هرطقات (إسرائيل والكاستراتو)


نادر قريط
الحوار المتمدن - العدد: 3022 - 2010 / 6 / 2 - 12:53
المحور: كتابات ساخرة     

مازالت أخبار القرصنة الإسرائيلية، تتدفق كالسيل وتجرف ما عداها. قرصنة تعدّت إزهاق الأرواح وإراقة الدماء وأسر المئات من ناشطي السلام (بينهم الكاتب السويدي الأبرز هِننغ مانكل، وبرلمانيون أجانب، والمطران كبوشي وحملة الجوائز وممثلو قوى الضمير من أربعين دولة) لتصبح جريمة فريدة في تاريخ البشر. إنها لا تشبه القرصنة الصومالية البائسة، التي تحلم بفدية مالية أو بغنيمة زهيدة (وبعض المعلّبات والسكاير) وما يسدّ الرمق، هذه قرصنة ترتكز على فكرة "الشعب المختار" الذي أباح له يهوى إبادة مدن كنعان والتغوط على آلهتها. إنها إستمرار للميثاق ورمي جميع الأمم الأخرى (الغويبم) في بالوعة النجاسة الأبدية.
وإذا كان الأمر كذلك فعلام لا نطلب منع تداول العهد القديم أو على الأقل نزع أسفاره من الكتاب المقدس وتجريم أنبياء وحاخامات إسرائيل وإحالتهم للمحاكم، تماما كما يريد السادة، الذين زكموا أنوفنا بأحاديث وآيات إسلامية مافتئوا يطلبون بإتلافها.
مضحك هذا الكلام أليس كذلك؟ مضحك أن نترك الأرض ونحلق في سماء الوهم السابعة؟ مضحك ألا نرى الغواصات الإسرائيلية (النووية) وهي تدخل الخليج إستعدادا لإشعال المنطقة، بينما نغوص في قصص أسطورية (عن يهوى ويشوع وكنعان وبني قريظة وأم قرفة وخيبر)
مضحك أيها السادة عندما لا نرى وحش الليبرالية الجديدة وهو يفترس ثروة البشرية ويحوّل الناس إلى براغي في آلات الموت والجوع (هنالك ثلاثة ملايين قتلوا في زائير (الكونغو) خلال الأعوام القليلة المنصرمة، وبصمت شديد في وقت تستمر فيه الشركات بنهب المعادن الثمينة من تحت أقدام المتحاربين، الذين لا يعرفون بأي سلاح ولأي سبب يحاربون؟)
مضحك أيها السادة عندما نتعامى عن إستبداد الأسر العربية الحاكمة وسرقتهم لثروة ومستقبل أوطاننا، بينما ننهمك في قراءة فتوى إرضاع الكبير والتداوي ببول البعير؟ فهل لعاقل أن يصدق حقا بأن إمرأة عربية مسلمة سوف تأخذ بتلك الفتوى وتقف على قارعة الطريق لترضع المارة (يا ريت) هل نصدق أن المسلمين يتداوون ببول البعير؟ وهل يعنيهم فعلا تعدد الزوجات في بلاد بدأت تتفشى فيها العنوسة، وعزوف الشباب عن الزواج بسبب السأم من تكاليف الحياة؟ حتى النقاب أيها السادة ليس شرا مستطيرا، فبالرغم من قباحته وغرابيته (من غراب) إلا أنه يمنح المرأة حرية الحركة في مجتمع ذكوري ظالم (المنقبة تستطيع أن تبصبص وتعض شفتها السفلى وتتهيج دون أن يراها أحد) إن ما يُطرح يبدو لي أحيانا ملهاة وتعتيما على جرائم حقيقية، أو سكوتا عن السلطان أو ترويجا لفتاوي وعاظه من باعة أفيون الشعوب..
أما الحديث عن حدائة إسرائيل وعلمانيتها فهو أمر يدعو للتقيؤ، لأن النازية والفاشية كانتا رب الحداثة والعلمانية. وضباط الغستابو ومدراء محارق الغاز لم يكونوا قط من السلفيين .. يقول المناضل إسرائيل شاحاك: بأن السياسة التي تقوم على أسس أيديولوجية يهودية، أشد خطرا من السياسة القائمة على إعتبارات إستراتيجية" وإسرائيل برأيي تحركها أيديولوجية الدين (والأرض التي تسيل لبنا وعسلا) ورغم أنها عقيدة مزوّقة بالحداثة إلا أنها أشد فتكا من عقيدة إبن تيمية.
لكن ما جدوى الكلام؟ في الحقيقة أردت أن أسهب قليلا لكني تذكرت مقولة للممثل الأمريكي روبرتو دينيرو أطلقها أثناء العدوان على غزة نهاية 2008 "إذا عضّك كلب فمن الأجدى أن تقاضي صاحبه؟ في غمزة واضحة إلى أمريكا صاحبة "الكلب" بيد أن دينيرو لم تسعفه حياته الفنية ليعرف أن أمريكا نفسها قامت على فكرة "الشعب المختار" وهي جزء من السلفية البروتستانتية التي تعود إلى المنابع النقية لسفر التثنية؟ على كل هذا ليس رأي (فيصل القاسم) بل رأي الباحث البريطاني كليفورد لونجلي صاحب كتاب "الأسطورة التي شكّلت إنجلترا وأمريكا" وفيه يكشف مقولات آباء الإستقلال الأمريكي والدستور من أمثال: جيفرسون، وواشنطن، وتوماس بن وجون بيغ.. وكيف كانوا يسألون في رسائلهم الفيدرالية: ماذا نريد أن نكون؟ فكان الجواب: نريد أن نكون "مملكة الرب"؟! أجل مملكة الرب التي ألقت القنابل النووية على اليابان، والتي كان طياروها يلقون النابالم على الفيتناميين وهم يمضغون اللبان ويستمعون للموسيقى، ونفسهم الذين تركوا في العراق ملايين اليتامى والأرامل.

اللعنة على التاريخ إنه بالفعل وقود للحاضر، وسبب لحرائقه، وتبا للقلم وما يسطرون..ألا توجد في التاريخ بقع مضيئة سألت نفسي: بلى هناك الكثير فلتذهب إسرائيل إلى الجحيم سأبحث عمّا هو مضيئ ومشرق: تذكرت الموسيقى والرقص وكيف تمايلت القيان والحسان والجواري في قصور الخلفاء.. اللعنة على هذه الذكرى فهي عودة لتاريخ العبودية وحراس الحرملك من الخصيان..
قلت للتو "خصيان" فتذكرت زيارة للكونسرفاتوريوم (دار الموسيقى) وأثناء الحفلة سهوت ورحت أفتش عن معنى هذه الكلمة المشتق منconserv "حَفظ" أي: المكان الذي تُحفظ فيه الأشياء. وتساءلت: ماذا يا ترى كان يُحفظ بداخل هذا الكونسرفاتوريوم؟ آلالات موسيقية، نوتات؟ لا أبدا فهذا المكان كان في عصر النهضة ملحقا بالكنائس وإليه كان يأوي الأطفال اللقطاء!! لكن ما علاقتهم بالموسيقى؟ لقد كان النبلاء والكنيسة يدجنون هؤلاء الأطفال لإختيار الأصوات الجميلة ل"كورال الكنائس وحفلات الأوبرا" وما المشكلة في ذلك؟ المشكلة أنهم كانوا يقومون بإخصاء أولئك الأطفال كي يحصلوا على أصوات رفيعة عذبة (سوبرانو) تجمع الأنوثة بالذكورة، ويسمى هؤلاء الأطفال المنشدين بالكاستراتو Castrato "الخصيان" وفي إيطاليا وحدها كان يتم خصي حوالي 1000 طفل سنويا لتزويد فرق الكورال والإنشاد (آخر مُغني كاستراتو توفي عام 1904)
ربما يقول البعض: هذا الأمر لا علاقة له بالإنجيل (معناه: بشارة الملائكة)؟ طبعا لاتوجد علاقة مباشرة، إلا أن المسيحية إرتبطت بالرهبنة والتقشف والعفة وإحتقار الجنس، أخذا بسنّة المسيح، لذلك كان خصي الأطفال (ونزع بيضاتهم) لا يزعج الكنيسة بتاتا. بعكس الإسلام الذي ساهمت ثقافته (النكاحية) بإحترام (البيضات) ووضعها على الرأس.
أخيرا وعطفا على ما تقدم وعودة إلى قرصنة إسرائيل الأخيرة، فإن كاتب السطور يرى أن هدف إسرائيل لم يكن يرمي إلى منع بضعة أطنان من القمح والأدوية عن غزة .. لا أبدا؟ بل كان في جوهره محاولة لخصي البشرية ونزع بقايا الإنسانية منها.