كابوس الثورة المضادة


نادر قريط
الحوار المتمدن - العدد: 3280 - 2011 / 2 / 17 - 11:51
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

في نشوة الفرح بالثورة المصرية والتدافع للتوقيع في سجل التهاني والتبريكات، لم تغب سوريالية المشهد المصري، وما تخللته من دراما، تقلبت بين عزيمة وإصرار الشعب وطرافة ودماثة شعاراته، وبين غلاظة وبلادة النظام التي تأرجحت بين الترهيب بالإف 16 نزولا لسكاكين البلطجة (في موقعة الجمل) وفي غمرة ذلك لم يغب عن البال الصور المتوارية للأحداث وما تخبئه الكواليس. صورأو تساؤلات سبق أن تركها كاتب السطور برسم ثوار 25 يناير:

إن بيان المجلس الأعلى للجيش والقوات المسلحة، الذي منح نفسه حق حكم البلاد لستة أشهر، أمر مثيرللقلق. فهذه المدة ورغم كل التطمينات كافية لإعداد الثورة المضادة. فالكلام عن وطنية الجيش وموالاته للشعب، أمرلا جدل فيه، لكن الأهم من ذلك هو موقف قياداته العليا التي تبدو أنها جزء عضوي من النظام السياسي:

ففي كلمته المقتضبة مساء الحادي عشر من فبراير أعلن النائب عمر سليمان أن الرئيس حسني مبارك قد تخلّى عن منصب رئيس الجمهورية (فقط) وليس عن كافة مناصبه.. وهذا أمر في غاية الخطورة لأن الرئيس السابق حسني مبارك ومنذ 14 اكتوبر 1981 هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، ما يعني ضمنيا أنه الرئيس الفعلي للمجلس العسكري الحاكم حاليا .. وعندما يقوم بنقل سلطات رئيس الجمهورية إلى المجلس المذكور، يكون قد نقل الصلاحيات من الرئيس حسني مبارك إلى الفريق الطيار حسني مبارك
عليه فإن مطلب تنحي الرئيس السابق حسني مبارك عن منصبه كقائد أعلى للقوات المسلحة ضرورة ماسة وحيوية، وخطوة حاسمة لرفع الحصانة عنه وتمرير الدعاوى القضائية بحقه.

إن قرارتعليق الدستور وإلغاء مجلسي الشعب والشورى، إجراء شكلي بدون مضمون حقيقي. فهذه الأمور هي تحصيل حاصل، ناهيك عن أن الدستور والبرلمان في الأنظمة الإستبدادية، مجرد ديكورات شكلية لا قيمة لها
عليه فإن إلغاء قانون الطورائ والإفراج عن معتقلي الرأي، هو الإمتحان الحقيقي لإثبات حسن نوايا هذا المجلس العسكري (إنتهى)

صحيح أن (شخص) السيد مبارك قد غادر سدة الحكم (وإلى الأبد) لكنه لا يزال يتمتع بنفس صلاحياته السابقة، ولايزال يشكّل ملاط النظام ورافده المعنوي ومحرك خيوطه. وقد أخطأ من أسماه برأس هرم مقلوب، فالنظام الديكتاتوري أشبه بأخطبوط تشابكت أذرعه في بنية الدولة وخلخلت بناءها، فالدكتاتورية هي هرم حقيقي لعقلية إستبدادية أبوية تحتكر السلطة والثروة وتبتلع الدولة .

والمراقب المحايد لبيانات "الخونتا" العسكرية يلاحظ مايلي:

1ـ تلكؤ وتلويح بالهراوة مع إذعان غرضه إمتصاص غضب الشارع. مع بقاء الحكومة المباركية برموزها السابقة، إضافة لمؤسسات تمثل صُلب النظام كالمخابرات وأمن الدولة..إلخ
2ـ فضّ إعتصام ميدان التحرير قسرا، وذلك لشطب رمزية المكان وإلغاء حسّي لديمومة الثورة
3ـ حديث الخونتا العسكرية (والسيدة كلينتون) عن إصلاحات ووعود ببناء عملية سياسية ديمقراطية، هي محاولة لكسب الوقت وإجراء جراحة تجميلية لوجه النظام السابق وتمريربعض عمليات الترقيع وتبديل القبعات، وإضاعة الوقت في تعديلات دستورية كان قد أقرّها الرئيس المرتحل
4ـ إصرار الخونتا العسكرية على قانون الطوارئ تأكيدٌ على بقاء الهراوة الغليظة وممارسة القمع والإعتقال العشوائي لفرض الأجندة القادمة
5ـ تركيز الميديا على حرق معنوي لشخصيات بذاتها ومنع سفرهم وحجز أموالهم. جزء من خطة البحث عن أكباش فداء لتمييع أهداف الثورة التي ترمي إلى إقتلاع النظام برمته
6ـ حديث الميديا عن غيبوبة الرئيس السابق وكآبته وإمتناعه عن تناول الأدوية، إستدرار للعطف وتأكيد لغيابه من المشهد بما يجافي الحقيقة.
7ـ طلب الحكومة الحالية من بعض الدول تجميد أرصدة بعض المسؤولين الكبار (بإستثناء مبارك وأسرته) دليل قاطع على أن الأسرة وحاشيتها من المؤلفة جيوبهم لازالت تمسك خيوط اللعبة

سباق المسافات الطويلة

الملاحظ أن ردود الفعل الدولية فوجئت بإيقاع الثورة وسلميتها وأخلاقيتها وسرعتها..فلم تجد بدا سوى مباركتها والتغني بروعتها. وقد تجلى ذلك في كلمة الرئيس اوباما، التي وجهها للتاريخ، في لحظة شعر فيها أنه وريث مارتن لوثر كينغ وليس ممثلا لأمبراطورية الشيطان الأكبر. وبكل الأحوال فإن ما يجري في مكاتب الإدارة الأمريكية يختلف عمّا تبوح به الكلمات المعسولة، فهناك لا مكان للعواطف الجيّاشة وبلاغة الشعراء بل للاستراتيجيات والمصالح القومية، وفي طليعتها تهدئة روع إسرائيل التي بدأت بلطم الخدود وشق الجيوب.. فخسارتها لنظام مبارك لا يقل عن خشيتها من القنبلة الإيرانية.. وربما تكون كلمات شلومو غازيت المدير السابق للإستخبارات الإسرائيلية، التي وصف بها استراتيجية إسرائيل بعد سقوط الإتحاد السوفيتي، أكثر صدقا مما يذاع. يقول حرفيا::
إن مهمة إسرائيل لم تتغير أبدا، فموقعها داخل الشرق الأوسط ـ المسلم يجعل قدرها أن تكون حارسا مخلصا للإستقرار في البلاد المحيطة، وحماية الأنظمة القائمة، ومنع إنتشار الأصولية الدينية المتطرفة، وإن إسرائيل سوف تمنع أية تغيّرات خارج حدودها، ولو بإستخدام القوة العسكرية"
من هنا جاء التهليل الإسراـ أمريكي برجل السراديب والأقبية عمر سليمان، الذي لازال يقيم في قصر الرئاسة، لكن الرجل أحرق كل سفنه، فإرادة الثورة كانت أعلى من ألاعيب الوصاية على مقدراته.. وما يجري اليوم وراء الستار هو عملية أجاكس (بقفازات حريرية) وأقصد تلك العملية الأمريكية البريطانية السرية التي أطاحت بأول ثورة مدنية عرفها الشرق الأوسط، وهي ثورة الدكتور مصدق في إيران عام 1953.. آنذاك دُبر الإنقلاب بواسطة ضابط الإستخبارات الأمريكي ك. روزفلت، الذي أطلق مظاهرات يقودها بلطجية طهران، ورجال الدين، مع تنفيذ إغتيالات منظمة لقادة الثورة
.
اليوم يبدو أن سباق المسافات الطويلة، بدأ مذعورا ومرتكبا، بسبب الإنهيار المفاجئ والدراماتيكي لجدارالأمن المركزي، وقد تجلّى الإرتباك في صورة فرار السيارة الدبلوماسية ودهسها لأبرياء شارع قصر العين، بيد أن هذا السباق التقط أنفاسه أخيرا، وبدأ رحلة دهس الآمال العريضة للناس، من خلال محاولة وأد الثورة بإصلاح ترقيعي. ومن الواضح أن فصول "أجاكس" الجديدة يتم تنفيذها على أيدي عديدة منها الخونتا العسكرية.. وتتلخص بإعادة مكيجة النظام القديم ببعض المساحيق الديمقراطية، وتطعيمه مستقبلا بالإخوان المسلمين وبعض الليبراليين. وبهذا يتم إستقطاب الحشود الدينية للشارع. وزعزعة الطبقة الوسطى وإفراغ شحنتها الثورية.
إن محاولة كتلك ستساهم في شق الصفوف رأسيا وأفقيا، لأنها سوف تمتص تيار القرضاوي (الإخواني) الذي وضع كل بيضه في سلة الثورة. وسوف تُرضي تيار البابا شنودا وأمثاله، ممن جعلوا مبارك روحهم القدس.. إلا أن الكلمة الأخيرة لابد تكون لثوار 25 ينايرالذين صاغوا مشهد الثورة بشكل إيمائي.. عبّرت عنه مشاعر الغضب والتضامن والتراحم والمدنية والسلم، فالثوار أدركوا أنهم صوت الشعب، الأعلى دويا من صوت الرصاص، فبلغت رسالتهم وفهمها قادة الجيش. لكن التوجس والتخوّف من عودة الشاه بقناع جديد يبدو مبررا، بسبب كثرة المتربصين وأخطبوط نفوذهم وأموالهم. وبسبب وجود أغلبية صامتة ونسبة مرتفعة للفقر والأمية. قد تفتح الساحة لشراء الأصوات والذمم وعودة السماسرة وصيادي الفرص.