أضواء وحوار مع القراء - تعقيبا على تعليقات القراء في الحوار المتمدن بخصوص مقالة: محنتي مع سيد القمني


نادر قريط
الحوار المتمدن - العدد: 2659 - 2009 / 5 / 27 - 10:02
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

ألفت نظر القارئ الكريم إلى أن كاتب السطور يفضّل لفظ "حوار" على "ردود" فهذه الأخيرة هي طريقة مثلى للدخول إلى قفص الدوغما اللغوية حيث الثنائيات المغلقة (خير، شر) وحيث تتلاشى نسبية الحقيقة، وهذا نوع يسقط لا إراديا في السفسطائية التي إشتهرت في أثينا القديمة والتي قامت على تعليم الشيئ ونقيضه بآن معا، وبهذه الطريقة لا حاجة للحوار إذ أستطيع شخصيا نقض كل ما كتبه المدعو نادر قريط وتفنيد آرائه وشرشحته وجعله أمثولة. والحوار يعني ترك أسئلة الحقيقة، تحوم في فضاء لغوي نسبي ورحب بعيدا عن قسر الدوغما والأيديولوجيا (لحين ظهور نبي جديد يملك مفاتيح الغيب)
وهنا أشير إلى أن مقال " محنتي مع سيد القمني" محاولة نسوتالجية تضمنت بعد الأدب الساخر لتمرير رسائل رمزية نقدية، ولم تكن نقدا أكاديميا موضوعيا وربما يكون الأستاذ "الأسامي كلام" صاحب التعليق الأول قد إكتشف بفطنته دوافع النص وما إختبأ في كيميائه الداخلية عندما قال ما فحواه: إن الحالة المصرية بعد حرب غزة تحتاج إلى وقفة جادة لفهم التوجه الإقليمي الشديد الذي يشق طريقه، والذي بدأ يسحب بعض القامات الفكرية العالية إليه.
أجل هذا كان دافع النص، وربما كانت حرب غزة (على مستوى الخطاب) قد ضغطت الحالة النفسية لبعض النخب المصرية المثقفة بشكل إستفزازي أخرجها عن طورها ولباقتها أحيانا، هذا الكلام أجزم به فعلى المستوى الشخصي حفلت مراسلاتي مع بعض المثقفين الأفاضل بنزق وعدائية دفعت أحدهم ليكتب ما معناه: نحن مصر العظيمة وطريقنا إلى أوروبا، وأنتم مجموعة من البدو الهمج، ولا شأن لنا بمشاكلكم (فكّوا عن سمانا وحلّوا عن ط.) فالعراق وفلسطين بالنسبة لنا مثل كمبوديا وغوتيمالا؟؟
هنا إسمحوا لي أن أفكك هذا الخطاب وأعرض إلى منهج الأستاذ القمني الملتبس:
لاشك أن أدبيات القرون الوسطى حفلت بتوترات عربية مصرية، فهناك زاوية مظلمة نظرت إلى مصر كجارية (رمزية هاجر، وماريا القبطية) وإعتبارها أحد الأمصار التي حكمها وأذلّها العرب..وهناك أيضا مضامين جديدة عكستها مفاهيم الدولة الوطنية، التي أضافت فخر مزيف وأمجاد تعود لعالم الحفريات والأركيولوجيا، وكما أسلفت أننا جميعا لا علاقة لنا بذلك الماضي السحيق، الذي إكتشفه شامبليون وبارو وغيرهم .. فمصر في الحقيقة مركب من الدلالات التاريخ ـ سوسيولوجية .. فهي كانت محكومة (كباقي المشرق العربي) من سلالات غريبة بدأت بالبطالمة، الرومان، بيزنطا، بني أمية، الطولونيون (وهم قونجق من العائلة التركية)، الفاطميون (أتو من مهدية تونس بجيوش من الأمازيغ والصقالبة والعبيد.. ولم يكن معهم عرب غير النخبة؟) إلى صلاح الدين الكردي، ثم المماليك.
لذا فإن جمال عبدالناصر هو المصري الأول الذي حكم مصر بعد غياب دام أكثر من ألفي سنة..ولو نظرنا إلى تلك السلسلة وسألنا: متى حكم العرب (راكبو النساء) سنجد انها الفترة الأموية وأول العباسية فقط وهي مؤكدة نسبيا في الوثائق والقرائن (مع غياب تام لعصر الفتوحات؟) أما ما تبقى فهو حكم سلالات غريبة (مع إعتقادي بأن حقبة المماليك ومحمد علي هي حقبة ذهبية لكيان مصري وطني حقيقي) هنا تلتبس دلالات خطاب القمني وتخلط بخبث متعمد بين العرب والإسلام .. فالعرب عنده هم أجلاف وغزاة حفاة أكلو الضب..مع أنهم موجودون قبل الإسلام بقرون عديدة (يكفي مراجعة أنطولوجيا الأب شيخو ومعرفة أن كثير من القبائل العربية كانت نصرانية) وهم أمة بنت ممالك سابقة للإسلام (الحضر، تدمر، الأنباط، الحيرة، الغساسنة..) إذن القمني يقول للبنت كي يُسمع الكنّة.. ويقصد بالعرب ضمنيا الإسلام ..وهذا يوقعه في تناقض إشكالي عميق. لأن هذا الإسلام في جوهره ليس قصائد بدوية ورعاة إبل وحسب، بل تلاقح لأمم المشرق وثقافاتها وإلا كيف يفسر لنا وجود إبن المقفع والجاحظ والبيروني والطبري والفلكي الفاطمي الشهير ابن يونس (أطلق إسمه على إحدى مقاطعات القمر) .. فالإسلام في جوهره (السني والشيعي) ليس نتاجا صحراويا وشوكا وإبلا فقط، بل تمظهرات لثقافة الهلال الخصيب وفارس، التي شاءت أن توّلد في رحم عربي. هذا ماتذهب إليه إتجاهات البحث التاريخي المابعد حداثي. وعلوم نقد الأديان وبحوثها المقارنة.
لكني أعتقد أن الأستاذ القمني يرثي ضمنيا حضارة الأنتيكا الهلينية الرائعة (ربما كطريق ممهد لعضوية الإتحاد الأوروبي مستقبلا) وهي بالفعل حضارة عقلانية زاهرة دمرتها غوغاء أديان التوحيد (معظم الأديرة والكنائس والجوامع تم نهب حجارتها وأعمدتها من آثار الأنتيكا) أسف لهذا الإسهاب لكنه كان ضروريا لفهم بعض من إشكاليات الهوية التي ضغطت بما لا يُطاق على المثقف العلماني وجعلته يخلط الحابل بالنابل .. فتذوب مصر الحديثة مع القديمة (الآركيولوجية) مع إسلام الأفغنة والوهبنة مع لعبة وإملاءات السياسة، في هلام مضطرب، لأن مصر حقيقة هي جزء مهم في كيان عربي كبير، وربما تكون من البلدان القليلة التي لا تحتوي على أقليات عرق ـ لغوية عدا العربية (ربما النوبية؟)
وبمحض الصدفة وصلني الآن مقال للصديق الشاعر مهدي بندق بعنوان: الولاء لمصر وحدها ولو كره الفرس المعاصرون. وأيضا يبدو لي النص قد خضع لضغط اللحظة وزفرتها الآنية، لكن أصدق قوله بأن التاريخ لا يتكرر حافرا بحافر ..رغم أني لا أتفق مع دلالاته. فالملامح الواقعية تشير إلى أن إيران اليوم تشبه فارس خسرو الثاني الذي دحر هرقل وإحتل بيت المقدس 614م ثم إحتل مصر عام 618م عندما كانت عزبة (تركة) بيزنطية، ولا أدري إن كان عليه تلاوة: غلبت الروم في الأرض .. ليجد العزاء مع تحيتي له.
بعد هذه النقاط المهمة أنتقل إلى كوكتيل من الحوارات القصيرة مع السادة الذين تفضلوا بترك إمضائم: وأتفق بالمعني مع عاشق المشرق الأستاذ أبو هاجر .فهناك إستبداد يُقترف أيضا بإسم العلمانية (أو العلمانوية) وهذا أعرفه من تجربة الجزائر. لهذا أنتقل إلى مفهوم "الإسلاميين" لتوضيح القصد وهو جزء من الحوارية مع الأساتذة "مختار ، صلاح يوسف، محمد الخليفة، ساري وآخرين"
كما يلتبس علينا مفهوم الليبرالية كذلك يضيع مصطلح "إسلامي"لنضيع معه في غيبوبة وهذر كلامي .. فما المقصود به: إسلام سياسي؟ ماهو؟ إسلام القرضاوي، الوهابي، الظواهري، حزب الله، حماس، الترابي، حزب أردوغان؟؟ كل هذه إشكاليات مركبة، لكن الواقع البراغماتي لدهاقنة الإعلام المعوّلم قام بتعويم هذا المصطلح. ومارس إزدواجية خطيرة في تعبئته. ثم تقديمه وجبة يلتهمها السذّج وأحيانا المثقفون.
أليس حكام العراق الحالي هم أحزاب إسلامية أتى بها الأمريكي من وراء الحدود ومن مقاهي السيدة زينب بدمشق (حزب الدعوة، ، المجلس الأعلى، الحزب الإسلامي..إلخ) ثم شرعن حكمها بأصابع بنفسجية؟ ألم يقم أيضا بشرعنة أحزاب قبلية في شمال العراق وتعميدها ديمقراطيا بماء الروح القدس الأمريكي؟أين المشكلة ولماذا حلال هنا حرام هناك فإذا كانت الأم الرؤوم أمريكا، تُنشئ أنظمة ولاية فقيه (أي تخضع لشروط الغرائز العصبوية السابقة للدولة) فلم يُستبعد الإسلاميون في دول أخرى؟ ولماذا تُلعن حماس التي جاءت بأصابع بنفسجية أيضا؟ أية إزدواجية قبيحة تلك، ولماذا يريد السيد مختار فرض شرط علماني قسري يستبعد الأغلبية؟ ربما حجته الوحيدة هي ضلوع هؤلاء بالعنف؟ أو ما سُميّ مجازا "الإسلام الإفغاني بالجزائر" وهذه إشكالية بحد ذاتها لأن العنف ذو طابع انتربولوجي يرتبط بمجتمعات "قانون الدم" وشبكة العصبيات وهي ظاهرة ذات جذور مسيانية تدفع الفرد لفداء جماعته وقبيلته ولا ترتبط بسذاجة حور العين (وهذا جوهر العنف في فلسطين والجزائر والعراق) وهو مركب موروث من الدماء الغزيرة التي دفعها الجزائريون أيام حرب التحرير، وبهذا المقام أتذكر مقولة أحد علماء المجتمع الفرنسيين، الذي وصف الفلاح الجزائري بالشهامة والكرم والطيبة وهو يقري ضيوفه ويقدم لهم أطيب غلاله، لكنه سرعان ما يتحول إلى قاتل إذا مُسّت كرامته وإنتهك شرفه.. لقد بكيت مرة على تلك المجزرة الوحشية المروّعة التي أودت بحياة ألف قروي جزائري من الأطفال والنساء ذبحوا بالسكاكين مطلع التسعينيات، وللصدفة كانت تلك القرية على مرمى حجر من معسكر للجيش؟؟ معنى هذا لا داعي لفتح الملفات .. فعنف الجنرالات الفرانكفونين لا يختلف ببشاعته عما إقترفه الأفعان العرب ولا يساوي مثقالا مما إقترفه ضابط فرنسي، عندما حصد أربعين ألف جزائري أعزل في يوم واحد، كما هو معروف في تلك الواقعة المأثورة من أيام الجزائر؟
أما الأستاذ ساسي دهماني الذي كتب تعليقه بالفرنسية، وحسب فهمي المتواضع للغة، فأشكره على المساهمة الطيبة ولا أنكر قط أن الشعب الأمازيغي جزء أصيل من هوية المغرب الكبير، وله سماته اللغوية، ورغم المعرفة المتواضعة بواقع الحال، أسمع بين الفينة والأخرى عن حضور فرانكفوني في مناطق القبائل، لكن لا أدري مدى صحة قولك بأن الأمازيغ علمانيون تقدميون؟ فحسب معرفة انتربولوجية بسيطة أظن أن هذا الشعب لا يزال يخضع لشروط "قانون الدم" القديم وعصبياته ولا يختلف كثيرا عن عموم محيطه.
الأستاذ الكاتب خالد صبيح: كم يسعدني أن نتحاور فيما تراه تجريديا، وهل تعتقد أننا نملك غير الحوار طريقا، أشكرك على الثناء وأتعهد لك دائما بالمثابرة على لغة سلسة
.الأستاذ علي: في تعليقك الأول عن الطاووس هناك بعض الإبهام، سببه بلاغة عربية قديمة لا تسلك أقصر الطرق، لكن لو سمحت لنفسي بالتأويل: فأنا شخص بسيط مهندس مدني منتوف الريش ولست مؤهلا لأي دور طاووسي، وشكرا لك على التعليق الثاني الذي وضع اليد على الجرح .. فنحن بحاجة للنقد (ونقد الذات) وهو يختلف نوعيا عن السجّال والملاسنة.
السيدة تهاني: أعرف أن الأستاذ القمني هو أيقونة بني ليبرال (إصطلاح قمنوي) وأعرف أن مشكلتنا تعود للتفديس فكل قبيلة لديها أيقونتها، لكن بعض الشواذ من أمثالي لا يحبون عبادة الأصنام وينزعون دوما لنزع سحر المقدس. ولا أظن أن باحثا مرموقا كالقمني يزعجه نقدي (فهو أرفع من ذلك)الأستاذ صابر: لا أدري أين عثرت على مديح صدام حسين، ولا أدري لماذا تخشون الحقيقة، فالعراق تم تدميره وسحقه في مشروع الفوضى البناءة الأمريكية والهيجان المذهبي.. وبما أني تكلمت عن البكاء للسيد مختار، أعلمك بأني بكيت بالأمس وأنا أقرأ ما كتبته الشاعر المبدع إبراهيم البهرزي: عن طفولة فوق المزابل، وعن ملايين الأطفال المشردة، وبكيت قبل أسبوع عندما علمت أن بصراوي يبيع إبنته ذات الأعوام الثلاثة لإنقاذها من الجوع.. وبكيت على سقوط جسر الصرافية، وبكيت على أكثر من ألف شيعي سقطوا من جسر الأئمة. وبكيت عندما دُمرت قبة العسكري في سامراء 2006 .. حينها قلت في نفسي: فعلها الخبثاء (مهندسو الجينوسايد) وكم من الدماء ستجري بسببها؟
وفي هذا السياق أفهم قصد كلمات الأستاذ محمد عبد القادر الفار .. عن ربط النقد الديني بالسياسة، فمن يكتب هو بشر تحترق أصابعه بلهيب الحدث. وكل نص كتابي لا تحكمه قواعد الضمير هو تجارة خسيسة.. لهذا فإن التساهل مع بعض الأطراف السياسية ليس قصده دعم الطغيان، بل الإبتعداد عن لعب دور حصان طروادة لتمرير جرائم وويلات ونكبات في بلادنا ذات الفسيفساء المتداخلة، لأن كل كلمة يمكن أن تُوظّف لصالح هندسة المحرقة. أشكرك أستاذ محمد على مساهمتك المثمرة والغنية وعلى الثقة فأنت بالتأكيد مثقف لمّاح، والأيام القادمة هي لك ولأمثالك من الشباب اللامعين.
ولكل الأساتذة الذين تفضلوا بكتابة الثناء " وائل إلياس، زاغال ، والأخت الفاضلة جوليا، و ريبوار كريم، والعقل زينة، والأستاذ نشري) أشكر لكم الثقة وهي دعم معنوي كبير. وأخبركم بأني أصاب بالحرج عندما أوضع في قائمة باحثين كبار من أمثال محمد أركون أو فراس السواح وغيرهم، فأنا مجرد كاتب يجتهد يالرؤية ويحاول أن يتلمس الطريق، في ضوضاء وزحمة الكلام، والأمل الحقيقي يكمن في إستعداد النخب المثقفة والحاكمة لصياغة مشروع تربوي تنويري يتم غرسه في الأجيال القادمة.
وهنا لا أنسى أن أقدم الشكر الجزيل للأستاذ نادر علاوي على ثقته أملا أن أكون عند حسن ظنه دائما. وأرجو من خلال ما تقدم أن يعثر الأستاذ "قارئ" على بعض الإجابات لتفسير الدوافع النفسية للنص السابق، بعيدا عن صراع العقبان والحمائم وتصوّرات النشوء والإرتقاء.. وبنفس الوقت أثمن لغته الإنكليزية العالية (وهذه شهادة مجروحة من شخص يمتلك إنكليزية ذات أكمام قصيرة)
وتحية للصديق جمال بن عبدالجليل وهو أستاذ مختص بفلسفة القرون الوسطى، وصاحب أطروحة دكتوراة عن الفلسفة الرشدية والميمونية (إبن ميمون) في السياق العربي اليهودي الأندلسي. وأشكره على مداخلته وإثرائه الموضوع
وأخيرا أتوجه إلى السيد سالم الذي نعتني بالدونية وأعطيه الحق جزئيا، أجل من حق الإنسان الطموح وتحقيق الذات وأن يشرئب عنقه (حلوة يشرئب) في عنان السماء (عنان كلمة آرامية تعني غيوم) لكن الإنسان أحيانا يسقط في المحظور بسبب ضغوطات لحظية، فيضطر لنقد من لا يستحق نقده .. لقد كانت مرحلة خاطئة وأعدك بأني لن أتعرض بالنقد إلا لأساتذة أجلاء من أمثال القمني وشكرا