أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد العبيدي - فدية قبل الموت














المزيد.....

فدية قبل الموت


سعد العبيدي

الحوار المتمدن-العدد: 8560 - 2025 / 12 / 18 - 00:47
المحور: الادب والفن
    


في بغداد، لا يحتاج المرء إلى مناسبة كي يسمع العبارات ذاتها؛ تتسلّل إليه في المقاهي قبل وصول الفناجين إلى الطاولات. وحال وصولها بدأ الأستاذ كامل سلوان يحرّك فنجانه ببطء، فيما يكرر التلفاز المعلّق في زاوية المقهى، بثقة مألوفة: نحن أعظم أمة، لنا حضارة تمتد سبعة آلاف عام.
ابتسم ابتسامة باهتة، ثم التفت إلى الرجل الجالس قبالته. قدّم نفسه أستاذًا جامعيًا، فردّ الآخر بابتسامة أكثر إشراقًا، وهو يُعَرِف نفسه: يوسف، صاحب محلٍ لبيع الخمور في الكرادة.
قال كامل، كمن يريد فتح الحديث وقد أثقله التكرار: هل سمعت ما قاله مقدّم البرنامج عن العظمة؟ نسمع هذا الكلام كل يوم، حتى بتنا نصدّقه أكثر مما نعيشه.
لم يجبه يوسف في البداية. أشعل سيجارته، ونفث دخانها على مهل، كأنما يمنح الفكرة وقتها، ثم قال: إن الحضارات لا تُبنى في خفايا الشاشات.
ساد بينهما صمتٌ قصير. من خلف الزجاج، كان موكب الزيارة يمضي: أقدام تسير، ماء يُوزَّع، وأصوات الدعاء تختلط بهمهمة الزائرين. مشهد يبعث طمأنينة عابرة، توحي بأن الخير ما زال ممكنًا.
قال كامل، وهو يتابع السير البشري المتدفق: في مثل هذه الأيام نشعر أننا طيبون فعلًا… متكافلون. ثم خفت صوته وأضاف: لكن حين نقترب من أنفسنا أكثر، تتبدل الصورة.
ضحك يوسف ضحكة قصيرة، وأفاد: إذا كنت تود رؤية الحقيقة عن قرب تعال لرؤيتها من باب محلي.
تردد الأستاذ لحظة، ثم قال، وقد التقط ما بين الكلمات: كأني أراك خائفًا من قول الحقيقة؟
أجابه الرجل دون أن ينظر في عينيه: الخوف لم يعد شعورًا طارئًا، صار جزءًا من يومي، من عملي، ومن الطريقة التي أفتح بها باب المحل كل صباح.
صمتٌ ثقيل حلّ بينهما، قبل أن يقطعه يوسف بصوتٍ منخفض: أتعلم ماذا أعمل كي أبقى فاتحا محلي؟
رفع الأستاذ حاجبيه: ماذا تفعل؟
تنفّس الرجل بعمق، كأنه يخرج الاعتراف من صدره: اشتري الأمان، بأرواح الفقراء.
لم يفهم الأستاذ ما قيل، فسأل: ماذا تقصد، لم أفهمك؟
فأجابه بعد صمتٍ قصير، كمن يزن كلماته بين خوفٍ لا يهدأ وندمٍ لا يُقال: لقد جلبت شابًا أيزيديًا من سنجار، ليقف في المحل بدلًا مني. دفعت لعائلته خمسة آلاف دولار، فديةً مسبقة لانفجار قد يحصل أو إطلاقةٍ عابرة، كي لا يطالبوني بتعويضات الدم.
حدّق الأستاذ في وجهه طويلاً، كأنه يحاول التأكد أنه سمع جيدًا: تشتري روح إنسان… لتكون درعًا؟
أطرق الرجل رأسه، ولم يرفع عينيه، وقال بصوتٍ خافت كأنه يعترف لنفسه قبل الاعتراف للغير: لقد اشتريت الهدوء، وصمتهم معًا، ولم يعترض أحد. علّمني العمل أن أفتّش عن النجاة بأي ثمن، وعلّمهم الفقر أن يقبلوا بكل شيء؛ فالموت عندهم، كما يبدو، أهون من الجوع.
لم يجد الأستاذ ما يقوله. شعر بغربةٍ ثقيلة، لا في المكان، بل في الفكرة نفسها، كأنها سُحبت من سياقها الإنساني، وأُلقيت أمامه عارية.
تذكّر كل ما سمعه قبل دقائق عن العظمة، والإنسانية، وأفضلية الأمة، فبدت الكلمات فجأةً بلا جذور.
نهض ببطء، وهو يتمتم لنفسه أكثر مما يخاطب صاحبه: أيُّ عظمةٍ هذه التي تجعل إنسانًا بديلًا عن إنسان، جسدًا يُقدَّم مكان جسد؟ وأيُّ إنسانيةٍ تقبل أن يُشترى الموت مسبقًا؟
وهكذا ترك مكانه في المقهى، وسار مع الماشين، يرددون العبارات ذاتها بثقةٍ كاملة… فيما كان شابٌّ أيزيدي، في زاويةٍ أخرى من المدينة، يقف بدلًا عنهم، بعد أن دُفعت فديته قبل الموت.



#سعد_العبيدي (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حين يطبخ الخوف
- كبش فداء
- مَن ينقذ الله من الجهل
- في بلاد تدفن الأحياء على أقساط
- حين علمتنا سارة
- بصمات وطن انهكته القسوة
- فك ضيق المحتاج
- شظايا وطن: تقرير الحالة المعنوية
- السيد جبار
- من دفاتر الحرب: صولة رجل واحد
- عبد الرزاق النايف: رحلة من القصر الى القبر
- امرأة في حضرة الظل
- من غزة إلى قطر… سقوط خطاب الإبراهيمية
- حين يضحك الوزير
- سجن يبيع الحياة
- في بريد الوزير
- عروس التاسعة
- الانتخابات العراقية: حين تتحول صناديق الاقتراع إلى أداة مقاو ...
- عندما يرفع القبو
- من الأديرة إلى المصانع… حكاية شراب مثير للجدل


المزيد.....




- منظمة مغربية تطالب بتمكين اللغة العربية ووضع حد لتغول الفرنس ...
- 4 أفلام عربية من بينها العراقي كعكة الرئيس مرشحة لجائزة الأو ...
- حريق مفتعل أم قضاء وقدر؟ جدل حول وفاة الفنانة المصرية نيفين ...
- -صوت هند رجب- يمضي لمسافة أبعد في منافسات جوائز الأوسكار الـ ...
- -صوت هند رجب- و3 أفلام عربية أخرى تقتحم سباق الأوسكار
- الأوسكار في دورته الـ98.. قائمة بأبرز الأفلام المرشحة لنيل ا ...
- ضايل عنا عرض لمي سعد وأحمد الدنف: فيلم يروي يوميات سيرك غزة ...
- -صوت هند رجب- يتصدر ترشيحات الأوسكار بعد جائزة -الأسد الفضي- ...
- بالصور.. مهرّج مكلوم يرسم الابتسامة على وجوه أطفال غزة
- نجوم الغناء ضحايا الاصدارات الزائفة باستخدام الذكاء الاصطناع ...


المزيد.....

- مراجعات (الحياة الساكنة المحتضرة في أعمال لورانس داريل: تساؤ ... / عبدالرؤوف بطيخ
- ليلة الخميس. مسرحية. السيد حافظ / السيد حافظ
- زعموا أن / كمال التاغوتي
- خرائط العراقيين الغريبة / ملهم الملائكة
- مقال (حياة غويا وعصره ) بقلم آلان وودز.مجلةدفاعاعن الماركسية ... / عبدالرؤوف بطيخ
- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعد العبيدي - فدية قبل الموت