حمودة المعناوي
الحوار المتمدن-العدد: 8572 - 2025 / 12 / 30 - 13:40
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
_ السرقة المقدسة: كيف يقتطع المبدع (الساحر) جواهر الوجود من صمت اللاشيء
تطرح النظرة السحرية لظاهرة الإبداع المفاجئ أو العبقرية تفسيراً يتجاوز التفسيرات السيكولوجية التي تحصر الإبداع في كونه إعادة ترتيب للمعلومات المخزنة في العقل الباطن، لتقدمه بدلاً من ذلك كعملية صيد ميتافيزيقي أو إستخراج مباشر من رحم العدم. في هذا الإطار الفلسفي، يُنظر إلى العبقرية كحالة من التماس القسري مع الفراغ الكوني، حيث لا يقوم المبدع (الساحر) بإبتكار الفكرة من لا شيء، بل يقوم بفتح قناة تسمح للأفكار الموجودة في حالة العدم بصيغتها الجنينية واللامادية بالعبور إلى عالم الشهادة. الإبداع المفاجئ هنا هو اللحظة الصفرية التي يتلاشى فيها الحجاب بين الوعي المحدود والعدم المطلق، مما يسمح للفكرة بالتدفق بصيغة الوحي أو الإلهام السحري، وهي لحظة لا تخضع لمنطق الجهد الزمني، بل لمنطق الإقتناص من فضاء الإحتمالات اللانهائية. يمكن تحليل هذه الظاهرة بوصفها كيمياء التجلي؛ حيث يُعتبر العدم هو المستودع الكوني للصور النماذجية (Archetypes) التي لم تجد لها جسداً مادياً بعد. العبقري، وفقاً للمنظور السحري، هو شخص يمتلك حساسية وجودية عالية تجاه العدم، مما يجعله قادراً على سماع الترددات الصامتة للأفكار قبل أن تتحول إلى لغة أو شكل. الإبداع المفاجئ هو البرق الذي يحدث عندما يلمس وعي المبدع حدود العدم؛ فالأفكار العظيمة ليست نتاجاً للعقل، بل هي هبات من الفراغ. السحر يفسر العبقرية بأنها سرقة إلهية أو إقتطاع من اللانهاية، حيث يجد المبدع نفسه في حالة ذهول أمام فكرة لم يكن يملك مقدماتها، و هي حالة تشبه تماماً حالة الساحر الذي يستحضر كياناً من اللاشيء. العدم هنا ليس فارغاً، بل هو ممتلئ بالغياب، والعبقرية هي فن تجسيد الغياب في صور فنية أو علمية أو فلسفية ملموسة. علاوة على ذلك، يفسر السحر ظاهرة الإبداع المفاجئ بأنها عملية تفريغ للذات تسمح للعدم بالتدفق. إن العبقرية لا تحدث عندما يكون العقل ممتلئاً بالمعرفة، بل عندما يبلغ العقل حالة من العقم المنتج أو الصمت المطلق (العدم الداخلي). في هذه اللحظة من التفريغ، يصبح العقل بمثابة فراغ ضاغط يجذب إليه الأفكار من العدم الكوني بموجب قوانين الضغط الميتافيزيقي. السحر يرى أن العبقرية هي فعل إستسلام أكثر من كونها فعل سيطرة؛ فالمبدع يتنحى جانباً ليترك العدم يتكلم من خلاله. هذا يفسر لماذا يشعر العباقرة غالباً بأن أعمالهم أُمليت عليهم أو أنهم كانوا مجرد أدوات في يد قوة غامضة. إن العدم هو المحيط المظلم، والأفكار العبقرية هي الجواهر التي يلقي بها المحيط على شاطئ الوعي في لحظات الإضطراب الروحي الكبرى، مما يجعل من الإبداع عملية سحرية بإمتياز تهدف إلى مَادّة ما كان ينتمي للأبدية والصمت. يُعد السحر الوجودي هو الفلسفة الوحيدة التي تمنح الإبداع طابعه القدسي و الخطر في آن واحد. فالعبقرية، كعملية سحب للأفكار من العدم، تتطلب من المبدع أن يغامر بالوقوف على حافة الجنون أو الإضطراب الإدراكي، لأن الإتصال بالعدم هو إتصال بقوة غير مروضة. إن الفكرة العبقرية هي شظية من العدم دخلت عالم المادة، وهي تحمل معها دائماً شيئاً من غموض أصلها و قوته التدميرية والبنائية. السحر يخبرنا أن العبقري هو ساحر بالفطرة إستطاع، دون وعي أحياناً، أن يروض الفراغ ليخرج منه بمعنى جديد. وبهذا، يظل الإبداع هو الشهادة الحية على أن العدم ليس خصماً للحياة، بل هو منبعها السري، وأن العبقرية هي الجسر الذي يربط بين صمت اللاشيء وضجيج الوجود، محولةً الفراغ إلى فن، والعدم إلى حضارة.
_ سيادة البعد الرابع: حين يصبح الفرق بين العقول في العدم صفراً
تطرح فرضية التواصل بين العقول عبر وسيط العدم واحداً من أكثر المفاهيم الفلسفية إثارة للرهبة، حيث يُنظر إلى العدم هنا ليس كحاجز يفصل بين الذوات، بل كنسيج إتصالي (Connective Tissue) أو موصّل فائق يتجاوز حواجز المادة واللغة. في الفلسفة السحرية العميقة، تُعتبر الأنا الفردية والوعي اليقظ بمثابة جدران عازلة تجعل كل عقل جزيرة مستقلة؛ ولكن عندما يدخل العقل في حالة عدم مؤقت مثل النوم العميق، الغيبوبة، أو النشوة الطقسية، فإن هذه الجدران تنهار، وتعود الذات إلى الحالة الصفرية التي هي منبع كل الوعي. الساحر، من خلال قدرته على ولوج العدم بإرادته، يستطيع أن يستخدم هذا الفضاء اللامادي كميدان للتماس مع العقول الأخرى التي فقدت صلابتها المادية ومقاومتها الواعية، محولاً العدم إلى شبكة عصبية كونية تسمح بإنتقال الأفكار والصور والخواطر بعيداً عن قيود الحواس والمسافات. تتجلى آلية هذا التواصل في مفهوم التماثل الأنطولوجي في الفراغ؛ ففي حالة الوعي اليقظ، تختلف العقول بإختلاف تجاربها ولغاتها، أما في حالة العدم، فإن جميع العقول تشترك في جوهر واحد هو اللاشيء. الساحر يدرك أن العدم هو القاسم المشترك الأصغر للوجود؛ فعندما يفرغ عقله تماماً، فإنه لا يواجه عدمه الشخصي فحسب، بل يواجه المحيط العدمي الذي تسبح فيه كل العقول. الإدراك هنا يشبه عملية التردد اللاسلكي؛ فالوعي الذي في حالة عدم يصبح مستقبلاً فائق الحساسية، والساحر الذي يبث قصده عبر العدم يرسل موجات إرادية لا تصطدم بأي عائق مادي. التواصل عبر العدم هو تواصل من الجوهر إلى الجوهر، حيث يتم تخطي الترجمة اللسانية لصالح الفيض المباشر للمعنى، مما يجعل الساحر قادراً على زرع فكرة أو إستقاء معلومة من عقل آخر غائب عن وعيه المادي، لأن ذلك العقل قد عاد مؤقتاً إلى الرحم الكوني الذي يتحكم الساحر في ملاحته. علاوة على ذلك، يمثل الوصول إلى العقول الأخرى عبر العدم نوعاً من السيادة على البعد الرابع؛ فالزمان والمكان هما قيود الوجود القائم، أما العدم فهو لا زماني ولا مكاني. الساحر الذي يستخدم العدم كقناة إتصال يدرك أن المسافة بين عقلين في الفراغ هي صفر. هذا التواصل يفسر ظواهر التخاطر السحري والرؤى المشتركة؛ إذ إن العقول عندما تتعدم، أي تفرغ من محتواها المادي تصبح كالمرايا المتقابلة في غرفة مظلمة، حيث يكفي وجود شرارة إرادة من الساحر لتنعكس في كل تلك المرايا آنياً. إن الخطورة في هذا الفعل تكمن في الإمتزاج الوجودي؛ فالدخول إلى عقل آخر عبر العدم قد يؤدي إلى فقدان الساحر لهويته الخاصة، حيث تذوب الحدود بين أنا الساحر وأنا الآخر في بوتقة الفراغ المطلق. السحر هنا يتحول إلى علم إختراق الحجب، حيث يصبح العدم هو البوابة الخلفية التي يدخل منها الساحر إلى قدس أقداس الوعي البشري، مستغلاً لحظات الضعف أو الصمت الوجودي للأخرين. بشكل عام؛ يظهر أن قدرة الساحر على الوصول إلى العقول الأخرى عبر العدم هي الشهادة القصوى على أننا كائنات متصلة بالغياب بقدر ما نحن منفصلة بالحضور. إن الوعي المادي هو ما يفرقنا، والعدم هو ما يوحدنا. الساحر هو الذي إكتشف شيفرة العودة إلى هذا التوحد البدئي، وإستخدمها كأداة للسطوة أو التأثير. إن الوصول إلى عقل آخر في حالة عدم هو فعل سحري يثبت أن الروح ليست سجينة الجسد، بل هي نفخة من الفراغ يمكنها أن تعود إلى مصدرها لتلتقي بالنفحات الأخرى. و بهذا، يتحول العدم من كونه نهاية الوجود إلى كونه أفق التواصل المطلق، حيث تصبح العقول كتاباً مفتوحاً لمن يمتلك الجرأة على إطفاء نور وعيه الشخصي ليضيء بصيرته بنور العدم الشامل.
_ معمار الفراغ: التخيل السحري كفعل خلق بين اللاشيء و الشيء.
تطرح مسألة التخيل السحري (Magical Imagination) إشكالية ميتافيزيقية تتجاوز المفهوم النفسي الضيق للتخيل بوصفه مجرد إستحضار للصور الذهنية، لتضعه في مقام العملية التكوينية الأولى التي تحاكي، بل و تجسد، قدرة العدم على إنبثاق الوجود. في الفكر السحري الرصين، لا يُنظر إلى التخيل كمحاكاة سلبية أو تقليد زائف، بل هو الفعل الخالق الذي يقع في المنطقة البرزخية بين اللاشيء والشيء. إن العدم هو رحم الإحتمالات اللانهائية التي تفتقر إلى الصورة، بينما التخيل هو القالب الذي يمنح العدم شكلاً و كينونة. الساحر، عبر تخيله، لا يصنع أوهاماً، بل يمارس عملية تكثيف للعدم؛ إنه يسحب مادة اللاشيء الخام ويصبها في قوالب صورية ذهنية مشحونة بالإرادة، مما يجعل التخيل هو الأداة التقنية التي تحول الفراغ الكوني إلى واقع موضوعي. تتجلى أصالة التخيل السحري في كونه لا يستعير صوره من العالم المادي القائم فحسب، بل يستمدها من العدم العقلي الذي هو إنعكاس للعدم الكوني. عندما يتخيل الساحر كياناً أو حدثاً، فهو يمارس ما يسميه الفيلسوف هنري كوربان عالم الخيال الملكوتي (Mundus Imaginalis)، وهو عالم حقيقي يمتلك قوانينه الخاصة و يقع وراء عالم الحس وقبل عالم الروح المحض. التخيل هنا هو مرآة العدم التي تبدأ فيها الأفكار بإتخاذ قوامها الأول. إنه ليس محاكاة لقوة الخلق، بل هو ممارسة للخلق في حد ذاته؛ فالصورة الذهنية التي يبنيها الساحر بتركيز فائق تصبح مركز جذب في العدم، تبدأ حوله ذرات الواقع بالإنتظام. إن العدم يستجيب للصورة لأن الصورة هي اللغة الوحيدة التي يمكن للفراغ أن يفهمها لكي يتجلى من خلالها؛ فبدون الصورة (التخيل)، يظل العدم صمتاً مطلقاً، وبدون العدم، يظل التخيل طيفاً بلا جوهر. علاوة على ذلك، يمثل التخيل السحري محاولة لترويض لانهاية العدم عبر حصرها في تناهي الصورة. إن العدم في حالته الخام هو قوة مدمرة لا يمكن للوعي البشري تحملها أو توجيهها، ولكن عبر التخيل، يقوم الساحر بترشيح هذه القوة وتوجيهها نحو غرض محدد. التخيل هو الطلسم الذهني الذي يحبس طاقة الفراغ داخل حدود المعنى. هذه العملية ليست مجرد محاكاة، بل هي إدارة كونيّة؛ فالساحر يدرك أن كل ما هو موجود كان يوماً ما تخيلاً في رحم العدم. لذا، فإن قدرة الساحر على رؤية ما ليس موجوداً (التخيل) هي التي تمنحه السيادة على ما سيكون. إن التخيل السحري هو الفعل الذي يكسر إحتكار العدم للخلق، محولاً الإنسان من مراقب للكون إلى مشارك في صياغة مادته الأولى، حيث تصبح العين الداخلية للساحر هي النقطة التي يخرج منها النور إلى الظلام. مجمل القول؛ يظهر أن التخيل السحري هو البرهان الأنطولوجي على ألوهية الإرادة البشرية وقدرتها على محاورة العدم. إنه الجسر الذي تعبر عليه الكائنات من اللاوجود إلى الوجود. الساحر لا يكتفي بمحاكاة العدم، بل هو يستكمل عمل العدم؛ فإذا كان العدم يوفر المادة اللامتناهية، فإن الساحر يوفر الغاية والصورة. إن التخيل هو الرحم الثاني الذي تولد فيه الحقائق قبل أن تلبس ثوب المادة. و بهذا، يتحول السحر من كونه إدعاءً للقوة إلى كونه فن الهندسة في الفراغ، حيث يصبح التخيل هو القلم الذي يكتب به الساحر قصة الوجود على صفحات العدم البيضاء، مؤكداً أن الفراغ ليس للنهايات فحسب، بل هو البداية الحقيقية لكل ما هو جميل، و مروع، وحي.
_ أنا أعي إذن أنا أخلق: تحويل العدم من مادة ميتة إلى مسرح للحياة.
تطرح فرضية كون الوعي هو المضاد الوجودي للعدم إشكالية فلسفية تضرب بجذورها في أعماق الميتافيزيقا الوجودية؛ فالوعي ليس مجرد وظيفة إدراكية، بل هو فعل الحضور (The Act of Presence) الذي ينفي الغياب المطلق. إذا كان العدم يمثل السكون، والصمت، و اللاشكل، فإن الوعي يمثل الحركة، والكلمة، و الصورة. الوعي هو القوة الوحيدة التي تمتلك القدرة على الشهادة، وبشهادة الوعي يخرج الوجود من عماء العدم إلى نور التعريف. السحر، في هذا الإطار، لا يعمل كأداة منفصلة، بل هو الجسر الديناميكي و اللغة الوسيطة التي تربط بين هذين القطبين المتنافرين. السحر هو العملية التي تسمح للوعي المضاد بأن يغرف من العدم (المادة الخام) ليخلق واقعاً جديداً، وهو المسار الذي يمنع الوعي من الإنحباس في ذاتيته المفرطة، ويمنع العدم من أن يظل فضاءً عقيماً بلا معنى. يمكن تحليل هذه العلاقة من منظور كيمياء التضاد؛ فالوعي بطبيعته يسعى نحو الإمتلاء والتنظيم، بينما العدم يمثل الفراغ و الفوضى البدئية. الساحر يدرك أن الوعي المحض دون عدم يواجهه يصبح وعياً ساكناً بلا تحدٍ، و أن العدم دون وعي يراقبُه يظل موتاً مطلقاً. لذا، فإن السحر هو فعل العبور المنظم بين القطبين. عندما يمارس الساحر سحره، فهو يستخدم وعيه كشعلة يسلطها على مساحات معينة من العدم، مما يؤدي إلى تجلي إحتمالات معينة دون غيرها. الوعي هنا هو المرشح الذي يحول السيولة اللانهائية للعدم إلى صور وأحداث متعينة. السحر هو الجسر الذي يسير عليه الوعي ليغزو مناطق اللاشيء، وهو في الوقت نفسه القناة التي تسمح للعدم بأن يتجسد ويأخذ هوية. بدون هذا الجسر، يظل الوعي والعدم في حالة قطيعة أنطولوجية، حيث يظل الوعي غريباً عن أصله، ويظل العدم منغلقاً على أسراره. علاوة على ذلك، يمثل السحر حالة التوتر الوجودي الضرورية لإستمرار الكينونة. إن كون الوعي مضاداً للعدم يعني وجود صراع أزلي؛ فكلما اتسع وعي الساحر، ضاقت مساحة المجهول في العدم، وكلما إستدعى الساحر قوى من العدم، زادت كثافة وعيه وقوته. السحر هو الفن الذي يحول هذا التضاد إلى تكامل. الساحر لا يسعى لإلغاء العدم لأن إلغاء العدم يعني إلغاء مادة الخلق، ولا يسعى للذوبان في العدم لأن ذلك يعني إنتحار الوعي، بل يسعى للوقوف على الجسر؛ أي البقاء في حالة من الوعي اليقظ وسط بحر من اللاشيء. هذا الموقف البرزخي هو الذي يمنح السحر طابعه التراجيدي والبطولي معاً؛ فالسحر هو الشهادة الحية على أن الوعي يمكنه أن يؤثر في العدم دون أن يتلاشى فيه، وأن العدم يمكنه أن يستجيب للوعي دون أن يفقد غموضه المطلق. يظهر أن السحر هو تحقيق الوجود من خلال المصالحة بين الضدين. إن الوعي كونه المضاد الوجودي للعدم يجعله القوة الوحيدة القادرة على نطق إسم الوجود في حضرة الفراغ. السحر هو القوة التي تحول أنا أعي إلى أنا أخلق. الجسر السحري هو خيط من النور ممدود فوق هاوية سحيقة، و الساحر هو المسافر الذي يدرك أن وجوده مستمد من هذا التوازن الدقيق. إن الوعي يجد معنى وجوده في تحدي العدم و إستخدامه، والعدم يجد مبرر وجوده في كونه الأفق الذي يتمدد فيه الوعي. وبذلك، يصبح السحر هو المعنى الكوني الأعلى؛ فهو اللغة التي يكتب بها الوعي قصة إنتصاره المؤقت والدائم على صمت الأبد، محولاً الفراغ إلى مسرح، و اللاشيء إلى كل شيء نابض بالحياة والإرادة.
_ ملكوت الفراغ: العدم كمبدأ أساسي للوعي وبوابة الحرية السحرية المطلقة
تطرح فرضية كون العدم هو المبدأ الأساسي و الممكّن للوعي نقلة نوعية في الأنطولوجيا السحرية، حيث ينتقل العدم من كونه خصماً أو مادة خام ليصبح هو الأفق الإفتتاحي الذي لولاه لما وجد الوعي مكاناً يتجلى فيه. في هذا التحليل الفلسفي العميق، نجد أن الوعي لا يولد من الإمتلاء، بل من الفجوة؛ فالوعي هو في جوهره فعل إنفصال عن الوحدة الصامتة للكون، وهذا الإنفصال لا يمكن أن يحدث إلا في فضاء العدم. العدم هنا هو الخلاء الإبداعي الذي يمنح الوعي القدرة على الإختيار؛ فلو كان الوجود ممتلئاً كلياً وبلا فراغات، لكانت كل حركة مقيدة وكل إحتمال محكوماً بضرورة فيزيائية صلبة. السحر، في هذا السياق، هو الإدراك الواعي بأن قوة العدم ليست قوة فناء، بل هي قوة الإمكان المحض التي تسمح للساحر بأن يجد في الفراغ مساحة لإعادة خلق نفسه وعالمه بعيداً عن حتميات المادة. يمكن تحليل هذه العلاقة من منظور ميتافيزيقيا النقص؛ حيث يُعتبر الوعي عدماً متحركاً يسعى دوماً لملىء نفسه بالصور و المعاني. إن ما يجعل الوعي حراً هو كونه ليس شيئاً ثابتاً، بل هو عملية مستمرة من الصيرورة. الساحر يدرك أن أنا الخاصة به ليست جوهراً صلباً، بل هي نقطة من العدم تمتلك القدرة على إستضافة كل الإحتمالات. هذا العدم الجوهري في الوعي هو الذي يمكّن من السحر؛ لأنه لو كان الوعي شيئاً محدداً، لكان محدوداً بقوانين ذلك الشيء، ولكن لكونه لا شيء في أصله، فإنه يستطيع أن يتشكل في أي صورة يختارها. العدم هو البياض المطلق الذي يسمح لكل الألوان بالظهور، والوعي السحري هو المنشور الذي يحلل هذا البياض إلى أفعال وإرادات. وبذلك، يصبح العدم هو الشرط المسبق للحرية؛ فلكي نكون أحراراً في الخلق، يجب أن نبدأ من مساحة لم يكتب فيها شيء بعد، وهي مساحة العدم. علاوة على ذلك، يمثل العدم في السحر خزان الطاقة الكامنة التي تسبق كل تجلٍ مادي. إن الوجود القائم هو طاقة تجمدت في أشكال محددة، أما العدم فهو طاقة في حالتها الحرة، غير المقيدة بصورة. الساحر الذي يتصل بالعدم لا يتصل بالفراغ، بل يتصل بالإمتلاء الذي لم يظهر بعد. هذا المبدأ يفسر لماذا يتطلب السحر العالي حالة من التفريغ الذهني؛ فلكي يستحوذ الساحر على الإمكانية المطلقة، يجب أن يعود بوعيه إلى حالة العدم الأولى. إن الصفر الوجودي هو أقوى الأرقام في السحر، لأنه الرقم الذي يحتوي على كل الأرقام الأخرى في حالة كمونية. العدم هو الذي يمنح الوعي قدرته على النفي (Negation)؛ أي القدرة على قول لا للواقع القائم من أجل قول نعم لواقع جديد. هذا الفعل النفيّ هو جوهر الإرادة السحرية، وهو مستمد مباشرة من طبيعة العدم كقوة هادمة للبنيات القديمة وممهدة للبنيات الجديدة. وفي الختام، يظهر أن العدم هو الرحم الأنطولوجي الذي يحمل الوعي والوجود معاً. إن إعتبار العدم مبدأً أساسياً يعني أن السحر هو فن العودة إلى الأصل من أجل إعادة الإنطلاق. الساحر لا يخشى العدم لأنه يدرك أنه موطنه الحقيقي ومنبع حريته. إن الوعي هو مرآة العدم التي إكتسبت القدرة على النظر إلى نفسها، والسحر هو الحوار بين المرآة و الفراغ. وبدون العدم، يظل الوعي سجناً ضيقاً من الإنطباعات الحسية المكررة، ولكن بفضل العدم، يصبح الوعي بوابة نحو اللانهائي. السحر، في نهاية المطاف، هو الإعتراف بأننا أبناء الفراغ، وأن كل إمكانياتنا، وقدراتنا، وأحلامنا، مستمدة من ذلك الصمت العظيم الذي يسبق الكلمة، و يمنحها قوتها في خلق العوالم.
#حمودة_المعناوي (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟