بين الدين والدنيا (حرب الرموز)


نادر قريط
الحوار المتمدن - العدد: 2808 - 2009 / 10 / 23 - 19:14
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

حرب الرموز الدينية، تكشف وهن أطروحات الحداثة وتعري الكذبة المختبئة وراء الأكمة، فالدولة التي قامت على وعد عقاري إلهي، وأطلقت على نفسها إسم أبيها الأسطوري (يعقوب) مابرحت تبحث عن وهم يغذي مقدسها. فمنذ تأسيس صندوق دعم التنقيب في أرض "الكتاب المقدس" عام 1885، تجوب فرق التفتيش عن أسلحة (المقدس) أرض فلسطين، وتنبش التلال والوهاد والحصيلة لاشيئ؟ فعصر الآباء لا وجود له وجميع هؤلاء المحترمين من إبراهيم نزولاً، لا أثر لهم إلا في سطور الخرافة، بما فيهم سليمان (حوالي 970ق.م) وهيكله وهدهده (عليه السلام) هذا ما خلُصت له نتائج البحث الأركيولوجي، كما وردت على لسان أهم وأكبر علماء الآثار الإسرائيليين* والتي تقول حرفياً: إن الفحوصات والأدلة المكتشفة تؤكد أن أورشليم كانت بين القرنين 16 و 8 ق.م قرية صغيرة بائسة بدون أسوار. وكان يعيش سكانها، في الجزء الشمالي من التل بالقرب من نبع جيحون على مساحة تتراوح بين هكتار أو هكتارين (إنتهى)
والأنكى والأمر أن كل الطبقات الآركيولوجية من العصر النحاسي. 2500ق.م، حتى عصر الحديد الثاني 700 ق.م لا تدلّ على تغيّر في البيئة الثقافية لأرض كنعان، وبعبارة أخرى كانت اورشليم سليمان، مجرد قرية (تتسع للهدهد وليس للهيكل) يعيش فيها بضع مئات من الكنعانيين (الغلابة) الذين أخذهم يهوى على حين غرّة، وطيّن عيشتهم (وعيشة البشرية معهم) ولا أدري لماذا ضيّع الباحثون وقتهم؟ أما كان أجدى لهم أن يبحثوا عن الهيكل في جبال عسير (بين الحجاز اليمن) كما ذهب كمال الصليبي في كتابه المعروف: التوراة جاءت من جزيرة العرب؟!
قد لا يروق هذا الكلام للدوغمائين، وقد يُرى فيه مساس بالرموز.. أقول رموز لأن الأديان في بعدها التاريخ ـ إجتماعي ليست كتباً مقدسة وآيات ومقولات كما يتصوّر البعض، بل منظومة طقوس ورموز تربط الجماعة وتحدد ملامح هويتها. وإلا كيف لي أن أفهم سعي إسرائيل المحموم لإثبات خرافات (تضحك ربات الحجال البواكيا)؟ وكيف أفهم تمرير قوانين، تتيح للأفراد حرية التجارة وإمتلاك القطع الآثرية خارج رقابة الدول، هذا القانون أقرّه الكونغرس قبل غزو العراق ببضعة أشهر، وهو يُثبت أن بعض اللوبيات شمّت رائحة الطبخة، فسال لعابها وكانت الحصيلة عمليات سطو وسرقة خيالية، وصلت إلى حد قص أجزاء من جداريات المواقع الآشورية، خصوصا تلك التي تعلقت بسنحاريب وغيره ممن يحفظ لهم العهد القديم (كثيرا من الود والذكريات؟!)

قبل مدة كنت أتصفح بحثا عن النقوش (الأموية) المبكرة، أتاح لي التعرف على أختام الرصاص البريدية لعبدالملك بن مروان وهي الإثبات الأول الذي يرد فيه إسم "فلسطين" على النقوش الكتابية (الختم عثر عليه عام 1903 وموجود حالياً في المتحف الآركيولوجي بإستنبول) ثم لمحت في الهامش ملحقاً أضافه الباحث الألماني يقول فيه: رأيت بأم عيني في مكتب "شراغا كيدار" في القدس إثنتين من قطع الرصاص منقوش عليها عبارة "أرض فلسطين" ولأسباب مفهومة فقد تكتمت إسرائيل عليها ومنعت نشرها، وكلتاهما تعود بلا أدنى شك لحقبة عبدالملك بن مروان، والمثير كان وجود نص عبري يشرح النماذج كمايلي: أرض فلسطين تعني أرض Erez إسرائيل؟! (إنتهى) وتأكيد دلالة اللفظ Erez أمر مضحك يحاول الإيحاء بأن كلمة "أرض" العربية مشتقة من العبرية أصلا، وكأن القنابل النووية غير كافية لتأكيد أرض إسرائيل، والقضية تحتاج أيضا لسبق فيلولوجي وإحتكار لأصل الأشياء.

القصد مما أوردت هو التأكيد على أن الأديان ليست جدلا عقلياً حول الشرائع ومنظومة الميتافيزقيا وإثبات الوحي أو إنكاره، أو التحقق من عذرية مريم، وبنوّة المسيح لله أو للجندي الروماني "بانتيرا" (كما يقول التلموذ)، وليست قصة منقولة من فراش محمد وعائشة (كما وثقتها الكاميرا الخفية لأهل الحديث، ويرددها عميان الدوغما) ولا قصة السبط يهوذا الذي ضاجع تامار زوجة إبنه (كنّته) فأنجبت له نسلاً (مباركاً) ينتمي له داوود والمسيح؟ الدين ليس هذا، لأن معظم دراسات النقد التاريخي المعاصر، باتت تعرف أن هؤلاء السادة ومن سبقهم من أبطال توراتيين ليسوا سوى خليط لشخصيات أدبية روائية مركبة، لقنتها أجيال الكهنة ونطقت بإسمها. ومعظم هؤلاء لم يجر في عروقهم سوى حبر الأقلام. فعلوم المعرفة "الأبستمولوجيا" ومقارنة الأديان وأبحاث علم نفس التاريخ، إكتشفت بما لا يقبل الشك، آلية السرد الأسطوري في الأديان، ولم تعد تناقش تفاصيل تلك الروايات، إلا بإسقاطها داخل فضائها الزمني المؤسطر، دون إسقاط أخلاقياتنا وقيمنا المعاصرة عليها. لأن ذلك لا يُوقع في المغالطة التاريخية بل في السذاجة أيضا. حيث أن أقصى ما يصبو له البحث العلمي حالياً، هو إثبات تاريخية هؤلاء، وعملية "الغربلة" أسقطت معظم آباء التوراة من غربال النقد التاريخي، وبات من شبه المؤكد أن المسيح شخصية ميتا تاريخية وتوليف لشخصيات عديدة (على الأقل هناك عشر شخصيات للمسيح في الأناجيل القانونية وأربع شخصيات لبولس في أعمال الرسل، هذا يقوله باحثون وعلماء، ينتمون لعصر صناعة الإيرباص، والمحركات النفاثة وليس صناعة الفلافل (ذات الغازات النفاثة) أما المسيح الحقيقي فهو بأحسن الأحوال شاب عاثر الحظ أو مهرطق أعدمه الرومان

وكذلك الحال فإن قصة الإسلام دُوّنت بعد قرنين من الأحداث المزعومة، وهي تعكس المناخ الإجتماعي والسياسي الذي ساد في القرن التاسع ميلادي. ولا يوجد دليل حقيقي ملموس، يؤكدها غير قصص الأدب الديني (السير والأحاديث) وهذه ليست وثائق تاريخية، فمن يراجع سيرة محمد، ويقرأ هواتف الجن التي نسبت الشعر والقصص للأصنام والعفاريت والشيطان وآدم. يعرف حجم التلفيق والفنتازيا والفبركة. مما دعى أحد الباحثين للقول: إن يوما واحدا مما أتى في سيرة محمد يعادل سيرة كاملة؟؟ وبمناسبة القصص الغريبة أتذكر حديثا تداوله الموروث (قرأته عند مرتضى العسكري) يقول: بأن الله كان غاضباً على آدم بعد أكله للتفاحة، مما حدا بآدم لطلب مغفرته قائلا: سامحني وإغفر لي بجاه حبيبك محمد؟! فإستغرب الله وقال له: كيف عرفت بمحمد ولم أخلقه بعد؟ قال آدم: بعدما خلقتني ونفخت بي وبينما كنت أنهض لأقف على قدمي قرأت تحت عرشك مكتوبا: لا إله إلا الله محمد رسول الله؟
إن من كتب هذه الروايات ومثلها عن شق القمر وإهتزاز إيوان كسرى هو نفسه من نسج سيرة محمد. ويكفي القارئ الذكي، أن يعرف أحاديث العنعنة، فهي أكبر إدانة للموروث الإسلامي، لأن الصدق من حيث المبدأ لايحتاج لشهود (الكذب وحده يتشبث بالقوقلة والعنعنة ويقسم بأغلاظ الأيمان ويستجلب الموتى للشهادة)

لكن كل ما أوردته للتو لن يُغير شيئا جوهريا، فهذه الأساطير لم تمنع العلماني الملحد بن غوريون أن يعلن أيام حرب السويس، عن نيّته بإعادة مجد مملكة سليمان من النيل إلى الفرات. ولم تمنع أعضاء الكنيست أبناء الحداثة الأوروبية، من الوقوف له وترديد النشيد الوطني وذرف دموع الفرح. فالأديان تملك قوة رمزية هائلة أكبر بكثير من كتبها المقدسة ومقولاتها ووصاياها وحدودها، هذه الرموز ما زالت تتحكم بالجماعة البشرية شئنا أم أبينا، وهنا سأورد مثالين عن رموز ثانوية للبرهنة بأن وجود الدين وحضوره، يرتبط بشبكة رموز وطقوس متظافرة داخل فضاء هوية مشتركة للجماعة، وكل رمز يستمد طاقته من هذه الشبكة، ليمارس بآن معاً عملية إنفصال وإندماج مستمر، فالحسين يستمد قدسيته فقهياً من فاطمة (إبنة محمد) لكنه بنفس الوقت ينفصل كرمز لذاته، ولن تتأثر طقوس عشوراء بحضور أو غياب محمد، وهذا الأمر ينطبق على محمد كونه إستمد شرعيته من الإنتساب لقبيلة أنبياء الكتاب المقدس، فسقوط هؤلاء في إمتحان التاريخية، لن يؤثر على رمزيته، ونفس الشيئ فإن غوريون الملحد، يعرف أن هؤلاء الآباء الأسطوريين هم عماد وضمان هوية الجماعة، ولن يضيره إن ضاجع السبط يهوذا كنّته أو جدته.

الحربة المقدسة:
قبل أسابيع أعيد القداس التقليدي في مدينة نورنبرغ/ألمانيا للحربة المقدسة، بعد أن غاب لزمن طويل، وقصة هذه الحربة ترتبط بأسطورة الجندي الروماني الذي طعن المسيح أثناء صلبه، لكن لا أعرف لماذا تخلى هذا الجندي عن حربته؟ فالقصة تخبرنا أنها إنتقلت إلى قصر شارلمان (مطلع القرن9م) ثم حطّت في إحدى كنائس براغ وأصبحت أداة سحرية للشفاء والبركة، يتزاحم عليها المرضى، وذوي الحاجات، ثم سُرقت في القرن 14 ووصلت مدينة نورنبرغ، فشيّد لها كنيسة بإسم "الحربة المقدسة" Die Heilige Lanze ، وكان الرهبان يحرسونها ليل نهار، وهكذا أصبحت الحربة تبيض ذهبا للكنيسة، بسبب تدفق النذور والفضة من آلاف الحجاج الذين دفعوا كل شيئ من أجل رؤيتها ونيل بركتها. وفي عصر التنوير (قرن19) إنطفأ بريقها فرحلت إلى متحف فيينا، وبقيت هناك لعام 1939. وبعد ضم النمسا للرايخ أعادها هتلر لكنيسة نورنبرغ، بإحتفال قومي مهيب قلما شهدت ألمانيا مثله، إلى هنا لم تنته الحكاية في عام 1945، داهمت القوات الأمريكية المنتصرة نورنبرغ، بعد أن مهدت الأرض بقصف جوي ساوى المدينة بالأرض، وكانت أولى مهمات القوات الأمريكية تنفيذ أوامر البنتاغون (السرية للغاية) والتي تقضي بالعثور على الحربة المقدسة ومنع الغوستابو من تهريبها، فقد ساد حينها إعتقاد بأن حياة هتلر والرايخ الثالث ترتبط ببقاء الحربة المقدسة، بأيدي الألمان، لذا كانت الحربة بالنسبة لقائد القوة الأمريكية أهم من مدينة نورنبرغ ذاتها؟

الرضى في مشهد:
أصفهان من المدن التي يحلم "كاتب السطور" بزيارتها فهي بالتأكيد من درر مدن العصر الوسيط، لكن أحد معارفي فتح شهيتي لزيارة "مشهد" المدينة المعروفة بمقام علي الرضى الإمام الثامن للشيعة. ولطرافة القصة سأرويها ببعض التمهل لأن محدثي الذي روى لي القصة بهلوان لغوي (وموظف سابق في الأمم المتحدة، وبسبب لباقته في التهريج والتبهير والتمليح إستضافه فيصل القاسم أكثر من مرة في مباريات صراع الديكة في الجزيرة) قال: لقد زرت إيران بعد الثورة الإسلامية مباشرة ، وتجولّت في عدة مدن منها مشهد، هناك رأيت حشوداً مليونية تطوف يوميا حول المرقد (قدرها بثلاثة ملايين) وشاءت الظروف وتوجهت إلى روضة الإمام الرضى وهناك ناشدته بكل جوارحي أن يجلب لي خبراً عن عزيز كان قد فُقِدَ مطلع الستينيات في حرب التحرير الجزائرية وغاب أثره، ولم تمض أشهر حتى تحقق أملي وعثرت عليه في فرنسا حياً يرزق، في العام الماضي 2008سافرت ثانية إلى مشهد لأفي بنذر قطعته للإمام، فقد أقسمت حينها بأن أتطوّع لتنظيف المرافق الصحية التابعة للمرقد، ولما وصلت لأبرّ بوعدي، وجدت طابوراً من مئات الناس تنتظر دورها للقيام بهذه المهمة (الخرائية) المباركة، فبدأت أزاحمهم دون جدوى، ثم رحت أصرخ بالإنكليزية والفرنسية لأفهمهم أني قادم من بلاد بعيدة، ولن أنتظر في الطابور ثلاثة أيام كما أعلمت، حينها لمحني أحد الواقفين في الطابور، كان رجلا في أواسط العمر ويرتدي أسمالاً بالية كمتسوّل. إقترب مني وقال بالفرنسية: ألست فلان بن فلان، قلت له بلى ورب الكعبة (رب الكعبة أضفتها تكريما لكلمة "بلى") فسألته وأنت من تكون؟ قال: ألا تتذكرني؟ كنت معك في فرنسا في السبعينيات! أنا الجنرال فلان.. من قادة الحرس الثوري، وأنام هنا منذ يوم أمس، كي أنال شرف تنظيف تواليت الإمام؟؟
أخيرا: ما يدفع كاتب السطور، ليس السخرية أو الإستهانة بتلك الرموز، بل محاولة جديّة لأنسنتها وإمتصاص شحنة قداستها، مع التأكيد بأن النقد لن يؤتي ثماره إلا بوجود أرضية معرفية ولغة قادرة على توطين مفرداته، ولن يكون مجدياً إلا في إطار عملية تربوية شاملة. لترميز الموروث الديني وهو أهم ما يحتاجه العالم الإسلامي في معركته من أجل الحداثة. أما ما قصدته بإعادة صياغة الرموز فسوف أوضحه في قادم الأيام.
http://nkraitt.blogspot.com/


David und Salomo. Archäologen entschlüsseln einen Mythos* I. Finkelstein N.Silberman عنوان الترجمة الألمانية: داوود وسليمان : ص. 239
إسرائيل فنكلشتاين (مواليد 1949) رئيس سابق لمعهد الآثار وأستاذ في جامعة تل أبيب، ورئيس فريق التنقيب في موقع "مجيدو" من أهم علماء الآثار الإسرائيليين المجددين. نيل سليبرمان (مواليد 1950) رئيس لمعهد آثار في بلجيكا