بين الدين والدولة (هرطقات)


نادر قريط
الحوار المتمدن - العدد: 2772 - 2009 / 9 / 17 - 11:51
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

الرقم الروماني أو العربي أو الهندي لا يختلف بنقشه فقط، بل بدلالته وقيمته، هذا ما قاله شبنغلر، في سياق تعليقه على التواريخ العربية. وهذا ما تذكرته أثناء مطالعة إحصائية تغصّ بالأرقام. لكن ذلك لا يمنع من ترجمتها إلى لغة معرفية، حتى وإن كانت لغتنا دوغمائية وأداة جهنمية للتعميم والإختزال.
المهم أن تقرير التنمية البشرية لعام 2002 يخبرنا بأن العالم العربي يترجم للعربية حوالي 330 كتاباً سنوياً وهذا يشكّل 20% مما يُترجم إلى اليونانية، علماً أن ناطقي اليونانية يشكّلون أقل من 4% من ناطقي بالعربية؟! أي أن حوالي 10 ملايين يوناني يترجمون إلى لغتهم في العام الواحد خمسة أضعاف ما يترجمه 300 مليون عربي؟! وبنفس الوقت فإن نسبة مستخدمي الإنترنت العرب لا تزيد عن 1.4% من السكان، أي أقل من عدد مستخدمي الإنترنت لناطقي الهولندية (عدد ناطقيها في العالم يبلغ حوالي 20 مليونا)
كيف يمكننا فهم هذه الأرقام، وهل يحق لأحد أن يخرج عاريا كأرخميدس ويصرخ: الإسلام هو العلّة، ومن لديه كتاب الله، فليس بحاجة لكتب العالمين (بالمناسبة كلمة "عالمين" هي صيغة جمع آرامية ل "عالم" وتعني "دهر، زمن" ورب العالمين تعني ضمنا "رب الزمان" ؟!)
هنا قد يطرب البعض، مادام الإسلام هو عثرة أمام التقدم ونقل المعرفة. مع أن الترجمة إرتبطت في وعينا التاريخي، بالمأمون ودار الحكمة والمثقف السرياني الذي نقل الفلسفة والطب وعلوم الأنتيكا الوثنية اليونانية، وكان يا ما مكان في قديم "العالمين"
لهذا الحد (ماكو) مشكلة، بيد أن القضية تفقد ترابطها المعرفي عندما يُخرج أحدٌ لسانه شامتا ويخبرنا بأن أزمة المعرفة سببها الإسلام، أما اليونان فقد بلغت الذروة بنعم الروح القدس، متناسيا أن يونان اليوم هي جزء من ميراث عصر النهضة الأوروبية Renaissance: الذي يعني في الجوهر بعث عصر الأنتيكا الوثني والفلسفي العقلي. وهو المنطلق لعصر التنوير وتقليم أظافر الاكليروس المسيحي وتحرير العقل من وصاية الأسطورة

وقبل الإستمرار أستميحكم لوقفة قصيرة عند مفهوم الوثنية، فكاتب السطور يعتقد أنها مرادف للتعددية وحرية العقل في مواجهة أسئلة الوجود، بعكس الأرثودوكسية التي تعني طريقا قويما، بمعنى إحتكار الإجابة على التساؤلات الوجودية للإنسان، فأديان التوحيد (رغم أنفنا جميعا) هي تصورات لعصور بدائية بطريركية، هذا ما تثبته الكتابات المسمارية التي أماطت اللثام عن جذور القصص التوراتي وأبطاله، فيهوى ( إيلوهيم، إله إسرائيل ورب الجند) هو على الأرجح شخصية ميثولوجية نزقة ودموية ومتوحشة، وهو صورة للإله البابلي الذي يتلذذ برائحة القرابين (ويهيم بالمشويات والكباب) ويبيد الأمم بدون شفقة، من أجل سواد عيون نفر من التائهين في البرية، ولا أدري لماذا هبط عليه الحب فجأة وقرر إرسال إبنه الوحيد ليولد من عذراء، ويخلص البشرية في مسرجية دموية تعود بالإساس لفكرة تقديم القرابين عند الشعوب المتوحشة. وهو نفسه الإله الملك، الذي يحمل عرشه ثمانية وترفرف حوله أسراب الملائكة، والذي دوّن شؤون مملكته في (مسلّة) لوحه المحفوظ، (خصوصا الإستراتيجية منها: كقصة زيد وقضائه لوطره)
لقد أردت بهذا الشطط، المطالبة بحرية التساؤل الوجودي بعيدا عن إحتكار المطلق، وأداوته القسرية، وأن يجاهر المثقف بجرأة، و يحاول تهشيم هذه المرآة الوثنية القديمة، وكف اليد عن إمتلاك سؤال الحقيقة، وربما تكون بنفس الوقت نقدا لتصريح الأستاذ القمني، الذي أعلمنا مشكورا أنه أثناء رمضان كان غارقا حتى الثمالة بالتعبد والتهجد والتسبيح. وهذا النقد ليس إعتقالا لحريته في الإعتقاد وممارسة والعبادة، بل بسبب توقيت تصريحه، الذي جاء أثناء حملة محاكم التفتيش ضده. إذ كان حريّا به حتى وإن سجد في محراب الإيمان طوال عمره، أن يخفي طقوسه في تلك اللحظة بالذات، ليؤكد لجمهوره قيّم العلمانية، وإعتبار العقيدة والعبادة شأنا ذاتيا محضا، ومكانا محرما على أنوف الآخرين، ليس لشيئ إلا لكونه شخصية عامة (وشيخ بني ليبرال) وملكا لقرائه. وكم تمنيت لو أنه تذكر المتنبي القائل:
أنام ملء جفوني عن شواردها ــــــــــــــ ويسهرُ الخلقُ من حولي ويختصمُ
ما سردته للتو يخص كاتب السطور وتأملاته المهرطقة وأمثاله من مدعيّ التنوير وحمل هموم العمران (جوهر الحضارة)، وهذا يختلف تماما عن الموقف من الدين الشعبي السوسيو ـ تاريخي، المكّون لثقافة الجماعة وهويتها وشخصيتها التاريخية، والذي يرتبط جذريا بفضائها اللغوي الشعري، وبأنماط الإنتاج التي هيمنت عليها، وبتراكم رأسمالها الرمزي. فهذه أمور راسخة كالرواسي وزحزحتها غير ممكنة (بهباب المقالات) بل بعملية نقدية صارمة وبرامج تربوية طويلة المدى، تقودها نخب وطنية حقيقية تملك زمام الأمور والقدرة، على ترشيد الرؤى الدينية في إطار علم الأديان المقارن وترميزها في مبادئ الإيتيك والقيم الكونية. وعكس ذلك سيبوء بالفشل
إذ يكفي أن نرى روسيا ؟! فبعد ثلاثة وستين سنة من العلمانية الإلحادية، قرعت أجراس الكنائس ثانية وإنحنى يلتسين وبوتين أمام غبطة البطريرك لنيل بركته. ويكفي أن نعرف بوجود عشرات الملايين من أنصار الكنائس الإنجيلية الصهيونية في أمريكا، الذين يملأون ملاعب كرة القدم، وتسيل مآقيهم أثناء سماع أحد وعاظ الهستيريا الدينية وقصص الأبوكالوسه (عام 1995 إعترف الكونغرس تحت ضغط هذا اللوبي بالقدس عاصمة أزلية لإسرائيل، لتحقيق حلمهم بضرورة، تهيئة المدينة لمجيئ مسيح آخر الزمان، طبقا لما تقوله النبوءات) ويكفي أن نسمع شعار "يهودية الدولة" لنتياهو، وإصرار هؤلاء السيّاح (العابرين) على تزوير الحقوق والجغرافيا.
لكن أرجو ألا تأخذني الحماسة بعيدا وأنسى أن ما يحصل حاليا هو ثمرة لترهل هذا المشرق العربي. وإستفحال علّله التي أعّيت من يداويها، فالفرق بيننا وبين الآخرين يكمن في عجز هذه المنطقة عن صياغة دولة الحداثة (عقد إجتماعي،نطام حكم، تعليم،إدارة، وإقتصاد حديث) ومراوحتها عند تخوم دولة العصبيات القديمة، بالمعنى الذي قدمه ت.رويتر: "الدولة هي تطوّر لفكرة العصابة، والقانون هو لائحة رغبات يفرضها الأقوياء على الضعفاء"
وبالعودة إلى الترجمة والكتب، يمكن التذرع (وعن حق) بأن العقل الدوغمائي عقبة أمام نقل المعرفة وبناء العقل الحر، لكنه ليس العامل الأوحد ولا الأهم. فالأخبار المتواترة تفيد بأن عدد مسيحي المشرق العربي يفوق عدد سكان اليونان (أكثر من عشرة ملايين يعيشون بين العراق ومصر) ومع ذلك لم نسمع عن منافستهم المعرفية والترجمانية لليونان؟ بل نراهم يراوحون مع إخوة الإيمان في أثيوبيا، حيث تقصر الكتب فيها على أناجيل وأسفار العهد القديم (ومنحولات "الأبوكريف" المنقرضة قبل قرون) لهذا فإن تشبث البعض بوصم الإسلام لمفرده كعقبة أمام المعرفة، تعبير عن فقر معرفي.

وبالمناسبة وكي لا أطيل فقد وصلني قبل مدة تصريح (مأيمل) نُسب للأب زكريا بطرس، يزفّ فيه بشرى إعتناق أربعة ملايين مسلم للمسيحية؟! في الحقيقة أذهلني الرقم، وخشيت من نضوب مياه النيل أثناء تعميد تلك الملايين. لكن معرفة متواضعة بتاريخ التبشير في بلاد الشام منذ إندلاعه مطلع القرن 19 تثبت عجز البعثات (اليسوعية والإنجيلية) عن تغيير ديانة مسلم واحد، والأدهى والأمر أنها عجزت عن تحويل ماروني واحد (إلا نادرا) للبروتستانتية، لهذا وإحتفاءا بهذا الخبر الطريف رأيت أن أروي هذه الواقعة التاريخية :

في منطقة جبلية رائعة حيث الطبيعة العذراء والغموض ومسحة من الحزن الدفين، عاش الراهب خوسيه في أحد الأديرة، تلك المنطقة تسمى اليوم "البوخاريس" جنوب إسبانيا، والتسمية هي تصحيف للمصطلح العربي" جبال البشارات" المحاذية لغرناطة [وبسبب ولع شخصي بتاريخ الأندلس وزيارات سنوية، ومعرفة القرى والأديرة، توقفت بالصدفة عند تراجيديا هذا الراهب خوسيه، وحزنت له ولنقاء سريرته وعفته وحماسه. والجدير بالذكر أن هذه المنطقة عُرفت تاريخيا أيام العرب، بتربية القز وصناعة الحرير، وبالتمرد على الحكام وتعرضت لأعنف حملات محاكم التفتيش والتنصير القسري بُعيد سيطرة الملوك الكاثوليك على غرناطة عام 1492، وبلغت المأساة ذروتها عام 1603 عندما إتخذ قرار ترحيل المورسكين (حوالي ربع مليون من أصول مسلمة) ورميهم في عرض البحر، علما أن معظمهم كانوا حينها مسيحيين ويجهلون العربية، لكن لكّنة لسانهم وسمرتهم ظلّت تثير ريبة الكنيسة التي شككت دوما بنقاء قلوبهم] هذه الإضافة كانت ضرورية للتعريف بطبيعة تلك البيئة المسكونة بحزن تاريخي وتديّن وصرامة، وميراث صامت للصراع الديني الذي إنطوى قبل قرون.
في تلك المنطقة شبّ مطلع القرن العشرين الراهب خوسيه، وتربى ورعا ممتلئا بالعلم ونعمة الروح القدس، وزيادة في ذلك حرص على تعلم العربية لغة جيرانه. وفي يوم ما وأثناء سيطرة إسبانيا على الشمال المغربي، دعاه نداء الإيمان ومحبة الرب، لوعظ هؤلاء (الكفار) المغاربة كي يُدخلهم حظيرة الرب، فحمل صليبه على صدره وكتاب البشارة بيمينه، و عبر جبل طارق إلى سبتة، ومنها بدأ يطوف في الشمال المغربي واعظا بملكوت السماوات.
وبين تطوان وطنجة وجبال الريف ووسط الأهلين من العرب والأمازيغ، كان الأب خوسيه يقرأ على الناس أسفار الكتاب المقدس، وكان القرويون البسطاء والصبية (وصيادو الأسماك) يتحلقون حوله، فرحين بقصص معجزات أحبتهم موسى وعيسى بن مريم. وكانوا كعادة بسطاء الريف يقابلونه بالحفاوة والود والخبز ، واللبن والماء في ساعات القيظ. وهكذا مضت الأيام وبقي المغرب على حاله، متشبثا (بوثنيته) فبدأ صدر الراهب يضيق ذرعا بهؤلاء (غلاظ القلوب) وشعر بمرارة الخيبة الفشل. حينها لمعت له الفكرة وقرر أن يُبهرهم بمعجزة الكتاب المقدس، ويخطف أبصارهم، كما فعل الرب مع شاول قبل أن يصبح القديس بولس.
في إحدى البلدات هتف الراهب خوسيه بأنه يحمل البرهان على معجزة الكتاب المقدس، وطلب من الناس أن يجلبوا حطبا كثيرا ويملؤوا ساحة البلدة ثم يضرموا فيها النار، وأخبرهم بأنه سيدخل وسط ألسنة اللهب وسيقرأ الإنجيل دون أن تمسه تلك النار أو تصيبه بأذى ؟! هيه صاح الصبية: خوسيه أصبح إبراهيم "يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم"
بعض العقلاء والشيوخ (الوثنيين طبعا) حاولوا نصحه وثنيه عن مغامرته: (فهذه نار وليست مزاحا) لكن الراهب أصرّ على إثبات حقيقة الرب، فإحتضن الإنجيل وأسبل عيونه كقديس وتقدم بخطى واثقة وهو يردد مقولة المسيح: يا قليلي الإيمان لو كان في قلوبكم ذرة إيمان وقلتم لهذا الجبل أن ينتقل لأنتقل..وسط الدهشة والذهول سمع الناس أنين وزفرات خوسيه، ولما خبت جذوة النار رويدا ثم إنطفأت نهائيا؟! إنطفأ معها خوسيه إلى الأبد.
لهذا أتوجه بهذه الواقعة للأحبة على سواتر الإيمان المنافحين عن عقدائهم والذائدين عن حمى آلهتهم، وأنصحهم بعدم تجربة طريقة الراهب خوسيه، وإذا أصروا على ذلك، فعليهم أن يتكفلوا بنفقات الحطب.