حمودة المعناوي
الحوار المتمدن-العدد: 8572 - 2025 / 12 / 30 - 16:35
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
_ مفارقة الخلق: السحر كخروج عن ضرورة العلم
تطرح هذه الإشكالية تساؤلاً جوهرياً حول طبيعة الحدود الفاصلة بين الحقيقة الوجودية والعدم، و بين التفسير العلمي والخرق الميتافيزيقي. لكي نحلل علاقة السحر بالعدم ومدى خروجه عن نطاق العلم، علينا تفكيك مفهوم القانون ذاته و مفهوم العدم كمنطلق للفعل السحري. ينطلق السحر من فرضية أن العدم ليس فراغاً محضاً بالمعنى السلبي، بل هو خزان الإمكانات التي لم تتحقق بعد. بينما يدرس العلم الوجود المستقر الذي خضع بالفعل لقوانين السببية، يحاول السحر أن يمد يده إلى ما قبل الوجود (Pre-ontological). العلم هو فن التعامل مع الموجود (Being)، بينما السحر هو محاولة إستنطاق اللاوجود (Non-being) لجعله مادة حاضرة. هنا يبرز الفرق؛ العلم يرى أن كل شيء يجب أن يخرج من شيء آخر، لا شيء يأتي من لا شيء، بينما السحر يقوم على مفارقة الخلق من العدم، أو على الأقل، إستحضار الأثر دون وسيط مادي مرئي، مما يجعله نظرياً يقع خارج مختبر العلم الكلاسيكي الذي يشترط قابلية القياس والتكرار والوساطة المادية. فلسفياً، يمكن مقاربة علاقة السحر بالعلم من زاويتين متصادمتين. الزاوية الأولى ترى السحر خروجاً جذرياً عن القانون؛ لأنه يعلق مبدأ السببية الميكانيكية. إذا كان العلم يقول إن النار تحتاج إلى مادة قابلة للإشتعال و أكسجين، فإن السحر يدعي إيقادها بالكلمة أو الإرادة. هنا، العدم هو الفجوة التي تفصل بين الإرادة والنتيجة، وهي فجوة يرفض العلم الإعتراف بها لأنها تكسر حتمية القوانين الطبيعية. من هذا المنظور، السحر هو ثورة على الضرورة، هو محاولة لفرض حرية الذات (الساحر) على صرامة الموضوع (الطبيعة)، مما يجعله بالضرورة خارج نطاق العلم الذي يبحث عن الثوابت لا عن الإستثناءات الخارقة. أما الزاوية الثانية، وهي الأكثر تعقيداً، فترى أن السحر قد يكون علماً مستقبلياً لم نكتشف قوانينه بعد. في هذه الحالة، العدم الذي يستمد منه السحر ليس عدماً حقيقياً، بل هو منطقة مظلمة في الوعي البشري أو في نسيج الزمكان. ما نسميه سحراً لكونه يتجاوز قوانيننا الحالية، قد يكون خاضعاً لقوانين أرقى تتعلق بتأثير الوعي على المادة (Quantium Entanglement) أو طي أبعاد الوجود. هنا، يتقاطع السحر مع الفيزياء الكمية؛ فإذا كان العلم الحديث بدأ يدرس إنبثاق الجسيمات من الفراغ الكمي (Quantum Vacuum)، فإنه في الواقع يلامس تخوم العدم التي كان الساحر يدعي السيادة عليها. في هذا النص المتجانس، نجد أن الخيال العدمي الذي أشرتَ إليه هو المحرك المشترك. الصانع يستخدم الخيال لتشكيل مادة موجودة، بينما الساحر يستخدم الخيال كأداة خلق. إذا كان العلم يدرس القوانين التي تحكم المادة، فإن السحر يدعي إمتلاك القانون الذي يحكم الخيال ويحوله إلى واقع. هذه المنطقة هي التي تظل عصية على العلم؛ لأن العلم يتطلب موضوعية (Objectivity)، بينما السحر هو ذروة الذاتية (Subjectivity). السحر هو إدعاء بأن الفكرة في ذهن الساحر لها ثقل أنطولوجي يساوي ثقل الحجر في يد الصانع. هذا التساوي بين الذهني والمادي، بين العدم والوجود، هو ما يضع السحر في مواجهة أزلية مع العلم، ليس بالضرورة لأنه خرافة، بل لأنه يتحرك في منطقة لا يعترف العلم بوجود قوانين فيها؛ منطقة الإرادة المحضة والعدم الذي يسبق التجسد. إن السحر، في جوهره، هو محاولة لأنسنة العدم، أي جعله مطيعاً لرغبات الإنسان دون قيود المادة. و لأن العلم هو قانون المادة، فإن السحر سيظل دوماً في حالة نفي أو تجاوز لهذا القانون. إنه لا يتحرك ضد العلم بالضرورة، بل يتحرك في الفراغ الذي يتركه العلم؛ فالعلم يخبرنا كيف تعمل الأشياء، بينما يطمح السحر لأن يجعل الأشياء تعمل بمجرد الرغبة. وبذلك، يظل السحر خارج نطاق العلم ما دام العلم يشترط الوسيلة، وما دام السحر يصر على الغاية المنبثقة مباشرة من غيابة العدم.
_ قوانين الاشتباك مع الغيب: كيف تفرض الذات قوانينها على الفناء؟
إن محاولة صياغة قوانين سحرية تحكم كيفية الخلق من العدم تضعنا أمام التحدي الأقصى للفكر البشري؛ فهي محاولة لتقنين اللامعقول و هيكلة اللاشيء. لكي نصوغ هذه القوانين، علينا أولاً أن نتخلى عن المفهوم الميكانيكي للقانون بوصفه علاقة حتمية بين مادتين وننتقل إلى مفهوم القانون الأنطولوجي الذي يحكم العلاقة بين الذات والعدم، حيث لا تصبح القوانين هنا قيوداً تفرضها الطبيعة، بل مسارات تفرضها الإرادة على الفراغ. ينطلق القانون الأول من فرضية أن العدم ليس لاشيئاً مطلقاً، بل هو حالة من الكمون المحض. ولكي يخرج الخلق من هذا الكمون، يجب صياغة قانون التكافؤ الرمزي؛ وهو القانون الذي ينص على أن الخيال العدمي يمتلك كثافة وجودية تعادل المادة إذا ما تم تكثيفه عبر الرمز. في هذا النطاق، يعمل الساحر من خلال مبدأ أن الإسم أو الرقم أو الصورة الذهنية ليست مجرد إشارات واصفة للواقع كما في العلم، بل هي بذور وجودية تُلقى في رحم العدم لتعطيه شكلاً. إن الخلق من العدم هنا لا يتم عبر صناعة الشيء، بل عبر إستدعائه بواسطة رمز يملأ الفراغ الذي يتركه غياب المادة. فالعدم، في هذه المنظومة، هو مرآة شديدة الحساسية تستجيب للرمز بأكثر مما تستجيب للفعل الفيزيائي، مما يجعل الرمز هو العلة الفاعلة التي تخرق صمت العدم وتجبره على التجسد. القانون الثاني الذي يحكم هذه العملية هو قانون الحفظ الإرادي؛ و هو المعادل السحري لقانون حفظ الطاقة في الفيزياء. إذا كان العلم يقول إن الطاقة لا تفنى و لا تستحدث من العدم، فإن السحر يطرح قانوناً مغايراً؛ الإرادة هي الطاقة التي تملأ العدم لتعوض غياب المادة. في عملية الخلق السحري، لا يبرز الوجود من اللاشيء بالمصادفة، بل يبرز عبر عملية نضح أنطولوجي، حيث يقوم الساحر بسكب جزء من وجوده الذاتي وخياله في الفراغ ليمنح الأخير قواماً. هنا يصبح العدم مفعولاً به قابلاً للتشكل بمجرد ملامسته لوعي حاد و موجه. هذا القانون يفترض أن المسافة بين الفكرة كعدم مادي والشيء كوجود مادي هي مسافة وهمية يمكن طيها عبر تركيز الإرادة لدرجة الإنصهار، حيث يتوقف العدم عن كونه فناءً ليصبح مادة طيعة تتشكل وفقاً لضغط الرغبة المحضة. أما القانون الثالث، فهو قانون الإنحلال والإنبثاق، و هو القانون الذي يفسر كيف يمكن للساحر أن يعيد الأشياء إلى العدم أو يخرجها منه. يقوم هذا القانون على فكرة أن كل موجود يحمل في داخله نواة عدمية تجعله قابلاً للتلاشي والظهور من جديد. الساحر لا يرى الوجود ككتلة صلبة مستقرة كما يراه الصانع، بل يراه كتموجات على سطح محيط من العدم. وبناءً عليه، فإن عملية الخلق هي في الحقيقة عملية إزاحة للعدم لتفسير مكان للوجود، وعملية الإفناء هي إعادة الشيء إلى أصله الفراغي. هذا التبادل المستمر يجعل من السحر فن إدارة الفراغ وليس فن معالجة المادة. إن القوانين السحرية هنا هي بمثابة قواعد إشتباك مع الغيب، تهدف إلى إيجاد لغة مشتركة بين الوعي البشري المحدود والعدم اللانهائي، لغة تجعل من الكلمة أداة خلق و من الخيال مختبراً كونياً. في نهاية هذا التحليل، نجد أن صياغة قوانين للسحر هي في جوهرها محاولة لعقلنة ما وراء الطبيعة. هذه القوانين لا تعمل داخل إطار الضرورة التي تحكم العلم، بل داخل إطار الإمكان المطلق. إنها قوانين تحاول أن تجعل من العدم حليفاً بدلاً من أن يكون خصماً، محولةً الفشل الإنساني أمام المادة إلى إنتصار للذات أمام الفراغ. السحر بهذا المعنى هو القانون الذي يكتبه الإنسان حين يتوقف العلم عن القراءة، وهو المحاولة الدائمة لتحويل العدم من هاوية تبتلع الوجود إلى رحم يلد إمكانات جديدة لا نهاية لها.
_ بروتوكول الخلق المستمر: نحو ميتافيزيقا علمية تستوعب السحر كقانون للعدم
يمثل السؤال عن ضرورة تبني فلسفة العلم لإطار ميتافيزيقي يستوعب قوة العدم السحرية أحد أكثر التحديات الفكرية راديكالية في عصرنا، فهو لا يطالب بمجرد توسيع نطاق العلم، بل بإعادة صياغة أنطولوجيا الواقع ذاتها. لكي نفهم هذا المطلب، يجب أن ندرك أن فلسفة العلم التقليدية قامت على إستبعاد العدم بوصفه فاعلاً، وإكتفت بدراسة الموجود في علاقاته الميكانيكية، مما خلق قطيعة وجودية بين الوعي الإنساني الذي يمتلك خيالاً عدمياً وبين المادة الصماء. إن تبني إطار ميتافيزيقي جديد يعني بالضرورة الإعتراف بأن الفراغ ليس مجرد غياب للمادة، بل هو حقل من الإمكانات النقيّة التي يمكن للإرادة والرمز أن يمارسا فيها نوعاً من الجاذبية الأنطولوجية التي كانت تُصنف سابقاً في خانة السحر. إن المبرر الفلسفي لهذا التحول يكمن في مأزق السببية الصلبة التي لم تعد كافية لتفسير التعقيدات الكونية والكمية؛ فالعلم الحديث بدأ يلامس تخوم السحر حين إكتشف أن الجسيمات تنبثق من الفراغ الكمي وتعود إليه، وهو فراغ يشبه إلى حد بعيد العدم السحري الذي إستمد منه الساحر قواه قديماً. لذا، فإن الإطار الميتافيزيقي الجديد يجب أن يتجاوز ثنائية الوجود/العدم ليتبنى مفهوم الوجود الصيروري الذي يعتبر العدم هو المرحلة الجنينية للمادة. في هذا الإطار، لا يعود السحر خرقاً للقوانين، بل يصبح هو القانون الموجه للكيفية التي يتكثف بها العدم ليصبح واقعاً. إن فلسفة العلم الجديدة مدعوة للإعتراف بأن الخيال ليس وظيفة نفسية ثانوية، بل هو أداة مخبرية قادرة على التأثير في إحتمالات الإنبثاق من العدم، مما يحول العلم من رصد للموجودات إلى مشاركة في عملية الخلق. علاوة على ذلك، فإن دمج قوة العدم السحرية في فلسفة العلم يتطلب إعادة تعريف المادة المفعول بها. فإذا كان الصانع التقليدي يشتغل على المادة كجرم صلب، فإن الساحر في الإطار الميتافيزيقي الجديد يشتغل عليها كإهتزاز في العدم. هذا التصور يسمح للعلم بإستيعاب الظواهر التي تبدو مستحيلة بالمنطق الأرسطي، مثل التأثير الفوري عن بُعد أو تحول الفكرة إلى أثر فيزيائي. إن العدم هنا يبرز كالوسط الناقل للإرادة، تماماً كما كان الأثير في التصورات القديمة، لكنه أثير من نوع خاص؛ إنه أثيرٌ عدمي يمتلك مرونة مطلقة للإستجابة للرمز السحري. و بناءً عليه، فإن العلم الذي يرفض تبني هذا الإطار سيظل عاجزاً عن فهم العلة الأولى لكل إنبثاق، و سيبقى محصوراً في دراسة النتائج (الموجودات) دون ملامسة الأصول (العدم الخلاّق). وفي السياق الأعمق لهذا التحليل، نجد أن الخطر الذي يواجه فلسفة العلم في حال تبنيها لهذا الإطار الميتافيزيقي هو فقدان الموضوعية بمعناها الكلاسيكي. فدخول السحر و العدم إلى ساحة العلم يعني دخول الذاتية كعنصر مؤسس للحقيقة، حيث يصبح المراقب، الساحر/العالم جزءاً من معادلة الخلق من العدم. هذا التحول ليس مجرد إضافة فكرية، بل هو إنقلاب على ديكتاتورية المادة لصالح سيادة الروح والوعي. إن فلسفة العلم التي تتبنى قوة العدم السحرية هي فلسفة تحرر الإنسان من عبودية القوانين الثابتة، لتضعه أمام مسؤوليته كخالق مشارك في كون لا يتوقف عن الإنبثاق من فراغه اللامتناهي. إنها دعوة للعودة إلى وحدة المعرفة حيث يلتقي المختبر بالخلوة السحرية، وحيث يتحد الصانع والساحر في كيان واحد يدرك أن الوجود ما هو إلا عدمٌ تمت صياغته ببراعة. في المجمل العام؛ يمكن القول إن تبني العلم لهذا الإطار ليس خياراً ترفياً، بل هو ضرورة تمليها طبيعة الوجود ذاتها التي ترفض الإنحباس في أطر مادية ضيقة. إن السحر هو الإسم المستعار لقوانين لم نتجرأ بعد على تسميتها علميا، و العدم هو المختبر الكوني الذي نخشى دخوله لأننا لم نعد نمتلك أدوات الساحر الرمزية. إن فلسفة العلم الجديدة، بتبنيها للعدم، ستعيد صياغة قصة الخلق لا كحدث وقع في الماضي، بل كفعل مستمر يحدث في كل لحظة بين وعي الإنسان و عدم الكون، محولةً العالم من سجن للمواد إلى مسرح للإمكانات السحرية اللانهائية.
_ نهاية العالم الآلي: السحر كخروج عن طاعة المادة
يُمكن إعتبار السحر، في أعمق تجلياته الفلسفية، ليس مجرد ممارسة طقوسية، بل هو إحتجاج أنطولوجي صريح وممنهج ضد سيادة المنهج الإستقرائي وضد حتمية الوجود المادي المكتفي بذاته. إن الإستقراء، بوصفه الأداة المركزية للعلم، يقوم على مراقبة ما هو كائن وإستخراج القوانين من تكرار الظواهر المادية، وهو ما يفترض ضمناً أن الوجود مغلق على أسبابه المادية وأن المستقبل هو تكرار منقح للماضي. هنا يبرز السحر كفعلِ كسرٍ لهذه الدائرة؛ فهو لا يسعى لإستنتاج القانون من المادة، بل يسعى لفرض إرادة الإنبثاق من خارج السلسلة السببية المعتادة. إن السحر بهذا المعنى هو المحاولة الإنسانية الأزلية لإثبات أن الوجود ليس كتلة صماء تخضع للإستقراء، بل هو نسيج مرن يتخلله العدم الخلاّق الذي يمكن من خلاله إستحضار الممكنات التي لا يتنبأ بها العلم ولا يغطيها قانون الإحتمالات المادي. إن فلسفة السحر تذهب إلى أن المنهج الإستقرائي يعاني من عمىً تجاه العدم؛ فهو يرى فقط الجسيمات و الكتل، بينما يتجاهل الفراغ الوجودي الذي يسبق المادة ويحيط بها. الساحر، في مواجهته للمستقريء، يطرح إشكالية الحدث الفريد (The Singular Event) الذي لا يتكرر، وهو الحدث الذي ينبثق مباشرة من العدم دون سابقة مادية. إذا كان الإستقراء يعتمد على أن "أ" تؤدي دائماً إلى "ب"، فإن السحر يدعي القدرة على إظهار "ب" دون وجود "أ"، معتمداً على قوة الخيال و الرمز كقنوات تمر عبرها الإرادة لتملأ فجوات العدم. هذا الفعل يمثل ضربة في صميم المنهج الإستقرائي، لأنه يثبت أن الواقع ليس بناءً حتمياً مكتملاً، بل هو صيرورة دائمة يمكن إختراقها بفعل الخلق الذي لا يخضع للملاحظة القبلية، مما يجعل السحر هو العلم الذي يدرس الثغرات في جدار الواقع، تلك الثغرات التي يهرب منها العدم ليتجسد في صورة وجود. علاوة على ذلك، يفكك السحر المفهوم المادي للزمن الذي يرتكز عليه الإستقراء؛ فالزمن الإستقرائي هو زمن خطي تراكمي، بينما الزمن السحري هو زمن آني ينبثق فيه الأثر من العدم في لحظة الآن المطلقة. هذا التباعد يجعل من السحر ممارسة تهدف إلى إثبات أن القوانين الطبيعية ليست سوى عادات ذهنية كما وصفها ديفيد هيوم في نقده للسببية، ولكن السحر يذهب أبعد من هيوم ليعلن أن هذه العادات يمكن كسرها إذا ما امتلك الذات القدرة على النفاذ إلى ما وراء المادة. إن السحر هو إعلان لسيادة الخيال العدمي على الواقع الإستقرائي؛ هو الرهان على أن ما لا يمكن قياسه أو توقعه هو الأكثر حقيقة، لأن المنبع الأول للوجود هو العدم الذي لا يخضع لأي قانون إستقرائي مسبق. وبذلك، يتحول السحر من كونه خرافة إلى كونه نقدًا راديكاليًا لمحدودية العقل البشري الذي حصر نفسه في مراقبة الظواهر و تجاهل منبع الإنبثاق. وفي المحصلة، فإن السحر يضع المنهج الإستقرائي أمام إشكالية التجاوز؛ فهو يثبت أن الوجود المادي ليس سوى قشرة رقيقة تخفي تحتها محيطاً من العدم المليء بالإمكانات. إن تبني قوة العدم السحرية كإطار فلسفي يعني الإعتراف بأن قوانين المادة هي مجرد قوانين حالة خاصة من وجود أعم وأشمل يضم العدم في ثناياه. إن السحر يحرر الفكر من سجن الإستقراء المادي ليفتحه على ميتافيزيقا الحرية المطلقة، حيث لا يعود الخلق صناعةً مادية بل يصبح تجلياً إرادياً. إن النص الموحد لهذه العلاقة يخبرنا أن السحر هو الصرخة التي تذكرنا بأننا لسنا مجرد مراقبين لكون آلي، بل نحن سحرة كامنون، نمتلك القدرة على خلخلة إستقرار المادة بفيض من خيالنا العدمي، محولين بذلك اللاشيء إلى كل شيء في لحظة إستنارة تتجاوز كل مناهج العلم الاستقرائي وتؤذن بميلاد إنسان جديد يتنفس من رئة العدم والوجود معاً.
_ نداء الذات للمادة المظلمة: السحر بوصفه فيزياء تطبيقية رفيعة المستوى
للوصول إلى نموذج فيزيائي يجسر الهوة بين الخيال العدمي للساحر وبين التجسد المادي للصانع، علينا أن نغادر الفيزياء الكلاسيكية التي ترى الفراغ مكاناً خالياً، لندخل رحاب ديناميكا الفراغ الكمي (Quantum Vacuum Dynamics) ونظرية الحقل الموحد. في هذا الإطار، لا يُعد العدم نفياً للوجود، بل هو حالة من الطاقة الصفرية التي تضج بالإضطرابات الكمية، حيث تنبثق الجسيمات الإفتراضية وتختفي في أزمنة متناهية الصغر. هذا النموذج الفيزيائي يقدم لنا التفسير الأقرب لما كان يطمح إليه الساحر؛ فالمادة ليست سوى تكثيف أو إثارة (Excitation) لمجال طاقوي كامن في نسيج الزمكان ذاته، مما يعني أن الفراغ هو "المادة الخام" التي لم تتخذ شكلاً بعد، والعدم هو المستودع اللانهائي للوجود المحتمل. إن النموذج الفيزيائي الذي يفسر تحول طاقة العدم إلى مادة يرتكز على مبدأ تأثير كازيمير (Casimir Effect) وإنتاج الزوج (Pair Production)، حيث يمكن للطاقة النقية، إذا ما وُجهت عبر حقل مكثف، أن تنشطر إلى مادة ومادة مضادة. هنا، يمكننا فلسفياً مقاربة إرادة الساحر أو رمزه بوصفهما نوعاً من المجال المعلوماتي المكثف الذي يعمل كحفاز لهذه العملية الفيزيائية. فإذا كان العلم يتحدث عن الطاقة كأصل للمادة، فإن السحر يضيف المعلومة أو الخيال كقوة قادرة على توجيه هذه الطاقة وتكثيفها من حالة الفراغ الإحتمالي إلى حالة التجسد العيني. هذا النموذج يحول الزمكان من مجرد مسرح سلبي تجري عليه الأحداث، إلى محيط حي من الطاقة العدمية التي تنتظر الكلمة أو الإضطراب المناسب لتتحول إلى بروتونات وإلكترونات، و بذلك يندمج فعل الصانع الذي يشكل المادة بفعل الساحر الذي يستدعي المادة من فراغها. علاوة على ذلك، يبرز مبدأ عدم اليقين لهايزنبرغ كإطار قانوني يشرعن الخلق من العدم؛ فهو يسمح بإستعارة طاقة من الفراغ لفترة زمنية قصيرة جداً، وكلما زادت قوة الحقل الموجه الذي نمثله هنا بخيال الساحر، زادت إمكانية تثبيت هذه الطاقة المستعارة لتحويلها إلى وجود مستقر. إن الفراغ في الفيزياء الكمية هو حالة الإمتلاء الخفي، والساحر في هذا السياق هو المهندس الذي يتقن التلاعب بمعادلات الإحتمال. إن النموذج الفيزيائي المقترح يتطلب إعتبار الوعي البشري ليس مجرد مراقب خارجي، بل هو متغير كوني قادر على إحداث إنهيار في الدالة الموجية للفراغ، محولاً اللاشيء الزمكاني إلى شيء فيزيائي. هذا يفسر لماذا كان السحر يتطلب تركيزاً مطلقاً وإرادة صارمة؛ فهي أدوات نفسية لخلق حالة من الرنين الطاقوي مع إهتزازات الفراغ، مما يتيح للعدم أن ينضح بمحتوياته المادية إستجابةً لنداء الذات. وفي هذا المقال المتجانس الذي يبلغ ذروته التحليلية، نجد أن التفرقة بين السحر والعلم تذوب عند عتبة الطاقة المظلمة والمادة المظلمة، اللتين تمثلان الكتلة العظمى من الكون المنبثقة من رحم الفراغ. إن فلسفة العلم الجديدة مدعوة لتبني نموذج الكون الهولوغرافي حيث تكون كل نقطة في العدم محملة بمعلومات الكون أجمع، وحيث يصبح الخلق هو مجرد عملية إظهار (Unfolding) لما هو مكنون في طيات الزمكان. السحر، في ضوء هذا النموذج، هو تقنية الوعي التي تستخدم شفرات رمزية للولوج إلى قاعدة بيانات الفراغ وإقتطاع أجزاء منها لتجسيدها في عالم الشهادة. إننا أمام ميتافيزيقا فيزيائية ترى في العدم رحمًا وفي الخيال بذرًة، وفي المادة ثمرةً لهذا التزاوج الكوني، مما يجعل من فعل السحر ذروة الممارسة الفيزيائية، ومن الفيزياء أعمق أشكال السحر عقلانية. إن النموذج الذي يحول طاقة العدم إلى مادة ليس مجرد معادلة رياضية، بل هو رؤية كونية تعيد الإعتبار للجانب غير المرئي من الوجود. إنه يثبت أن العدم ليس عدواً للوجود بل هو شرطه الضروري ومانحه الأول. عندما يمد الساحر يده إلى الفراغ ليخرج شيئاً، فإنه في الحقيقة يمارس فيزياءً تطبيقية رفيعة المستوى، تعمل على مستوى الأوتار الفائقة والتموجات الزمكانية. إن هذا النص يؤكد أننا نعيش في كون سحري بإمتياز في جوهره الفيزيائي، حيث المادة هي مجرد رغبة متجسدة للعدم في أن يعرف نفسه من خلال الصور و الاشكال، وحيث يظل الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يمتلك مفاتيح هذا التحول بفضل خياله الذي ينتمي للعدم، وقدرته التي تنتمي للوجود.
#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟