أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد العبيدي - في بلاد تدفن الأحياء على أقساط














المزيد.....

في بلاد تدفن الأحياء على أقساط


سعد العبيدي

الحوار المتمدن-العدد: 8511 - 2025 / 10 / 30 - 16:11
المحور: الادب والفن
    


في زقاقٍ ضيّقٍ من مدينة الشعب، تهيّئ لمياء الفطور لشقيقتيها الصغيرتين قبل المضي بهما إلى المدرسة، تبتسم كي لا تريان ما يعتمل في صدرها من تعبٍ مكتوم، وتُخفي خلف تلك الابتسامة وجع الحاجة الذي يزداد كل صباح. وحين تعود إلى البيت الخالي، تدخل المطبخ، تجمع الصحون الفارغة كمن يلمّ ما تبقّى من نهارٍ لم يبدأ بعد، تفكر في الأشهر التي قضتها عاطلةً عن العمل بعد أن أُغلق مكتب الترجمة بسبب الإفلاس، وبالوعود التي قطعتها لمعارف تستدين منهم، ومالك البيت الذي يطالبها بالإيجار أو الإخلاء، وبفواتير الكهرباء المكدّسة على الطاولة كأحجارٍ فوق صدرها. كلُّ هذا، ومعه وعدٌ بالزواج، أذابته بصمتٍ يوم أدركت أن الحبَّ ترفٌ لا يليق بمن تحمل على كتفيها عبءَ المسؤولية منذ اختطاف والديها بانفجارٍ أعمى وهما في طريق العودة إلى البيت.
خمسُ سنواتٍ تمرّ على ذاك اليوم وعلى تخرّجها من قسم الترجمة، وخمسين طلبَ عملٍ لا تثمر إلا اعتذارًا جافًّا، أو شرطَ “الدفع المسبق” لآلاف الدولارات، لا تملك منها سوى الحلم. تمضي الأيام من أمامها كطابورٍ طويلٍ من الوجوه، تنتظر فيه دورها بلا نداء. وفي ظهيرةٍ خانقة، تراقب الغبار المتصاعد في الأرجاء، حين يرنُّ الهاتف. صوتُ "ميسم" على الطرف الآخر يحمل شيئًا من الأمل:
- لمياء، هناك إعلان جديد... شركةٌ تجاريةٌ كبيرة تطلب مترجمة.
تشهق بخفّةٍ، كمن يلتقط أنفاسه بعد غرقٍ طويل، وتسألها بلهفةٍ عن التفاصيل. تجيب ميسم بتروٍّ:
-لا أعرف سوى أنها شركةٌ يُقال مملوكة لرجلٍ "فتح الله عليه" في السنوات الأخيرة... ويديرها ابنه البكر.
تصمت لمياء لحظةً، ثم تقول، كمن يخشى أن يفلت من يده آخر خيطٍ للرجاء: سأجرّب حظي... لقد أنهكني الانتظار.
في الصباح، تستيقظ قبل الأذان بقليل، تتوضأ بماءٍ باردٍ، ثم تخطو نحو سجادة الصلاة، تحاول منها أن تستدرّ شيئًا من الطمأنينة. تُطيل السجود كأنها تثبّت جبهتها في الأرض كي لا تسقط من هشاشة الرجاء. وحين تنهض، تغسل وجهها مجددًا، تُصفّف شعرها على عجل، ترتدي فستانها الكحليّ، تُمسك شهادتها كما يُمسك غريقٌ بلوح نجاة، وتغادر البيت بخطًى حذرةٍ نحو المجهول، تاركةً الباب مواربًا لصوت الطفلتين النائمتين وهمستها الخافتة: ادعيا لي، هذه المرة كي لا أعود خائبة.
في الوقت المحدّد، تقف أمام بوابة الشركة الزجاجية، تدفعها بخجل، تستقبلها موظفةُ الاستعلامات حتى الجلوس في قاعةٍ يخيّم عليها صمتُ الترقّب بين خمس فتياتٍ يتبادلن نظراتٍ قلقة. وحين يُنادى اسمها تنهض بخطى مترددة وتدخل.
خلف المكتب الفخم يجلس شابٌّ أنيق، يقدّم نفسه بتعالٍ مصقولٍ بالمال، هو المدير التنفيذي. يتصفّح أوراقها ببرودٍ متعمّد، ثم يرمي سؤاله كمن يختبر شيئًا لا يعنيه: الحالة الاجتماعية؟
- أعيش مع أختيَّ الصغيرتين.
يهزّ رأسه مبتسمًا: عزّ الطلب.
تتجمّد ملامحها، فيتدارك بنبرةٍ مصطنعة: زلة لسان… ترجمتك ممتازة، وأنتِ الأولى، ومن يستحق الوظيفة.
تتنفس الصعداء، يلمع الأمل في عينيها، تهمس: الحمد لله… كنت بحاجة لهذا العمل.
يرفع نظره إليها أخيرًا، تتقاطع نظراتهما لحظةً واحدة تكفي لتكشِف طبقاتٍ من الخداع خلف بريق عينيه. يبتسم ابتسامةَ إغواءٍ ويقول بنبرةٍ هادئةٍ كأنها أمرٌ عابر: الوظيفة لكِ… بشرطٍ بسيط.
تتجمّد الكلمات في حلقها، تشعر بحرارةٍ تصعد إلى وجهها، وتهمس: ما هو؟
يميل إلى الخلف في مقعده الوثير، يشبك أصابعه، ثم يقول ببرودٍ لزجٍ لا يليق إلا بالوحل: ساعة واحدة تكونين فيها لي وحدي.
لحظةُ صمتٍ خانقة، لا يُسمع فيها سوى أزيز المكيّف، كأن الهواء نفسه يخجل من أن يتنفس. تحاول أن تضحك لتكذّب ما سمعت، لكن شيئًا في نبرته يخنق الضحكة في حنجرتها. تخفض رأسها، يختلط في داخلها الخوف بالذلّ والغضب، تتذكّر ملامح الطفلتين، الإيجار المتراكم، طوابير العاطلين، أحداث تشرين التي كادت تقتلها... ثم تنهض ببطء، تحمل أوراقها بيدٍ مرتجفة، وتغادر بخطى تتعثّر بين الكرامة والجوع، لا تلتفت خلفها.
الشارع مكتظٌّ بالسيارات، بالصور والدعايات الانتخابية، كأن المدينة تحتفل بخيبتها الجماعية. تفتّش بعينيها عن وجه المدير ووالده بين المرشحين فتشعر بالغثيان، كأنها تمشي فوق لافتاتٍ من الكذب. تمضي كمن يحمل جثّة كرامته بين ذراعيه. في الزاوية طفلٌ يبيع مناديل ورقية لعابرين مثخنين بالضجر، وسيدةٌ تبحث في القمامة عن بقايا خبزٍ، وشرطيٌّ يُقسم لمتجاوز على الرصيف أن الوطن بخير.
ترفع رأسها نحو السماء الرمادية وتهمس: نحن لا نعيش هنا... نحن نُدفن أحياءً وعلى أقساط.
تفتح الباب، فتندفع شقيقتاها نحوها كعصفورين خرجا لتوّهما من قفص الانتظار. تسألها هيفاء ولهفة الفرح تسبق صوتها: أبشّري! قبلوكِ؟
تنحني عليهما قليلًا، تمسح على شعرهما وتبتسم ابتسامةً كسيرةً كأنها تحاول أن تقنع نفسها قبل أن تقنعهما، ثم تقول بصوتٍ مبحوح: الدنيا لم تقبلنا بعد.



#سعد_العبيدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حين علمتنا سارة
- بصمات وطن انهكته القسوة
- فك ضيق المحتاج
- شظايا وطن: تقرير الحالة المعنوية
- السيد جبار
- من دفاتر الحرب: صولة رجل واحد
- عبد الرزاق النايف: رحلة من القصر الى القبر
- امرأة في حضرة الظل
- من غزة إلى قطر… سقوط خطاب الإبراهيمية
- حين يضحك الوزير
- سجن يبيع الحياة
- في بريد الوزير
- عروس التاسعة
- الانتخابات العراقية: حين تتحول صناديق الاقتراع إلى أداة مقاو ...
- عندما يرفع القبو
- من الأديرة إلى المصانع… حكاية شراب مثير للجدل
- من أطلال الحرب إلى أيقونة السياحة… حكاية قلعة بامبرة
- بين إنجلترا واسكتلندا: قرية تزهر بالحب والهروب
- مدينتان على ضفتي التاريخ: ليدز ويورك
- رحلة في أزقة الزمن وذاكرة الحجر


المزيد.....




- قناة مائية قديمة في ذمار تكشف عبقرية -حضارة الماء والحجر-
- ما أبرز الرسائل والمخرجات عن القمة الصينية الأمريكية؟
- توفيا أثناء تأدية عملهما.. رحيل المصورين ماجد هلال وكيرلس صل ...
- وزيرة الثقافة الفرنسية تمثل ماكرون في افتتاح المتحف المصري ا ...
- صالون الجزائر الدولي للكتاب يفتح أبوابه أمام الزائرين
- العبودية الناعمة ووهم الحرية في عصر العلمنة الحديث
- كلاكيت: الذكاء الاصطناعي في السينما
- صدر حديثا. رواية للقطط نصيب معلوم
- أمستردام.. أكبر مهرجان وثائقي يتبنى المقاطعة ويرفض اعتماد صن ...
- كاتب نيجيري حائز نوبل للآداب يؤكد أن الولايات المتحدة ألغت ت ...


المزيد.....

- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- بيبي أمّ الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور
- الذين لا يحتفلون كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- شهريار / كمال التاغوتي
- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد العبيدي - في بلاد تدفن الأحياء على أقساط