج ومصادر المواد الأولية.
وبذلك دخلت البنوك في عملية الإنتاج، ونفذت إلى الصناعة، وامتزج رأسمال البنوك برأسمال الصناعة، مكونا أقلية مالية هائلة القوة الاقتصادية.
هنا يسعى الرأسماليون للبحث عن مجالات خارجية للاستثمار يكون فيها متوسط معدل الربح أعلى من نظيره في الداخل.( وهذه هي السمة الرئيسية لرأس المال الذي يسعى دوماً للتوسع لمزيد من الربح عبر ممارسة أبشع وسائل الاستغلال والاضطهاد لكل الفقراء والكادحين في بلدانه عموماً وفي بلدان الأطراف خصوصاً)
ولهذا فقد شهدت الفترة 1875 وحتى عشية اندلاع الحرب العالمية الأولى، سباقا محموما، ولكن غير متكافئ، بين الدول الرأسمالية الصناعية في مجال تصدير رؤوس الأموال، ولم تعد بريطانيا وحدها تستأثر بهذا التصدير وإنما سرعان ما شاركها في ذلك فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة.
ولهذا فقد تميزت الفترة الممتدة من العقد الثامن من القرن التاسع عشر حتى الحرب العالمية الأولى بصراع محموم بين المراكز الرأسمالية الاحتكارية لاقتسام مناطق العالم وضمان احتوائها للوفاء بمتطلبات استمرار عمليات تراكم رأس المال في تلك المراكز.
يشهد على ذلك أنه في عام 1900 كان 90.4% من مساحة افريقيا و 75% من مساحة آسيا قد تم اقتسامها بين القوى الاستعمارية، لكن هذا التقسيم لم يكن متكافئا بين هذه القوى، وهو الأمر الذي أجج صراعا محموما فيما بينها، انتهى بإشعال الحرب العالمية الأولى.
المرحلة الخامسة: مرحلة الإمبريالية:
لقد أدركت الرأسمالية العالمية التي تولت قيادتها الولايات المتحدة الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية، ان إعادة إنتاج علاقات السيطرة والاستغلال تجاه الدول المتخلفة سوف يتطلب أشكالا جديدة، تأخذ بعين الاعتبار التغيرات المختلفة التي طرأت على علاقات القوى النسبية الفاعلة في العالم. وكان الوصول إلى هذه الأشكال هو أهم ما عبرت عنه المرحلة الخامسة مرحلة الإمبريالية، حيث نلاحظ في هذه المرحلة – ما بعد الحرب العالمية الثانية- انقسام العالم إلى ثلاثة مراكز رئيسية، أولاً: شرق اشتراكي بقيادة الاتحاد السوفياتي، ثانياً، غرب رأسمالي بقيادة الولايات المتحدة، وثالثاً، عالم ثالث (دول باندونغ أو عدم الانحياز) بقيادة اندونيسيا والهند ومصر عبد الناصر.
إن السند الرئيسي الذي استندت عليه الرأسمالية العالمية في سعيها الدؤوب لتجديد علاقات التبعية والسيطرة على البلاد المتخلفة حديثة الاستقلال، كان يتمثل في استمرارية بقاء الهيكل الاقتصادي التابع والمشوه الذي ورثته هذه البلاد من الفترة الكولونياليه والاستعمارية.
ومهما يكن من أمر، فإننا لو ألقينا إطلالة سريعة على جوانب الخبرة التاريخية التي تراكمت في العقود الأربعة التي تلت الحرب العالمية الثانية، لنستخلص منها أهم أدوات الإمبريالية الجديدة التي استخدمتها المراكز الرأسمالية الصناعية لاستمرار "تكييف" البلاد المتخلفة بعد حصولها على استقلالها السياسي، لأمكننا رصد الأدوات التالية:
1. سعت الدول الرأسمالية الاستعمارية إلى إيجاد نوع من العلاقات الخاصة الثنائية مع مستعمراتها السابقة.
2. استخدام سلاح ما سمي "بالمعونة الاقتصادية" : المعونات الغذائية والهبات والقروض والتسهيلات الائتمانية.
3. خلق روابط متينة مع بعض الفئات والشرائح الاجتماعية في البلدان المتخلفة (من الاقطاعيين من كبار الملاك والتجار ما يسمى بالوجهاء من أبناء العائلات والمخاتير .. الخ) ورجال الحكم من كبار الموظفين المدنيين والعسكريين (البيروقراطية العليا) حتى يمكن المحافظة على الوضع القائم، كما هو حال بلداننا حتى اللحظة.
4. استخدام أسلوب المعونات العسكرية التي قدمت لكثير من الأنظمة الديكتاتورية والرجعية لحماية وتأمين الأمن الداخلي لهذه النظم، وقمع أي حركات ثورية بالداخل، ودمجها ضمن الاستراتيجية العسكرية للرأسمالية العالمية، من خلال إقامة القواعد العسكرية والدخول في الأحلاف واتفاقيات الأمن المتبادل.
كانت محصلة هذه الأدوات الهامة، استمرار هذه البلاد مجالا مفتوحا أمام الصادرات الصناعية من البلاد الرأسمالية، ومجالاً مربحا للاستثمارات الأجنبية، ومصدرا غنيا ورخيصا للمواد الخام ولم تتحقق فيها تنمية ذات بال في مجال قواها الإنتاجية وتنويع بنيانها الإنتاجي كما هو حال بلدان النظام العربي الرسمي في هذه المرحلة من تحول الرأسمالية إلى طور العولمة، حيث تعمقت تبعية وخضوع الشرائح الطبقية الحاكمة في بلادنا العربية للهيمنة والشروط الأمريكية – الإسرائيلية، ما يؤكد على فقدان هذه الأنظمة لوعيها الوطني بعد أن فقدت وعيها القومي