نوستالجيا (محنتي مع سيد القمني)


نادر قريط
الحوار المتمدن - العدد: 2657 - 2009 / 5 / 25 - 08:12
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

لم أعد أقرأ القمني كسابق الأيام، صرت أكتفي بتأمل صورته أعلى المقال، فهي تشي ببعض المرح والتجهم بآن معا،..وقبل المغادرة، أنزل إلى كعب المقالة لأتفقد التعليقات وأستعرض حرس الشرف وجماهير المهللين والمبجلين، وبطريق العودة أتفقد رقم التلفون، الذي يُحرّم المكالمات أيام الخميس والجمعة، فهذان اليومان يذكراني بأفلام مصرية تتخللها لقطات زغاريد، وبهجة وعصير (شربات) وسيدة عرمرمة تقول: كتب الكتاب والدُخلة الخميس اللي جاي..؟



المشكلة ليست مع الأستاذ القمني بل مع القراءة في النت. فأيام زمان كانت طقوس الكتاب أكثر إمتاعا، وأغزر متاعا. ومعذرة لهذه المقدمة المازحة فكما يقول المأثور: المزاح جدّ، إذا استُجلب ليكون علّة للجدّ.
قبل عقدين إكتشفت كتاباته فنهشت معظمها كجائع شره: الحزب الهاشمي، حروب دولة الرسول، الأسطورة و التراث، شكرا بن لادن، أهل الدين واليمقراطية، وقبلها النبي إبراهيم، ولا أزال أتذكر مرافعته الجميلة في "رب الزمان" وتعقيبه على خطاب إسحق شامير، في مؤتمر مدريد، ووصفه قيام إسرائيل: ببصقة (أو عار) على جبين الإنسانية.



الكتب الشيقة تسافر بالإنسان إلى عوالم أخرى، فهي نعم الجليس رغم ضيق الحيز الذي نقرأ به.. وأحيانا يضيق أكثر فأجد نفسي أقرأ في التواليت، (ليس الشرقي فهو مقرف ولا يتمتع بأريحية وبحبوحة الغربي) وبما أننا فتحنا هذه السيرة، أتذكر أن القمني كتب عن شروط الإستنجاء في الإسلام، وأعلمنا مشكورا أن إسم حنفية الماء مشتق من مذهب الحنفية (نسبة لأبي حنيفة) الذي أجاز التشطف بالماء، رغم أنف المذاهب الأخرى، التي كانت تصرّ على الحجر الطاهر القالع؟؟ ولا أزال أجد متعة في جملته الشهيرة حول غزوات العرب وفتوحاتهم ، وربطها بركوب النساء.. فهي تحتوي على تصوير ذكوري فياغري للعصور الإسلامية.



ليس النت وحده مشكلة ؟ فقبل عقدين كنت ساذجا أصدق كل ما يُكّتب؟ الكتاب كان يفرض حضوره، وإلا لما تجشموا عناء طباعته وتكاليف ورقه. لذا صدّقت كل شيئ لغياب روح النقد، وبسبب إيمان أعمى بدرس التاريخ.. حتى كدت أصدق الكتب المقدسة (تصوّرا)؟؟ بعض المرات تخيّلت يشوع بن نون، يقف وسط قبائل الأسباط ويوزع عليهم أرض الميعاد الممتدة بين الهضاب الجبلية ليهوذا جنوبا وسهول يزرعيل شمالا. وأخذت أرسم على الورق أماكن نزول سبط منسي وبنيامين وغيرهم.. والحقيقة لم أكمل يوما هذه الكتب، فسرعان ما ينتابني الملل من تكرار الأسماء وأنواع القرابين والطقوس المعقدة.. أيضا قرأت القرآن متقطعا وكنت أفتحه كيفما أتفق، فكل الصفحات متشابهه، لكني أجبرت على سماعه عنّوة، من الراديو وسيارات الأجرة ومجالس العزاء، دون أن أنتبه قط لمعانيه، إذ إكتفيت بميلوديا الترتيل والتجويد، ومشاهدة إحتقان وجه عبدالباسط عبدالصمد وإزرقاقه



الأنجيل أيضا قرأته بسرعة كمن يستحم بماء مثلجة، وكم أضجرتني رسائل القديسين إلى كورنثوس وملاطيا وأفسس فأتثاءب وأنام. طبعا مع إعجابي الشديد بالروح القدس الذي حلّ بالتلامذة بعد يوم العنصرة فطفقوا يبشرون بكل لغات العالم (رائعة كلمة "طفقوا" فطفقت لإكمال قراءته دون جدوى) ... أيضا الكتب الحمراء فقد قرأتها في الفتوّة دون أن أفهم الكثير منها، وأحيانا لم أميّز بين المناشفة والبلاشفة..فأضطر للسؤال أي من الفريقين هم جماعتنا. ومازلت أحفظ بعض تلك الأسماء المقفاة ب فسكي وفسكايا وأوف (يا ليل).



كل هذا سردته لأخبر بأن القمني كان يفتح شهية القراءة، رغم إنسدادها في الآونة الأخيرة.
المشكلة لم تكن مع درس التاريخ وحده، بل مع الهوى والشباب، وما يعمي حقائق الحياة، أنذاك كنت مأخوذا ببطولة العظماء، وسجايا الملوك والأنبياء، مع أنهم بشر تأكل وتشرب وتتجشأ، لهذا صدّقت كل شيئ تيمنا بما قاله مجنون ابن عامر:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى
فصادف قلبا خاليا فتمكّنا



لذا حفظت كالأعمى قصة عبدالرحمن الداخل الذي هرب من رصافة الفرات حوالي 750م كآخر عنقود في بستان هشام، وإجتاز أفريقيا والمضيق، وأسس قرطبة!! وكم كنت مغرما بهذه الشخصية التي أطلق عليها أبو جعفر المنصور لقب "صقر قريش" ومازلت أحفظ إسم الجارية التي أهديت له قبيل مغادرته شاطئ الشام إلى مصر ؟حينها كان زهو الشباب يدفعنا لتصديق هذه البطولات الفردية الخارقة. ولم نتساءل قط كيف أسس قرطبة بمفرده، مادمنا نعجز عن دفع أجرة الشقة التي نسكنها؟ ربما يكون الشاعر بريخت فتح أفقا جديدا للمعنى عندما سخر قائلا: الفراعنة بنوا الأهرامات، الإسكندر فتح العالم، نابليون إحتل أوروبا وطرق أبواب موسكو؟ بمفرده!! ألم يكن بحاجة لطباخ يطهو له طعامه؟



إن غياب حس النقد المرهف، جعلنا نصدق ما أذاعه التاريخ من حكايا. فالحقيقة غائبة، وصقر قريش جزء من حكاية وعشق الناس للبطل الميثولوجي المُخلّص وما يُلّهب الخيال. فالتاريخ ليس أكثر من قصيدة شعرية لتمجيد الذات ، وصرخات بعيدة للنخوة والفخر بالقبيلة.. وكم كانت الصدمة عندما أيقنت أن فتح الأندلس قصة أذاعها الرواة، وما جرى في تلك الأزمنة السحيقة يختلف عما عرفناه لاحقا.
أيضا فتوحات الشام والعراق ومصر وفارس، جرت بصورة أخرى. وربما أصاب الراحل سليمان بشير في "التاريخ الآخر" عندما إكتشف أن الأمور جرت بطريقة مقلوبة!! فالأمراء الدمشقيون (الأمويون) هم من فتح الحجاز، وأخضع القبائل المتمردة. تماما كما فعل إبراهيم باشا في القرن 19 عندما ذهب وأدبّ وهابية الدرعية، وهنا يعتقد بشير أن حروب الردة، وموقعة الحرة وغيرها ما هي إلا صدى لحملات تأديبية قادها الأمراء الشوام ضد قبائل متمردة أو بقايا لنزاعات منسيّة،
فدولة المدينة في الحجاز لم تملك القاعدة المادية والعسكرية لتكون عاصمة تنطلق منها الجيوش وتحتل العالم ولا تملك فرنا عاليا لتصنيع السيوف ولا مراعي لتربية الخيول، ولا نقودا لشرائها..إنها حكاية لطيفة لا أكثر، فالحجاز منذ القرن السادس ميلادي، ومنذ إنسحاب الحاميات البيزنطية عن خط اليرموك في الشام (قبل ظهور الإسلام بقرن تقريبا) عبارة عن ولاية بسيطة، يُديرها أمراء الغساسنة في سوريا، بعد أن منحتهم بيزنطا لقب: حاكم عام Patricius (لقب بدأ قسطنطين بمنحه لمقربيه الكبار) وهذا اللقب يقترب من المصطلح الآرامي "كالفا" والعربي "خليفة" أو نائب القيصر.



أجل لقدقرأت القمني، بإعتباره نموذجا فرديا يتحدى بمشروعه الفكري، إسلاما سياسيا فتح له السادات وآل سعود خزائن البترودولار، وساهمت السي آي إي بولادته فبل حرب أفغانستان 1979 وأثناء إستعدادها للناصرية والشيوعية برباط الخيل.
في ذلك الوقت بدا لي القمني يتصدى بمفرده لشخصيات كارزمية أزهرية مدججة باللغة والموروث. بدا لي إنسانا كبيرا بدفاعه عن حق الأقباط بالمساواة والمواطنة.. فإزددت عشقا لأرض أم كلثوم والشيخ إمام.. أما الآن فقد فسد هذا العشق، وأصبحت أحمل حقائبي هربا، من وعثاء الشوراع التي يتربص بها الثعبان الأقرع في كل زاوية، ويترعرع فيها القبطي على فنون المواربة وإحتكار ملكوت الأرض والسموات والنقاء وإتهام الآخر بالهرطقة والبداوة. لقد أحسست أن مصر تتضخم بدون ذات وطنية جامعة، فالمسلم يطوف حول (أوثان) الكعبة والمسيحي يعبد (أوثان) صليبه (إقتباس بتصرف من جلال الدين الرومي)



وإختصارا للشيطان الرابض في التفاصيل، أود التمييز بين النقد والسجال.. فالنقد يعني ببساطة طرح رؤية أخرى ونسق فكري يطوي ما دونه من رؤى، بما يدّخره من محتوى وقيمة مضافة.. أما السجال فهو ملاسنة بين ثنائيات لخّصها المعري ببيت شعر عبقري:
وتعتري النفسَ إنكارٌ ومعرفةٌ
وكل شيئ له نفيٌ وإيجابُ



وإعتمادا على تلك الثنائيات، فإن السجال هو أسهل أنواع الفكر، ولا يدمنه إلا الكسالى (وهذا ما أفعله؟) فقد مارسته الملل والنحل في القرون الوسطى، وكل واحدة إنطلقت من يقينها ودوغماها وغنت على ليلاها، أما أسوء ما في السجال فهو لجوءه لإقتباسات مغلقة داخل أقواس، وهي وإن كانت شرا لا بد منه، إلا انها مرض زعاف، يبتر رؤية الآخر ويبتزّها (إذ لا قيمة للمعلومة بدون سياق وإطار شامل للرؤية)
أما الجانب المهم في السجال فهو قدرته على الإستفزاز وشحن النفوس، وهذا يعود إلى ولع الناس بالمراهنة والمضاربة، تماما كما يحدث في مباريات كرة القدم أو مباريات فيصل القاسم .. عليه أرجو المعذرة فلن أقتبس (حرفيا) إلا في سياق عام للمقولات، ولن أفسد الطابع النوستالجي لهذا النص:



القمني كما أراه الآن، تحوّل من مفكّر إلى مُفكّر بأمره. ومن صاحب مشروع إلى سجّال بدون موضوع، فهو يبحث في الأرثودوكسية عمّا يطربه، ثم يبدأ صولاته وجولاته متخذا من مقولات: حاكمية الله، والخلافة وشعار الإسلام هو الحل، وما يتغرغر به الإسلاميون، ذريعة للهجوم على كائن إفتراضي. لأن تلك المقولات تحمل بذور فنائها بداخلها، ولا تستحق جدلا من حيث المبدأ، فالإسلام التاريخي بجوهره إسلامات وثقافات عديدة تكيّفت مع بيئتها. والخلافة لم تكن يوما إمبراطورية مركزية، بل ولايات متنافرة ومتنابذة، والإسلام لم يكن قط فقها ودستورا يفصّل الحياة (إلا بتمظهرات عصرالميديا والقرضاوي) بل جزء من الثقافات المحلية ونظام العصبيات السائد، وكان الناس يتسللون دائما من شروط الدوغما والفقهاء، ويعيشون حياتهم (آخر حلاوة) حتى تحريم الخمر لم يمنعهم من السكر والعربدة. ولو أن ماء دجلة كان نبيذا، لجفّ قبل وصوله المدائن. فالتاريخ لايرجع القهقرى إلى ماض خيالي حكمته يوتوبيا النقاء والصلاح.



القمني أسرف بجدال السلفيين في مقولاتهم، وأخطأ عندما إعتمد روايات سمجة من الموروث الإسلامي وإستخدمها أدلة دامغة. وكأن لسان حاله يقول: ها أنذا أعيد زبالتكم وأضعها قدام بيتكم. وهنا أقف عند مثال تصويري سبق أن ضمنته إحدى منشوراتي:



في كتابه المتأخر: أهل الدين والديمقراطية، شعرت أن مناكفاته مع الإسلاميين، بدأت تنحو بعيدا عن المنطق، وبدت آراؤه مشحونة بالعصبية والتوتر والسطحية. رأيته يستنجد بنفس الموروث والقصص الأسطورية، التي يستخدمها خصومه السلفين، وينبش نفس الحكايا التي تزكم الأنوف. فعلى بعض صفحات كتابه المذكور يعيد علينا تفاصيل، قصة من قصص الفتوحات المبكرة للعراق، التي كان خالد ابن الوليد بطلها والتي تروي قتله لآلاف من نصارى العراق؟ وملخص الحكاية، أن النصارى نكثوا بوعدهم، فأقسم خالد أن يسيل دمهم أنهارا، ولكي لا يحنث بقسمه، جمعهم وأخذ يجزّ رقابهم، لكن دماءهم لم تكن تجري بسبب تخثرها على الأرض، فاستمر الذبح حتى هبّ أحدهم بالمشورة، فنصحه أن يفتح ماء النهر، فتجري بدمائهم، وهكذا يبرّ بوعده وقسمه، وبلاغته الشعرية. والسؤال: هل تقصّى القمني مثل هذه الروايات البدائية الساذجة؟ أوليس من واجبه كباحث تمحيص الروايات قبل أن يتخذها حجة بوجه خصومه؟ ألم يتساءل من أين لهذا الأعرابي، الذي قطع الفيافي بمعدة خاوية، القوة لبتر رقاب الآلاف، وأية سيوف مرهفة تلك التي صنعتها تكنولوجيا قريش لتقوم بالمهمة؟ سبعون ألف قتيل يا للهول؟ إنه رقم يفوق ضحايا القنبلة النووية على ناكازاكي؟ ، هل كانت تلك الآلاف المؤلفة من نصارى العراق خرافاً تساق للذبح؟ كيف حدث ذلك، ونحن نرى بأم أعيينا اليوم، بضعة آلاف من قبائل العراق، وهم يدوّخون أمريكا وترسانتها الحربية؟ فإذا كان الإسلام المبكر بهذه الوحشية والدموية، لماذا بقيّ النصارى حتى عام 1860م يشكّلون نصف سكان دمشق القديمة (مركز الخلافة الأموية ) والموارنة نصف لبنان؟ واليونان والأرمن الأرثودوكس واليهود شكّلوا نصف سكان استانبول لغاية مجيئ العلمانية الكمالية؟



صحيح أن القمني لا يجرؤ على نقد آية قرآنية واحدة (لأسباب يقدرها المرء) فهو ليس مجهولا ولا مختبئا في غابات كندا وواشنطن (دي سي) وفيينا أو متواريا في ضباب لندن. لكن كلمته بدأت تقتصر على الجدل الصاخب بدون رؤية نقدية بديلة.
وفي الآونة الأخيرة بدأ يستأنس بظلال القوة والسلطة، ويستأسد على الضعفاء، وأصبح لا يرى مشروعا إلا بقمع الإسلاميين وإقصائهم، ولا يرى خلاصا إلا بالليبرالية دون أن يعلمنا ما هي ومن تكون وبأية هراوة سيتم الإقتراع عليها وكيف سيتقبّل "حادي العيس" هذه السيمفونية؟ لهذا السبب أصبحت كتابته تضجّ بالمتناقضات الفاضحة: فهو يشيد بنموذج ولي الفقيه "السيستاني" ويعتبره غاندويا (من غاندي) مسالما ونابذا للعنف وهذا يتناغم طبعا مع الرضى الأمريكي، الذي أصبح بوصلته. والسؤال: هل يقبل بولي فقيه أزهري؟ أم أن العراق أصبح حائط نصيّص (واطئ)



وبنفس الوقت ينقضّ على سعد الدين إبراهيم مقرعا إياه بتهمة الأسلمة السياسية، علما أن الأخير يدعو لمصالحة مع الذات وأنسنة وعصرنة الإسلام على الطريقة التركية أملا في الخروج من عنق الزجاجة.
في مقالاته الأخيره يضرب القمني على وتر الوطنية المصرية بكثير من المغالاة؟ وقد لفت نظري، ما إختبأ بين سطوره، عندما تناول مثال العراق فوضعه مع الصومال في سلّة واحدة (مع تقديري طبعا للصومال ولقراصنته).. وكأن العراق جدير بما حلّ به من نكبة وترويع وقتل، فهو ضمن دائرة الهمجية والعصبيات المذهبية والبدوية، بعكس مصر بلد الملك "مينا" مُوحّد القطرين والتي تمد جذورها في المدنية والدولة لما يزيد عن خمسة آلاف سنة؟؟ وكأن العراق لم يحتو قط على حضارات كبيرة قدمت للإنسانية روائع الإبداع.
وبغض النظر عن هذه المزايدات الشعرية، أجد أننا جميعا سواء في العراق أو مصر أو سوريا أو شمال أفريقيا لا شأن لنا بحضارات دارسة، ذهب أثرها قبل آلاف السنين، لأننا جميعا ننتمي ليومنا وللعصر العثماني أو المملوكي كأبعد تقدير. فالحضارات الرائعة التي نتحدث عنها هي إكتشاف أركيولوجي من القرن 19 والقطائع اللغوية والابستمولوجية تفصلنا عنها تماما، فهذه الأجيال رغم تمتعها بهويات وسمات وطنية محددة، إلا أن فضاءها العقلي إرتبط بنيويا بموروثها اللغوي الديني.



حتى القمني نفسه لا يمت بصلة لتوت عنخ أمون، بل إلى حضارة سيبويه والجاحظ (وكلاهما للأسف من البصرة، ولا شأن لهما بركوب النساء) وينتمي إلى جيل طبعته أيضا ماري منيب والريحاني وبيرم التونسي وجورج أبيض وفيروز والقباني. وكثير من العرب الذين ساهموا في النهضة.
ليس القمني بمفرده، بل البابا شنودة نفسه ينتمي للعربية (وجود بالقوة كما يقول أهل الفلسفة) ولا يقدر أن يقرض شعره الجميل وقصائده الصوفية إلا بلغة القرضاوي؟
ثم ألا يحق لنا أن نسأله أيضا عمن قوّض الدولة العراقية وجعلها مشاعا للنهب ومن فتح أبواب متاحفها للسرّاق والحواسين، وترك مليونين ونصف يتيم بدون مأوى (تصريحات المستشار الدباغ) ومن أيقظ الوحش الطائفي، وأسقط الجمل من السقيفة؟ أكيد وحسب القاموس الديك تشيني فإن المسؤول عن الخراب هم الأقانيم الثلاثة (صدام ، البعث، القاعدة)



لكن المتنورين كالأستاذ القمني لابد عرفوا أن الدولة العراقية على مدار سنواتها الثمانين كانت علمانية نسبيا (وتجيز الكونياك اللذيذ؟؟) وأنتجت نخبة رائدة في مجالات المعرفة والفنون وآلاف المبدعين وحملة الدكتوراة، ناهيك عن إحتضانها وضيافتها لملايين من بؤساء الريف المصري ومنكوبي هوامش المدن. فهل يشطبه المرء بجرة قلم، ليُطرب نفسه بوطنية (أمن مركزي) زائفة ومتقزمة، وأكثر قبحا عن طزات مهدي عاكف؟



في الختام، وبعيدا عن القوقأة والصوصأة وشحيج السياسة، لا أنكر أنّي تمتعت يوما بلمحات تنويرية سطّرها القمني في متون كتبه. فجمال الكتابة يفتح الشهية للمزيد، رغم الملل والشعور بالتخمة. لكن لغة سجاله ليست أكاديمية كثيفة دالّة، ترضي المثقف اللمّاح، ولا ميسّرة أنيقة تُبهر الذوّاق. إنها للأسف لغة عربية متثائبة، تتحرك ببطئ على إيقاع سيارات وسط البلد (في القاهرة) وتنفث عوادمها في وجوه الناس، ولا تصل إلى مبتغاها إلا بشق الأنفس.



ملاحظة: القوقأة: صوت الدجاج، الصوصأة: صوت الكتكوت.. أما الشحيج فلا معنى له؟؟