أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد العبيدي - حين علمتنا سارة














المزيد.....

حين علمتنا سارة


سعد العبيدي

الحوار المتمدن-العدد: 8506 - 2025 / 10 / 25 - 20:14
المحور: الادب والفن
    


في صباحٍ دافئٍ من صباحات خريف البصرة، جلست ليلى، معلمة الصف الثالث الإعدادي، خلف مكتبها الخشبيّ العتيق، تراقب فناء المدرسة يزدحم بخطى الطالبات وضحكاتهنّ. كانت تفكر في طريقةٍ تُعيد لعيونهنّ بريق الجدِّ والمنافسة، وفي خضمّ تأمّلها تلك الوجوه المشرقة بحلمٍ لم يتّضح بعد، كانت عيناها تستقرّ دائمًا على سارة. فتاةٌ هادئة الملامح، تمشي بخطواتٍ واثقة كأنها تُخفي فقرها تحت كبرياءٍ جميل. لا تشتكي، ولا تبرر غياب واجب، ولا تُظهر ما تعانيه من ضيق ذات اليد، اعتادت التحدث بثقةٍ تُحرج المعلمة أحيانًا، وكأنها خُلقت لتُذكّر الآخرين أن الفقر امتحانٌ ينجح فيه من لم يفقد الإيمان بنفسه.
تأمّلت وجهها الهادئ، وقالت في سرّها: ما أعجب هذا الصمت يا صغيرتي...! أهو رضًا بما كتب الله، أم كبرياء من وُلدوا كبارًا؟ أعرف قصّتك. أعرف الأب الذي لم يعد من اختطافه، والأم التي تصحو قبل الفجر لتخبز للناس ما لا تملك أن تأكله.
تنهدت بصمت، ثم أغلقت دفتر الحضور ببطءٍ كمن يُغلق بابًا على فكرةٍ تتكوّن في رأسها.
راودتها رغبة خفيفة أن تشتري لـ سارة ما كانت بأمسّ الحاجة إليه "حذاءً مدرسيًا جديدًا يليق بخطاها الهادئة"، لكنها ما لبثت أن تراجعت، تعرف كبرياء في داخلها لا يسمح بقبول عطيةٍ مباشرة، ولا نظرة شفقةٍ عابرة. ابتسمت لنفسها، كمن اهتدى إلى مخرجٍ ذكي، وقالت في سرّها: هي أشطر بنات الصف... ولمَ لا أجعل الهدية جائزةً للتميّز؟ ستكون هي الأجدر بها حتما، فأعلنت أما الصف:
- صاحبة الدرجة الأعلى ما بعد التسعين، ستفوز بجائزة حذاء مدرسي أنيق يلائم العمر.
مرّ الامتحان على غير العادة؛ ضحكاتٌ مكتومة وهمهماتٌ متوترة، وعيونٌ تلمعُ بشغف الفوز أكثر من الرهبة، وحين عادت إلى مكتبها لتصحّح الأوراق، وجدت نفسها تبتسم كلما قلبت ورقةً جديدة، فالإجابات نموذجية، وكأن بنات الصف بأسرهن عقدَن اتفاقًا سرّيًا على التفوّق.
جلست ليلى متحيّرة أمام الأوراق، وقد نلن أغلب الطالبات الدرجة الكاملة. ابتسمت وهي تفكر بطريقةٍ تحفظ عدلها وتشجعهن معًا، ثم قالت في نهاية الحصة: جميعكن تفوقتُنَّ، والهدية واحدة... فليحسمها الحظ.
كتبت الطالبات أسماءهن على أوراق صغيرة، وضعتها في كيسٍ أعدّته مسبقًا، حرّكته قليلًا، ثم مدّت يدها وسحبت الورقة الرابحة، راحت تفتحها ببطء، وفي صوتها شيء من الترقّبٍ:
- سارة.
ارتجّ الصفّ بالتصفيق، وركضت سارة نحو المعلمة، ووجهها يشعّ بفرحٍ لم تعرفه منذ زمن.
كانت تأتي كل يوم بحذاءٍ ممزّقٍ بالكاد يستر قدميها، وها هي الآن تنال حذاءً جديدًا، لا كثمنٍ لتفوّقها فحسب، وإنما كمكافأةٍ صامتةٍ لطول صبرها وإيمانها بأن الغد مهما طال، لا بد أن يبتسم.

بعد الظهر، عادت ليلى إلى بيتها مثقلةً بيومٍ صغيرٍ في أحداثه، كبيرٍ في أثره. ألقت الحقيبة على الكرسي، وجلست أمام زوجها، تحدّثه وعيناها ما تزالان عالقتين بذلك المشهد : تصفيق الطالبات، وابتسامة سارة التي لم تفارق ذاكرتها، كانت كلماتها تتقطع بين الدهشة والعاطفة، فقال لها مبتسمًا، وهو يراقب ارتباكها الجميل:
- يبدو أنكِ فرِحتِ بفوز سارة، فلمَ الحيرة يا ليلى؟
قالت بصوتٍ متهدّجٍ فيه ابتسامة ودمعة: لأنني حين فتحت الصندوق بعد الدرس، اكتشفت أن كل الأوراق تحمل اسمًا واحدًا... سارة.
ساد صمتٌ خفيف في الغرفة، قبل أن يقول الزوج، وكأنه يخاطب شيئًا أكبر من القصة:
- يبدو أن البنات في مدرستك أكثر نضجًا منا نحن الكبار.
ابتسمت ليلى وهي تحدّق في وجه زوجها، وقالت بصوتٍ خافتٍ يشبه الدعاء : كم أتمنى أن نتجرّد من أهوائنا، وأن نمنح أصواتنا للأصلح لا للأقرب، للأصدق لا للأعلى صخبًا...
أن نتعلّم من أطفالنا قبل أن تلوّثهم السياسة، ومن تلك الأمم التي وإن لم تملك نفطًا، امتلكت ضميرًا حيًّا، وإرادةً جعلت الحديد يلين في أيديها، والكلمة تتحوّل إلى وعي، والحلم إلى وطنٍ يُبنى بالحقيقة لا بالأدعية والوعود الكاذبة.



#سعد_العبيدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بصمات وطن انهكته القسوة
- فك ضيق المحتاج
- شظايا وطن: تقرير الحالة المعنوية
- السيد جبار
- من دفاتر الحرب: صولة رجل واحد
- عبد الرزاق النايف: رحلة من القصر الى القبر
- امرأة في حضرة الظل
- من غزة إلى قطر… سقوط خطاب الإبراهيمية
- حين يضحك الوزير
- سجن يبيع الحياة
- في بريد الوزير
- عروس التاسعة
- الانتخابات العراقية: حين تتحول صناديق الاقتراع إلى أداة مقاو ...
- عندما يرفع القبو
- من الأديرة إلى المصانع… حكاية شراب مثير للجدل
- من أطلال الحرب إلى أيقونة السياحة… حكاية قلعة بامبرة
- بين إنجلترا واسكتلندا: قرية تزهر بالحب والهروب
- مدينتان على ضفتي التاريخ: ليدز ويورك
- رحلة في أزقة الزمن وذاكرة الحجر
- حين تنطق لندن....


المزيد.....




- الإعلان عن الفائزين بجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي ...
- تتويج الفائزين بجائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي في د ...
- -ضايل عنا عرض- يحصد جائزتين في مهرجان روما الدولي للأفلام ال ...
- فنانون سوريون يحيون ذكرى التحرير الأولى برسائل مؤثرة على موا ...
- -تاريخ العطش- لزهير أبو شايب.. عزلة الكائن والظمأ الكوني
- 66 فنا وحرفة تتنافس على قوائم التراث الثقافي باليونسكو
- فنان من غزة يوثق معاناة النازحين بريشته داخل الخيام
- إلغاء حفلات مالك جندلي في ذكرى الثورة السورية: تساؤلات حول د ...
- أصوات من غزة.. يوميات الحرب وتجارب النار بأقلام كتابها
- ناج من الإبادة.. فنان فلسطيني يحكي بلوحاته مكابدة الألم في غ ...


المزيد.....

- ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ / السيد حافظ
- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد العبيدي - حين علمتنا سارة