الى يهودي صديق: شالوم


نادر قريط
الحوار المتمدن - العدد: 2712 - 2009 / 7 / 19 - 11:24
المحور: التحزب والتنظيم , الحوار , التفاعل و اقرار السياسات في الاحزاب والمنظمات اليسارية والديمقراطية     

أفلاطون صديق، لكن الحقيقة صديق أعظم. (أرسطو)

هذه العبارة إقتبسها إسرائيل شاحاك في كتابه "التاريخ اليهودي، الديانة اليهودية 1995" Jewish History, Jewish Religion ليصف أسس الكلاسيكية اليهودية، كما وضعها حكماء التلموذ، ومدى تأثرها بالصورة الأفلاطونية لإسبرطا، والتي تقوم على إخضاع السلوك البشري لرغبة الحكم الديني. وخلق ما يسميه كارل بوبر "المجتمع المغلق"، وبرأي شاحاك فإن سياسة ترتكز جوهريا على الأيديولوجية اليهودية لا يمكنها أن تؤدي إلى مجتمع مفتوح، بل إلى غيتو عسكري أو إسبرطة يهودية..
وقبلها لا يسعني كقارئ عربي إلا الإنحناء أمام شجاعة الكاتب، وإذ ينعقد اللسان وتتلعثم البلاغة لا أجد أفضل من كلمات غور فيدال الذي قال في المقدمة:
ولد إسرائيل شاحاك في وارشو عام 1933 وقضى طفولته في معتقل بيلسين (النازي). وهاجر عام 1945 إلى إسرائيل وخدم في الجيش. لم يصبح ماركسيا عندما كانت الماركسية موضة... كان وما يزال إنسانيا يكره الإمبريالية، سواء كانت بإسم إبراهيم، أو جورج بوش... إنه النبي الأخير، إن لم يكن آخر الأنبياء العظام.( إنتهى)
وقد تكون رحلته مع النبّوة قد بدأت عام 1965عندما شاهد بأم عينه يهوديا متعصبا يرفض السماح بإستعمال هاتفه يوم السبت، لإستدعاء سيارة إسعاف لشخص غير يهودي إنهار بجواره، وقد برر رجال الدين فعلته وإعتبروه مصيبا وتقيّا، فحرمة يوم السبت، لا يجوز إنتهاكها إلا في حالة تعرض يهودي لخطر. مما حدا بشاحاك لكتابة مقال، أدى نشره في هآرتز إلى فضيحة إعلامية
وربما يكون الحديث الصاخب هذه الأيام عن يهودية الدولة، دافعا إضافيا للعودة إلى هذا الكتاب، الذي يخبرنا عن مبدأ " الدولة اليهودية" إثر تشريعه في الكنيست عام 1985كقانون دستوري يحظر على الأحزاب السياسية معارضته، أو نقضه بسهوله.
هذا المبدأ يجعل عائدية إسرائيل لأشخاص يسميهم "يهودا"، دون أن يكونوا بالضرورة من مواطني إسرائيل، ويعني عمليا أن إسرائيل تعود لأي شخص في المعمورة شرط أن يكون يهوديا. وهذا ما حصل قبل أعوام عندما إعتنقت قبيلة بيروفية (من البيرو)، الدين اليهودي، فأجيز لها الهجرة والإستيطان في الضفة الغربية، وفق قانون يتيح العودة لما يُسمى "يهود الشتات" ؟؟ وهذا المبدأ يشبه كما لو أن فرنسا ملّكية تعود فقط للكاثوليك ؟
أما اليهودي تعريفا فهو الذي ينحدر من أم أو جدة يهودية، وبنفس الوقت فإن التلموذ يسمح للأغيار بالتهوّد على يد رجال دين مفوضين، وفي حالة الإناث، يتوجب أن يخضعن لمعاينة ثلاثة من رجال الدين، وهن عاريات في حمام التطهير.
وإسرائيل كما يقول الكاتب تميّز اليهود عن غيرهم في حقوق: الإقامة والعمل والمساواة، بسبب ملكية الدولة ل 92% من الأراضي، التي تديرها "سلطة أرض إسرائيل"وهذه الملكية تقوننها أنظمة "الصندوق القومي اليهودي" والتي تُنكر حق الإقامة والعمل على تلك الأراضي لغير اليهود؟؟ ويشير الكاتب أيضا إلى عقيدة الأرض المستردة، إذ يُصطلح على الأراضي العائدة للعرب إسم: الأراضي الغير مستردة. وهي أراض تسعي إسرائيل لإستردادها بموجب تعليمات السمسار العقاري العظيم المقيم في السماء، والذي منحهم يهوذا والسامرة للأبد.

التوسعية الإسرائيلية:
يقول شاحاك في هذا الفصل بأن بن غوريون الذي كان يتباهى بالإلحاد، أعلن في الكنيست أثناء حرب السويس 1956 أن السبب الحقيقي للحرب: إعادة مملكة داوود وسليمان إلى حدودها التاريخية. حينذاك وقف له كل أعضاء الكنيست وأخذوا ينشدون بحماس النشيد الوطني الإسرائيلي، وهذا يعني أن "الأيديولوجية اليهودية" هي التي تحدد سياسة الدولة. مع أن "الحمائم" بدأت تميل لتأجيل الغزو العسكري، وإستبداله بغزو سلمي، يُقنع الزعماء العرب بالتنازل طوعيا عن الأرض.
ويتحدث الكاتب عن نسخ عديدة لحدود إسرائيل التوراتية كما تراها المراجع الدينية: أبعدها تلك التي تشمل سيناء وشمال مصر وتصل ضواحي القاهرة، وشرقا تصل إلى الكويت وتضم أجزاءا من السعودية والعراق جنوب نهر الفرات، إضافة لكامل سوريا ولبنان وأجزاء من تركيا تصل إلى بحيرة وان. وأتباع كاهانا أو غوش إيمونيم، لا يرغبون بغزو هذه المناطق فقط، بل يعتبرون غزوها أمرا مقدسا يؤيده الله. والملاحظ أن شارون إقترح في مؤتمر الليكود لعام 1993 أن تتبنى إسرائيل الحدود التوراتية، سياسة رسمية.
وينقل الكاتب عن مدير سابق للإستخبارات (شلومو غازيت) وصفه للإستراتيجية الإسرائيلية بعد إنهيار الإتحاد السوفيتي كما يلي: مهمة إسرائيل لم تتغير أبدا، فموقعها داخل الشرق الأوسط ـ المسلم يجعل قدرها أن تكون حارسا مخلصا للإستقرار في البلاد المحيطة، ودورها هو حماية الأنظمة القائمة، ومنع إنتشار الأصولية الدينية المتطرفة، وأنها ستمنع التغيرات الحاصلة خارج حدودها، حتى بإستخدام القوة العسكرية..
وتحت عنوان يوتوبيا مغلقة يذكر الكاتب بأن خطر السياسة التي تقوم على أساس الأيديولوجية اليهودية، أعظم من السياسة القائمة على إعتبارات إستراتيجية، وللتميز بين تينك السياستين يستعير شاحاك مقالة روبر تريفور هيوغ عن الأفلاطونية والمكافيلية: فميكيافيلي إعتذر على الأقل وأسف لإستخدام القوة والخديعة، في السياسة. لكن أفلاطون أجازها لدعم جمهوريته الفاضلة، وهكذا يصلنا شاحاك مرة ثانية بكارل بوبر وكتابه (المجتمع المفتوح وأعداؤه) ويرى بأن اليهودية التاريخية وخليفتيها: اليهودية الأرثودوكسية والصهيونية، عدوتان لدودتان للمجتمع المفتوح.

رحلة إلى الوراء:
في رحلته لرصد الماضي يشير شاحاك لإضطراب دلالالة "يهودي" في عصرنا، فقديما كانت تتوافق مع معنى ديني، يتحكم بسلوك اليهودي، الذي لا يستطيع أن يشرب كوب ماء في بيت الأغيار، وهذه القواعد السلوكية كانت تحكمه من نيويورك حتى صنعاء، حيث كانت الأقليات اليهودية، تعيش في بيئة منعزلة، محكومة بسلطة الحاخامات، الذين حصلوا على إمتيازات منذ الدولة الرومانية، تؤهلهم لممارسة سلطة قانونية واسعة على اليهود، وصلت في إسبانيا وبولندا إلى تمتع السلطة الحاخامية لإيقاع عقوبة الإعدام على أي يهودي أو سجنه أو جلده حتى الموت. كما وتظهر الوثائق الإسبانية تعاون موظفي ملوك أرغون وقشتالة الكاثوليك (في القرن 13 و14) لتطبيق شعائر يوم السبت على اليهود، وفرض الغرامة على المخالفين، ولقد إستمر الحال حتى ظهرت الدولة الحديثة، إذ أتاحت الثورة الفرنسية حريات فردية لليهود، ومساواة قانونية، دمرت بالتالي السلطة القانونية للحاخامات.
ثم يُورد الكاتب أمثلة عن حياة الأقليات اليهودية وسيطرة العقلية الشمولية عليها. وتصف كتابات حنة أرندت يهود ألمانيا في القرن18: آنذاك كانت الكتب تُحرق، ويُضطهد الكتاب، وتسيطر الشعوذة التعاويذ، ويُحظر التعليم بالألمانية، ثم يقدم وصفا لهيمنة أفكار الصوفية اليهودية (القابالاة) التي تعتبر الأغيار من سلالة الشيطان.
وحسب معتقدات القبالية، فإن الكون محكوم ليس من إله واحد، بل من ألهة عدة. فالعلّة الأولى خلقت الإله " الأب" و"الأم" وبدورهما خلقا إلإله "الإبن" والإلهة "البنت وتسمى شيخاناه" وهذان الإلهان الصغيران يجب أن يتحدا لكن أحابيل الشيطان تحول دون ذلك، وعليه فإن القابالاة تفسر نجاحات وعثرات التاريخ اليهودي، بلحظات إتحاد الإلهين أو إنفصالهما، وبالتالي فإن واجب الأتقياء أن يعيدوا عبر صلواتهم الوحدة المقدسة بين الإلهين الإبنين، على شكل إتحاد جنسي.
وتجدر الإشارة بأن الأفكار القبالية أثرت بشكل كبير على الأرثودوكسية الحاخامية، والمرجعيات الشعبية الكبرى مثل غريشوم شوليم، وأثرت بقوة على حركة غوش إيمونيم.
ويضيف الكاتب بأن يهود ما قبل عام 1780 كانوا يكنّون إحتقارا للتعليم (ماعدا التلموذ والتصوف) والفلسفة وكانت دراسة اللغات ممنوعة بتاتا، ففي كتاب جغرافيا عبري (نُشر عام 1803 في روسيا) كان عدد من الحاخامين ينكرون وجود القارة الأمريكية. حتى أن السلطة الحاخامية في شرق أوروبا لعنت كل أنواع الدراسة الغير تلموذية، وأتاحت ذلك في المرحاض فقط فهو المكان النجس الذي يليق بها.
ثم يذكر الكاتب بالتفصيل تمظهرات الصراع بين المسيحية واليهودية منذ القرن13، وبداية تعرف المسيحية على أحكام التلموذ، الذي يحتوي على عبارات عدائية ضد المسيحيين تحديدا، فبالإضافة إلى التهم الجنسية البذيئة، يقول التلموذ أن عقاب المسيحين في الجحيم سيكون بإغراقهم في غائط يغلي. (كلام جميل)
وكذلك ينوّه إلى وجود تعاليم، تأمر اليهود بحرق أية نسخة من الإنجيل، وهذا مايزال ساريا لليوم ففي 23 آذار1980 حُرقت مئات من النسخ برعاية منظمة يهودية تسمى ياد لياخيم (مدعومة من وزارة الأديان).
والغريب أن كتاب "تورا ميشنا" لإبن ميمون، الطافح بأسوء النعوت ضد الأغيار والذي كان يضيف إلى إسم المسيح عبارة (ليختفي إسم الشرير) كان قد طُبع في أوروبا عام 1480كاملا دون حذف، وذلك في عهد البابا سكتوس الرابع. وفعليا لم تبدأ الرقابة المسيحية على الأدب التلموذي إلا في القرن 16. مما أدى إلى حذف للفقرات المسيئة أو التلاعب بترجمتها.
ويضرب الكاتب نماذج عديدة للتلاعب بالنصوص وتغيير الكلمات العنصرية، خصوصا في الترجمات الإنكليزية، مع إعادة نشر النصوص المحذوفة بالعبرية، بإسم "هيسرونوت شاس" ويستطيع المرء أن يقرأ بحرية فقرات، تأمر كل يهودي بتلاوة دعاء الرحمة إذا مر بحذاء مقبرة يهودية، وأن يلعن أمهات الموتي، إذا كانت مقبرة غير يهودية، ومايزال أطفال إسرائيل يتعلمون تلك الأدعية
وتحت عنوان "ويستمر الخداع" يكشف شاحاك أن النص العبري لكتاب المعرفة لإبن ميمون، الذي يحوي معظم القواعد الأساسية للإيمان اليهودي، يأمر بإبادة اليهود الكفرة: مثل يسوع الناصري وتلاميذه (وليختفي إسم الشرير) في حين تم تلطيف العبارة بالنسخة الإنكليزية.. وكذلك جرى الإلتفاف على معنى كلمة "كوشيم: كلمة إحتقارية للسود" وتركها: كوشيتين لتبدو بدون معنى.
ثم يذكر لنا شيئا عن الحركة الحسيدية، والتي تضم آلافا من الأنصار النافذين، ففي كتاب "هاتانيا" لحركة حاباد الحسيدية، يُنظر إلى غير اليهود كمخلوقات شيطانية شريرة، حتى الجنين الغير يهودي يختلف نوعيا عن اليهودي، وجميع المخلوقات وجدت من أجل اليهود.
وقد نُشر كتاب هاتانيا مرات لا حصر لها، ويقود حركة حاباد الحاخام شنورسون، وهو شخصية مؤثرة في المدارس والجيش، والمعلوم أن حاباد حظيت بتأييد مناحيم بيغن والرئيس زالمان شازار، وقد طلبت الحركة عام 1978 من أطباء وممرضات الجيش عدم تقديم العلاج لجرحى الأغيار "الغوييم". وهذا قليل مقارنة بعالم الإجتماع النافذ يحزقيال كوفمان، الذي دعا إلى الإبادة العنصرية على غرار سفر يشوع.

خلاصة:
إن تقديم الأفكار الرئيسية لهذا الكتاب الصغير، ليس بالأمر اليسير، فهو محشو ومزدحم بالكلام، لهذا لم أجد مخرجا سوى التسلل بين سطوره وإصطياد ما تيسر من كلماته، وإذ يستمر الكتاب في سرد مركبات التاريخ الديني "للجاليات" اليهودية، عبر المرحلة التلموذية (قبل800 م) والأرثودوكسية (بعد800 م) وصياغتها للمجتمع المغلق أو ما يسميه روكيش في تحليله للعقل الدوغمائي ب "الروح المغلقة" والتي أثرت بسماتها حتى على العلمانية واليسار اليهودي، وأحبطت سعيهم لبناء المجتمع المفتوح. ورغم أن الكتاب صدر عام 1995 ومضت عليه أحداث وأزمان كإشتعال الإنتفاضة وفشل اوسلو وموت عرفات، إلا أن المؤشر الأهم هو عثرة إسرائيل في حربيها على حزب الله وحماس عامي 2006 و2009، وفشل لواء غولاني ودبابة المريكافا في التقدم أمتارا على أرض جنوب لبنان، وغيرها من الأحداث التي قد تكون مفاجأة حتى لشاحاك نفسه، لكنها تؤشر لمرحلة جديدة، إرتبطت برينيسانس العقل الإسلام ـ فارسي، الذي تقوده إيران. والذي إستطاع حسب رأيي المتواضع إمتصاص زخم الحدود التوراتية الفانتازية. وبرغم الطابع الأيديولوجي الديني لحكم ولاية الفقيه، إلا أن البرغماتية الدهائية لهذا العقل، وتاريخية المجتمع الفارسي المفتوح، وخصوصية التشيّع، تتفوق نوعيا على أيديولوجيا "المجتمع المغلق" والفترة القادمة ستكون حاسمة لبيان الخيط الأبيض من الأسود.
لقد نبه شاحاك مرارا من خطر السياسة الأيديولوجية لإسرائيل على نفسها قبل غيرها
وهذه حقيقة مستترة تقديرها أن شاحاك صديق، وأصدق من أفلاطون.

للنشر خصيصا في موقع الحوار المتمدن وموقع الكاتب: nkraitt.blogspot.com