أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد العبيدي - الظل الذي لم يختف














المزيد.....

الظل الذي لم يختف


سعد العبيدي

الحوار المتمدن-العدد: 8562 - 2025 / 12 / 20 - 18:13
المحور: الادب والفن
    


كانت الطائرة تشقّ طريقها فوق الغيوم، عائدةً من بغداد، عبر إسطنبول في وجهتها إلى مالمو. تنسحب الغيوم من حولها ببطءٍ ثقيل، كأنها تتردّد في وداع رحلة لم تبتعد كثيرًا عن الأرض. جلس حازم قرب النافذة، يتابع ذلك الانسحاب الصامت. شابّ في منتصف العشرينات، ملامحه أقرب إلى المدن الأوربية منها إلى شوارع ديالى، وهدوءٌ غريب لا يشبه من عاد حديثًا من بلدٍ مثقلٍ بالموت والذاكرة.
التفت إليه الرجل الجالس إلى جانبه، بابتسامةٍ عابرة تحاول كسر الصمت، وسأله:
- زيارة أم عودة؟
لم يحوّل حازم نظره عن النافذة. ظلّ يراقب الغيوم وهي تتباعد، ثم قال بصوتٍ ثابت: عودة، ولن تتكرر.
سكتا قليلًا، ثم قال الرجل: الذي تبدو ملامحه سورية: لا يبدو عليك أنك قادم من بلادٍ تغطّيها غيوم الحرب.
ابتسم ابتسامة خفيفة، وقال: لم أتعمد البحث عن حرب… وجدت نفسي في طريقها.
مرّت دقائق قبل أن يضيف، كأن الكلام انزلق منه بلا قصد: ولم يكن لي أن أتجاوزها.
نظر إليه الرجل باستغراب، فالتقت عيناهما لحظة. عندها بدأ يتكلم، كمن يخفّف ضغطًا ظلّ محتبسًا طويلًا. وبصوتٍ منخفض قال:
قضيت مراهقتي في أوربا. اشتغلت، سهرت، دخلت الحانات… عشت مثل أي شاب هناك، بلا اختلاف يُذكر.
توقف قليلًا، ثم تابع، كأنه يصحّح فكرةً شائعة: لم أفكّر يومًا بالجنّة، ولا بالنار، ولا أفهم معنى الجهاد. كان في داخلي شيء واحد لا يفارقني؛ موت أبي، طريقة إعدامه، بحضور أمي، وما فعلوه بها صيف ستةٍ وثمانين.
تنفّس بعمق، وأضاف:
الفكرة لم تكن ذكرى عابرة. كانت تقضّ مضاجعي كل يوم، بالحدة نفسها، والصور نفسها، ومن أوّل يوم وصلت السويد مع عمّي لاجئًا، لم تغادرني. أشتغل، أضحك، أسهر، وهي معي، مشهدًا يعيد نفسه في رأسي غصبًا… كصوتٍ مكتوم يطرق خلايا ذاكرتي في كل لحظة صمت.
ذلك الصوت… هو من أعادني بعد الاحتلال إلى ديالى، إلى شهربان، مسقط رأسي. أفتّش عن أصدقاء الطفولة، عن وجوهٍ قديمة تعرف ما جرى ولم تنسه. دلّني بعضهم على طرقٍ جانبية، إلى رجالٍ يقيمون بين البساتين قيل عنهم القاعدة، لا يكثرون السؤال، ولا يضيّعون الوقت، وأنا لم أسأل عن أهدافهم، قبلوا انضمامي بينهم دون خطبٍ طويلة. وهناك، فعلت ما عجزوا هم عن فعله في وقتهم.
هزّ الرجل رأسه، وفي نبرته ما يشبه الاعتراض أكثر من التعجّب: هل يُعقل؟
فبدأ حازم يروي القصة ليس دفاعًا عن النفس، بل احتجاجًا متأخرًا باسم أبيه وأمّه فقال: كان والدي شيوعيًا، اعتقله رجال الأمن ذات ليلةٍ، عُذّب بشدة، وظلّ صامتًا كجدارٍ يعرف أن الكلمة تقتل هي الأخرى، فأصر على عدم نطقها، والاعتراف على رفاقه.
في الليلة الأخيرة، حين أفلسوا من الحُجج، ولم يبقَ في جعبتهم سوى القسوة، جاؤوا بأمّي. لم يكن التهديد بالاغتصاب فعلَ ضعف، وإنما استعراضًا فجًّا للسلطة حين تعجز عن كسر الإنسان إلا عبر أقرب ما لديه. لوّحوا بالجريمة كما يُلوَّح بسكين، ليُثبتوا أنهم قادرون على تحطيم ما لا علاقة له بالسياسة، ولا بالأسماء.
لكنه لم يتكلم، فنفّذوا تهديدهم.
في تلك اللحظة شعرت، وكأن أمّي لم تُغتصب وحدها؛ شعرت بسقوط البلاد من داخلي، وسقوط العدالة، وكل دعاوى الشرف والوطنية. أُعدم أبي ببرودٍ إداري، كأنهم يُنهون معاملة لا حياة فيها، ويغلقون بابًا دون أن يلتفتوا إلى ما تركوه في الخلف. لم تحتمل أمّي العيش في عالمٍ يسمح بهذا ثم يصمت، فاختارت أن تُنهي حياتها في المكان نفسه، احتجاجًا أخيرًا على حياةٍ لم تنصفها.أمّا أنا، فأخذتني يدُ عمّي إلى السويد، صبيًّا يحمل بدل الحقيبة وطنًا مكسورًا، وذاكرةً تُسائل الجميع:
من فعل، ومن صمت، ومن انتظر ثم لم يأتِ؟
هناك، عشت سنواتي، لكن المشهد لم يتركني. كان يعود بلا استئذان، يتكرّر في عقلي كظلٍّ ملازم، في اليقظة وفي النوم، وحتى في الضحك الذي لا يكتمل. وحين سقط النظام، انتظرت رفيقًا قديمًا يطرق بابنا، كلمةً تُخفّف عنا، يدًا تقول، لم ننسَ. لكن أحدًا لم يأتِ، وبقي الظلّ… أثقل وأقرب، عندها قررت أخذ الأمر على عاتقي. ومن تلك البساتين والأنفاق والحفر بدأت أتعقّب الوجوه العالقة في ذاكرتي، ثمانية عشر انهيتهم، ومع اخرهم، توجهت صوب المقر الخاص بالحزب، دخلته دون سلاح، وقفت أمام الموجودين، بدأت كلامي بسؤال تعرفون أبي؟ تنهدت ثم أكملت: كنت انتظركم… ولما لم تبادروا فعلتها بنفسي، وحال إكمال هذه الجملة تركتهم يلتفتون الى بعضهم البعض.
سأله الرجل بصوتٍ مكسور: وهل تحسّ، بالراحة بعد كل ما فعلت؟
أدار حازم وجهه نحوه، وقال ببرودٍ خالٍ من أي انتصار: لا راحة... ما فعلته لم يُعيد أحدًا، ولم يُنقذني. فقط أغلق مشهدًا… وفتح غيره.
هبطت الطائرة، وعاد حازم إلى مدينةٍ نظيفة، باردة، وآمنة. ما تركه خلفه لم يبقَ هناك؛ حمله معه. أدرك متأخرًا، أن الانتقام لا يُنهي الألم، بل يعلّمه كيف يبدّل شكله، وأن الأخطاء التي لا تُحاسَب لا تموت، بل تُنجب دمًا جديدًا، واسمًا آخر في سلسلةٍ لا تنتهي.



#سعد_العبيدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فدية قبل الموت
- حين يطبخ الخوف
- كبش فداء
- مَن ينقذ الله من الجهل
- في بلاد تدفن الأحياء على أقساط
- حين علمتنا سارة
- بصمات وطن انهكته القسوة
- فك ضيق المحتاج
- شظايا وطن: تقرير الحالة المعنوية
- السيد جبار
- من دفاتر الحرب: صولة رجل واحد
- عبد الرزاق النايف: رحلة من القصر الى القبر
- امرأة في حضرة الظل
- من غزة إلى قطر… سقوط خطاب الإبراهيمية
- حين يضحك الوزير
- سجن يبيع الحياة
- في بريد الوزير
- عروس التاسعة
- الانتخابات العراقية: حين تتحول صناديق الاقتراع إلى أداة مقاو ...
- عندما يرفع القبو


المزيد.....




- غزة التي لا تعرفونها.. مدينة الحضارة والثقافة وقصور المماليك ...
- رغم الحرب والدمار.. رسائل أمل في ختام مهرجان غزة السينمائي ل ...
- سمية الألفي: من -رحلة المليون- إلى ذاكرة الشاشة، وفاة الفنان ...
- جنازة الفنانة المصرية سمية الألفي.. حضور فني وإعلامي ورسائل ...
- من بينها السعودية ومصر.. فيلم -صوت هند رجب- يُعرض في عدة دول ...
- وفاة الفنان وليد العلايلي.. لبنان يفقد أحد أبرز وجوهه الدرام ...
- وفاق الممثلة سمية الألفي عن عمر ناهز 72 عاما
- 7مقاطع هايكو للفنان والكاتب (محمدعقدة) مصر
- 4مقاطع هايكو للفنان والكاتب (محمدعقدة) مصر
- تحقيقات أميركية تكشف زيف الرواية الإسرائيلية بشأن مقتل أستاذ ...


المزيد.....

- مراجعات (الحياة الساكنة المحتضرة في أعمال لورانس داريل: تساؤ ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ / السيد حافظ
- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد العبيدي - الظل الذي لم يختف