|
|
تاريخ الغطرسة
رياض قاسم حسن العلي
الحوار المتمدن-العدد: 8573 - 2025 / 12 / 31 - 16:39
المحور:
قضايا ثقافية
يذهب المفكّر والباحث الفنلندي آري تورنين في كتابه تاريخ الغطرسة إلى طرح رؤية نقدية عميقة لطبيعة الغطرسة الإنسانية، معتبرًا إياها نتيجة مباشرة لجهل الإنسان بحدوده الحقيقية، وبوهم تفوّقه المطلق على غيره وعلى قوانين الوجود نفسها. فحين يظن الإنسان أنه استثناء من الضعف، أو أنه بلغ مرتبة تتجاوز المساءلة والمحدودية، تنشأ الغطرسة بوصفها انحرافًا في الوعي بالذات قبل أن تكون انحرافًا في السلوك. ولما كانت منطقتنا العربية، تاريخيًا وواقعًا، بيئةً خصبة لنشوء الطغيان والاستبداد وأشكال الغطرسة المختلفة، فإن قراءة هذا الكتاب تكتسب طابع الضرورة الفكرية. فالتجربة السياسية والاجتماعية في العالم العربي، عبر قرون طويلة، كشفت عن نمط متكرر تتداخل فيه السلطة المطلقة مع وهم التفوق، وتتحول فيه القوة من أداة تنظيم إلى وسيلة استعلاء، ومن مسؤولية إلى امتياز. إن ما يطرحه تورنين من تحليل للغطرسة بوصفها جهلًا بالذات وإنكارًا للحدود، يقدّم مفتاحًا مهمًا لفهم بنية الاستبداد في سياقنا المحلي، حيث غالبًا ما تُفصل السلطة عن المحاسبة، ويُعاد إنتاج صورة الحاكم أو النخبة بوصفهم استثناءً من القواعد العامة. وفي غياب ثقافة التذكير بالحدود—حدود القوة، وحدود الزمن، وحدود الإنسان—تترسخ الغطرسة كنظام تفكير وسلوك جماعي. ومن هنا، تصبح قراءة هذا الكتاب خطوة أساسية لفهم الجذور النفسية والأخلاقية للطغيان، لا مظاهره السياسية فقط. فهو يكشف آليات الاستبداد العميقة: كيف يتحول النجاح إلى شرعية مطلقة، وكيف يُقمع النقد باسم الهيبة، وكيف يُستبدل الوعي بالمسؤولية بوهم العصمة. وفي هذا المعنى، يخاطب الكتاب المجتمع بأسره، لأن الغطرسة لا تعيش إلا في بيئة تتسامح معها أو تبرّرها. إن أهمية هذا العمل تكمن في أنه يدعو إلى إعادة بناء الوعي قبل إعادة بناء الأنظمة، ويذكّر بأن مقاومة الاستبداد تبدأ بتفكيك الفكرة التي تسمح بظهورهم واستمرارهم. فحين يغيب التذكير بالفناء، وبالضعف الإنساني، وبأن السلطة عابرة مهما طالت، يصبح الطغيان ممكنًا، وقابلًا للتكرار. لذلك، فإن قراءة تاريخ الغطرسة في السياق العربي ممارسة نقدية ضرورية لفهم الذات الجماعية، ولمساءلة علاقتنا بالقوة والنجاح والسلطة، تمهيدًا لبناء وعيٍ أقل قابلية لإعادة إنتاج الاستبداد، وأكثر قدرة على صيانة الكرامة الإنسانية.
●الغطرسة: وهم التفوق ونقص الوعي بالذات ينطلق تورنين من فرضية أساسية مفادها أن الغطرسة نتاج سوء فهم القوة. فالشعور بالغطرسة والعجرفة يتغذّى في جوهره من اعتقاد وهمي بالتميّز المطلق، أي من تصور الإنسان لنفسه بوصفه كائنًا متجاوزًا للحدود التي يخضع لها الآخرون. وقد يتخذ هذا الوهم أشكالًا متعددة: نصرًا عسكريًا يُفسَّر باعتباره دليل تفوق جوهري، أو سلطة سياسية تُمنح صفة الاستحقاق الطبيعي، أو مكانة اجتماعية تُحوَّل إلى معيار للقيمة الإنسانية، أو حتى تفوقًا فكريًا وثقافيًا يُنظر إليه باعتباره علامة اصطفاء خاص. غير أن هذا الإحساس بالتفوّق، على عكس ما يوحي به من ثقة وقوة، يكشف في عمقه عن فراغ إدراكي، يتمثل في العجز عن رؤية الذات كما هي: كيانًا محدودًا، هشًّا، خاضعًا للزمن والتغير والفناء. فالغطرسة، وفق هذا المنظور، تعويض نفسي عن قلق دفين تجاه الضعف الإنساني. إن الإنسان الغرِق في وهم التفوق يفشل في الاعتراف بما يسميه تورنين "الهشاشة البنيوية للوجود الإنساني" أي تلك الحقيقة التي مفادها أن القوة طارئة، وأن السيطرة مؤقتة، وأن كل إنجاز، مهما بدا عظيمًا، يظل معلقًا بشروط خارجة عن إرادة صاحبه. وحين يُغفل هذا الإدراك، تتحول السلطة إلى هوية، والنجاح إلى تعريف للذات، فينشأ تضخم الأنا بوصفه آلية دفاع ضد الإحساس العميق بعدم الثبات. فالإنسان، حين ينسى ضعفه وقابليته للفناء، وحين يتجاهل أن ما يملكه من نفوذ أو نجاح هو عارض وزائل، يقع في أسر صورة متخيّلة عن نفسه؛ صورة مصقولة، متعالية، منفصلة عن الواقع. وكلما ازداد ابتعاده عن وعيه بحدوده الإنسانية، ازدادت هذه الصورة تضخمًا، حتى تصبح حاجزًا يمنعه من رؤية ذاته والآخرين بوضوح. وهنا تتحول الغطرسة من مجرد شعور داخلي إلى نمط تفكير وسلوك، يُقصي النقد، ويرفض المحاسبة، ويُبرّر الأخطاء باعتبارها امتيازًا لا يخضع للقواعد العامة. وبهذا المعنى، فإن الغطرسة اختلال معرفي في العلاقة بين الإنسان وذاته. إنها فقدان للبوصلة الوجودية التي تذكّر الإنسان بأنه، مهما بلغ من القوة أو المجد، يظل كائنًا ناقصًا، محدودًا، ومعرّضًا للسقوط. ومن هنا، تصبح استعادة الوعي بالضعف، حقيقة إنسانية مشتركة، شرطًا أساسيًا للخروج من وهم التفوق، والاقتراب من الحكمة بوصفها معرفة بالحدود قبل أن تكون امتلاكًا للقوة.
●روما القديمة: طقوس النصر كدرس أخلاقي يشير تورنين إلى أن الوعي بمخاطر الغطرسة كان حاضرًا بوضوح في وعي الحضارات القديمة التي اختبرت السلطة والنصر اختبارًا مباشرًا. ومن بين هذه الحضارات، تبرز روما القديمة بوصفها مثالًا لافتًا؛ إذ جمعت بين النزعة العسكرية الإمبراطورية من جهة، وبين إدراك أخلاقي عميق لمحدودية الإنسان من جهة أخرى. فالرومان، على الرغم من توسّعهم العسكري وهيمنتهم السياسية، لم يكونوا غافلين عن الثمن النفسي والأخلاقي للنصر. لقد أدركوا أن الانتصار، إذا تُرك دون كبح رمزي أو أخلاقي، يمكن أن يتحول من مصدر قوة إلى بذرة فساد، وأن القائد الذي يُرفع إلى مرتبة شبه إلهية قد يفقد صلته بالواقع، ويقع أسير غروره، وهو ما يهدد توازن الفرد والدولة معًا.
يتجلّى هذا الإدراك بوضوح في طقس موكب النصر الروماني، الذي كان يُقام تكريمًا للقائد المنتصر العائد من ساحات القتال. فمن ناحية، كان الموكب عرضًا علنيًا للقوة: عربات مزخرفة، أسرى، غنائم، وأناشيد تمجّد القائد وتخلّد انتصاره في ذاكرة المدينة. ومن ناحية أخرى، كان يحمل في بنيته عنصرًا مضادًا للتضخيم، عنصرًا صامتًا لكنه بالغ الدلالة. فخلف القائد المنتصر، الذي يقف في مركز المشهد محاطًا بالإعجاب والهتاف، كان يقف عبد، لا ليشاركه الفخر أو يضفي عليه مزيدًا من التمجيد، لكن ليؤدي وظيفة معاكسة تمامًا: وظيفة التذكير. هي أداة أخلاقية مقصودة، تجسّد صوت الحقيقة في لحظة قد تطغى فيها الأوهام.
كان العبد يهمس في أذن القائد بعبارة واحدة قصيرة، لكنها ذات حمولة وجودية عميقة: "تذكّر أن مآلنا جميعًا إلى الفناء." بهذه الكلمات، يُعاد القائد، ولو للحظة، إلى حجمه الإنساني الحقيقي. ففي أوج المجد، وبينما تبدو له المدينة خاضعة لإرادته، يُذكَّر بأن سلطته مؤقتة، وأن جسده خاضع للزمن، وأن الموت يقف على مسافة واحدة من الجميع، منتصرين ومهزومين على حد سواء. لم يكن الهدف من هذا الطقس إلغاء قيمة النصر أو التقليل من شأن الإنجاز، إنما وضعه في سياقه الصحيح. فالرومان لم ينكروا البطولة، لكنهم رفضوا تحويلها إلى وهم الخلود أو تفوق جوهري دائم. لقد سعوا إلى تحقيق توازن دقيق بين الاحتفاء الخارجي والوعي الداخلي، بين الاعتراف بالقوة والتحذير من غوايتها.
●فهم عميق للنفس البشرية
تعكس هذه الممارسة فهمًا عميقًا لطبيعة النفس البشرية، التي تميل، في لحظات التفوق، إلى نسيان حدودها. فقد أدرك الرومان أن أخطر ما في السلطة الاعتقاد بأنها تُخرج صاحبها من دائرة المساءلة والضعف الإنساني. ومن هنا، جاء التذكير بالفناء بوصفه آلية وقائية ضد تضخم الأنا، وضد الانزلاق من القيادة إلى الاستبداد. وفي قراءة تورنين، يظهر هذا الطقس كدرس أخلاقي دائم الصلاحية ، فالمجتمعات التي لا تجد وسيلة لتذكير أقويائها بحدودهم، تزرع بذور سقوطها بيدها. أما الحكمة، فتتجلى في إدراك هشاشتها، وفي الوعي بأن أعظم الانتصارات تظل ناقصة ما لم تُرافقها معرفة الإنسان بمصيره وحدوده. وهكذا، يتحول موكب النصر الروماني من احتفال عسكري إلى تمثيل فلسفي مكثف للصراع الدائم بين الغطرسة والوعي، بين وهم التفوق وحقيقة الفناء.
●الموت بوصفه كابحًا للغطرسة الطقس الروماني المتعلق بالتذكير بالموت كان يحمل رسالة أخلاقية صارمة صيغت بوعي دقيق لطبيعة الإنسان حين يمتلك القوة. فجوهر الرسالة بسيط في صياغته، عميق في دلالته: النصر زائل، والسلطة مؤقتة، والمجد لا يمنح صاحبه حصانة من المصير الإنساني النهائي. في لحظة الذروة، حين تتجه الأنظار كلها إلى القائد المنتصر، وحين يتعاظم الشعور بالاستحقاق والتفوق، يأتي التذكير بالموت ليكسر وهم الاستثناء. فالقائد، مهما بلغ من المجد، يُعاد إلى حجمه الإنساني الحقيقي: كائن فانٍ، خاضع للزمن، لا يملك ضمانة للاستمرار ولا حقًا طبيعيًا في الخلود. وما تحقق اليوم من سيطرة أو نفوذ، قد يتبدد غدًا بفعل عوامل خارجة عن الإرادة، من هزيمة أو مرض أو تغيّر في موازين القوة. بهذا المعنى، يظهر الموت كـمرآة أخلاقية تعيد للإنسان وعيه بذاته. فالتذكير بالفناء يُقصد به تحرير الإنجاز من التضخم. حيث يضع النصر في إطاره الصحيح: حدث عابر في مسار زمني أطول، لا تعريفًا نهائيًا لقيمة الإنسان ولا مبررًا لتجاوزه للحدود.
شكّل هذا التذكير بالموت أداة مركزية في كبح الغطرسة، لأنه عمل على إعادة التوازن بين مستويين متناقضين: التقدير الخارجي والوعي الداخلي. فمن جهة، سمح الرومان بالاحتفاء العلني بالنصر، وبالاعتراف بالجهد والبطولة، ومن جهة أخرى، حرصوا على ألا يتحول هذا الاحتفاء إلى حالة انفصال عن الواقع أو إلى وهم تفوق مطلق. يُستخدم الموت كوسيلة لضبط المعنى. فالقائد يُكرَّم بصفته إنسانًا نجح في مهمة، لا بصفته كائنًا متعاليًا على البشر. والسلطة تُمنح بوصفها مسؤولية مؤقتة، لا حقًا جوهريًا أو امتيازًا دائمًا.
في قراءة تورنين، تكمن أهمية هذا الطقس في كونه رفضًا صريحًا لوهم الخلود الذي غالبًا ما يرافق السلطة والانتصار. فالغطرسة، في أحد أوجهها الأساسية، هي محاولة إنكار الموت عبر تضخيم الذات، وكأن القوة قادرة على تعطيل قوانين الوجود. والتذكير بالفناء يقطع هذا الوهم من جذوره، ويعيد الإنسان إلى حقيقة لا يمكن التحايل عليها. لقد فهم الرومان أن المجتمع الذي يسمح لأبطاله بأن ينسوا قابليتهم للسقوط، إنما يفتح الباب لانحراف السلطة وتحولها إلى استبداد. أما المجتمع الذي يربط القوة دومًا بالحدود، والنصر بالزمن، والمجد بالفناء، فإنه يحمي نفسه من الانهيار الأخلاقي قبل السياسي.
هكذا يصبح الموت، في هذا السياق، قيمة تربوية وأخلاقية لا نقيضًا للحياة. إنه الأداة التي تمنع القوة من التحول إلى طغيان، والنجاح من التحول إلى عمى، والإنجاز من التحول إلى عبادة للذات. ومن خلال هذا الوعي، يتضح أن الحكمة تكمن في تذكّر هشاشة المجد، وأن أعظم الانتصارات تظل ناقصة ما لم يصحبها إدراك عميق بأن الإنسان، في نهاية المطاف، كائن محدود، مهما علا شأنه أو اتسعت سلطته.
●فهم عميق للنفس البشرية تعكس هذه الممارسة الرومانية فهمًا نفسيًا متقدمًا لطبيعة الإنسان، سبق بكثير ما صاغته لاحقًا الفلسفات الأخلاقية ونظريات علم النفس الحديث. فقد أدرك الرومان، من خلال التجربة التاريخية لا التنظير المجرد، أن الغرور لا يُعالَج بالقمع المباشر، لأن القمع يولّد مقاومة خفية، ويغذّي الشعور بالمظلومية أو الاستثناء، لكنه يُعالَج بالتذكير الهادئ بالحقيقة الوجودية التي لا يستطيع الإنسان إنكارها دون أن ينفصل عن ذاته. فأقوى وسيلة للحد من تضخم الأنا هي إعادة ربطها بسياقها الطبيعي. فالإنسان يحتاج إلى الاعتراف بإنجازه، لكنه يحتاج في الوقت ذاته إلى تذكير مستمر بأن هذا الإنجاز لا يرفعه فوق القوانين التي تحكم الوجود الإنساني. وحين يُغرق الفرد بالمديح دون أن يُقابل ذلك بإشارة إلى الحدود، سرعان ما يبدأ في تصديق الصورة المتخيّلة عن نفسه، ويتحوّل النجاح من حدث إلى هوية، ومن تجربة إلى مبرر للتمايز المطلق. ومن هنا، يظهر الغرور بوصفه اختلالًا في التوازن النفسي بين تقدير الذات ووعيها بحدودها. فالأنا التي لا تُقابل بمرآة الحقيقة، تتضخم بلا ضابط، وتفقد قدرتها على التمييز بين الممكن والمستحيل، وبين الجرأة المشروعة والمغامرة المدمّرة. وعند هذه النقطة، تبدأ القرارات في الابتعاد عن الحكمة والعقل، وتتحول إلى استعراض للقوة بدل أن تكون تعبيرًا عن المسؤولية.
هنا يلتقي التحليل التاريخي بالبعد الفلسفي الذي يطرحه تورنين بوضوح: الإنسان الذي يعتقد أنه فوق المحاسبة يفقد بوصلته الأخلاقية. سواء كان هذا الاعتقاد متجسدًا في السياسة، حيث تُبرَّر القرارات القاسية باسم المصلحة العليا، أو في الحرب، حيث يُنظر إلى القوة باعتبارها حقًا مطلقًا، أو حتى في النجاح الشخصي، حيث يتحول التفوق إلى معيار للتفوّق الأخلاقي. فحين يغيب الإحساس بالحدود، يتآكل الوعي بالمسؤولية، ويصبح الخطأ غير مرئي لصاحبه، لأن صورته عن ذاته لا تسمح بالاعتراف به. وعندئذٍ لا يحتاج الإنسان إلى خصم خارجي ليهزمه؛ إذ يكفي أن يواجه أول اختبار حقيقي يكشف هشاشته، ليبدأ الانهيار من الداخل. فالغطرسة، في هذا السياق، علامة السقوط المبكرة.
إن ما فهمه الرومان intuitively، وما يؤكده تورنين نظريًا، هو أن الوعي بالحدود شرط أساسي لاستمرار التوازن النفسي والأخلاقي. فالقوة التي لا تُذكَّر بحدودها تنقلب على صاحبها، والنجاح الذي لا يُقابَل بتواضع معرفي يتحول إلى عبء. أما الإنسان الذي يبقى على صلة بحقيقته الوجودية—ككائن ناقص، قابل للخطأ، معرّض للفناء—فهو الأقدر على ممارسة السلطة دون أن تفسده، وتحمل النجاح دون أن يعميه. وهكذا، تبدو هذه الممارسة الرومانية درسًا إنسانيًا دائم الصلاحية: إن الحكمة تولد من الوعي بحدود القوة، ولا تستقر في من يعلو صوته بالمديح، إنما في من يسمع، حتى في لحظات المجد، الهمس الذي يذكّره بأنه لا يزال إنسانًا.
● الغطرسة مرض وجودي لا اجتماعي فقط يصل تورنين في خلاصته إلى تشخيص حاسم للغطرسة، بوصفها حالة وجودية عميقة تنشأ حين يفقد الإنسان صلته بمعرفته بذاته وبحدوده الطبيعية. فالغطرسة، في هذا المعنى، تتعلق بما يعتقد الإنسان عن نفسه في مواجهة الوجود. إن جوهر الغطرسة، وفق هذا التصور، يكمن في الجهل بالذات: جهل بمحدودية الجسد، بزمنية النجاح، وبأن الإنسان كائن غير مكتمل بطبيعته. وحين يغيب هذا الوعي، يتحول التفوق—مهما كان حقيقيًا—إلى وهم مطلق، وتتحول القدرة إلى حق، والإنجاز إلى تعريف نهائي للقيمة الإنسانية. وهنا تصبح الغطرسة عرضًا لخلل أعمق في العلاقة بين الإنسان وذاته، لا مجرد نتيجة لعوامل اجتماعية خارجية.
من هذا المنطلق، يؤكد تورنين أن مواجهة الغطرسة لا يمكن أن تقتصر على القوانين أو النقد الخارجي، مهما بلغت صرامتهما أو أهميتهما. فالقانون يضبط السلوك، لكنه لا يعالج الوهم الداخلي، والنقد قد يفضح الخطأ، لكنه لا يضمن تحوّل الوعي. والغطرسة، بوصفها مرضًا وجوديًا، قادرة على التكيّف مع الرقابة، وعلى التحايل على المساءلة، ما لم تُواجه من الداخل. العلاج الحقيقي، إذًا، هو تربية وعي داخلي دائم يقوم على استحضار ثلاث حقائق أساسية: الفناء، والضعف، وعدم الاكتمال. فهذه الحقائق لا تُضعف الإنسان، بل تحرّره من وهم الاستثناء، وتعيده إلى إنسانيته المشتركة مع الآخرين. والإنسان الذي يعترف بعدم اكتماله يكون أكثر قدرة على التعلّم، وأكثر استعدادًا للمساءلة، وأقل ميلًا لتحويل قوته إلى أداة استعلاء.
عبر التاريخ، شكّل التذكير بالموت الوسيلة الأكثر فعالية للحفاظ على التوازن النفسي والأخلاقي لدى من يمتلكون القوة أو النفوذ. فالموت، في هذا السياق، لا يعمل كتهديد، بل كمنظّم أخلاقي يعيد ترتيب القيم، ويمنع السلطة من أن تتضخم إلى حد الادّعاء بالخلود أو العصمة. إنه يضع النجاح في مكانه الطبيعي: تجربة إنسانية محدودة، لا ضمانًا للتفوّق ولا شهادة تفوق أخلاقي. واللافت في طرح تورنين أن هذا التذكير لا يلغي الطموح، ولا يُقزّم الإنجاز، لكنه ينقذهما من التحول إلى عبء أخلاقي ومدمّر. فالطموح حين ينفصل عن الوعي بالحدود يتحول إلى جشع، والنجاح حين يُنزع من سياقه الزمني يتحول إلى استبداد. أما حين يقترن الطموح بالتواضع الوجودي، ويُرافق الإنجاز إدراكٌ بالفناء، فإن القوة تصبح أكثر إنسانية، والنجاح أكثر اتزانًا.
يقدّم تورنين فهمًا للغطرسة بوصفها مرضًا يصيب الوعي قبل أن يصيب السلوك. وهي مرض يُشفى بإعادة الإنسان إلى حقيقة وجوده: كائن محدود، هشّ، ناقص، لكنه قادر—بهذا الوعي تحديدًا—على الحكمة. فالمعرفة بالحدود شرط العظمة الأخلاقي، والإنسان لا يقترب من إنسانيته الكاملة إلا حين يتخلى عن وهم الكمال.
بهذا الطرح، يقدّم آري تورنين قراءة تتجاوز التاريخ لتلامس واقع الإنسان المعاصر، مذكّرًا بأن الغطرسة، مهما تغيّرت أشكالها، تظل وليدة الوهم، وأن الحكمة الحقيقية تبدأ حين يعرف الإنسان حدوده، ويعترف بضعفه، ويتصالح مع حتميّة فنائه.
#رياض_قاسم_حسن_العلي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في ذكرى السياب العراقي
-
الباباوات السيئون: قراءة تاريخية نقدية في فساد السلطة الكنسي
...
-
تأثير مدرسة الحوليات الفرنسية في الفكر التاريخي العربي: نحو
...
-
مدرسة الحوليات الفرنسية: ثورة منهجية أعادت كتابة الماضي
-
نعوم تشومسكي: العقل النقدي بين اللسانيات والسياسة
-
جوليان بارنز
-
الإشراقية: فلسفة النور بين العقل والذوق وميراث الحكمة الشرقي
...
-
المثقفون الجدد
-
العقل بين الازدهار والانكسار: مسار المعرفة في الحضارة الإسلا
...
-
الإنسان على حافة الهاوية: بين ذئابية هوبز وألوهية فويرباخ –
...
-
تجربة ابن سينا مع كتاب -ما بعد الطبيعة- لأرسطو
-
الفلسفة وقيمة السؤال: نحو فهم جديد لمعنى التفكير الفلسفي
-
انطباع ضد الموضوعية: دفاع عن الذات القارئة
-
السرد، القارئ، والأنطولوجيا الإنسانية
-
باروخ سبينوزا: الفيلسوف الذي عاش منفياً من معابد البشر
-
عودة إلى سبينوزا مرة أخرى ورؤيته في علم الأخلاق
-
الفردية والإيديولوجيا: قراءة فلسفية ونفسية في فكر كارل يونغ
-
أفول أوروبا: بين النقد الجذري لأونفراي والسخرية الاستراتيجية
...
-
القنفذ والشعر: دريدا وبلاغة المأزق
-
حين تتحول الكلمات إلى أصنام: رؤية فلسفية للغة والفكر
المزيد.....
-
فيديو متداول لـ-حرق منزل الخميني في طهران خلال الاحتجاجات-..
...
-
بعروض -استثنائية-.. دبي تدخل عام 2026
-
-تفجير انتحاري- يستهدف دورية للشرطة في حلب.. والسلطات السوري
...
-
كواليس اجتماع ترامب–نتنياهو.. هل يمهّد لقاء فلوريدا لضربة جد
...
-
في خطاب رأس السنة.. بوتين: روسيا ستنتصر في أوكرانيا
-
أمم أفريقيا…منتخبا الجزائر والسودان يتأهلان لدور الـ16
-
خبراء: هذا ما حصل عليه نتنياهو خلال زيارته للولايات المتحدة
...
-
ماذا يخبئ نتنياهو وترامب بعد الاتفاق على فتح معبر رفح؟
-
وثائق للجزيرة تكشف مخطط جنرالات الأسد للتحرك عسكريا ضد دمشق
...
-
إسرائيل وعدوى الانفصال من -أرض الصومال- إلى اليمن
المزيد.....
-
قواعد الأمة ووسائل الهمة
/ أحمد حيدر
-
علم العلم- الفصل الرابع نظرية المعرفة
/ منذر خدام
-
قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف
...
/ محمد اسماعيل السراي
-
الثقافة العربية الصفراء
/ د. خالد زغريت
-
الأنساق الثقافية للأسطورة في القصة النسوية
/ د. خالد زغريت
-
الثقافة العربية الصفراء
/ د. خالد زغريت
-
الفاكهة الرجيمة في شعر أدونيس
/ د. خالد زغريت
-
المفاعلة الجزمية لتحرير العقل العربي المعاق / اسم المبادرتين
...
/ أمين أحمد ثابت
-
في مدى نظريات علم الجمال دراسات تطبيقية في الأدب العربي
/ د. خالد زغريت
-
الحفر على أمواج العاصي
/ د. خالد زغريت
المزيد.....
|