أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد العبيدي - بصمات وطن انهكته القسوة














المزيد.....

بصمات وطن انهكته القسوة


سعد العبيدي

الحوار المتمدن-العدد: 8504 - 2025 / 10 / 23 - 15:00
المحور: الادب والفن
    


اجتمعت العائلة حول العشاء، صوت الملاعق على الصحون، وضحكة الأطفال، ورائحة الحساء تملأ المكان… كل شيء كان عاديًا حتى ذلك الطرق العنيف. ارتجّ البيت. ساد الصمت لحظة، ثم انفجر الباب بركلةٍ قوية، تبعها صراخٌ وأوامر، ورجلان يشهران السلاح، وثالث يسأل بصوتٍ خشن: أنت حسان؟ معنا أمر بالقبض عليك!
لم يُمهلوه حتى يمضغ لقمته. شدّوه من ذراعه، قيدوا يديه بأصفادٍ معدنية، ثم دفعوه نحو الباب. عندها انطلقت نسرين، ابنة العاشرة، تصرخ بانفعال هستيري: بابا لا تتركنا! تشبثت بساقيه، حاولت تطويقه بذراعيها الصغيرتين كمن يريد أن يحمي وطنه الأخير.
دفعها المقدم بقسوةٍ، فانفلتت منها صرخة حادّة اخترقت صمت الجدران قبل السقوط مغشيًّا عليها. اندفعت الأم نحوها، تمسك طفلها الرضيع بذراع، وبالذراع الأخرى تتحسس وجهها الشاحب،
ومن فمها تتدفق كلماتٌ متقطعة، أقرب إلى الرجاء منها إلى السؤال:
- أروني أمر القضاء! قولوا لي ما التهمة! لمَ تأخذونه؟ إنه لا يؤذي أحدًا!
التفت إليها المقدم. ركلها في صدرها دفعةً واحدةً أطاحت بها والطفل أرضًا. ارتطم رأسها بالبلاط، وسال من فم الرضيع بكاءٌ خافت، كأنّه احتجاجٌ من عالمٍ لم يتعلم منه بعد كيف يُهان. وفيما كانت تحاول النهوض، كان الباب يُغلق خلفهم، وصوت القيود البعيد يجرح صمت البيت، وصوتها المبحوح يتبعهم: ما الذي اختلف؟ كنا نُضرب بلا رحمة، وبتنا نُضرب باسم الرحمة.
ثم عمّ البيت صمتٌ ثقيل، كأنّ كل ما فيه تجمّد عند تلك الصرخة الأخيرة.
في الصباح التالي، خرجت الأم العجوز تشدّ عباءتها جيدًا، تحمل فوق رأسها صينيةً صغيرة غطّتها بقطعة قماشٍ نظيفة. كانت خطواتها بطيئة، لكن عينيها تشعّان بعنادٍ غريب. وقفت أمام دائرة الأمن، سألت الموظف عن ابنها حسان، فأنكر بعجرفةٍ كأنها تسأل عن شيءٍ لا وجود له.
رفعت رأسها وبصوتٍ يختلط فيه الرجاء بالتهديد، قالت: سأذهب إلى السيد، وهناك أخلع عباءتي أمام الناس!
تبادل الرجال نظراتٍ سريعة، ثم أشار المقدم: إنه موجود، وتهمته أربعة إرهاب.
- إرهاب؟ حسان مؤمن، لم يؤذي في حياته نملة .
ردّ ببرودٍ آلي: مخبرنا السري مصدر موثوق.
نظرت إليه طويلاً، كأنها تحاول أن تفهم كيف يتكلم إنسان بلا قلب. ثم وضعت الصينية عند الباب، وغادرت ببطء، والصوت الخافت لخطواتها على الإسفلت بدا كأنه يعدّ خيبتها خطوةً بخطوة.
خمسة أيامٍ تجلس عند الباب، تحمل صينيتها كل صباح وتعود بها كما هي عند المساء. وفي اليوم السادس، أطلّ أحدهم من النافذة الحديدية وقال ببرودٍ كعادته: انقلي طعامك لمركز شرطة الرحمة… ابنك هناك.
حملت الصينية فوق رأسها، ومشت بخطى أثقل من عمرها. أذنوا لها بالمواجهة. لم تعرفه أول الأمر. كان وجهه متورّمًا، عيناه غائرتان، وشفته السفلى متشققة كأنها نزفت كثيرًا. اقتربت منه بخطواتٍ واهنة، مدت يدها تتحسس وجهه وقالت بصوتٍ مبحوحٍ: ولدي ماذا فعلوا بك؟
حاول الابتسام، فلم يفلح. قال وهو يرفع رأسه بصعوبة: علقوني عارياً. صعقوني بالكهرباء. هنا، وهنا. أجلسوني على خازوق. ضربوني بالعصي، قالوا اعترف، انك إرهابي، نقلت مطلوبا للدولة في سيارتك الى بغداد؟"
تجمدت في مكانها، اختلطت دموعها بكلماتٍ لا تكتمل. استمرت في النظر اليه كأنها تريد احتضان جراحه دفعة واحدة، لكنها لم تستطع، رفعت يداها الى السماء وبأعلى صوتها قالت: إلهي، كنا ننتظر الفرج من يدك، فجاءتنا التهم من عبادك.
وقبل الخروج، استوقفها صوته الضعيف: أمي، سيأتيكم مهدي من طرف المقدم، ادفعوا له، لتغيير التهمة.
وفي المساء حضر مهدي، ساوم على عشرة ملايين لتغيير التهمة، ظلّ يماطل عشرة أيام، وخلالها كانت صحة حسان تتدهور. ارتفعت حرارته، سعل دمًا، وارتعشت أطرافه.
أمر القاضي بنقله إلى المستشفى للعلاج، لكن المفرزة كانت تعيده في كل مرة وهي تهمس بعبارةٍ ثابتة: تم العلاج، فيما كانت حالته تزداد سوءًا. وفي آخر مواجهة، رفع رأسه بصعوبة، صوته متكسّر يخرج من عمقٍ لا يُسمع إلا في لحظات الوداع:
- كفى يا أمي... لا أريد علاجًا، أريد فقط أن يتوقف الألم.
جال الخفر على الموقوفين قبل النوم، فقال أحدهم إن حسانًا يحتضر. ردّ ببرودٍ وهو يغلق الباب: الصباح رباح.
لكن الصباح جاء بلا حسان. وُجد ممددًا في زاويته، فاقد الوعي، بوجهٍ شاحبٍ كأنه انتهى من وداعٍ طويل.
نُقل إلى ردهة المشتبه بهم في المستشفى، بلا اسمٍ، ولا رقمٍ، ولا زائر. وفي اللحظة نفسها صدر القرار بتغيير التهمة من الإرهاب إلى الاشتباه ... تغييرٌ لم يُنقذه من موتٍ يشبه الاستسلام، وكأن العدالة حين تتأخر تتحوّل إلى نوعٍ آخر من القسوة.
حضرت الأدلة الجنائية بأمر من الطبيب، اكتُشف أن جسده لم يكن يحمل آثار التعذيب فقط، كانت عليه بصمات وطنٍ أنهكته القسوة؛ كأن كل ضربةٍ كانت توقيعًا جديدًا باسم العدالة، وكل صمتٍ موافقةً عليها. رحل حسان، ولم يُثبت أحد أنه إرهابي، لكن أحدًا لم يبرّئه. وبقي السؤال معلّقًا بين الجدران الباردة:
من الذي مات حقًا؟ جسد حسان الذي عُذِّب، أم الضمير الذي سكت؟



#سعد_العبيدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فك ضيق المحتاج
- شظايا وطن: تقرير الحالة المعنوية
- السيد جبار
- من دفاتر الحرب: صولة رجل واحد
- عبد الرزاق النايف: رحلة من القصر الى القبر
- امرأة في حضرة الظل
- من غزة إلى قطر… سقوط خطاب الإبراهيمية
- حين يضحك الوزير
- سجن يبيع الحياة
- في بريد الوزير
- عروس التاسعة
- الانتخابات العراقية: حين تتحول صناديق الاقتراع إلى أداة مقاو ...
- عندما يرفع القبو
- من الأديرة إلى المصانع… حكاية شراب مثير للجدل
- من أطلال الحرب إلى أيقونة السياحة… حكاية قلعة بامبرة
- بين إنجلترا واسكتلندا: قرية تزهر بالحب والهروب
- مدينتان على ضفتي التاريخ: ليدز ويورك
- رحلة في أزقة الزمن وذاكرة الحجر
- حين تنطق لندن....
- حين يصاب الوطن بالتبلد


المزيد.....




- الشاغور في دمشق.. استرخاء التاريخ وسحر الأزقّة
- توبا بيوكوستن تتألق بالأسود من جورج حبيقة في إطلاق فيلم -الس ...
- رنا رئيس في مهرجان -الجونة السينمائي- بعد تجاوز أزمتها الصحي ...
- افتتاح معرض -قصائد عبر الحدود- في كتارا لتعزيز التفاهم الثقا ...
- مشاركة 1255 دار نشر من 49 دولة في الصالون الدولي للكتاب بالج ...
- بقي 3 أشهر على الإعلان عن القائمة النهائية.. من هم المرشحون ...
- فيديو.. مريضة تعزف الموسيقى أثناء خضوعها لجراحة في الدماغ
- بيت المدى يستذكر الشاعر القتيل محمود البريكان
- -سرقتُ منهم كل أسرارهم-.. كتاب يكشف خفايا 20 مخرجاً عالمياً ...
- الرئيس يستقبل رئيس مكتب الممثلية الكندية لدى فلسطين


المزيد.....

- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- بيبي أمّ الجواريب الطويلة / استريد ليندجرين- ترجمة حميد كشكولي
- قصائد الشاعرة السويدية كارين بوي / كارين بوي
- ترجعين نرجسة تخسرين أندلسا / د. خالد زغريت
- الممالك السبع / محمد عبد المرضي منصور
- الذين لا يحتفلون كتاب كامل / كاظم حسن سعيد
- شهريار / كمال التاغوتي
- مختارات عالمية من القصة القصيرة جدا / حسين جداونه
- شهريار / كمال التاغوتي
- فرس تتعثر بظلال الغيوم / د. خالد زغريت


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد العبيدي - بصمات وطن انهكته القسوة