فليسقط الوطن ولتحيا المواطنة


نادر قريط
الحوار المتمدن - العدد: 2670 - 2009 / 6 / 7 - 10:51
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

ثمة بديهيات لا تقل صعوبة عن نسبية آينشتاين. الوطن مثلا الذي نؤدي له تحية العلم، ونلقي في حضرته الأناشيد، فتسري بنا القشعريرة وأحيانا نموت في الدفاع عن سياجه .. الذي دفع الأديبة والنحّاتة اللغوية الماهرة "فاطمة الناعوت" لتقول ما مضمونه: إذا كان حب مصر فاشية فأهلا بها؟ هو نفس الدافع الذي جعلها تتذكر مقولة مصطفى كامل: لو لم أكن مصريًّا لوددتُ أن أكونَ مصريًّا! أو تناجي الراحل الكبير محمود أمين العالم في منولوج شعري وتسأله سؤالا ذكيا : لمن نكتب يا أستاذ؟ فيجيبها: لكلِّ المصريين، المصريون من أجمل شعوب الأرض؟.. إنه نفس الشيئ الذي يدفع كاتب السطور للحماسة، وترديد أغاني فيروز عن الشآم وكأن الله صبّها وسبكها لوحدها (ثم كسر قوالبه) أو التغني باوغاريت ويوليا دومنا وبستان هشام، مع أن لسان الحال لا يختلف عمّا قاله نزار القباني (أنقل من الذاكرة):

حتى النملة تملك وطنا
والسحلية والصرصار
وأنا يا سيدتي
أملك وطنا بالإيجار

إنه الشعر إذن .. فالوطن في جوهره العميق شعر ووجدان وصور ذاتية، أكثر من كونه موضوعا عقلانيا (جبال وهواء وأنهار وحدود ومياه أقليمية، أو أبو الهول ومسلة حمورابي) فالمكّون الحقيقي للوطن هو الذاكرة واللغة وروح الإنتماء للقطيع (التي تحوّلت في صيرورتها من قبيلة تدافع عن الحمى، الذي لايرتبط بالإرض بسبب تنقل القبيلة، إلى ممالك مستقرة تعتاش على الزراعة، إلى الدولة الوطنية المعاصرة ذات النشيد الوطني والمخابرات والموبايل) وهذا المكون النفسي هو كيان ذاتي تجريدي لا يختلف كثيرا عن الشعور بالألم والفرح، الذيّن لايمكن قياسهما بالسنتمتر.

المهم برأيي لفهم هذا الشيئ التجريدي المعقد في حياتنا الوطنية المعاصرة، التي تسودها الدوغما ومسلماتها القروسطية. أن نعيد نقاش هذه البديهيات، وأن ننزع اللثام عن أشكال الدوغما والتمويه. وتجديد تأثيث المفاهيم القديمة، فالوطن الحديث هو عقد إجتماعي بين مسافرين على متن باخرة، تمنع الجميع من ثقبها وإغراقها.. وهو يختلف عن وطن حكمته السلالات المقدسة (بمبدأ ان الله يورث الملك لمن يشاء) لهذا أعتقد أن التجديد يقتضي تحليل مركبات سوسيو ـ تاريخية مترابطة، بإدخال علوم الحداثة وعلم النفس الإجتماعي (بورديو) الذي يرى على سبيل المثال: أن "الرأسمال الرمزي" للمجتمعات الما قبل رأسمالية، ترتبط عضويا وبشدة برأسمال رمزي، وهذه اللحمة تكاد تكون "حياة أو موت" لهذه المجتمعات، وستبقى كذلك مادامت تفتقر لرأسمال مادي يقيها شر الجوع والفقر ومادامت تتهددها الحروب والويلات.
وهنا يمكننا التبحر في الموضوع حتى ينقطع النفس، لأن رأسمالنا الرمزي يعيش داخل لغة (قديمة كلاسيكية، مُتحكّمة بألة العقل وتتجلّى في موروثها الشعري والحكمي والديني) لذا سرعان ما نسقط جميعا في التعبيرات المتناقضة سواء كنا علمانيين أو على الله متوكلين.
وكي لا أقلل من المشاعر الوجدانية والذكريات وروح القبيلة وصرخات الثأر والفخر التي أججت قبائل الأتروسكا ضد الرومان، وكي لا أنسى عمرو ابن كلثوم الذي مجد قبيلته ب: إذا بلغ الفطام لنا صبيّ تخرّ له الجبابر ساجدينا .. أجد أننا بأمس الحاجة لإعادة صياغة الأسئلة، وتحليل مركبات الوطن سواء كانت موضوعية أو ذاتية.. فالأولى تجمعنا .. وهي عبارة عن مكان وأرض يعيش عليها الأثرياء بفلل وقصور عامرة ويمارسون أشهى أنواع اللذة، وأسوء أنواع الإسترقاق والمهانة والسطو على المال العام والرشوة والفساد والسرقة (الليبرالية جدا).. في ظل لا عدالة وإستئثار بالثروة .. فالوطن لهؤلاء السادة هو مجموعة من النعم الوفيرة التي يعضون عليها بالنواجذ ( أتذكر أن ميزانية المدرسة الشاهنشاهية، لتخريج النخبة في طهران بلغت في سبعينيات القرن الماضي أكثر مائة مليون دولار سنويا، وهذا ينطبق الآن على ممالك العطش العربية التي تستأثر عائلاتها الحاكمة بخمس العائد البترولي، حتى نفقات القصور الهامشية (؟) تبلغ عشرات الملايين، ناهيك عن مليارات مخيفة تعود لبيوتات حكام الجمهورية)

والوطن هو أيضا مكان للمنفيين في وطنهم وسكان الخرائب والأكواخ اللا أدمية، وهو المكان الذي يلعق فيه المتسوّلون أحذية المارة وغبار الرصيف من أجل قوت يومهم، وينام فيه المشردون على أوراق الجرائد.

كل هذا هو وطننا ..فهو الصيف والذباب والتلوث، وإختناق المرور، ورائحة المجاري وعيون القطط اللامعة التي التي تفرّ مذعورة من براميل القمامة. إنه أيضا ذاكرة ممزوجة برائحة عرانيس الذرة والباذنجان المقلي (وقيّمر الحلّة وجلولاء) ورائحة الآباط المتعرقة، في الأسواق المزدحمة، ورسائل الغرام الأولى، والعباءات التي تتفجر بالأنوثة والنظرات المملوءة بالشهوة.. كل ذلك هو وطن معتق في آنية الوجدان والمُتخيّل الجمعي.. نعم إنه مكان للشعور بالكرامة.. لكن لمن هذه الكرامة؟

لهذا بإمكاني أن أجيب على سؤال لمن نكتب؟ بدون لف ودوران.. نكتب لأنفسنا؟ لنكون!! لنشبع ذواتنا ونشعر بالفخر والزهو والإعجاب والتصفيق .. وبدون ضحك على الذقون؟ نكتب لأننا لا نستطيع إلا أن نكتب.. فالكتابة لعبة ومخداعة بين الذات والموضوع، حتى وإن نصبّنا أنفسنا صوتا للضمير. نكتب لنثبت وجودنا وأنواتنا في عالم تتزاحم فيه الأقدام، وتُزيّف فيه الأمجاد وتُشد فيه السروج على الحمير.
لكن أسوء ما في الكتابة عندما تُوظف وتصبح دكانا لإيجار وبيع الكلام وتلبية ذوق الزبائن وإيصال الخدمات للبيوت.. هنا تسقط الكتابة، وتصبح أحيانا أدوات لصناعة وتمجيد الجريمة، وتبرير وتمرير كوارث الأمم ونكباتها وسرقة خيراتها

لكننا نكون جميعا متواطئين، إن أغمضنا أعيننا عن البعد الحداثي لمفهوم الوطن.. إذ لا وطن بدون فكرة المواطنة والعقد الإجتماعي، ولن يكون بإقصاء وتهميش شرائح مجتمعية وأقليات دينية أو لغوية، أو منعها من ممارسة وجودها الآدمي الكريم. ولن يكون وطنا، مادامت تحرسه قضبان السجون والكلاب البوليسية، ومواد دستورية بالية تُدخل الدين في صلب القضاء والحياة العامة والخاصة.
وبإختصار وكي أنقذ نفسي من براثن هذا النص الكئيب، أسرد عليكم حتوتة تقول: أن تونسيا وليبيا إختلفا حول موطن النبي محمد، فتشبث كلاهما بنسبه إلى وطنه، الأول يقول إنه تونسي والأخر يصرّ على أنه ليبي. وأخير وبعد مشادة كلامية إضطرّا لطلب التحكيم، وللصدفة وجدا سوادنيا يمشي في سبيله فأوقفاه وسألاه:

يازول: تعال أحكّم بيننا هل النبيّ محمد تونسي أم ليبي؟
قال: والله أنا مش من هنا، لا أعرف بالضبط. كل ما أعرفه أن الله سبحانه وتعالى، هو سوداني.

أخيرا ولإضفاء بعض التفاؤل على النص، أذكركم بمقولة سعد زغلول التي لا تقل عظة عما قاله مصطفى كامل: غطيني يا صفية ما فيش فايدة