حمودة المعناوي
الحوار المتمدن-العدد: 8573 - 2025 / 12 / 31 - 12:57
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
_ إغواء الطبيعة: السحر كفن لإخضاع المادة لمنطق الرغبة
تتبدى إشكالية السحر بوصفه علماً مضاداً (Anti-Science) كأطروحة فلسفية تتجاوز مجرد الصراع التقليدي بين الخرافة والعقل، لتصل إلى جوهر الخلاف حول جهة البدء و منطق الصيرورة. فإذا كان العلم الكلاسيكي هو علم المتن الذي يبدأ من الموجود ليؤكد إستمرارية القوانين المادية، فإن السحر هو علم الهامش أو العلم النقيض الذي يتخذ من العدم منطلقاً أنطولوجياً، ومن الوجود المغاير الذي يخرق العادة غاية نهائية. هذا النص المتجانس يسعى لتفكيك هذه المواجهة عبر قراءة عميقة لمفهوم العلم المضاد وعلاقته بفيزياء العدم. يرتكز العلم التقليدي على مبدأ الإستمرارية و التراكمية، حيث يُشتق الوجود من وجود سابق له، مما يحول العالم إلى سلسلة مغلقة من الأسباب والنتائج التي يمكن رصدها إستقرائياً. في المقابل، يطرح السحر نفسه كعلم مضاد لأنه يرفض هذه السلسلة، معتبراً إياها قيداً على الإمكانات اللانهائية للكون. السحر يبدأ من الفجوة العدمية؛ تلك المنطقة التي يعجز العلم عن سبرها لأنها تفتقر إلى المادة القابلة للقياس. بالنسبة للساحر، العدم ليس فراغاً من المعنى، بل هو إمتلاء بالإمكان. السحر كعلم مضاد لا يبحث عن كيفية عمل الأشياء كما هي، بل يبحث عن كيفية جعل الأشياء لا تكون كما هي، أي أنه فن إحداث الإنقطاع في نسيج الواقع المستقر لإستبداله بوجود مغاير، منبثق مباشرة من إرادة الخلق التي تتغذى على طاقة العدم. إن صفة المضاد هنا لا تعني الجهل، بل تعني قلب المنهج؛ فبينما يذهب العلم من الخاص (التجربة) إلى العام (القانون)، يذهب السحر من المطلق (الخيال العدمي) إلى المتعين (الأثر السحري). العلم المضاد السحري هو المحاولة الجذرية لإثبات أن القانون ليس قدراً، بل هو حالة ذهنية يمكن تجاوزها عبر الولوج إلى خزان العدم و إستخراج قوانين مغايرة تماماً. السحر بهذا المعنى يتحدّى فيزياء الضرورة بميتافيزيقا الحرية؛ فهو يدعي أن العدم هو المساحة الوحيدة التي تتيح للإنسان أن يكون خالقاً و ليس مجرد صانع يعيد تشكيل ما هو موجود سلفاً. إن الوجود المغاير الذي ينتهي إليه السحر هو وجود متمرد على الإستقراء، لا يمكن التنبؤ به عبر المعادلات الرياضية، لأنه ينبثق من لحظة التماس بين وعي الساحر وعماء العدم، وهي لحظة تقع خارج الزمن الفيزيائي التقليدي. علاوة على ذلك، يتجلى السحر كعلم مضاد في تعامله مع الرمز كقوة فيزيائية فاعلة. ففي العلم، الرمز كالرياضيات هو أداة وصف للواقع، بينما في السحر، الرمز هو أداة نقض للواقع وإعادة بنائه. الساحر يستخدم الخيال العدمي كمعول لهدم الحدود بين الذات والموضوع، معتبراً أن العدم هو المادة المرنة التي تستجيب للرمز بأكثر مما تستجيب للفعل الميكانيكي. هذا التحول يجعل من السحر علماً يدرس ديناميكا المستحيل، حيث الهدف ليس فهم الطبيعة بل إغواؤها للتخلي عن قوانينها الرتيبة لصالح عجائب الوجود المنبثقة من الفراغ. إنها محاولة لفرض منطق الرغبة على منطق المادة، مما يضع السحر في تضاد أبدي مع العلم الذي يشترط حياد الذات أمام الموضوع. و في ذروة هذا التحليل، نجد أن السحر كعلم مضاد يمثل اليوتوبيا الأنطولوجية للإنسان؛ الرغبة في العودة إلى نقطة الصفر (العدم) للبدء من جديد بوجود لا تحكمه العلل المادية الثقيلة. إن السحر هو العلم الذي يرفض حتمية الوراثة المادية للكون، ويصر على أن هناك طاقة غيبية تسكن في طيات العدم يمكنها أن تعيد صياغة العالم في كل لحظة. و بذلك، يظل السحر هو الظل المتمرد للعلم؛ فكلما إزداد العلم إنضباطاً داخل حدود المادة، إزداد السحر توهجاً كبديل يمنح الإنسان مفاتيح الخلق من اللاشيء. إنه العلم الذي يبدأ حيث ينتهي العلم، وينتهي حيث يبدأ العدم بالتنفس، محولاً الوجود إلى قصيدة منبثقة من صمت اللاهوية، ومؤكداً أن الحقيقة الكبرى لا تكمن فيما نراه، بل في ذلك العدم السحري الذي يمنح لكل مرئيٍّ حق الظهور.
_ السببية المنبثقة: الإنقلاب على الحتمية المادية وتأسيس أنطولوجيا الخلق من العدم
إنّ مقتضى التحقق العلمي من الظاهرة السحرية لا يمر عبر بوابة التعديل البسيط في القوانين الفيزيائية، بل يتطلب زلزالاً إبستمولوجياً يطيح بمركزية السببية التقليدية الخطية والمادية لصالح ما يمكن تسميته بالسببية المنبثقة من العدم أو السببية العمودية. في السببية التقليدية التي قام عليها صرح العلم منذ أرسطو وحتى نيوتن، يُشتق المعلول من علة تسبقه في الزمن و تجاوره في المكان، مما يجعل الوجود سلسلة متصلة من الحتميات التي لا تترك فراغاً للصدفة أو الخلق المحض. أما السحر، في جوهره، فهو فعل إنقطاع؛ إنه الادعاء بأن الأثر يمكن أن يبرز من فجوة عدمية دون الحاجة لوسائط مادية متسلسلة. لذا، فإن أي إعتراف علمي بالسحر يستلزم بالضرورة إلغاء مفهوم الحتمية المادية و إستبداله بمنطق يرى في العدم طرفاً فاعلاً و مباشراً في إنتاج الواقع، حيث تصبح الإرادة أو الرمز هي العلة التي تستنهض الوجود من غيابة الفراغ دون اتكاء على مادة سابقة. هذا التحول نحو السببية المنبثقة من العدم يغير مفهوم الوسط (Medium) الذي تنتقل عبره القوى؛ فبينما يشترط العلم التقليدي وجود ناقل على شكل حقل مغناطيسي، تصادم جزيئات، موجات ضوئية، يفترض السحر أن العدم نفسه هو الناقل المطلق والخزان اللانهائي الذي لا يحتاج لزمن لقطع المسافات. إن التحقق العلمي هنا سيعني الاعتراف بأن هناك نوعاً من السببية اللحظية (Instantaneous Causality) التي لا تخضع لسرعة الضوء أو قوانين التراكم المادي، بل تنبع من قدرة الخيال العدمي على طي أبعاد الزمكان و إستدعاء النتيجة مباشرة من رحم الإمكان. في هذا الإطار، لا يعود العدم مجرد غياب للشيء، بل يصبح رحم الأشياء، و تتحول السببية من علاقة أ تسبب ب إلى علاقة الإرادة تستدعي ب من العدم، وهو ما يمثل ذروة التحدي للمنهج العلمي الذي لا يتقن التعامل مع ما لا يترك أثراً مادياً قبل وقوعه. إن إلغاء السببية التقليدية لصالح هذه السببية الإنبثاقية يعني أيضاً إعادة تعريف الزمن؛ فالسحر يشتغل في زمن الآن المطلق، حيث يتحد السبب بالمعلول في لحظة إنفجار وجودي من العدم. العلم الذي يتبنى هذا الإطار الميتافيزيقي الجديد سيضطر للإعتراف بأن القوانين الطبيعية ليست سوى قشور إحصائية تحجب خلفها حقيقة أكثر عمقاً، وهي أن الوجود يولد في كل لحظة من جديد من خلال تأثير العدم. هذه الرؤية تجعل من كل ظاهرة سحرية عملية خلق مستمر (Continuous Creation)، حيث لا يستند المعلول إلى الماضي المادي، بل يستند إلى المستقبل العدمي أو الخيال الذي يفتتح مسارات جديدة للوجود. و بذلك، يصبح السحر هو العلم الذي يدرس قوانين الإنبثاق من الفراغ، وتتحول السببية من سلسلة ثقيلة من الحديد المادي إلى خيوط حريرية من المعلومات والرموز التي تحرك سكون العدم وتجبره على التجسد. وفي ذروة هذا التحليل، نجد أن التخلي عن السببية التقليدية هو الثمن الذي يجب على العلم دفعه إذا ما أراد ولوج عالم السحر؛ وهو ثمن باهظ لأنه يعني التخلي عن التنبؤ بأسلوبه القديم لصالح المشاركة في التكوين. إن السببية المنبثقة من العدم تحطم وحدة الموضوع المستقل عن الذات، إذ يصبح الوعي بإعتباره الكيان الوحيد القادر على تصور العدم هو العلة الحقيقية المحركة للكون. السحر، بهذا التفكيك، هو إعلان نهاية عصر الآلة الكونية وبداية عصر "الكون السحري" الذي يتنفس من رئة الفراغ. إن التحقق العلمي من السحر لن يكون مجرد إضافة فصل جديد للفيزياء، بل سيكون كتابة "توراة علمية" جديدة، تضع العدم في مركز السيادة وتجعل من المادة مجرد ظل عابر لبرق الإرادة المنبثق من غياهب اللاشيء.
_ رياضيات الغيب: السحر كخوارزمية للتلاعب بإحتمالات العدم
يُعد طرح الإيمان بالسحر كإحتمال رياضي لعمليات تجري في العدم محاولة جسورة لنقل السحر من حيز اللامعقول إلى حيز غير القابل للملاحظة، وهو ما يفتح أفقاً جديداً في فلسفة العلم والرياضيات. لكي نبرر هذا الإيمان فلسفياً، يجب أن ننظر إلى العدم لا بوصفه فراغاً سلبياً، بل بوصفه فضاءً إحتمالياً لانهائياً، حيث تمثل قوانين الفيزياء التقليدية فقط المجموعة الجزئية التي تم التحقق منها إحصائياً، بينما يمثل السحر المجال الإحتمالي الذي يقع خلف حدود الملاحظة البشرية. في هذا السياق، يصبح السحر هو العلم الذي يتعامل مع القيم المتطرفة في منحنى التوزيع الإحتمالي للوجود، حيث يمكن للعدم أن يُنتج ظواهر تبدو سحرية لأن إحتمال وقوعها ضئيل جداً وفقاً للمعايير الإستقرائية، لكنه يظل إحتمالاً رياضياً قائماً ضمن العدم الخلاّق. إن التبرير الرياضي للسحر يستند إلى فكرة أن الفراغ ليس صفراً، بل هو حالة توازن بين كميات هائلة من الطاقات المتقابلة التي يفني بعضها بعضاً لينتج اللاشيء الظاهري. هنا، يمكن تصور السحر كعملية إخلال رياضي بهذا التوازن؛ فالساحر عبر إرادته أو رموزه لا يخلق مادة من لا شيء، بل يقوم بتحيز إحصائي داخل الفراغ، مما يؤدي إلى بروز جهة على حساب أخرى، و هو ما يفسر فيزيائياً بظواهر مثل كسر التناظر التلقائي. بهذا المعنى، يكون السحر هو القدرة على التلاعب بمعاملات الإحتمال في العدم، بحيث تصبح العمليات غير القابلة للملاحظة مثل تقلبات الفراغ الكمي موجهة نحو غاية محددة. إن ما نسميه سحراً هو في الحقيقة حدثٌ رياضي نادٍر تم تحفيزه عمداً عبر قوة الخيال التي تعمل كمتغير (Variable) غير منظور في معادلة الواقع. علاوة على ذلك، يتقاطع هذا الإيمان مع نظرية العوالم المتعددة و الرياضيات الطوبولوجية؛ حيث يُفترض أن كل ما هو ممكن رياضياً هو موجود فعلياً في نقطة ما من العدم اللانهائي. السحر، في هذا الإطار، هو تقنية القفز الأنطولوجي أو الإستدعاء من مساحات احتمالية لا تقع تحت حواسنا. إننا نبرر السحر هنا بوصفه خوارزمية معقدة للولوج إلى البيانات المظلمة للكون؛ تلك التي لا تترك أثراً فيزيائياً مستمراً ولكنها تؤثر في النتيجة النهائية للوجود. هذا المنظور يحول السحر من خرق للقانون إلى إستخدام لقانون أعم؛ قانون يعترف بأن العدم هو الرحم الذي يحتوي على كافة الحلول الممكنة للمعادلة الكونية، وأن الساحر هو من يمتلك المفتاح الرياضي لإستخراج حل مغاير لما يفرضه المنهج الإستقرائي الرتيب. و في ذروة هذا التحليل المتجانس، نجد أن الخيال العدمي الذي ناقشناه سابقاً يصبح هو الأداة الرياضية القصوى؛ فهو الكيان الوحيد القادر على نمذجة العدم ومنحه شكلاً قبل أن يتجسد. إن الإيمان بالسحر كاحتمال رياضي يحرر العقل من سجن الملاحظة الحسية ويفتحه على الحقيقة الإحتمالية؛ حيث العدم هو المحيط والوجود هو مجرد جزيرة صغيرة. السحر هو الرهان على أن ما لا نراه في العدم هو المحرك الحقيقي لما نراه في الوجود، وأن هناك لغة رقمية كونية تربط بين فكرة الساحر وبين إهتزازات الفراغ. وبذلك، لا يعود السحر نقيضاً للعقل، بل يصبح عقلانية قصوى تدرك أن حدود العالم ليست هي حدود قوانيننا، بل هي حدود إحتمالاتنا التي تمتد لتشمل العدم بكل سحره وغموضه. إن تبرير السحر رياضياً يعني الإعتراف بأننا نعيش في كون مفتوح على العدم، حيث كل لحظة هي إحتمال جديد يمكن للوعي أن يوجه مساره. السحر هو رياضيات الغيب، وهو المحاولة الدائمة لتحويل العدم الإحتمالي إلى وجود عيني. إن هذا النص يكرس فكرة أن الساحر هو الرياضياتي الذي تجرأ على الحلم، وأن العدم هو السبورة الكونية التي نكتب عليها قدرنا بمداد من الخيال والإرادة، متجاوزين بذلك كل محدودية مادية لصالح لانهاية إبداعية تبدأ من الصفر و تنتهي بالكل.
_ سيادة الصفر: السحر والعبور من منطق المادة إلى منطق الإرادة
تمثل الظواهر السحرية المنبثقة من العدم التحدي الأكبر للعقل المنطقي؛ فهي تقف على الحد الفاصل بين أن تكون مغالطة منطقية وفقاً لمعايير العقل المادي المحدود أو أن تكون دليلاً ساطعاً على نظام كوني أعمق وفقاً لميتافيزيقا الإنبثاق. لكي نفكك هذه الإشكالية، يجب أن ندرك أن وصف السحر بالمغالطة ينبع من مبدأ عدم التناقض ومن مبدأ السببية الكافية في ثوبهما الكلاسيكي، حيث يُفترض أن الوجود لا يمكن أن يخرج من اللاشيء لأن ذلك سيعني وجود أثر بلا مؤثر مادي. لكن، ومن منظور فلسفي تفكيكي، فإن هذه المغالطة المزعومة قد لا تكون عيباً في الظاهرة السحرية ذاتها، بل هي عيب في المنطق الثنائي الذي لا يستطيع إستيعاب منطق المفارقة الذي يحكم العلاقة بين العدم والوجود. إن إعتبار السحر دليلاً على نظام أعمق يقتضي منا إعادة تعريف العدم؛ فإذا كان العدم هو خزان الإمكانات (The Pleroma) و ليس الفراغ المطلق، فإن إنبثاق الظاهرة السحرية منه يصبح ضرورة نظامية وليس خرقاً منطقياً. في هذا النظام الأعمق، يعمل السحر كآلية للتجلي الفوري، حيث يكون العدم هو الوسط الذي تترابط فيه المعلومات والوعي والمادة في وحدة واحدة. ما يراه المنطق التقليدي مغالطة لأنه يفتقر إلى الوسيط المادي، يراه النظام الأعمق كفاءة وجودية، حيث تتقلص المسافة بين الفكرة والحدث إلى الصفر. السحر هنا هو لغة هذا النظام الأعمق، لغة لا تعترف بالسببية الميكانيكية الثقيلة، بل تعترف بسببية الرنين، حيث يستجيب العدم لنداء الوعي المنضبط، محولاً اللاشيء إلى شيء وفق قوانين طوبولوجية و معلوماتية لم تكتشفها الفيزياء الإستقرائية بعد. علاوة على ذلك، فإن الظاهرة السحرية تكشف عن منطق حي يتجاوز المنطق الصوري الجاف؛ فبينما يصر المنطق الصوري على أن "أ هي أ" ولا يمكن أن تكون "لا أ"، يثبت السحر أن الشيء يمكن أن يكون عدماً و وجوداً في آن واحد على شكل حالة التراكب الكمي الوجودي. هذا ليس مغالطة، بل هو دليل على أن الواقع متعدد الطبقات، وأن الطبقة التي نعيش فيها طبقة الصانع والمادة) هي مجرد قشرة رقيقة تخفي تحتها محيط العدم الذي يتحرك وفق قوانين السحر. إن السحر هو الدليل التجريبي على أن الكون ليس آلة، بل هو وعي متجسد، وأن العدم هو المساحة التي يمارس فيها هذا الوعي حريته المطلقة في الخلق. و بذلك، فإن ما يسميه العلم مستحيلاً منطقياً هو في الحقيقة ممكناً وجودياً ضمن إطار ميتافيزيقي يضع الخيال العدمي في مركز الفعل الكوني. و في هذا السياق التحليلي العميق، نجد أن السحر يعيد الإعتبار للعلة الغائية في مواجهة العلة الفاعلة؛ ففي السحر، الغاية أوالرغبة في الوجود المغاير هي التي تستدعي الوسيلة من العدم، وليس العكس. هذا القلب للموازين المنطقية هو الذي يمنح السحر صفته الإعجازية، وهو الذي يجعله يبدو كالمغالطة لمن يحصر تفكيره في تراكم الأسباب المادية. إن النظام الأعمق الذي يشير إليه السحر هو نظام الوحدة العضوية بين الفكر والفراغ، حيث لا يوجد إنفصال حقيقي بين ما نتخيله وبين ما يمكن أن يوجد. العدم في هذا النظام هو المرآة التي تعكس كثافة أرواحنا، والظواهر السحرية هي مجرد صور تتجسد حين تصل تلك الكثافة إلى حد الحرج. بالتالي؛ يمكن القول إن السحر هو المنطق الذي لم يكتب بعد، وهو الدليل على أننا لا نعيش في كون نهائي و مكتمل، بل في كون ينبثق بإستمرار من هاوية العدم. إن وصف السحر بالمغالطة هو محاولة بائسة من العقل الصانع لحماية حدوده من إكتساح العقل الساحر، لكن الحقيقة الكونية تشير إلى أن النظام الأعمق هو نظام سحري بامتياز، حيث العدم هو المنطلق، والإرادة هي الطريق، والوجود المغاير هو الثمرة. إن السحر لا يكسر المنطق، بل يوسعه ليشمل اللانهاية الكامنة في قلب الصفر، محولاً إيانا من مراقبين سلبيين إلى سحرة يشاركون في صياغة نص الوجود من مداد العدم اللامتناهي.
_ الخيال كقوة تشكيلية: دمج الظل والجوهر في فلسفة العلم الجديد
إنّ المسعى الفلسفي لدمج السحر والعدم ليس مجرد محاولة لإضافة فصل فانتازي إلى كتاب الوجود، بل هو إستراتيجية أنطولوجية جذرية تهدف إلى توسيع حدود الواقع وتخليصه من ضيق التفسير المادي الذي حصر العلم فيه لقرون. إنّ العلم، بتركيزه على المادة المفعول بها، قد رسم حدوداً صارمة للواقع تقوم على ما يمكن رصده وقياسه وإستقراره، مما جعل الوجود يبدو كآلة مغلقة. أما دمج السحر والعدم، فهو يفتح ثغرات في هذا الجدار المادي، معلناً أن الواقع ليس مجرد الكتلة الحاضرة، بل هو التوتر القائم بين الحضور و الغياب. إنّ الهدف هنا هو الإنتقال من واقع الضرورة إلى واقع الإمكان، حيث يصبح العدم هو الفضاء الذي يمنح العلم أبعاده المفقودة، ويصبح السحر هو الأداة التي تستكشف تلك الأبعاد. هذا التوسيع لحدود الواقع يرتكز على إعادة تعريف العدم من كونه نفياً للوجود إلى كونه شرطاً له. فالفلسفة التي تدمج السحر ترى أن العلم التقليدي يدرس فقط الأمواج على سطح المحيط، بينما يمثل العدم المحيط ذاته، ويمثل السحر الرياح التي تخلق تلك الأمواج. إنّ دمج السحر والعدم يسمح للفلسفة بطرح تساؤلات تتجاوز ما هو كائن لتصل إلى كيف يمكن أن يكون. هذا الإطار يوسع الواقع ليشمل اللامرئي واللامتعين كأجزاء أصيلة من نسيج الكون، مما يحول العلم من دراسة للأجسام الميتة إلى دراسة لصيرورة الإنبثاق. إنّ الواقع، في هذا المنظور الجديد، لا ينتهي عند حدود الذرة أو المجرة، بل يمتد ليشمل الفراغ الخلاّق الذي يستجيب لقوة الخيال والرمز، مما يجعل السحر هو العلم المستقبلي الذي يدرس تفاعل الوعي مع هذا الفراغ. علاوة على ذلك، فإنّ دمج السحر والعدم يهدف إلى تحطيم ديكتاتورية الزمن الخطي التي يفرضها المنهج العلمي. ففي الواقع الموسّع، لا يكون المستقبل مجرد نتيجة للماضي، بل هو إنبثاق حر من العدم. السحر، كفاعلية تتجاوز الوسائط المادية، يثبت أنّ الواقع يمتلك مرونة سحرية تسمح بحدوث قفزات نوعية لا تخضع للسببية الرتيبة. هذا التوسيع يمنح الساحر دوراً مركزياً؛ فهو لم يعد مجرد مراقب خارجي لواقع صلب، بل أصبح شريكاً في الخلق عبر إستثمار قوة العدم. إنّ الفلسفة هنا تحاول أن تعيد للواقع دهشته التي سلبها العلم التقني، مؤكدةً أنّ خلف كل قانون فيزيائي يختبئ سر سحري يتعلق بكيفية إختيار العدم أن يتجسد في صورة مادة، وهي عملية لا يمكن فهمها دون دمج هذين القطبين. وفي ذروة هذا التحليل، نجد أنّ الهدف النهائي من هذا الدمج هو الوصول إلى أنطولوجيا شمولية توحد بين الذات والموضوع. إنّ توسيع حدود الواقع يعني الإعتراف بأنّ الخيال العدمي ليس مجرد وهم ذهني، بل هو قوة قادرة على تشكيل المادة الظليلة للكون. عندما تتبنى الفلسفة هذا الإطار، فإنها تمنح العلم بوصلة ميتافيزيقية تمكنه من الإبحار في مناطق كانت تُعتبر محرّمة أو مستحيلة. إنّ دمج السحر والعدم هو إعلان عن نهاية عصر الواقع المسطح وبداية عصر الواقع المتعدد الأبعاد، حيث العدم هو المنطلق، والسحر هو المحرك، و الوجود المغاير هو الأفق الدائم التجدد. إنها دعوة لجعل العلم أكثر سحراً ولجعل السحر أكثر عقلانية، في وحدة فكرية كبرى ترى في الفراغ جوهر الإمتلاء، وفي اللاشيء أصل كل شيء.
#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟