أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أوزجان يشار - مجتمع الغربان: بين شريعة الكل وإخفاق الفرد















المزيد.....

مجتمع الغربان: بين شريعة الكل وإخفاق الفرد


أوزجان يشار
كاتب وباحث وروائي

(Ozjan Yeshar)


الحوار المتمدن-العدد: 8571 - 2025 / 12 / 29 - 08:47
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


في طريقي إلى شاطئ البحر في مدينة الجبيل، لم أكن أبحث عن إجابة، ولا عن فكرة تصلح لمقال. كنت أعبر مكانًا مفتوحًا يفترض فيه السكون، فإذا بي أجد نفسي أمام حلقة سوداء مكتملة، مجموعة من الغربان تحاصر غرابًا واحدًا، في مشهد لا يشي بالفوضى، بل بالحسم. الأصوات عالية، الحركة دقيقة، والمركز واضح. لم يكن ذلك الغراب مطاردًا عبثًا، ولا ضحية هجوم عشوائي؛ بل بدا كما لو أنه فرد أخفق في الالتزام بشريعة غير مكتوبة.

ذلك المشهد لم يكن عابرًا، ولم يكن فوضويًا كما قد يظنه من يمرّ سريعًا. كان منظّمًا، له إيقاع، له مركز وأطراف، وله ما يشبه «الإجماع». هنا بدأت الأسئلة تتدفق: هل ما أراه شجارًا؟ أم عقوبة؟ أم طقسًا اجتماعيًا معقدًا؟ ومن تلك اللحظة تحديدًا، بدأ هذا البحث، لا عن غراب واحد، بل عن مجتمع كامل يعمل وفق قوانين صارمة غير مكتوبة.

من تلك اللحظة، لم يعد الغراب طائرًا أسود في هامش المشهد الطبيعي، بل مفتاحًا لفهم أعمق: كيف تصوغ الطبيعة أخلاقها؟ وكيف تُقدِّم شريعة الكل على نزوات الفرد دون تردد؟

حين ننظر لأول مرة إلى غراب يقف على غصن شجرة، أو يمرّ فوق سطح مبنى، قد نختزل وجوده في صورة طائر أسود يثير القلق أو النفور. غير أن هذا الكائن – في حقيقته – أحد أذكى الكائنات في عالم الطيور، وأكثرها تنظيمًا، وأشدّها تعقيدًا من حيث البنية الاجتماعية والسلوكية. الغراب لا يعيش حياة عشوائية، بل يتحرك داخل نظام صارم من القواعد، مبني على الملاحظة، والذاكرة، والتعلّم الجماعي. إنه عضو في منظومة دقيقة تُدار بالعقل، لا بالغريزة وحدها.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

جنازات الغربان: تحقيق جماعي لا يعرف الشفقة

من أكثر السلوكيات التي أربكت علماء السلوك الحيواني ما يُعرف بـ«جنازات الغربان»، لأنها تقوّض الفهم الساذج للموت في عالم الحيوان. حين يُعثر على غراب ميت، لا تتعامل الجماعة مع الجثة بوصفها نهاية، بل باعتبارها حدثًا يستوجب التحقيق. تتجمع الغربان في حلقة صاخبة، تحلّق على ارتفاعات مختلفة، تطلق نداءات تحذيرية حادة، وتراقب المكان بتركيز استثنائي. لا حزن هنا، ولا وداع؛ بل يقظة قصوى.

الجثة لا تُحاط بالشفقة، بل بالأسئلة. المكان يُعاد قراءته، الزوايا تُفحَص، والذاكرة تُستدعَى. هل الموت نتيجة سمّ؟ مفترس؟ تدخل بشري؟ كل احتمال يُسجَّل، لا بالكلام، بل بالسلوك. الغراب الميت يتحول إلى دليل إدانة أو تحذير، لا إلى موضوع رثاء.

هذا الطقس، الذي وثّقته دراسات ميدانية طويلة، ليس انفعالًا جماعيًا، بل آلية تعلّم عالية الكفاءة. الغربان لا تكتفي بمراقبة الحدث، بل تحفظ الوجوه المرتبطة به، والأماكن، والروائح، وتربطها بالمخاطر. الذاكرة هنا ليست فردية، بل مشتركة، ومفعّلة فورًا عند التهديد.

أظهرت أبحاث جامعة واشنطن أن الغربان تتجنب مواقع الموت لأسابيع وربما لأشهر، والأهم أنها تنقل هذه المعرفة إلى أفراد لم يشهدوا الحادثة أصلًا، بل وحتى إلى أجيال لاحقة. وهكذا تتحول الجنازة إلى أرشيف حيّ للبقاء، تُخزَّن فيه الأخطاء، وتُمنَع إعادة ارتكابها.

في عالم الغربان، الموت ليس لحظة حزن، بل درسًا إلزاميًا.
ومن لا يتعلّم… لا يبقى.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

نظام عدالة داخلي: حين تصبح الجماعة قاضيًا وجلادًا

ما شهدته في الجبيل لم يكن حادثًا عابرًا، بل عرضًا حيًا لنظام اجتماعي صارم. الغربان لا تعيش فوضى، بل ضمن مجتمع محكوم بقوانين غير مكتوبة، وعقوبات محددة. كل سلوك منحرف، من سرقة طعام الفراخ إلى الاعتداء على عش، يُعاقَب، ليس من فرد واحد، بل من الجماعة بأكملها.

العقوبات ليست تجريبية، بل محسوبة: الطرد الاجتماعي يقطع التواصل، الاعتداء الجماعي يُظهر مكانة المخطئ أمام الجميع، نزع الريش يُعطّل الطيران ويقيد الحركة، وفي الحالات القصوى يُقاس الخطر بالقتل. هذه القسوة ليست انتقامًا، بل آلية لضبط الانضباط وحفظ تماسك المجتمع. فمجتمع يعتمد على التعاون والذاكرة المشتركة لا يحتمل التساهل.

في اليابان، أظهرت الدراسات أن الغربان تطوّرت نظامًا صوتيًا معقّدًا للتحذير، الاستدعاء، إعلان الخطر، وحشد ما يشبه «محكمة» جماعية. الأصوات لا تُستخدم للتواصل العابر فقط، بل لتنفيذ العدالة، لضبط الانضباط، وتنسيق العقوبات على آلاف الأفراد، كل ذلك دون سلطة مركزية، وبكفاءة أعلى من كثير من النظم البشرية البدائية.

في النهاية، العدالة عند الغربان ليست فلسفة، ولا مبدأ، بل أداة بقاء. الفرد مهم، لكن الجماعة تحمي نفسها أولًا، وتفرض على المخطئ ثمن إخفاقه بلا هوادة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المحور الفلسفي: من حلقة الغربان في الجبيل إلى سؤال النظام الأخلاقي

حين أستعيد مشهد الغربان المتحلقة، لا أراه اليوم بوصفه حادثة طبيعية عابرة، بل مشهدًا فلسفيًا مكتمل العناصر. حلقة مغلقة، مركز واضح، أصوات عالية، وعدوان لا يبدو اعتباطيًا. لم يكن ثمة غراب يهرب، ولم يكن ثمة آخر يتدخل عبثًا. كل شيء كان يجري كما لو أن الجميع يعرف دوره مسبقًا. في تلك اللحظة، أدركت أنني لم أكن أشاهد عنفًا، بل نظامًا يُفَعَّل.

ذلك الغراب الممدد في الوسط لم يكن ضحية صدفة، بل محور قرار جماعي. والسؤال الذي فرض نفسه لم يكن: لماذا هذا العنف؟ بل: من أين أتت هذه القاعدة؟
لا توجد نصوص، لا محاكم، لا شرطة، ولا وعظ أخلاقي. ومع ذلك، هناك عقوبة، وهناك إجماع، وهناك ذاكرة مشتركة لا تسمح بتكرار الخطأ.

هنا تحديدًا تبدأ المفارقة الفلسفية. نحن البشر نفاخر بتاريخ طويل من الفلسفة الأخلاقية، من أفلاطون إلى كانط، ومن الفقه إلى القانون الوضعي. نكتب الدساتير، ونرفع شعارات العدالة، ثم نختلف على تفسيرها، أو نعلّقها باسم الضرورة. أما الغربان، فتعيش أخلاقًا بلا لغة، لكنها أكثر حسمًا وأقل نفاقًا.

في حلقة غربان الجبيل، لم يكن هناك نقاش حول “النية”، ولا استدعاء لـ“الظروف المخففة”. الخطأ – إن وُجد – يُقاس بأثره على الجماعة، لا بمشاعر الفرد. وهذا يعيدنا إلى سؤال قديم تجاهلناه طويلًا:
هل الأخلاق، في أصلها، وسيلة لحماية الجماعة قبل أن تكون قيمة مثالية؟

توماس هوبز افترض أن غياب السلطة يؤدي إلى الفوضى، وأن الإنسان، بطبعه، خطر على الإنسان. لكن الغربان التي رأيتها كانت بلا سلطة مركزية، ومع ذلك لم تكن في حالة انفلات. السلطة كانت موزعة، والعقاب جماعي، والرقابة متبادلة. لم يحتج أحد إلى فرض النظام من أعلى؛ لأنه نابع من الخوف المشترك من التفكك.

وعلى النقيض، افترض روسو أن الطبيعة بريئة، وأن المجتمع هو من يفسد الكائن. غير أن الغربان تقدّم صورة ثالثة أكثر واقعية:
الطبيعة ليست بريئة ولا شريرة، بل صارمة. من يخلّ بالنظام يدفع الثمن، لا بدافع الكراهية، بل بدافع البقاء.

حتى مفهوم فوكو عن “المراقبة والعقاب” بدا حاضرًا هناك، لكن بلا سجون ولا أبراج. كل غراب كان يراقب، وكل غراب كان شاهدًا. الذاكرة الجمعية كانت المحكمة الحقيقية. من يُخطئ لا يُنسى، ولا يُعاد دمجه بسهولة. وهنا تكمن قسوة النظام، لكنها قسوة تحفظ التوازن.

حين عدت ببصري إلى البحر بعد أن تفرقت الحلقة، أدركت أن ما شهدته لم يكن استثناءً، بل قاعدة تعمل منذ آلاف السنين. الغربان لم تتطور أخلاقيًا، لكنها لم تفصل بين الأخلاق والبقاء. أما نحن، ففعلنا العكس: فصلنا القيم عن نتائجها، ثم تساءلنا لماذا ينهار النظام.

مشهد غربان الجبيل، بكل حدّته، طرح سؤالًا لا يزال مفتوحًا:
هل نحن أكثر تحضرًا لأننا نناقش العدالة، أم لأننا نطبّقها؟
وهل الأخلاق التي لا تحمي الجماعة تستحق أن تُسمى أخلاقًا؟

في حلقة الغربان تلك، كان الجواب صامتًا… لكنه كان واضحًا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

منظفو الطبيعة: اليد السوداء التي تحمي التوازن

بعيدًا عن الصورة النمطية للطائر الأسود المشؤوم، يضطلع الغراب بدور بيئي لا يقل أهمية عن أي مفترس قمة أو نبات رائد. إنه عامل نظافة طبيعي يحافظ على صحة البيئة عبر استهلاكه الجيف والمخلفات العضوية، مانعًا تراكم الأمراض، ومعيدًا تدوير العناصر الغذائية إلى التربة، ليكمل دورة الحياة. في البيئات الحضرية، يحدّ من أعداد القوارض والحشرات، ويقلّل الحاجة إلى المبيدات الكيميائية، فيصبح عنصرًا بيئيًا فعالًا دون مقابل أو إشادة.

لكن دوره لا يقتصر على الجانب الطبيعي فحسب؛ فالغربان حراس التوازن الاجتماعي والبيئي في آنٍ واحد. في قصص الحضارات القديمة، يبرز هذا الدور بوضوح. في قصة نوح، أُرسل الغراب أولًا لاستكشاف اليابسة بعد الطوفان، لأنه يمتلك القدرة على تقييم المخاطر واكتشاف الموارد، وهو بذلك المرشد الأول للوجود الجديد. في الأساطير اليونانية، ارتبط الغراب بالإله أبولو، رمز العقل والنبوءة، ككائن ينقل الرؤى ويكشف الأسرار. وفي ثقافات السكان الأصليين لأمريكا الشمالية، لم يكن مجرد طائر، بل خالق ومحوّل، مرشد للشعوب، ووسيط بين الإنسان والطبيعة، لا نذير شؤم كما تُصوّره بعض التفسيرات السطحية.

علميًا، يُعزز هذا الدور فهمنا للغراب ككائن يتصرف وفق قواعد دقيقة للحفاظ على النظام: فهو يزيل الفضلات، يراقب البيئة، يحدد المخاطر، ويحمي نفسه وجماعته بذكاء اجتماعي وذاكرة استثنائية. الغراب بذلك ليس مجرد طائر، بل حلقة حيوية في شبكة توازن معقدة، يربط بين الذكاء الفردي، النظام الجماعي، والتوازن البيئي.

في النهاية، كل مرة نراها على الشاطئ، أو في المدينة، أو في الغابات، يجب أن نتذكر: هذا الطائر الأسود، الذي لطالما أُسيء فهمه، ليس مجرد جزء من الطبيعة… بل قانون حيّ يحمي التوازن البيئي والاجتماعي معًا.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

دماغ استثنائي: حين يقترب الطائر من حدود الإنسان

ما يميز الغراب حقًا ليس لونه الأسود أو صوته الحاد، بل دماغه الاستثنائي بالنسبة لحجمه. على الرغم من أن وزنه لا يتجاوز نسبة صغيرة من الجسم، إلا أن كثافة خلاياه العصبية، خصوصًا في القشرة الأمامية، تمنحه قدرة على التخطيط واتخاذ القرار تفوق معظم الطيور الأخرى، وتقارب بعض الرئيسيات العليا.

هذه القدرات لا تقتصر على تذكر مواقع الطعام وإخفائه لأيام أو أسابيع، بل تمتد إلى حل ألغاز متعددة المراحل، وصنع أدوات من مواد غريبة، واستخدامها بذكاء مدهش. بل إن الغراب قادر على التمييز بين كميات مختلفة، وفهم مفهوم الصفر، وهي مهارة نادرة جدًا خارج الإنسان.

تجارب غراب كاليدونيا الجديدة توضح ذلك بجلاء: صمّم أدوات معقدة، خطط لخطوات متتابعة، وتجاوز قدرات بعض الرئيسيات العليا في مهام مشابهة. كل هذه الإنجازات ليست مجرد مصادفة، بل نتيجة تطور طويل لذكاء وظيفي صُمّم للبقاء داخل مجتمع معقّد، حيث الذاكرة الجماعية، مراقبة الأخطاء، وتنظيم العقوبات، جميعها تتطلب دماغًا قادرًا على حفظ المعلومات، التنبؤ بالمستقبل، والتفاعل الاجتماعي الديناميكي.

باختصار، دماغ الغراب يقترب من حدود الإنسان في بعض الوظائف المعرفية، ليس ليحل مكاننا، بل ليضمن استمرار الحياة الجماعية، والحفاظ على النظام، والتكيف مع بيئة مليئة بالمخاطر. ومن هنا نفهم لماذا يُعتبر الغراب ليس مجرد طائر، بل عقل صغير يدير مجتمعًا بذكاء حاد ومفاهيم استباقية للنجاة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

التعايش مع الإنسان: ذاكرة لا تنسى ووجوه لا تُغفر

الغراب لا يعيش على هامش الإنسان، بل في قلب عالمه. يعرفنا، يراقبنا، يحفظ وجوهنا. تجارب طويلة أثبتت أن الغربان تتعرف على الأشخاص الذين يؤذونها، وتهاجمهم حتى بعد سنوات، وتنقل هذا «العداء» لأفراد لم يشهدوا الحادثة أصلًا.

يمكن القول إن علاقة الغراب بالإنسان بدأت منذ فجر التاريخ الرمزي للبشرية. في حادثة أبناء آدم، يظهر الغراب لأول مرة كـ معلم صامت للإنسان، حين ساعد ابن آدم على دفن أخيه، ليعلّم البشر درسًا أوليًا في الوعي بالخطأ، المسؤولية، والنظام الطبيعي. هذه اللحظة المسرحية الرمزية تضع الغراب في موقع مرشد أخلاقي منذ البداية، قبل أن يتحوّل إلى مراقب يومي لعالم الإنسان الحديث.

اليوم، لا يعيش الغراب على هامشنا، بل في قلب عالمنا، حاملاً ذاكرة لا تنسى. يعرف وجوهنا، يحفظ الحوادث، ويصنف البشر بحسب أثرهم عليه أو على جماعته. تجارب طويلة أثبتت أنه يتعرف على من أساء إليه، ويهاجمهم بشكل استباقي حتى بعد سنوات، وينقل هذا العداء إلى الغربان التي لم تشهد الحادثة أصلًا، كأن الذاكرة الجماعية تحمي المجتمع من الإساءات الفردية.

لكن الذاكرة ليست للانتقام وحده. حين يُعامل الغراب بلطف، يرد الجميل بطريقة مذهلة: يجلب الهدايا، أزرارًا، مسامير، أو قطع زجاج لامعة، دلالة على إدراك التبادل والمكافأة وفهم العلاقة بين الفعل والنتيجة. هذا السلوك يكشف مستوى ذكاء عاطفي واجتماعي استثنائي، يتجاوز البقاء ليصل إلى التفاعل المنظّم والمخطط بين الإنسان والطائر.

بهذا، يصبح الغراب ليس مجرد طائر يراقبنا، بل قاضٍ وراصد ومعلم صامت في فضاءنا المشترك، يعلّمنا درسًا صامتًا: من يسيء أو يتجاهل النظام يُحفظ اسمه في ذاكرة الطبيعة، ومن يشارك التوازن يحظى بالمكافأة، بلا أقوال، بلا كتب، بلا قوانين مكتوبة.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

حين تخذلنا أخلاقنا… وتنجح شريعة الغربان

حين تفرّقت حلقة الغربان على شاطئ الجبيل، وعاد المكان إلى هدوئه المميز، بقي المشهد معلقًا في الذهن لا بوصفه ذكرى، بل بوصفه سؤالًا مفتوحًا. ما الذي حدث حقًا؟ غراب أخفق، وجماعة تحركت. لا شماتة، لا تردد، لا مفاوضات أخلاقية طويلة. القرار اتُّخذ، والنظام حُمي.

في مجتمع الغربان، لا يُقاس السلوك بنيّة صاحبه، بل بأثر تصرفاته على الكل. الفرد مهم، لكنه ليس مقدسًا. الحرية موجودة، لكنها مشروطة. والخطأ لا يُجمَّل باسم الرحمة إذا كان يهدد تماسك الجماعة. تلك القسوة الظاهرة ليست وحشية، بل وعي مبكر بأن التساهل هو العدو الأول لأي نظام إجتماعي حي.

أما نحن البشر، فقد فعلنا العكس. رفعنا الفرد إلى مرتبة الأسطورة، ثم دهشنا حين تفككت الجماعة. كتبنا الأخلاق في نصوص أنيقة، ثم تفاوضنا عليها حتى فقدت قدرتها على الردع. صرنا نبرر الإخفاق بدل محاسبته، ونتحدث عن القيم بينما نعجز عن حمايتها.

الغربان لا تمتلك فلسفة أخلاقية، لكنها تمارس جوهر فطري عجيب. لا تعرف القوانين، لكنها تطبقها. لا تتحدث عن العدالة، لكنها تحرسها. وفي ذلك، تكشف لنا مفارقة موجعة:
أن شريعة الكل، حين تُفهم وتُطبَّق، قد تكون أصدق من آلاف الخطب عن الفضيلة،
وأن إخفاق الفرد، حين لا يُواجَه، لا يدمّر صاحبه فقط، بل يهدد البنية الإجتماعية بأكملها.

في ذلك الطائر الأسود، الذي طالما أسأنا فهمه، درس لا يخصّ الطبيعة وحدها، بل يخصّنا نحن قبل غيرنا:

فالنظام لا ينهار دفعةً واحدة؛ بل يبدأ بالتساهل، ثم يتآكل بالمجاملة، ويتفسّخ بالنفاق، إلى أن يفشل حين يصبح الصمت عن الإخفاق عقيدة.

ــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر والمراجع

الكتب والأبحاث العلمية
• بوجنيار، توماس. “الإدراك الاجتماعي لدى الغربان.” مراجعات الإدراك والسلوك المقارن، 2013.
• إيميري، ناثان ج. وكلايتون، نيكولا س. “عقلية الغربان: التطور المتقارب للذكاء لدى الغربان والرئيسيات.” مجلة ساينس، 2004.
• هانت، غافين ر. “صناعة واستخدام الأدوات المعقوفة من قبل غربان كاليدونيا الجديدة.” مجلة نيتشر، 1996.
• مارزلوف، جون وأنجيل، توني. هدايا الغراب: كيف تسمح الإدراك والعاطفة والفكر للطيور الذكية بالتصرف كالإنسان (Gifts of the Crow). مطبعة فري برس، 2012.
• سايتو، أكيكو. أنظمة الاتصال في الغربان اليابانية (Communication Systems in Japanese Corvids). جامعة طوكيو، 2018.
• شوئي سوجيتا. التعقيد العصبي في الإدراك الطيوري (Neural Complexity in Avian Cognition). معهد كيوتو لعلوم الأعصاب، 2015.

الدراسات الجامعية والتقارير المتخصصة
• جامعة واشنطن، قسم الأحياء. تجارب التعرف على الوجوه والذاكرة طويلة الأمد لدى الغربان (Corvid Facial Recognition and Long-term Memory Experiments)، 2008–2025.
• جامعة سياتل. سلوك جنازات الغربان وتقييم المخاطر الجماعي (Crow Funeral Behavior and Collective Risk Assessment)، 2017.
• مركز أبحاث ميدانية كيوتو. الاتصال الصوتي والهياكل الاجتماعية لدى الغربان (Vocal Communication and Social Hierarchies in Corvids)، 2005–2020.

المراجع الثقافية والأنثروبولوجية
• إيلياد، ميرسيا. الأنماط في الأساطير المقارنة (Patterns in Comparative Mythology). جامعة شيكاغو للنشر.
• كامبل، جوزيف. الرموز التاريخية للطيور في الحضارات القديمة (Historical Symbols of Birds in Ancient Civilizations). برينستون، 1999.
• أرشيف متحف الأمريكيين الأصليين. الغراب كإله خالق ومحول (Raven as a Creator and Transformer Deity).

النصوص الدينية والأسطورية القديمة
• الكتاب المقدس: سفر التكوين، الإصحاح 8 (قصة إرسال الغراب).
• الأساطير الإغريقية: مجموعة ترانيم هوميروسية – إشارات أبولو والغراب (The Homeric Hymns).



#أوزجان_يشار (هاشتاغ)       Ozjan_Yeshar#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحياة ضمن القطيع: ضرورة اجتماعية أم شعور زائف بالأمان؟
- الخلل في التفكير: بين ضرورة الأولويات ورفاهية الكماليات
- نبوخذنصر الثاني: -الفصل التاسع والأخير- سيرة ملك بين الطين ا ...
- نبوخذنصر الثاني: -الفصل الثامن- سيرة ملك بين الطين البابلي و ...
- نبوخذنصر الثاني: -الفصل السابع- سيرة ملك بين الطين البابلي و ...
- نبوخذنصر الثاني: -الفصل الخامس- سيرة ملك بين الطين البابلي و ...
- نبوخذنصر الثاني: -الفصل السادس- سيرة ملك بين الطين البابلي و ...
- نبوخذنصر الثاني: -الفصل الثالث- سيرة ملك بين الطين البابلي و ...
- نبوخذنصر الثاني: -الفصل الرابع- سيرة ملك بين الطين البابلي و ...
- نبوخذنصر الثاني: -الفصل الأول- سيرة ملك بين الطين البابلي وا ...
- نبوخذنصر الثاني: -الفصل الثاني- سيرة ملك بين الطين البابلي و ...
- رايان الذي روى عطش مليون إنسان
- ومضات من بريق ضوء في ماريلاند: رحلة باميلا واتسون عبر سكون ا ...
- الهندسة الأخلاقية للكون: قراءة في فلسفة براين لويس ومشروعه ف ...
- الوجه الخفي لليابان: من صليل سيوف فرسان الساموراي إلى رقة تل ...
- ليوبولد الثاني: الملك الذي امتلك قارّة وأباد شعباً
- ومضات من فن الرسام الإيراني -محمود فرشجيان- رائد المدرسة الر ...
- هيباتيا: شمس الأسكندرية المشرقة في عتمة التطرف والإرهاب
- أصدقاء الله: مأساة -الأنقياء- النور المقموع في جنوب فرنسا
- الوجه الآخر للعبث الإنساني في رحله صيد: حين يتحوّل الإنسان إ ...


المزيد.....




- ترامب عن لقائه مع زيلينسكي بعد المحادثات: أحرزنا تقدمًا كبير ...
- الطيران يدخل مرحلة جديدة.. طائرة تهبط ذاتيًا بعد طارئ جوي
- شاهد.. لحظة سقوط مروحية بعد اصطدامها بأخرى في سماء نيوجيرسي ...
- كيف ستتعامل أنقرة مع تطورات -قسد- في سوريا؟
- حزب الرئيس يتجه لاكتساح الانتخابات في كوت ديفوار
- -مهمة العدالة 2025-.. الصين تجري مناورات عسكرية واسعة لتطويق ...
- ترامب يقول إنه تم إحراز تقدّم في محادثات أوكرانيا، لكن -قضاي ...
- إصابة 7 من الشرطة التركية في اشتباك مع عناصر من داعش
- ماكرون يقول إن حلفاء كييف سيجتمعون في باريس مطلع يناير
- قصف جوي ومدفعي إسرائيلي على مناطق في غزة


المزيد.....

- العقل العربي بين النهضة والردة قراءة ابستمولوجية في مأزق الو ... / حسام الدين فياض
- قصة الإنسان العراقي.. محاولة لفهم الشخصية العراقية في ضوء مف ... / محمد اسماعيل السراي
- تقديم وتلخيص كتاب " نقد العقل الجدلي" تأليف المفكر الماركسي ... / غازي الصوراني
- من تاريخ الفلسفة العربية - الإسلامية / غازي الصوراني
- الصورة النمطية لخصائص العنف في الشخصية العراقية: دراسة تتبعي ... / فارس كمال نظمي
- الآثار العامة للبطالة / حيدر جواد السهلاني
- سور القرآن الكريم تحليل سوسيولوجي / محمود محمد رياض عبدالعال
- -تحولات ظاهرة التضامن الاجتماعي بالمجتمع القروي: التويزة نمو ... / ياسين احمادون وفاطمة البكاري
- المتعقرط - أربعون يوماً من الخلوة / حسنين آل دايخ
- حوار مع صديقي الشات (ج ب ت) / أحمد التاوتي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أوزجان يشار - مجتمع الغربان: بين شريعة الكل وإخفاق الفرد