أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد العبيدي - بين يدى الأم














المزيد.....

بين يدى الأم


سعد العبيدي

الحوار المتمدن-العدد: 8571 - 2025 / 12 / 29 - 18:16
المحور: الادب والفن
    


تقف الحاجة أمّ حيدر أمام الوكيل الأوّل لوزارة الصحّة. امرأةٌ نحيلة، كأنّ الطريق من ميسان إلى بغداد، لعشر سنوات، أضاف لها عمرًا إضافيًا وانحناءةً دائمة فوق كتفيها. تضع طلبها على المكتب بيدٍ ترتجف. ورقةٌ واحدة، محتواها أثقل من الملفات المكدّسة حولها.
يتأمّل الوكيل الطلب، يرفعه قليلًا، ثم يعيد النظر إليها. يستغرب، فيسألها أن توضّح.
ترفع رأسها ببطء، كأنها تجمع ما تبقّى من الطريق في صدرها، وتقول بإصرارٍ هادئ لا يعرف المساومة:
أريد دخول مستشفى الشماعية، والإقامة فيها.
يصمت لحظة. يحدّق في وجهٍ أنهكه الزمن، ويسأل: لماذا؟ ألا ترين طلبك غريبًا؟
تتنفّس بعمق، فتعود الى مخيلتها الرحلات كلّها دفعةً واحدة. حافلات الليل الباردة، المقاعد التي لا ترحم الظهر العجوز، النوافذ التي تعكس وجهها شاحبًا، انتظار الصباح أمام بوابة المستشفى، ثم ساعات اللقاء القصيرة، بعدها العودة. عودةٌ تتركها وحيدة مع أسئلة لا تجيب. كلّ تعبٍ في جسدها يبدو تقصيرًا، وكلّ اشتياقٍ في قلبها يبدو زيادةً لا مسوّغ لها. تختم قولها، بصوتٍ لا ينكسر:
أريد أن أراه وقتًا أطول. لم تعد الساعات تكفيني. أريد أن أخدمه بنفسي، فقد صار وجودي إلى جانبه هو الطمأنينة الوحيدة التي أفهمها. لا تقول إن السفر أرهقها، ولا إن جسدها لم يعد يحتمل الطرق.
ولا تقول إنها تخاف أن تموت في طريق العودة، بعيدًا عنه. كل ما أرادت قوله أن الأمومة، حين يتأخّر الشفاء، لا تعود انتظارًا، إنما تتحوّل إلى إقامةٍ دائمة.
تحصل الموافقة دون ضجيج. يُخصص لها سرير في قسم النساء، سرير لا تنام عليه بقدر ما تحرسه. لا تشعر أنها دخلت المستشفى، وإنما اقتربت أخيرًا من المسافة الصحيحة بينها وبين وحيدها. هنا، لا طريق طويل، لا حافلات ليلية، لا عودة موجعة. هنا، الغياب مؤجَّل.
في الصباح، تخرج إلى حديقة المستشفى. تمشي ببطءٍ محسوب، كأنها تخشى أن تسبق الوقت أو أن يسبقها قلبها. تجلس على الأريكة، تنتظر، وكأن الانتظار صار مهنتها الوحيدة وسبب بقائها معًا.
يأتي حيدر من قسم الرجال في أوقاتٍ متفاوتة، فالوقت عنده فكرة رخوة لا تُمسك. أحيانًا يصل باكرًا، وأحيانًا يتأخّر، وأحيانًا ينسى الطريق ثم يتذكّره فجأة. حين يراها، يلتصق بها، يبقى ينظر إليها طفلًا فقد العالم كلّه، ولم يبقَ له سوى هذا الوجه الذي يتأكّد به أنه ما زال حيًّا.
تبتسم له، ابتسامةً حنونة ، كأنها تخشى أن تفزع زمنه إن تغيّرت ملامحها. تدع اللحظة تقودهما، بلا أسئلة، بلا تصحيح، بلا استعجال. تجلس إلى جانبه ساعاتٍ طويلة. تراقب حركاته الصغيرة، التكرار الذي يطمئنه، وراحته حين تعود الكلمات ذاتها إلى فمها، مرتّبة، مألوفة، كما لو كانت دواءً يُؤخذ بجرعات ثابتة. تعرف أن عقله يقيم في زمنٍ واحد، زمن لا يتقدّم ولا يعود، لذلك تحاول أن تثبّت نفسها داخله. تكرّر حضورها، اليوم بعد اليوم، خوفًا من أن يسقط وجهها من ذاكرته الهشّة إن غابت مرّة واحدة. وحين يحين العصر، لا يريد فراقها. يتشبّث بيدها، يتردّد، يضطرب، كأن فكرة العودة إلى قسم الرجال عقوبة لم يفهم سببها. يأتي المضمد الصحي، يلزمه بالعودة كما لو أن الفصل بينهما إجراءٌ إداري، أو وهمٌ مؤقّت. تترك يده على مضض، تراقب خطواته وهو يبتعد، خطوةً خطوة، حتى يذوب في الممرّ.
تبقى هي جالسة لحظة أطول، تحدّق في الفراغ الذي خلّفه، فراغ تعرفه جيّدًا. ثم تنهض، وتعود إلى قسم النساء. لم تعد تسأل عن الشفاء. صار سؤالها الوحيد، كل مساء، بصوتٍ لا يسمعه أحد: هل رآني اليوم؟
بعد عامٍ كامل من الإقامة، صارت الأريكة تعرف جسدها أكثر مما يعرفه السرير. في صباحٍ عادي، تخرج إلى الحديقة كعادتها. تمشي ببطءٍ أشد، كأن الزمن صار أثقل من قدرتها على حمله. تجلس على الأريكة ذاتها، تُعدّل طرف عباءتها، وتضع يديها في حضنها. لا تقول شيئًا. تكتفي بأن تنظر إليه حين يصل، نظرةً طويلة، كأنها تحفظ وجهه مرّةً أخيرة. يجلس إلى جانبها. يضع يده في يدها. تميل قليلًا نحوه، كأنها تعبت فجأة من الجلوس مستقيمة. تتنفّس بعمق، نفسًا واحدًا أطول من المعتاد، ثم يهدأ جسدها ببطءٍ لا يُفزع في لحظته.
يهزّ يدها. تسقط بلا مقاومة. في تلك اللحظة، يتشقق الزمن الذي يقيم فيه. يتراجع خطوة، ثم يعود. يحدّق في وجهها طويلًا، طويلًا أكثر من اللازم. يصرخ. صرخةٌ أولى غير مفهومة، كأنها خرجت من مكانٍ لم يُستعمل منذ سنوات. ينهار بعدها، ثم يقف فجأة، بعنفٍ لا يشبهه. يصرخ مرةً أخرى، بصوتٍ أوضح، أقرب إلى اللغة.
يحاول إيقاظها كما يوقظ الأشياء التي تخذله. يضغط على كتفيها، يناديها، يكرّر الاسم، يعلو صوته، ثم يتكسّر. يبكي. ثم يغضب، ثم يضحك لحظةً قصيرة، ضحكة خاطئة، كأن عقله يحاول الهرب.
يمسك رأسه بكلتا يديه، يدور حول الاريكة، يعود إليها. يصرخ في وجوه الممرضين حين يقتربون. يدفعهم، يتراجع، يفقد السيطرة، ثم يستعيدها للحظةٍ حادّة، خاطفة، يرى فيها ما حدث بوضوحٍ موجع.
في تلك اللحظة القصيرة، يدرك أنها لن تجلس هنا غدًا، يدرك أن الوجه الذي كان يثبّت الزمن اختفى. ثم ينكسر الإدراك ثانية. يصرخ، ينهار، يُسحب بعيدًا.
أما هي، فتبقى على الأريكة كما كانت جالسةً في وضع الانتظار، كأنها في موتها، اختارت أن تكون بين يديه، وفي المكان الوحيد الذي لم تتركه فيه وحيدًا، وكأن في هذه الحديقة، وللمرة الأولى منذ سنة،
يمرّ الوقت…ولا أحد ينتظر.
***



#سعد_العبيدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الظل الذي لم يختف
- فدية قبل الموت
- حين يطبخ الخوف
- كبش فداء
- مَن ينقذ الله من الجهل
- في بلاد تدفن الأحياء على أقساط
- حين علمتنا سارة
- بصمات وطن انهكته القسوة
- فك ضيق المحتاج
- شظايا وطن: تقرير الحالة المعنوية
- السيد جبار
- من دفاتر الحرب: صولة رجل واحد
- عبد الرزاق النايف: رحلة من القصر الى القبر
- امرأة في حضرة الظل
- من غزة إلى قطر… سقوط خطاب الإبراهيمية
- حين يضحك الوزير
- سجن يبيع الحياة
- في بريد الوزير
- عروس التاسعة
- الانتخابات العراقية: حين تتحول صناديق الاقتراع إلى أداة مقاو ...


المزيد.....




- أحدثت بجمالها ثورة جنسية في عالم السينما.. وفاة بريجيت باردو ...
- عودة هيفاء وهبي للغناء في مصر بحكم قضائي.. والفنانة اللبناني ...
- الأمثال الشعبية بميزان العصر: لماذا تَخلُد -حكمة الأجداد- وت ...
- بريجيت باردو .. فرنسا تفقد أيقونة سينمائية متفردة رغم الجدل ...
- وفاة أيقونة السينما الفرنسية بريجيت باردو، فماذا نعرف عنها؟ ...
- الجزيرة 360 تفوز بجائزة أفضل فيلم وثائقي قصير بمهرجان في الس ...
- التعليم فوق الجميع.. خط الدفاع في مواجهة النزاعات وأزمة التم ...
- -ناشئة الشوق- للشاعر فتح الله.. كلاسيكية الإيقاع وحداثة التع ...
- وفاة أيقونة السينما الفرنسية بريجيت باردو عن 91 عاما
- وفاة أيقونة السينما الفرنسية.. بريجيت باردو


المزيد.....

- دراسة تفكيك العوالم الدرامية في ثلاثية نواف يونس / السيد حافظ
- مراجعات (الحياة الساكنة المحتضرة في أعمال لورانس داريل: تساؤ ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ / السيد حافظ
- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد العبيدي - بين يدى الأم