أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد العبيدي - شظايا وطن: تقرير الحالة المعنوية














المزيد.....

شظايا وطن: تقرير الحالة المعنوية


سعد العبيدي

الحوار المتمدن-العدد: 8493 - 2025 / 10 / 12 - 20:11
المحور: الادب والفن
    


في مساء السادس والعشرين من شباط عام 1991، انسحبت آخر مفرزة نفسية من الكويت. كتب آمرها في تقريرٍ موجزٍ أن الطريق الواصل بين مدينة الكويت وصفوان صار يُعرف بين الجنود بـ طريق الموت.
على طوله تمتد طوابير المنسحبين، وقد خلع البعض أحذيتهم نتيجة الورم الذي أصاب أقدامهم، يجرّون أجسادهم المرهقة كمن يجرّ خطاه فوق جمرٍ خفيّ. وأشارت المفرزة الثانية في اليوم التالي إلى أن ممرات مركز إخلاء الشهداء، قريبًا من ساحة سعد، امتلأت بالجثامين حتى لم يعد فيها موطئ قدم، وأن بعض الجثث تُركت على الرصيف. وجاءت الثالثة بما هو أشد وجعًا؛ إذ دوّنت أن الجنود الذين وصلوا البصرة يتقاذفهم الإحباط، بعضهم ينتقد قادته، وبعضهم يساوم على بندقيته، كأن الحرب انتهت بانكسار الروح في ساحةِ قتالٍ تاهت فيها القيادة.
وُضعت تلك التقارير، وغيرها، على طاولة نقاشٍ مفتوح في اللجنة النفسية العليا للمركز المتقدم بأبي الخصيب، لإعداد التقرير المعنوي إلى القيادة العامة للقوات المسلحة. استغرق النقاش وقتًا أطول من المعتاد، لما تضمّنه من حقائق لم تعتد القيادة سماعها من قبل، وخُتم باستنتاجٍ صريح: انهيار معنوي حاد، تفكك في البنية النفسية، وفقدانٌ لسلطة الضبط.
نُقل التقرير إلى القيادة العامة في مقرّها البديل، بيتٍ وسط البصرة، مساء الأول من آذار، بواسطة اللواء الركن مدير التوجيه المعنوي والعميد الأخصائي النفسي. كان البيت مضاءً بالفوانيس. حول الطاولة الرئيسية جلس الفريق سعدي وزير الدفاع، والفريق حسين رئيس الأركان، وإلى جواره الفريق سلطان معاونه للعمليات. كانوا متماسكين رغم الإرهاق، تبدو على ملامحهم آثار الشدّ والسهر المتواصل.
بدأت المناقشة فقرةً تلو أخرى. وعند الانتهاء قال رئيس الأركان بنبرةٍ يختلط فيها العتب بالحيرة، كمن يفتّش في كومة قشٍّ عن إبرة نافعة:
- أنتم معشر النفسانيين نظريون، بعيدون عن الواقع العملي... لم تُشيروا في تقريركم إلى مقترحٍ يرفع المعنويات في هذا الوقت الصعب.
قال العميد الاختصاصي بهدوءٍ يفرضه الموقف:
- سيدي، نحن – وحسب الصلاحيات – لا نملك تفاصيل عن الموقف القتالي، لذلك قدّمنا تحليلًا لإشاراتٍ ومشاهداتٍ وردتنا من المفارز النفسية، واستنتجنا بناءً عليها. ومع ذلك نرى ضرورة إخلاء شوارع البصرة من الجنود المحبطين، للتقليل من الأثر الجمعي لمشاعر الإحباط.
هزّ رئيس الأركان رأسه بأسى وقال:
- ألم أقل إنكم نظريون؟ لا نملك الآن أي وسيلة إخلاء. فالقطارات متوقفة، والنقلية الآلية مدمّرة، والجهد المدني خرج عن السيطرة. ثم أضاف بحزم:
- اذهبوا فورًا إلى جميع الفيالق، أوجزوا القادة، ألقوا محاضرات، قولوا إن الأمريكان هم من طلبوا وقف إطلاق النار، وليس العراق الذي ما زال قادرًا على قتال الأعداء.
ترك الفريق سلطان مكانه وسار معهما نحو الباب. وفي الممر الداخلي سأل العميد عمّا لم يُكتب في التقرير، فأجابه بثقة الزمالة:
- في حالات الانكسار، وعندما يفشل المقاتلون في توجيه مشاعر العدوان نحو عدوهم، يعيدون توجيهها – عند ضعف السلطة – إلى قيادتهم العليا.
وبعد أن ردّ التحية، أثنى الفريق على جرأة التقرير، وطلب تنفيذ أمر رئيس الأركان على الفور.
ساد صمتٌ لدقائق في السيارة المتجهة إلى المقر في أبي الخصيب، كسره العميد مخاطبًا اللواء بنبرةٍ خفيفة:
- جاءت في وقتها.
انتبه اللواء إلى الكلام وسأل عن القصد، فأجاب:
- إن حالة الانكسار امتدت إلى المجتمع، وكمّ العدوان في النفوس يكبر ويتضخّم، ولأن سلطات الضبط فقدت السيطرة، فذلك واقع قد يفضي إلى حدوث شيءٍ لا يمكن تحديد طبيعته، لكنّ وقعه سيكون أشدّ من هذا الحاصل وأخطر.
ابتسم منذر بألم وقال:
- عدنا إلى التكهنات. لرئيس الأركان الحق في أن يصفكم بالنظريين.
ردّ العميد بجديةٍ هذه المرة:
- ليست تكهنات، إنها تحليلات. ومع هذا، أرى ضرورة البدء بالتنفيذ مع شروق شمس الغد، وتبليغ المنتسبين بإخلاء المقر كذلك قبل الشروق. وهكذا أصدر اللواء أوامره حال وصوله إلى المركز.
عند حلول الصباح، بدت البصرة كمدينةٍ لم تفق بعد من صدمتها. الأجواء مغطاةٌ بالدخان المتصاعد من آبار النفط المشتعلة، والجنود ينتشرون في الشوارع ببنادق أثقلتها المعنويات المنهارة، يتحركون ببطء، بوجوهٍ شاحبة وعيونٍ زائغة، كمن فقد الاتجاه والمعنى معًا. وعلى الضفة الأخرى من شط العرب، كانت مجاميع من الجنود تتكدّس في نقاط الانتظار، صامتين، يتطلعون نحو المدينة كأنهم يراقبون ما تبقّى من وطنٍ يغرق، ولا يملكون سبيلاً لإنقاذه.
وكذلك كان الطريق إلى مدينة العمارة، مقرّ الفيلق السادس، الذي لم يبقَ فيه سوى قائده اللواء الركن عبد الواحد، وقليلٌ من هيئة ركنه وجنود الحماية. وفي النقاش معه عن الحالة المعنوية، قال بلهجةٍ جادّة، كمن يعلن خبرًا لا يريد تصديقه:
- سقطت البصرة بيد المنتفضين.
عندها جال في فكر العميد ما لم يستطع البوح به، هامسًا في نفسه: حين تُشنّ الحروب وتُقاد بالطموح الذاتي لا ببصيرة العسكر، تكون النتيجة محتومة... انفجار الهزيمة من الداخل.



#سعد_العبيدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- السيد جبار
- من دفاتر الحرب: صولة رجل واحد
- عبد الرزاق النايف: رحلة من القصر الى القبر
- امرأة في حضرة الظل
- من غزة إلى قطر… سقوط خطاب الإبراهيمية
- حين يضحك الوزير
- سجن يبيع الحياة
- في بريد الوزير
- عروس التاسعة
- الانتخابات العراقية: حين تتحول صناديق الاقتراع إلى أداة مقاو ...
- عندما يرفع القبو
- من الأديرة إلى المصانع… حكاية شراب مثير للجدل
- من أطلال الحرب إلى أيقونة السياحة… حكاية قلعة بامبرة
- بين إنجلترا واسكتلندا: قرية تزهر بالحب والهروب
- مدينتان على ضفتي التاريخ: ليدز ويورك
- رحلة في أزقة الزمن وذاكرة الحجر
- حين تنطق لندن....
- حين يصاب الوطن بالتبلد
- تداعي الدولة العراقية: حين تنهار البُنى من داخلها
- مسرح الحريق: العراق بين لهب المأساة وقيد البندقية


المزيد.....




- هيام عباس تحصد -الهرم الذهبي-.. مهرجان القاهرة السينمائي يكش ...
- صورة من غزة.. نزوح بعد إخلاء
- نظرية الفوضى في الشعر العباسي.. مقاربة نصيّة في شعر أبي نواس ...
- من بينهم الفنّان خالد النبوي.. مهرجان -القاهرة السينمائي- ال ...
- شاركت في -العراب- وتألقـت في أفلام وودي آلن .. نجوم هوليوود ...
- -تانيت إكس آر-: منصة غير ربحية توثق التراث التونسي رقميا
- اكتشاف قلعة عسكرية على طريق حورس الحربي في شمال سيناء
- انطلاق الدورة السادسة لمهرجان بغداد الدولي للمسرح
- ظهرت في أكثر من 60 فيلما..وفاة الممثلة ديان كيتون عن 79 عاما ...
- حربٌ هزمت المجتمعَين وأسقطت كذبة وحدة اللغة والتاريخ المشترك ...


المزيد.....

- شهريار / كمال التاغوتي
- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي
- فرس تتعثر بظلال الغيوم / د. خالد زغريت
- سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي / أبو الحسن سلام
- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد العبيدي - شظايا وطن: تقرير الحالة المعنوية