سقوط خيمة العقيد


نادر قريط
الحوار المتمدن - العدد: 3466 - 2011 / 8 / 24 - 13:15
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

وإذ تتوالى أخبار نهاية حكم العقيد، لا يسع المرء إلا تهنئة الليبيين، ومشاركتهم الأمل بمستقبل تسوده العدالة والحرية ويعمّه الخير
البعض قد يتمهل قليلا، بإعتبار فتح طرابلس، هو بزوغ لفجر الأوديسة، أي أنه فتح لساركوزي وصحبه في الناتو. لكن المثل يقول “ربّ ضارة نافعة” فالبترول الذي سخّره الطغاة لبناء أمجادهم، قد يصبح وبالا عليهم. فالحقيقة أن العقيد احتقر شعبه ونعت الليبيين بالجرذان واستحق عقابهم، والأمر يعني فيما يعنيه أفول الأيديولوجيا وإحتضار الدولة الوطنية، التي تحوّلت إلى وحش مرعب يفترس أبناءه، فالإستغاثة بمستعمر ”أنيق” للخلاص من وطنية “رثة وغليظة” دليل على أن ظلم “المستعمِر” في المزاج الشعبي، أقل مضاضة من ظلم ذوي القربى. هذه الشيزوفيرنيا الجمعية، صاغت أبجديتها في العقود الأخيرة بدون لبس. فالغرب ورغم لعنه على المنابر، كان وما برح مهوى أفئدة الحكام العرب ومستودع أسرارهم وشرعيتهم ومسروقاتهم، وملجأ الهاربين من عسفهم، وحلم الشباب الذين يركبون قوارب الموت للوصول إليه

ولعل تشدق النخب الحاكمة بالوطنية والشعارات الرنانة، هو في الأغلب الأعم مكياج لتجميل عُصبوية حاكمة قبيحة فاسدة تعيش فوق القانون وتتلذذ بترف أسطوري. في وقت يعاني فيه عموم الناس من المهانة وشظف العيش. غير أن تلك النخب وبسبب إنغماسها بشهوة السلطة وترفها، تُصاب بغرور ونرجسية وعمى، يُسقطها في شر أعمالها

ولو عدنا أدراجنا إلى لحظات إشتعال أحداث ليبيا في 15 فبراير 2011، نستنتج بأن الوريث “سيف الإسلام” الذي أطلّ وهو يهزّ سبابته (مطزطزا) ومتوعدا ساركوزي، قد أطاح بعمود الخيمة، فسقطت على رأسه ومن حوله.
فالرجل لم يتعظ بمقولة “رحم الله إمرءً عرف قدر نفسه“ ولم يدر بأن الغرب يمتلك قسوة لئيمة، وإن أراد فعل. كثير منا يعتقد أن مصالح الدول فوق الأمور الشخصية والنزوات العابرة؟ هذا صحيح، بيد أن تلك المصالح سرعان ما تتنفس من بعض الحزازات القديمة، وتبحث عن أتفه الأسباب لبلوغ مبتغاها.
فما فاه به سيف من سماجات وتهديده لساركوزي، يشبه إهانة الباي للسفير الفرنسي، التي كانت ذريعة غزو الجزائر.
والحقيقة المرّة أن أوروبا كانت مشبّعة بقصص وسماجات العقيد وأبنائه.
ففي مطلع التسعينييات وعندما حضر “سيف” للنمسا طلبا للعلم، ذُهل موظفو المطار وهم يرون إبن “قائد الثورة العالمية” نازلا من الطائرة يتبختر وتحفّ به نمور ملكية بيضاء (نادرة) حينها تدخلت السلطات وأقنعته بتعذر إصطحاب هذه النمور المفترسة في الشوارع، وألزمته بإيداعها في حديقة الحيوانات.
وبكل أسف ورغم ما قيل عن صوّلات العقيد وأولاده وجولاتهم، سأتوقف قليلا عند تقرير نشرته دير شبيغل، مطلع شهر مايو الماضي بمناسبة إحتمال مصرع “سيف العرب”، إثر غارة جوية للناتو، مع الإعتذار لصاحب المثل القائل “إذكروا حسنات موتاكم”
فسيف العرب، وهو أقل أبناء العقيد فضائحية وبذخا، عاش في ميونخ لأربع سنوات (بعد عام 2006) وترك في أرض بافاريا ذكريات حافلة. فقد درس (ولم يدرس) في جامعة التكنيك وسكن فيلا فخمة بقيمة 8 مليون يورو. وشوهدت سياراته الفخمة بصحبة الحسناوات. ثم تلخص المجلة حياته ب: فيلا، وسيارات فارهة، ورحلات، وليالي بلاي بوي، ومصرف جيب يبلغ ثلاثمائة ألف يورو شهريا، وعدم إحترام للقوانين، فخلال أربع سنوات، إعترضه القانون عشر مرات (إعتداء بالضرب، سياقة بحالة سكر شديد (2.4 بروميل) تهديد خادمة بمسدس، حيازة أسلحة غير مرخصة. الخ
إن عرض هذه الأمثولة يحكي بعضا من بشاعة تزاوج السلطة والثروة في بلادنا، وتحوله إلى إنفلات وإنحطاط وطغيان وعنجهية وغلاظة. فبدل ما نعرفه عن نخب الماضي وتهذيب ورقي البيوت العريقة، صرنا أمام نماذج للرعونة والزعرنة والتشبيح، وصور مركبة للثراء والإستهتار واحتقار الشعب، وإغتصاب إرادته، والعبث بثرواته بصورة فجّة قلّ نظيرها في العالم.

من هنا أجد شخصيا أن إسراف الكتابة في قضايا “الدين والعلمانية” هو منحى يذهب أحيانا لتحقير الناس وإتهامها بالغباء وتجريمها وتعليق مآسيها على مشجب الوهم، لغرض تمويه وتبرير أشكال السلطة المتوحشة وغسل قذارتها. فالبداوة “العَلمانية” أو المتسترة بالمدنية، هي تزوير وتلميع لحكم العصبيّات، وهي برأيي النموذج الأكثر إنحطاطا على المستوى القيمي والأخلاقي، وأكثر سوءا من حكم “شريعة طالبان”
أخيرا: إن حسنات بعض الموتى تتلخص، بموتهم وخلاص الناس من أذاهم وغرورهم. بعكس من مات نبيلا كريما، وهنا أود تذكّر سيرة الملك الطيب إدريس السنوسي الذي خُلع وهو في زيارة في اوروبا، آنذاك ذهب الملك لسفارة بلاده وسلّمها مبلغ 20 ألف دولار كانت بعهدته لتغطية تكاليف الوفد، ولمّا طلب اللجوء لمصر، بقي ليومين بدون طعام، حتى اكتشف عبدالناصر أن الرجل لا يملك ثمن عشائه.
يحدوني الأمل أن يضع الليبيون تجربتي العراق وجنوب أفريقيا نصب أعينهم، وأن يصفحوا عمّن أساء منهم أو إليهم، وأن يقلبوا الصفحة لبداية عصر جديد من التسامح وسيادة القانون. فهم محظوظون (بالنخوة الساركوزية) وبثروات ليبيا الوفيرة والشواطئ الرائعة المشمسة، وعسى أن تكرهوا “بترولا” وهو خير لكم