القانون: دين الدولة؟


نادر قريط
الحوار المتمدن - العدد: 3459 - 2011 / 8 / 17 - 13:16
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     


مهما كانت المآلات، فإن الربيع العربي هو إجتراح لمعجرة. ذلك أن مجرد تصوّره قبل وقوعه، كان ضربا من الهلوسة، فمن خطر بباله رؤية فرعون خلف القضبان؟ ها هنا يكمن البعد الثوري للحدث، فلأول مرة غادر الناس حدود الممكن (همس، صمت، طاعة، تصفيق) ونزلوا إلى الساحة لإنتزاع السلطة والثروة ممن عضّوا عليها بالنواجذ.
ومع تدافع الحدث وعصف الأقلام تناسلت الأسئلة عن: الدولة والعلمانية والديمقراطية والدين والثورة والمؤامرة، ونحو ذلك من الإشتباكات المفاهيمية التي أصبحت أهم مشاغل الكتابة.
وبتدفق الحدث والصورة، تشتت أيضا الرؤى وتفاقمت الكتابة، لتزيد على أمراضها المألوفة كإزدواجية الإختزال والتعميم، والإغتراب عن الواقع (البرجعاجية، والدونكيشوتية) ولعل هايدغر هو خير من وصف النصوص المعاصرة بقوله انها: طرق مُسدودة، تتداخل مع بعضها وتتقاطع دون غاية. طرق لم تُصنع للمرور والعبور، بل إن فعل المشي هو من يصنعها.

أي أن ما نفعله لا يزيد عن مشاركة في رحلة مجهولة بلا بداية ولا نهاية. ولتخفيف وطأة هذه المتاهة كان على الإنسان منذ نشأة التفكير أن يضع مصطلحات وجداول وعلامات وتواريخ، تكون له نقاط هداية كمنارات إرشاد السفن، ليحمي نفسه من خطر التيه والضياع والفراغ.

لهذا فإن الحاجة لتأصيل بعض المفاهيم ورفع الركام عن الدلالة والمعنى، عملية حيوية، لإنعاش عملية التفكير نفسها، كي لا تصبح ضحية لزحمة الكلام وصراخ الباعة. فسيّان كانت التسمية لأحداث مصر “ثورة (لوتس أو كنتاكي) إنتفاضة، إنعطافة، تمرد..إلخ” فالحدث أي حدث هو صيرورة لذاته ويحمل فرادته وسياقه، ولن يعيبه إن إختلف عن غيره، إنه محصلة لتفاعل ظروف وقوى عديدة مختلفة الشدة والأثر. ويصعب التكهن والتنبؤ بالمسار النهائي لها، بسبب تعذّر تحديد شدّة وإتجاه تلك المركبات المتفاعلة داخل قِدر الصيرورة.

وبالعودة إلى لبّ الموضوع وإشتباك المفاهيم، أود مناقشة بعض الإشكاليات التي تختلط في الذهن وتعمل ستارا حاجبا يضيق بالمعنى ويخنقه:
فالعَلمانية: عموما تلتبس في سياق العربية لتُختصر بجملة هلامية “فصل الدين عن الدولة” وعادة لا تتجاوز المناداة بها، حدود طلب تكريسها في الدستور بعبارات واضحة صريحة، ظنا أن ذلك يحول دون أسر الحياة بمعيار ديني؟ ثم ماذا؟ ماذا سيتغير لقبيلة في الأدغال، لو إعتمدت الدستور السويسري حرفيا. هل ستأكل الشوكولا صباحا، وتذهب للاوبرا مساء وتشهق بين أدغالها ناطحات السحاب! عبث.. إن العلمانية ثقافة وليست عبارات ودستور. والجذور التاريخية لها تعود للتميز بين رجل (كرازة) مُنخرط بالعالم، وآخر (ناسك أو راهب) وجد طريق السماء بإعتزال الدنيا والزهد فيها.

هذا التمييز لا يستوي على الحكم الديني (التيوقراطي) الذي يتحول إلى لبوس وتمويه، فالإكليروس كسلطة لا يمكنه أن يعتزل الأرض، لأنه يعيش لها وعليها ومن كد وعرق ما تجلبه النذور والقرابين والخمس.. وعندما يحظى بدولة (الفاتيكان مثلا) لن يجد بدا سوى الإنغماس بالعالم (من ملكية إقطاعيات هائلة، وخوض الحروب إلى إشتراك في الأسهم وبيوت المال والدبلوماسية) وما يُسمى “أوقاف” لم تكن قط لإطعام الملائكة وزوار السماء، بل لملء كروش عادية، وكذلك الأمر مع الأحكام الإلهيه (الشريعة) فهي تصوّرات “علمانية” سنّها المجتمع الأبوي وخضعت دوما لتأويل وتمويه لضمان ديمومة السلطة والملكية، فلماذا تُقطع يد السارق وتُرجم الزانية إذا كانا سيصليان بنار جنهم؟ (الإكليروس يشكّ أصلا بوجود الآخرة!) فالنص المقدس في جوهره ليس أسئلة ميتافيزيقية، إنه وثيقة تعيين إداري لهذه الطبقة، تضمن لها وساطة “تجارية” مع السماء مقابل عيش رغيد يخلو من الكدح.

إن تطور مفهوم العلمانية كمصطلح أوروبي جاء في سياق الفصل بين سلطات دولة (تمثل قوى برجوازية مُقبلة) وكنيسة (تمثل قوى إقطاعية مُدبرة) بيد أن هذا الفصل لم يكن قطيعة نهائية مع ثقافة وقيم متراكمة، فأحفاد الثورة الفرنسية أنشؤوا أيضا الكنائس في الجزائر، والمبشرون كانوا طلائع فتوحات الجمهورية في أدغال أفريقيا، والمطارنة باركوا المدافع بالماء المقدس.
إن الفصل حدث عبر دينامية ذاتية، راكمته مؤثرات عديدة منها الإنعطافة الكوبرنيكية وتهاوي صورة العالم الأرسطي، وإضطراب تيولوجي، إرتبط بنقض/ وبقاء الناموس معا، ولاعقلانية التوليفة بين العهدين (البدوي والروماني) ما جعل التشريع الديني عبئا، إضافة لتقاليد الحكم منذ العصور الوسطى التي أتاحت لأمراء الإقطاعيين والمطارنة والفرسان تقاسم وتبادل الحكم بطريقة سلسة، بعكس المشرق الذي خضع لعصبية قبلية ونزوات السلاطين.

لذا فإن تعريب العَلمانية وإن دخل ظاهريا في جدل الدولة والدين، لكنه في العمق أزمة الدولة مع نفسها (عصبيات، تقاليد، أبوية، حكم عشائر الجند والغزاة، إستمرار إقتصاد كفاف على حافة العطش والبداوة) الأمر الذي أبطأ بلورة وطنيات متشبثة بالأرض كأساس متين للدولة.

والسؤال في هذه الحالة ما هي الدولة. وهل لها دين. وكيف؟
من المستغرب حقا أن تكون تسمية “الدولة” باللغات الأوروبية الرئيسية مشتقة من (Status) “حالة، وضع” وهذا بحد ذاته صورة للإلتباس، ورغم إجتهادات وتوصيفات
المفكرين،لا تزال الدولة بدون تعريف محدد.
والمتفق عليه أنها: تنظيم سياسي، يقوم على ثلاثية: الإقليم الجغرافي، والشعب، والسلطة الحاكمة. وبالعموم فإن شكل نظام الخكم قد خلع على الدولة صفاتها: ملكية، ديمقراطية، ديكتاتورية، أرستقراطية، تيوقراطية، شيوعية.إلخ (1)

وبصرف النظر عن أشكال الدولة في تاريخ الفكر من أرسطو ليومنا، يستوقف المرء ثلاث محطات لتحديد ماهيتها.
فالفهم الماركسي: يعتبرها “وضع” لديمومة مصالح القوى الطبقية المسيطرة وتبرير إمتيازاتها. في حين أن (état ) الفرنسية تتضمن إقتصاد السلطة المركزية، ولاحقا أضحت الدلالة تشمل: الوحدة السياسة والقانونية لكافة مواطني الإقليم.

أما دولة (Staat) ماكس فيبر فتصبح “مؤسسة إدارية” تقوم إدارتها على شرعية إحتكار العنف لحفظ النظام. وتتكون عناصرها الحديثة من اقليم جغرافي، وإحتكار العنف، وموظفين إختصاصيين، وبيروقراطية حاكمة.

إلا أن الفقه القانوني الألماني فرض نموذجا على القرن الحادي والعشرين، يُسمى (Rechtstaat) "دولة القانون (العدل الحق) (2) أو الدولة الدستورية” حيث تتكثف سلطة الدولة من أجل حماية المواطن من عسف السلطة ذاتها، وذلك بواسطة القانون، إذ إن غيابه يجعل الديمقراطية والحرية بدون معنى. وتستمد الدولة الدستورية نظريتها الأساسية من مفهوم عمانوئيل كانط عن سيادة الدستور لضمان حياة السلم وتحقيق الإزدهار والسعادة لعموم الشعب، حيث يرتكز الدستور لدولة ما على قيم (Moral) مواطنيها، وتلك بدورها ترتكز على فضيلة وصلاح هذا الدستور (3)
إن إستعادة هذه المفاهيم بعجالة، محاولة لرفع اللبس قليلا، فالدولة الحديثة لا يمكنها في النهاية إلا عكس منظومة القيم السائدة وبنية المجتمع المادية والرمزية. والسلطة الحاكمة هي أحد أضلاع مثلث الدولة. ولن تكتسب شرعيتها إلا بتحقيق مصالح شعبها (عدالة، أمن..) وحماية حدود الإقليم وثرواته.
وإستناجا مما سلف ذكره فإن ثلاثية الدولة العربية (إقليم، شعب، حكم) لا تزال مُلتبسة وهشة ومضطربة. فالإقليم يتوزع بين منكوب وقاحل، والشعب بين مغلوب وجاهل، والحكم بين مأجور وقاتل.
(رُفعت الجلسة)
هوامش:
1ـ للدعابة لابد أن نتذكر الدولة البورنوقراطية التي ظهرت في أوروبا في القرن العاشر، وتعود التسمية بسبب سيطرة بائعات الهوى وعشيقات النبلاء والباباوات على مقاليد السلطة، ويذكر التاريخ بالإسم عدة بابوات كانوا من أولاد وأحفاد تلك الخواتين
2ـ (Recht) الألمانية تعني قانون، حق، عدل
3ـ أهم مبادئ دولة القانون، هي سيادة الدستور، وإحتكار العنف، وضمان حقوق المواطنين وسلمهم، ومشاركة المجتمع المدني، والفصل بين السلطات، والشفافية، وحضور المبرر المنطقي لأفعال الدولة، وإخضاع قراراتها وأجهزتها لرقابة جهة مستقلة، وأن يكون استخدام العنف متناسبا مع الفعل
*إن رفع شعار: “القانون دين الدولة” يبدو أكثر منطقية من وصمها بصفات دينية (تتطلب منها ممارسة الشعائر والإستنجاء وغسل الجنابة)