-مرحلة- الانقسام الراهن، تمثّل مرحلةً حافلةً بالسمات الخاصة في تاريخ المجتمع الفلسطيني، وبسرعة التحولات الطبقية غير الطبيعية أو الشاذة


غازي الصوراني
الحوار المتمدن - العدد: 7755 - 2023 / 10 / 5 - 00:38
المحور: القضية الفلسطينية     

المفكّر والباحث غازي الصوراني "للهدف":

"مرحلة" الانقسام الراهن، تمثّل مرحلةً حافلةً بالسمات الخاصة في تاريخ المجتمع الفلسطيني، وبسرعة التحولات الطبقية غير الطبيعية أو الشاذة

حاوره: د. وسام الفقعاوي

* بعد ثلاثين سنةً على توقيع اتفاق أوسلو.. أين وصلنا فلسطينيًّا؟

** اتفاق أوسلو كارثة لم تتوقف آثاره وسيرورته منذ توقيعه في تاريخ 13/9/1993 حتى اللحظة، حيث مثل الاتفاق مجموعةً من المخاطر والأضرار الجسيمة التي ألحقها بنضال شعبنا وقضيتنا الوطنية وما زال، ولعلّ أبرزها:

1- التخلّي الفعلي عن برنامج منظمة التحرير الفلسطينية في حق العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس، واستبداله ببرنامج آخر يهبط إلى ما دون مستوى مشروع الحكم الذاتي، لم يتوقف ذلك الهبوط عند هذا الحد، حيث إن سلطة الحكم الذاتي، تفككت إلى سلطتين وهميتين غير شرعيتين، بفعل وتأثير الانقسام الكارثي.

2- أرسى المقدمات المادية والسياسية لتصفية منظمة التحرير الفلسطينية ميثاقًا وهُويّةً وطنيّةً كفاحيّة.

3- أعطى وشرّع للكيان الصهيوني ما يشاء وذلك من خلال:

- استمرار الاحتلال العسكري الصهيوني؛ ففي بنود الاتفاقية لم يرد لفظ الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي الفلسطينيّة، ولم تذكر الأراضي المحتلة كذلك، مقابل تجزئة الأرض الفلسطينية إلى ثلاث مناطق وهي A.B.C، السلطة الفلسطينية تملك إدارة المناطق A وهي عبارة عن الكتل العمرانية المدنية التي لا تتجاوز مساحتها 5% من مساحة الضفة الغربية، أما المناطق B وهي عبارة عن القرى والأرياف وتبلغ مساحتها 35% من مساحة الضفة أعطيت السلطة إدارتها الخدماتية بينما سيطر عليها الاحتلال أمنيًّا، والمناطق C هي بالكامل تحت سيطرة الاحتلال وتمثل 60% من مساحة الضفة الغربية، التي يجري ضمّها إسرائيليًّا حاليًّا.

- تثبيت واستمرار الاستيطان، والجدار العنصري العازل، تأكيدًا على الطابع الكولونيالي للاحتلال الصهيوني.

- الإقرار للاحتلال بالتحكم بالأمن الداخلي والخارجي (حدودًا ومعابرَ).

- استمرار سيطرة الاحتلال ونهبه للثروات الطبيعية وخاصة المياه.

4- حول نقل الصلاحيات، يتضمن الاتفاق نصًّا من أخطر النقاط، حيث يشير إلى أن نقل الصلاحيات يتم من قبل الحكم العسكري الإسرائيلي وإدارته المدنية إلى الفلسطينيين، وهذا يشكّل اعترافًا مباشرًا بأنّ الحكم العسكري وقوانينه يمثّل مصدرًا للسلطات بالنسبة لسلطة الحكم الذاتي.

5- من خلال ما ورد في الملاحق الأمنيّة حول استبدال أداة القمع الصهيونية بأداةٍ فلسطينيّةٍ (الشرطة) يأتي في جدول مهامها حماية الاحتلال ومستوطنيه وقمع القوى المناهضة للاتفاق أو الساعية لمواصلة الكفاح من أجل الحقوق الوطنيّة.

6- أنّ هذا الاتفاق فتح الباب على مصراعيه أمام إمكانية فرض التوطين على جماهير الشتات ومخيمات الوطن المحتل، ومن ثَمَّ فهو يسقط حق العودة المطلق الذي نص عليه قرار 194 الدولي.

7- الاعتراف بالكيان الصهيوني وبحقه في الوجود بصورةٍ نهائيّةٍ مقابل اعترافه الهزيل بـ (م. ت. ف) "ممثّلًا للشعب الفلسطيني وشريكًا في المفاوضات" الذي ينكر شراكته منذ فشل مفاوضات ما سمي بالوضع الدائم في كامب ديفيد.

8- وجه الاتفاق ضربةً مباشرةً لقرارات الشرعية الدولية التي صدرت عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي كانت تشكّل سلاحًا في ظل الوضع القائم؛ إذ جرى استبدال هذه القرارات بمرجعية إعلان المبادئ الذي وقّع عليه في أوسلو وواشنطن وبما يتفق عليه الطرفان الفلسطيني والصهيوني.

9- ربط الاقتصاد الوطني الفلسطيني بالاقتصاد الصهيوني، وذلك من خلال الشروط الاقتصادية للاتفاق كما وردت في بروتوكول باريس، جاءت تكريسًا للأمر الواقع الذي فرضته دولة العدو الإسرائيلي. فعلى صعيد قطاعات الإنتاج الحقيقي، كرّست "إسرائيل" سيطرتها على مدخلات الإنتاج الزراعي الأساسية، الأرض والمياه، وأحكمت السيطرة على أخصب الأراضي الزراعية والحوض المائي بالضفة الغربية.

10- وجّه الاتفاق ضربةً شديدة للمشروع القومي العربي، وأساء للشعب الفلسطيني ولدوره في النضال القومي العربي بشكل عام.

بناءً على ما تقدم، فإن مأساة اتفاق أوسلو لا تعود إلى حدث بعينه، إنها في الواقع حصيلة تاريخية لما سبقها من مراحل، بل يمكن القول: إنها حصيلة الهزائم المتراكمة عربيًّا وفلسطينيًّا، ولا أقصد بالهزائم فقط الانهزام العسكري أمام إسرائيل، بل أيضًا – وهذا هو الأهم – عناصرها الذاتية، أي الداخلية، بمعنى عجزنا عن تركيم وتأمين مقدمات الانتصار السياسية والاقتصادية والعلمية والثقافية، وعجزنا عن انطلاق فاعلية المجتمع العربي في كل الدول، وإبقائه تحت رحمة الاستلاب والخضوع والاستبداد، فكيف يمكن تصور أن ينجح شعبنا في الانتصار على عدونا الصهيوني، ما دام محرومًا من حريته الداخلية، وإلى جانب أوضاع التخلف الاجتماعي والاقتصادي، وضعف قواه الوطنية وتفككها، هنا تكمن مرجعية أوسلو وغيره من المحطات الرئيسية في مسيرة شعبنا وصولًا إلى لحظة الانقسام الممتد حتى اللحظة، باعتباره نتاجًا – ضمن عوامل أخرى- لأوضاع التفكك والتفرد والهبوط والاستبداد.

* كيف يمكن النظر إلى التحولات الطبقية التي شهدها المجتمع الفلسطيني في الضفة وغزة بعد إنشاء السلطة الفلسطينية؟

** إن المرحلة الممتدة من 1994 حتى "مرحلة" الانقسام الراهن، تمثل مرحلة حافلة بالسمات الخاصة في تاريخ المجتمع الفلسطيني، فهي مرحلة اتسمت – وما زالت رغم الانقسام ومن خلال حكومتيه - بسرعة التحولات الطبقية غير الطبيعية أو الشاذة، إلى جانب صيرورة التحولات الاجتماعية التقليدية عبر الأنشطة الاقتصادية ورموزها الطبقية العليا؛ الأمر الذي يوجب الرؤية المعمقة في طبيعة الجانب الاقتصادي للسلطة حتى لحظة الانقسام في حزيران 2007، وفي كل من حكومتي رام الله وغزة بعد الانقسام، ليس فقط باعتبار الجانب الاقتصادي تعبيرًا عن علاقات اقتصادية كمية، وإنما باعتباره عاملًا رئيسيًّا في استمرار بقاء كل منهما وانفراد فتح في الضفة، وحماس في غزة؛ إذ إن هذا العامل الاقتصادي هو المحدد الرئيسي للواقع السياسي الاجتماعي الذي يعكس حقائق التحوّلات في البنية الطبقيّة للمجتمع الفلسطيني الذي بات كما يبدو منقسمًا إلى "مجتمعين" في الضفّة والقطاع، كما يعكس أيضًا استمرارًا لولادة "النخب" الاقتصادية والسياسية في الضفة، وبداية ولادة "نخب" جديدة، اقتصادية سياسية اجتماعية في قطاع غزة نتيجةً من نتائج الانقسام والتفرد، وهي في الحالتين (في الضفة والقطاع) تحتلُّ مكانها وترسّخ سلطتها على قمة الهرم السياسي، كما على قمة الهرم الاقتصادي والاجتماعي، عبر تحالفاتٍ أو مصالح مشتركة بين رموز كل من الحكومتين من الشرائح البيروقراطية مع الشرائح العليا من البورجوازيات المتنوعة في مجتمعنا، (الصناعية والتجارية والزراعية والعقارية والمصرفية، المحكومة جميعًا بالطابع الطفيلي بدرجاتٍ متباينة)، بما يعزّز تكوين مجموعات اجتماعية غير متجانسة، تستحوذ وتملك قدرًا من التأثير في جميع المجالات الحياتيّة والسياسيّة عبر المشاركة في السلطة أو دونها.

* في ضوء حديثك السابق، ألا يمكن لحظ مظاهر للتقدم في بنية مجتمعنا الفلسطيني؟

** يمكن توصيف المجتمع الفلسطيني - رغم من ما يعتري سطحه من مظاهر التقدم الشكلي والكمي- بأنّه شبه تقليدي، بسبب استمرار بقاء الدور المهيمن للعائلة/الحامولة/العشيرة في العديد من الشركات والنشاطات والقطاعات الاقتصادية، كما في التجمعات في القرى والمدن والمخيمات، إلى جانب المظهر الآخر المرتبط بتداخل الأنماط الاجتماعية التقليدية وتجاورها أو تحالفها مع البيروقراطية الحاكمة في السلطة بشقيها، وطابعها الطفيلي المشوه، عبر علاقات مع التحالف الكومبرادوري التجاري والعقاري والمالي من ناحية، وعبر تضخّم مظاهر التراجع الاقتصادي والاعتماد على الخارج في التمويل أو الإغاثة، وتضخم مظاهر ومؤشرات الفقر والبطالة والانحطاط الاجتماعي من ناحية ثانية، دون القفز عن السبب الرئيسي لتفاقم هذه المظاهر، المتمثّل في الاحتلال وممارساته العدوانيّة وحصاره المتواصل، المفروض على أبناء شعبنا في الضفة والقطاع، إلى جانب استمرار تبعية الاقتصاد الفلسطيني للاقتصاد الإسرائيلي وما تنتجه هذه التبعية من تشوّهٍ مستمرٍ في العلاقات الاجتماعية (التركيب الطبقي)؛ إذ إنّ العلاقة الجدلية بين التبعية، والعلاقات الاقتصادية/الاجتماعية، توضح إلى حدٍ كبيرٍ شكل البنية الطبقية الفلسطينية ومحتواها، والخصائص الاجتماعية لكل "طبقة" أو شريحة في إطار تلك البنية.

وهنا يمكن القول: إن وضعنا الفلسطيني يتميز بالتخلف وإعادة إنتاج التخلف المتراكم والمتجدد، إلى جانب الركود أو البطء الشديد في مسار نموه، الذي يتصف بأنه نمو كمي محكوم لعوامل وضرورات التبعية، وشروط التطور المحتجز المطبقة على المجتمعات العربية عمومًا، وعلى المجتمع الفلسطيني في الضفة والقطاع خصوصًا، عبر نصوص ومحددات اتفاقيات أوسلو وبروتوكول باريس، التي جعلت الاقتصاد الفلسطيني – في ظل الاحتلال- تابعًا وملحقًا للاقتصاد الإسرائيلي؛ الأمر الذي أدى إلى محاصرة التحولات الاجتماعية أو الطبقية الفلسطينية في ممر إجباري أو طريق أحادي أسهم بصورةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرة في حصر المصالح الطبقية للشرائح المتنفذة في سلطة الحكم الذاتي المحدود بالمرجعيات الاقتصادية والسياسية الإسرائيلية وربطها، حيث وجدت تلك الشرائح –البيروقراطية والبورجوازية الكومبرادورية- فرصتها في التحالف منذ تشكل وقيام السلطة عام 1994، ومن ثم توجيه نشاطها الاقتصادي ودورها الاجتماعي السياسي بل والأمني في إطار علاقات التبعية من خلال تعزيز المصالح والعلاقات الاقتصادية والسياسية والأمنية مع الأجهزة والشركات الإسرائيلية، التي حرصت بدورها على تشجيع رموز التحالف البيروقراطي والكومبرادوري الفلسطيني، عبر تقديم تسهيلات - وفق خطط مدروسة ومبرمجة- لهذه الرموز التي استحوذت على مصادر الثروة في زمن قياسي حققت لها الانتقال إلى مواقع طبقية عليا ضمن عملية تَرَكُّز الثروة والنفوذ لهذه الشريحة، مع إدراكها أن وجودها في هذا الموقع الطبقي الجديد كان –وما زال – مرهونًا –بدرجات متفاوتة – بمواقفها السياسية المرتبطة مصلحيًّا بإسرائيل، ولذلك لم يكن جشع هذه الرموز الطبقية وفسادها أو هبوطها السياسي في السلطة الفلسطينية أمرًا غريبًا أو مستنكرًا من قبلها.

* برأيك، ما الذي يفسر هيمنة تلك الشريحة؟

** إن تفسير هيمنة تلك الشريحة من أصحاب الرساميل الطارئة أو المستحدثة عبر السلطة أو التمويل الأجنبي أو الفساد أو كل ذلك - في إطار التحالف مع أقطاب الرأسمالية المحلية الطفيلية الطابع - يعود إلى أنهم أصبحوا طبقة بالقوة (قوة بيروقراطية السلطة وأجهزتها الأمنية بالإضافة إلى الدعم المباشر من إسرائيل وغيرها) رغم أنهم لا يمثلون طبقة رأسمالية موجودة بالفعل أو متبلورة (رغم حرص بعض أفرادها في القطاعات الإنتاجية، على التحول إلى طبقة بالفعل) قوّةً اجتماعيّةً في الواقع الفلسطيني اقتصاديًّا وسياسيًّا وأيديولوجيًّا، وذلك يعود إلى هشاشة وضعف تغلغل أو انتشار علاقات الإنتاج الرأسمالية في التكوين الاجتماعي في الضفة والقطاع، إلى جانب دور السياسات الإسرائيلية ورأس المال الأجنبي على الصعيد الاقتصادي العام، كما على صعيد العلاقة مع معظم منظمات NGO S، في إضعاف البعد التنموي والإنتاجي الرأسمالي، وتأطيره ضمن أشكال وممارسات إدارية وتدريبية وإغاثية نجحت في إغراء وإغواء المئات من المثقفين الفلسطينيين الذين استجابوا للمغريات المالية (الدولار)، وأصبحوا أبواقًا للممول الخارجي في صنع ثقافة الاستهلاك والهبوط والتطبيع مستخدمين في ذلك المفاهيم المصنعة لهم من العواصم الرأسمالية: الحكم الصالح، الجندر، التنمية المستدامة، حقوق الإنسان، التصالح مع إسرائيل، عبثية المقاومة... الخ.

* السلطتان في غزة والضفة، ما يزالان يتعاطيان مع أكثر مفاهيم الليبرالية الجديدة اقتصاديًّا وسياسيًّا رثاثة، دون وجود ركائز لها في الواقع، فهل يمكن أن تنجح أي من السلطتين في الخروج من المأزق القائم؟

** إن رفضنا لمنطق الليبرالية الجديدة الاقتصادية وآلياتها وديمقراطيتها السياسية الشكلية، ينبع من قناعتنا وإدراكنا بصورة موضوعية، بأن ذلك المنطق بكل محدداته الاقتصادية والسياسية والفكرية، لن يؤدي في بلادنا سوى إلى مزيد من تهميش الجماهير الشعبية وفقدانها لتحررها الذاتي والسياسي على المستويين الوطني والقومي، وإلى مزيد من المعاناة والحرمان في صفوفهم بما يدفع إلى الاعتراف الإكراهي بمشروعية غير المساواة، وغياب مفاهيمِ العدالة الاجتماعية وآلياتها وتكافؤ الفرص والحريات الحقيقية من ناحية، والى فرض حالة من الإحباط واليأس وتعميم ذهنية العبيد وخنق روح الصمود ومقاومة العدو الصهيوني والإمبريالية الرأسمالية المعولمة، وتدمير المشروع الوطني، وإعاقة النهوض القومي من ناحية ثانية.

لذلك، فإنّ الدعوة الى التمسّك بأسسِ الديمقراطيةِ السياسية والاجتماعية ومبادئِها، التي تتكرس في خدمة قضايا التحرر الوطني والتقدم الاجتماعي، ولا تقتصر آلياتها على التعددية السياسية وحق التعبير والحريات الفردية فحسب، بل تمتد بعمقٍ ووضوحٍ نحو تحقيق الاستقلال الوطني وحماية سيادة الوطن، والتقدم الاقتصادي، والعدالة الاجتماعية، والنهوض الوطني والقومي- الاشتراكي، مسألة أساسية لتجاوز المأزق القائم على الصعد كافة.

* ما سبق يطرح سؤالًا: عما هو شكل التنمية الأجدى المطلوب فلسطينيًّا؟

** إنّ التنمية المطلوبة هي التنمية الهادفة إلى إشباع الحاجات الأساسية للأغلبية الساحقة من أبناء شعبنا (الطبقات والشرائح الفقيرة) وتقدّمها وتطوير إنتاجيتها، لا بدّ أن تستند إلى المشاركة الشعبية الفاعلة في المؤسسات الديمقراطية، ضمانةً وحيدةً لعملية التجنيد الطوعي للطاقات البشرية كافةً في مختلف القطاعات الإنتاجية وغيرها، للقيام بأعباء التنمية الوطنية في إطارها الوطني، وما تتطلبه من معاناة وتضحيات في بداياتها الأولى تعزيزًا لمبدأ الالتزام المشروط بعلاقة جدلية صاعدة نحو آمال واقعية صوب العدالة الاجتماعية، هذا الالتزام الجماهيري الطوعي لن يتحقق دون أن يترافق مع تحقيق مبدأ المشاركة الديمقراطية، الذي يضمن ترسيخ وعي الجماهير بأن عملها وإنتاجها يصب في خدمة مستقبلها ومستقبل أبنائها، بما يدفع ويحمي التراكم الإيجابي سواء في الأداء السياسي الاجتماعي أوّلًا، أو في أداء وتطوير القطاعات الإنتاجية وارتفاع معدلات النمو بشكلٍ متدرّج ثانيًا، وبما يكفل خلق المقومات المطلوبة لبناء القاعدة المادية للإنتاج والنهوض والتقدم الاقتصادي والمجتمعي في الإطار القومي الديمقراطي العربي ثالثًا.

بهذا المعنى، فإنّ التنمية المطلوبة لفلسطين بالترابط الوثيق مع الرؤية الاستراتيجية العربية تشكل مشروعًا أو حدثًا تاريخيًّا ينتمي إلى اللحظة / الحاضر، تفرضه احتياجات القوى الشعبية أساسًا لمستقبلها، يصيب مختلف الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية في مجتمعنا، ويحمل في طياته متغيرات نوعية لكل أشكال هذه الأطر ومحتواها. إنها ليست فقط عملية شمولية لكل جوانب الحياة، بل هي تقترب من كونها عملية تبادلية ذاتية، هدفها الجماهير، وأدواتها المشاركة الجماهيرية في إطار الاستراتيجية الوطنية والقومية التحررية والديمقراطية التقدمية باعتبارها الحاضنة التي تتسع لخيارات التنمية المتعارف عليها في بناء القدرات البشرية وتحسين مستويات المعيشة والصحة والمعرفة والعلم والمهارات، كما تتسع لضرورات التناقض الرئيسي مع العدو الإسرائيلي، وما تفرضه تلك الضرورات من ترابط مفهوم التنمية وتطبيقاتها مع هدف التحرر الوطني والاستقلال والسيادة جزءًا من أهم أهداف التحرر القومي العربي المعاصر؛ إذ إن تحقيق هذا الهدف هو في حد ذاته أحد أهم أولويات تلك الاستراتيجية.

* في ضوء واقع ضعف وتراجع قوى اليسار، كيف يمكن رؤية المستقبل؟

** إن الوضع الراهن - في ظل استمرار ضعف وعجز قوى المعارضة الوطنية واليسارية- يشير إلى أن السياسة باتت فنًّا للفوضى أو الموت البطيء بدلًا من فن إدارة الصراع الوطني والاجتماعي، وهي حالة يمكن أن تؤدي إلى نكبة أشد خطرًا وعمقًا من نكبة 48.

معنى ذلك هناك خلل كبير دفع، وما زال يدفع ثمنه شعبنا الفلسطيني عمومًا والجماهير الفقيرة خصوصًا، ذلك أن ما يجري هو شكل من أشكال الصراع السياسي والمجتمعي، الممنهج والمحكوم بالطبع بأهداف ومصالح وبرامج انقسامية فئوية محددة، تسعى إلى إعادة تشكيل النظام السياسي الفلسطيني، أو تفكيكه إلى دويلة مسخ في غزة وروابط قرى في الضفة، وفق مقتضيات الصراع بين القطبين، (فتح وحماس) في إطار فسيفساء متناقضة، قد يفقد معها المشروع الوطني مرتكزاته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، أو الخضوع لضغوط وشروط الرؤية الأمريكية الإسرائيلية بدعمٍ صريحٍ من معظم الأنظمة العربية التي باتت اليوم خاضعةً تمامًا للمخطّط الصهيوأمريكي وشروطه التطبيعية.

السؤال هنا وهو أكثر وضوحًا من كل الإجابات؟ ما معنى أن نناضل متفرقين ومحكومين للانقسام الكارثي منذ ستة عشر سنةً، فقدنا فيها الفكر الوطني التوحيدي لشعبنا وتفككت هويته الوطنية؟ وما معنى عدم إصرارنا على تنفيذ اتفاقات المصالحة، وفي مقدمتها وثيقة الأسرى واتفاقيات القاهرة 2011 و 2017، وصولًا إلى اتفاق الجزائر 2022، ونقوم بإصلاح منظمة التحرير بمشاركة الجميع، لكي تعود المرجعية السياسية الرئيسية لشعبنا؛ يُتخذ فيها القرارات الاستراتيجية على نحو مشترك دون تجاوز مرجعيات الفصائل، بل انطلاقًا من الحرص على ديمقراطيتنا التعددية؟ فما معنى مواصلة نضالنا بدون منظمة التحرير الفلسطينية؛ ممثل شعبنا الوحيد ومظلة وحدتنا الوطنية الديمقراطية التعددية؟ وما معنى أن يعيش شعبنا _ رغم تضحياته العظيمة_ بدون فكر سياسي وطني تحرري توحيدي وتعددي تحت راية المنظمة؟

معنى ذلك أن نناضل بشكل مفكك ومرتجل، ونفتقد للرؤية والأفكار الوطنية الديمقراطية الكبرى والرئيسية وأن نقع في أخطاء دون أن نعي خطورتها وطريقة معالجتها، وأن تتحدد مواقفنا السياسية بشكل عفوي دون وضوح الرؤية، ويُنتج عن ذلك عادة تعدد في المواقف، والتشرذم وتعدد المواقف معناه تبعثر في القوى، وتشتيت لها، فتكون النتيجة أن تتوزع قوى شعبنا الوطنية الثورية في أكثر من طريق، بدلًا من أن تصب كلها في طريق واحد لتشكل قوة متراصة واحدة وفق رؤية وبرامج وطنية تحررية، تجسد تطلعات شعبنا وتوفر إمكانات التصميم والتصدي لمخططات العدو الصهيوني والانتصار عليه.

وهنا ترقى مهمة قوى اليسار لأن تغدو مهمة مصيرية، والخطوة الأولى على هذا الطريق تبدأ بالنظرية، والرؤية العلمية الموضوعية لواقع مجتمعنا الراهن، لكي نكون قادرين على مواجهة القوة الأخطر، ونعني بذلك أيديولوجية التحالف الإمبريالي الصهيوني من جهة، والأيديولوجية الليبرالية الكومبرادورية الرثة التي تعبر عنها الطبقة السائدة إلى جانب الأيديولوجيات اليمينية بمختلف أطيافها ومسمياتها وتفرعاتها وألوانها من جهة ثانية، وهذا يعني السعي لتأسيس رؤية فكرية سياسية ومجتمعية علمية محددة، تنطلق من المنهج المادي الجدلي، وتحليل واستيعاب الظروف الواقعية ببعديها الوطني والطبقي، لنخرج بتصور نظري علمي، يصلح لأن يكون مرشد عمل لأحزابنا وفصائلنا، ليس في فلسطين فحسب، بل على مساحة الوطن العربي كله.