نقد النقد الديني: المقال 100 في الحوار المتمدن


نادر قريط
الحوار المتمدن - العدد: 3006 - 2010 / 5 / 16 - 03:17
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     


شكراً لكِ* على ما ترسلينه من مواضيع، ويؤسفني إخبارك بأني قلما أقرأ شيئا منها، لقناعتي بأن ثقافة ولغة مريضة، لا يصدر عنها إلا الحمى والهذيان وفتات المعرفة.. لذا أفضل المثابرة على الأمّية، أو القراءة بلغة العلوج، لكن هذا لا يمنع أن أتلصص على بعض ما يصل بريدي، خصوصا ما يتعلق بالنقد الديني، مع أن معظمه لا يرتقي للنقد، بل يختبئ غالبا بجلابيب التبشير الديني (أو الصهيوني) وهذا النوع يسبب خسائر فادحة للنقد العلمي الرصين، إذ إن إنتقاد خرافة بخرافة أخرى هو نوع من الهلوسة المرضية والتنفيس، وكذلك هو حال النقد بأحكام مبيّتة وجاهزة..
قبل أيام وصلني منك موضوع شيق لأحد الكتاب ومع أنه مكتوب بحرفية عالية لكنه يختفي وراء عقل دوغمائي متعصب، لاحظت ذلك عندما أشار لقصة أهل الكهف القرآنية بإعتبارها مأخوذة عن كاتب بيزنطي؟ هذا صحيح نسبيا من الناحية البحثية، لكن الكاتب الهمام إرتكب خطأ قاتلا عندما إكتفى بهذه المقاربة: فلعله يجهل بأن قصة النيام السبعة (إسمها المسيحي) ليست مجرد نص لكاتب بيزنطي إنما موروث مسيحي، كان في الماضي فائق الأهمية ومن أسس الدوغما ولا يقل جوهرية عن قيامة المسيح وعذرية مريم (1) لهذا كانت مغارة أفسس (الكهف) عبر القرون من أهم مقاصد الحجاج المسيحيين بعد القدس وروما (2)
نعم إن قصة أهل الكهف هي أسطورة بلغة اليوم (وما المانع؟ وهل الوحي أو المعجزات أكثر عقلانية منها؟) لكنها كانت في الماضي حقيقة أكيدة يصدقها كل الناس، ولا يستطيع أحد تكذيبها، فالناس كانت حبيسة نظام أبستمي (معرفي) آخر، تماما كالمصري القديم الذي أبدع وكرس حياته ومعابده وقبوره لعقيدة الموت وإنتظار عودة الروح "كا" فهل يحق لنا السخرية منه؟ من هنا يتوجب فهم التاريخ الديني من خلال نسقه المعرفي، وليس بإسقاط أخلاقنا ومسلماتنا ومعارفنا عليه. ويتوجب عليّ أن أفهم لماذا تلقف القرآن تلك القصة المدوّية آنذاك. وليس أن أحاكمها كخرافة سخيفة.. هذه الأمور وغيرها للأسف تجعل جلّ ما يُكتب عديم المنفعة معرفيا وغير جدير بالمتابعة .. في الختام أرسل لكِ هذه السطور علّها تساهم في شرح بعض الأفكار وشكرا
لو أن المؤمن يأخذ إيمانه كما تؤخذ علوم الجغرافيا واللوغاريتمات، لأمكن حواره من باب "ما أخذ بالعقل يُسترد به" لكن منظومات الإيمان ليست علوما تُلقّن بل "حشيش" يُدخّنه الإنسان مع أولى نسمات الحياة؟! وأصل الحكاية أن ماركس (الشاب) قال: "الدين هو آنّات المظلومين، هو القلب في عالم لا قلب له (...) هو أفيون الشعوب"(3) لأنه أدرك بأن دين الناس ليس جدلا في الأفكار والميتافيزيقيا، بل رابطة ووجدان ورأسمال رمزي للجماعة [مبثوث في لغة وطقوس وسلطة] وبالمحصلة هو وجود متصل بماضي وحاضر الجماعة، ومن السذاجة إختزاله بآية هنا أو قصة هناك.

لو كان "إنكار معلوم من العقل بالضرورة" جنحة تستحق الإستتابة والعقوبة.. لتوجب جلد وحبس كل مروجي "الأفيون" وإتلاف بضاعتهم، فقصص الوحي والملائكة والقيامة والمعجزات، هي إهانة للعقل وإنكار لقوانين معلومة (بدءا من مبدأ لافوازييه وتطورية داروين وأنت ماشي) لكن العقائد لا تُناقش بالمنطق بل بتفكيك آلية عملها وإستيعاب لامنطقها..

لو أن نقض آية أو حديث سيُلغي الإيمان، لأمكن بسهولة شرشحة الكتب المقدسة. وجعلها أضحوكة للعالمين.. خذوا مثالا:
يبدأ الكتاب المقدس بإجماع الترجمات العربية قائلا "في البدء خلق الله السموات والأرض..(تك1)"(4) وبقليل من الصبر والبحث في المخطوطات القديمة ستكشف المخادعة فالأصل يقول: "في البدء خلق إيلوهيم السموات والأرض"؟ والفرق والمخادعة واضحة، لأن "إيلوهيم" العبرية تعني "آلهة جمع إله" وهذا ضرب من الوثنية، لذلك قرر المترجم تغيير دلالة هذه الكلمة، كونها تقع في الواجهة، وقد تنفّر الزبائن (أثناء تعاطيهم للجرعات الأولى) وكذلك فمن يمتلك بعض الأناة سيجد أن المخطوطات تعرضت خلال القرون الأولى لآلاف التصويبات والتصحيحات (5) (خصوصا في مواضع النزاع اللاهوتي) وهكذا تم تجسير الهوّة وتحديث الترجمات والإلتفاف على دلالتها القديمة.
أما لاهوت الحداثة فلم يعد يكترث لتفاصيل الأسطورة بل أخذ يروّج لترميزها وإشتقاق العبرة والأمثولة منها حفظا لماء الوجه. (طبعا بإسثناء الكنائس الشرقية التي مازالت تتشبث بقدسية الأسفار وقولها مثلا: "وإن ضاجع أحدٌ بهيمة، فيقتل هو والبهيمة قتلا" لاوييون20)

أما القرآن فقد صُبّ بقالب العربية، وبدون نسق كرنولوجي فإستعصى بعضه على الترجمة والفهم، وبدلا من التصويب قامت الأرثودوكسية بإستثمار الغموض وجعله معجزة لغوية، وذروة "للمقدس"، ومأدبة للمفسرين، وهذا بدوره أجبر المدوّن على إتباع منهج صارم في تدوينه ونسخه، فترسخ النص وأصبح تجاوز أخطائه السيمانتية والقواعدية والكتابية ضربا من المستحيل؟ وأصبح الخلل الكرنولوجي اللغوي مرتعا للتأويل (التقويل) وضخ الروايات الكاذبة، وهذا أدّى لظهور وعي تاريخي مشوّش وإضطراب في بنية العقل الأرثودوكسي.

مثال: إنتبه بعض المستشرقين (الملاعين) إلى كلمة "حصب" (6) في الآية 98 من سورة الأنبياء والتي تقول: "إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم". وبعد أن غربلوا التفاسير والقواميس، وجدوا أن "حصب" هي الحصى، والمحصب هو مكان الرجم، ومن اللفظ جاءت الحصبة (والجدري) إلخ.. وبعد لأي وجهد وسفر بين المجلدات عادوا بخفي حنين، لأن التفاسير تعود لترى في "حصب" وقودا لجهنم، وهذا لا يستوي مع الذوق السليم وسلامة العقل واللسان، فكيف يكون الحصى وقودا؟ إذاً من البديهي أن تكون "حصب" هي نفسها "حطب" وكل ما جرى هو أن النسّاخ المسكين أغفل عصا الطاء فأصبحت صادا.. فإبتلى بعده المفسرون وداخوا. وربما إضطر اللسانيون والإخباريون لإختراع قصص ومعاني ل "حصب جهنم" وتقويل الشعراء ما يسوّغ ذلك، وإختلاق أشخاص وشعراءً لم يعشوا قط، وهكذا إكتظ الموروث بصحاف وقصص إضافية، والسبب كان هذا النسّاخ الشحيح، مع أنه لم يبخل علينا عندما كتب في سورة الجن15 " وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا"

من هنا يبدو للمرء أن جلّ الموروث الكلامي للإسلام هو إشتباك لغوي لتأويل القرآن، وإلباسه تاريخا وجغرافية وتشريعا وفقها، وبالفعل بدأ يسود في أبحاث الإسلامولوجيا الحديثة إعتقاد يدعو لإعادة قراءة الموروث والتحقق الأركيولوجي من تاريخية أحداثه المبكرة.. فالظاهر للعين المتفحصة أن مخطوطات القرآن واللغة العربية والمحتوى الدلالي للسير والروايات هي إنعكاس لأحداث جرت في فضاء عربي ـ فارسي (العراق) في القرن التاسع. ثم إسقطت على زمن ومسرح ميثولوجي إسمه الحجار..
والمدهش حقا أن الوثائق اليهودية الغزيرة لا تذكر شيئا عن يهود الحجاز في القرن السابع، وكأنهم لم يوجدوا قط (7) (مع أن الجماعات اليهودية منتشرة وكتابية ومتصلة ببعضها، وهذا تؤكده الوثائق والكسور التي عُثر عليها، كما هو الحال في وثائق الكنيس القاهري، التي تبلغ 15000 وثيقة وكسرة يعود بعضها للقرن الثامن) كما أن التنقيبات في المدن الأثرية المتاخمة للحجاز التي زعم المدوّنون العرب أنها مستوطنات يهودية، لم تكشف أثرا يؤكد يهوديتها (8)

لهذا أعتقد شخصيا أن نقد الإسلام من خلال موروثه وبدون إعادة تأويل الموروث والنقوش والمخطوطات والآثار الحسية، هو عبث ودوران حول الساقية. أما الإساءة والتجريح لرموز الإسلام فتلكم حماقة وإبتذال، ليس لأننا فقط أمام رموز أدبية، لم يجر في عروقها سوى حبر الأقلام. بل لأننا غالبا ما ننتقي أحداث بعينها ونصدقها، ونرفض أخرى لا تناسبنا فنكون إخترنا طريق المختالة، ناهيك عن أننا نرتكب مغالطة إسقاط مسلماتنا على عصور أخرى نجهلها ولا نعرف عنها إلا ما وصلنا من السرد الأسطوري، إضافة إلى أن القذف وإهانة الرموز هو من حيث المبدأ إهانة لمعتنقي تلك الرموز وإعتداء على وجدانهم.

فلو أن نقد محمد وزيجاته وغزواته سيُبطل الإسلام ويخرج المسلمين من دينهم أفواجا، لما وجدنا اليوم مسيحيا أو يهوديا واحدا؟ فهل ترك القبطي عقيدته بسبب مرويات الكتاب المقدس عن موسى وقتله للمصري، أو إبادة يشوع للكنعانيين وحرق مدنهم، أو بسبب سقطة يهوذا (نكاحه لكنّته تامار) أو شبقية داوود ( وخطفه إمرأة الحثي وقتل زوجها) أو عبثية قصة المسيح أو هلوسات رؤيا يوحنا التي تقشعر لها الأبدان؟ على العكس حتى المسيح وجد نسَبَه وسلالته في أولئك الأبطال (أو المجرمين) الميثولوجيين؟ (إذا تجاوزنا أنه هو الآخر بطل ميثولوجي)
إذاً كيف يُطلب منع التحشيش الإسلامي، إذا كان الآخر يتلذذ بأفيونه! ألا ترون كيف إغتصبت إسرائيل (الحداثة) الحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل بذريعة وجود ضريح للشبح إبراهيم.. (مع أن التوراة جعلته "يستثمر" زوجته سارة سياحيا، ويصيب من ورائها رزقا وإبلاً) ألا ترون كيف تستميت للإستيلاء على حقائق موجودة (المسجد الأقصى) من أجل أوهام مفقودة (الهيكل)؟ ألم تنشأ "إسرائيل" على الخرافة والوعود العقارية الإلهية والقصص الساذجة! وللأسف أمام أعيننا وفي عصر موسوم بالحداثة والعقل والأنسنة.
إنها بعض الأسئلة التي تجعل من النقد ضحكا على الذقون، وأحيانا مؤامرة رخيصة وتمويها على أصول ومنابع النزاع والصراع البشري، وأهمها طرا هو النزاع على الثروة والسلطة، داخل الأمة وبين الأمم؟ وأقصد بالأمة تلك التي وصفها كارل دويتش: بمجموعة من الناس اتحدوا حول خطأ شائع عن أصلهم، واتحدوا أيضا في عدائهم لجيرانهم

ملاحظات وهوامش:

*المقصود سيدة علمانية ترسل لي فيضا من الكتابات المناهضة للإسلام

1ـ فصل النيام السبعة Die sieben Schläfer
Die große Geschichtsfälschung : Uve Topper 2000
وكذلك دراسته في مجلة ZS العدد1/1994 صفحات.44ـ 50 بعنوان نيام سبعة في أفسس Siebenschläfer in Ephesus
2ـ نفس المصدر
3ـ للأسف لم أعثر على النص الأصلي للمقولة، فقد نقلتها من الذاكرة. لكن قرأت ترجمة تقول حرفياً: الدين هو آهات المخلوقات المظلومة...إلخ/ترجمة فضيلة يوسف
4ـ حسب ترجمات الكتاب المقدس: البروتستانية لVan Dyck، الكاثوليكية Revised Catholic ..إلخ
5ـ ما أثاره الجدل حول مخطوطات الكتاب المقدس يغطي مساحة واسعة من الكتب والسجال، فالمخطوط السينائي (منشور على الإنترنت) إحتوى في إحدى الصفحات على مئة تصويب () تعود لأقلام يُزعم أنها من القرن السابع وبعده (طبعا بإفتراض أن المخطوط هو أحد النسخ التي عممها قسطنطين على العالم المسيحي في القرن4، وهذه تشبه قصة تعميم نسخ القرآن العثماني) وعموما تغيب في عدد من المخطوطات قصة قيامة المسيح، أو قصة الزانية أو مقولة الغفران (إغفر لهم يا أبت لأنهم لا يعرفون ما يفعلون) ... إلخ
6ـ "حصب" هي واحدة من 22 لفظ قرآني كان قد طرحها J. Beallamy في سلسلة أعداد مجلة جمعيةالإستشراق الأمريكية/1993 Journal of the A.O. Society
7ـ8 أنظر ترجمتنا لمحمد كاليش: http://nkraitt16.blogspot.com/2009/05/blog-post.html
والمراجع ,Quranic Studies S.50 , Wansbrough
ـ نيفو Nevo: crossroads to Islam S.13