أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد العبيدي - حين يطبخ الخوف














المزيد.....

حين يطبخ الخوف


سعد العبيدي

الحوار المتمدن-العدد: 8551 - 2025 / 12 / 9 - 02:56
المحور: الادب والفن
    


في العاشر من عاشور، يخرج سلمان من محلتِه كمن يغامر في رحلةٍ مقدّسة تأخرت قليلا، يحمل قدرًا وكأنه درعٌ صدئ من أيامٍ لم يعد يتذكرها إلا عندما يضيق النفس. الشمس تتدلّى مثل مصباحٍ متعب، والشارع يتكلم لغة الخمول بعد انفضاض مواكب الطبخ، فلم تبق سوى رائحة القيمة التي تهزأ بالمتأخرين.
يمشي سلمان في أزقة المحلة يسأل : ألم يبق لديكم ملأ قدر من القيمّة؟
وتأتي الإجابات كسياطٍ من الواقع: خلصت… خلصت… خلصت… أوصلته إلى آخر بيت في المحلة، أشار صاحبه الى المحلة المجاورة، وبيت في أولها، أنيق كما لو أنه يخفي ثروةً في باطنه، أو خزائن من القدور المملوءة بالثواب. بيتٌ يشبه قلعةً صغيرة، بوابتها مغلقة كفمٍ يعرف قيمة الصمت.
يطرق سلمان الباب، فيفتح رجل يحمل ملامح مألوفة، لكنها باهتة مثل صورة قديمة نجت من الحرب بشق الأنفاس. يحييه ويقول بارتباكٍ خفيف:
ألم تكن سركيس أبو جون؟
يتردد الرجل لحظة: نعم… لكني بصراحة لم أعرفك.
يرتفع في صدر سلمان غبارُ السنين، فيهتف:
ألم تتذكر يوم كنا جنودًا في السرية الثالثة، الفوج الثالث، اللواء الخامس عشر، أيام حرب إيران؟
تومض الشرارة، فيتبادلان الضحك، ضحكًا أقرب إلى الارتجاج، كأن الذاكرة نفسها تضحك عليهما: كل تلك الحكايات القذرة، عن الخنادق والخوف والقتال والهرب… لا تستحق أن تُروى، لكنها تخرج لأن الماضي لا يعرف اللياقة الاجتماعية.
وبعد أن تهدأ فوضى الذكريات، يقول سلمان مازحًا:
لقد فرحت لما رأيتك تطبخ اليوم. قلت في نفسي: أخيرًا كسبنا مسيحي الى صفوف طقوسنا في عاشوراء.
يسكت سركيس فجأة، يلتفت يمينًا ويسارًا كأن الجدران لديها أذنين، ثم يفتح الباب أكثر ويقول:
ادخل… واغلق الباب من خلفك.
يدخل سلمان، وتتبدد ضحكة الحرب لتحل محلها حكمةُ رجلٍ تعب من التعامل مع العالم والدين والسياسة كألعاب خاسرة. يقول بصوتٍ منخفض، لكنه حاد:
شوف… أنا الذي تراني أطبخ، وألطم، وأتبرع… ليس لأن لديّ عقيدة فائضة، ولا لأنّي أحب أكون مسلم أكثر من المسلمين. إني أعمل ما أعمله حتى أحافظ على بيتي وتجارتي. الدنيا في وطننا هذا ليست آمنة، والرغبة في الأذى صارت مثل سائل في الأواني المستطرقة، يخرج من الثغرة الأولى، ونحن البقايا الراغبين في البقاء أوهن ثغرة.
يتنهد، ثم يكمل بمرارة رجلٍ عاش أكثر مما ينبغي:، سأقول لك كأخ تربطني به هموم الحرب:
نصف أتعابي راحت في ذاك الزمان، هدايا وتبرعات حتى أحافظ على روحي. ونصفها الآن تذهب بالطريقة ذاتها حتى أبعد أولاد الحرام عن بيتي وعائلتي وتجارتي، فلا تلمني على فعل أظنه يحميني. ثم يبتسم ابتسامةً عملية، ويقول:
هات القدر… أملأه لك كما أملأه لغيرك، لا طمعًا بثواب، ولا خوفًا من حساب، فقط لأن الدنيا علّمتني أن أوزّع لقمةً كي لا أخسر نفسي أو أحد من عائلتي.
يخرج سلمان بعد قليل، والقدر بين يديه ممتلئ حتى الحافة، يزداد ثقله كلما ابتعد عن البيت، كأن الطعام يحمل وزن اعترافٍ لم يعتد سماعه.
يمشي وحده في الطريق، يتساءل بصوتٍ داخلي:
ما الطعم الحقيقي لهذه القيمة التي تُطبخ بنار الخوف؟
وهل يتساوى سركيس وغيره عند أبواب الثواب، أم أن الطقوس تفقد معناها حين تصبح وسيلة بقاء؟
يمشي بقدرٍ يثقل ذراعه وبأسئلةٍ تثقب روحه في شارع يعود إلى صمته المتواطئ، كمن يستعدّ لاستقبال قادمٍ آخر، يحمل قدَره طمعًا ببركةٍ لا يعرف لمن ستُسجَّل، فهنا الثواب يُقاس بالوجاهة، لا باليقين، وهنا تمنح البركة لمن يحسن اللعبة، لا لمن يحسن الإيمان.



#سعد_العبيدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- كبش فداء
- مَن ينقذ الله من الجهل
- في بلاد تدفن الأحياء على أقساط
- حين علمتنا سارة
- بصمات وطن انهكته القسوة
- فك ضيق المحتاج
- شظايا وطن: تقرير الحالة المعنوية
- السيد جبار
- من دفاتر الحرب: صولة رجل واحد
- عبد الرزاق النايف: رحلة من القصر الى القبر
- امرأة في حضرة الظل
- من غزة إلى قطر… سقوط خطاب الإبراهيمية
- حين يضحك الوزير
- سجن يبيع الحياة
- في بريد الوزير
- عروس التاسعة
- الانتخابات العراقية: حين تتحول صناديق الاقتراع إلى أداة مقاو ...
- عندما يرفع القبو
- من الأديرة إلى المصانع… حكاية شراب مثير للجدل
- من أطلال الحرب إلى أيقونة السياحة… حكاية قلعة بامبرة


المزيد.....




- فنان من غزة يوثق معاناة النازحين بريشته داخل الخيام
- إلغاء حفلات مالك جندلي في ذكرى الثورة السورية: تساؤلات حول د ...
- أصوات من غزة.. يوميات الحرب وتجارب النار بأقلام كتابها
- ناج من الإبادة.. فنان فلسطيني يحكي بلوحاته مكابدة الألم في غ ...
- سليم النفّار.. الشاعر الذي رحل وما زال ينشد للوطن
- التحديات التي تواجه التعليم والثقافة في القدس تحت الاحتلال
- كيف تحمي مؤسسات المجتمع المدني قطاعَي التعليم والثقافة بالقد ...
- فيلم -أوسكار: عودة الماموث-.. قفزة نوعية بالسينما المصرية أم ...
- أنغام في حضن الأهرامات والعرض الأول لفيلم -الست- يحظى بأصداء ...
- لعبة التماثيل


المزيد.....

- ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ / السيد حافظ
- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد العبيدي - حين يطبخ الخوف