|
|
قراءة في دفاتر ماجد كيالي الفلسطينية السورية
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 8571 - 2025 / 12 / 29 - 07:46
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
"انتابتني الحيرة"، يقول ماجد كيالي، حين سأله إيلان بابيه، المؤرخ اليهودي الإسرائيلي المناهض للصهيونية: “أين تقيم؟" وهذا في رابع وآخر زيارة للكاتب الفلسطيني السوري إلى "البلاد"، فلسطين، بوصفه مواطناً أميركياً. ليس هناك إجابة بسيطة أو مختصرة على السؤال، هناك إجابة فلسطينية فقط. فماجد كيالي ولد في حلب في سورية لأبوين فلسطينيين لاجئين، الأب من اللد والأم من حيفا، وعاش طفولته في حي الكلاسة جنوب المدينة، وبعد تجربة لأربعة أشهر في العمل الفدائي في الأردن عام 1970، بينما كان ماجد في السادسة عشر، عاد إلى حلب وأكمل الثانوية في مدرسة المتنبي بحي الجميلية. وفي عام 1976 وإثر ملاحقته من المخابرات بفعل ناشطه السياسي، هرب من حلب إلى دمشق حيث عاش لسنوات طويلة تخللتها إقامات قصيرة في بيروت التي تزوج من لاجئة فلسطينية وناشطة فتحاوية تعيش فيها، وأنجب الزوجان أبناءهما الأربعة في مخيم اليرموك قبل أن ينتقلا إلى "قرى الأسد" في الديماس غرب دمشق عام 2007. الرجل الذي كان قد توقف عن النشط السياسي أوساط الثمانينات وبدأ سيرة كتابية، أثمرت 13 كتاباً ومئات المقالات، خرج من سورية عام 2012 إلى الولايات المتحدة حيث كانت سبقته زوجته وابنتهما، وبعد أربع سنوات هناك حصل على الجنسية الأميركية، فغادر أميركا إلى إسطنبول التي عاش فيها بدروها أربع سنوات، قبل أن يغادرها إلى برلين عام 2021. وهو زار فلسطين أول مرة عام 2017 ثم 2018 مرتين، وأخيراً عام 2023، وقت التقى ببابيه في بيت صديقهما المشترك أسعد غانم. إذن، أين يقيم ماجد كيالي؟ والقصة لم تكتمل بعد. إثر سقوط نظام الأسد في سورية عاد ماجد إلى هناك، إلى بيته في الديماس، إلى المكتبة وخزانة الثياب وألبوم الصور، وبقي في البيت أياماً لا يخرج منه، "كأنني أريد أن أصدق أنني بت حقاً في بيتي في دمشق". وقد وجد دمشق "مُتعَبة ومختنقة ومتسخة وشائخة ومهترئة وكئيبة"، بأثر معاناتها من إرث ثقيل الوطأة لـ"55 سنة من القهر والحرمان والاستنزاف"، و"حرب إبادة" شنها "رئيس وضيع، بالغ الرثاثة، والبله، على شعبه". في السبعين من عمره، فكر ماجد كيالي في جمع أوراق "من دفاتر الزمن الفلسطيني- السوري" في ما سماها "مدونة غير شخصية". لماذا غير شخصية؟ ربما لأنها تتعمد إلا تنظر في أعماق النفس، ولا تتناول غير الوجه العام من حياة كاتبها. أوراق ماجد كيالي كتبت بحنان، دون قسوة على الغير أو على النفس، دون تصفية حسابات، دون غضب ودون ثأر، لكن ليس دون نقد وليس دون أسى. تبدأ المدونة بباب أول يكتشف فيه ماجد فلسطينيته عبر مشهد "الإعاشة الشهرية" تشرف على توزيها وكالة الغوث أو الأنروا. لكن عيش ماجد وأسرته في حي حلبي كان له أثر متناقض على وعيه. فمن جهة تأخر وعيه بواقع اللجوء الفلسطيني لأنه لم ينشأ في أحد مخيمي اللاجئين الفلسطينيين في حلب: مخيم النيرب شرق المدينة ومخيم حندرات شمالها، لكن من جهة ثانية يقدر أنه لو عاش في أحد المخيمين لما كان وعيه بفلسطينيته أو باللجوء، ولا وعيه السياسي بعامة، على "هذه الدرجة من العمق والارتباط والهم التي أثرت على مجرى حياتي". ذلك أن استفزازات مجايليه من الأولاد عن بيع الفلسطينيين لأرضهم قد أوجعه، فأخذ يفكر بنفسه كآخر. مرة رد على مستفزيه بأن الملوك والحكم العرب هم من باعوا فلسطين، فكان أن نال صفعة على خده من معلم التاريخ. لكن بعد معركة الكرامة، تغيرت صور الفلسطيني وصارت سيرة العمل الفدائي على كل لسان، وأي معلم يريد الكلام عليه لا بد أن يسأل ماجد عن رأيه. يرى ماجد أن "الوعي الشعبي البسيط، بعد نكسة أو نكبة حزيران كان بحاجة إلى بطل، ووجد الناس ضالتهم في الفدائي الفلسطيني". في سنوات الطفولة واليفاع هذه عمل ماجد في مطعم ثم، في حدادة البيتون (الإسمنت المسلح)، ثم في بيع الكتب في مكتبة الجماهير في شارع القوتلي في حلب. وأثناء شهوره الأربعة فدائياً في الأردن، وقد سافر إلى هناك مع صديق من جيله ودون علم العائلة، وبينما كان في نوبة حراسة يستمع للأخبار من "راديو ترانزستور"، سمع برحيل جمال عبد الناصر، "فلم أتمالك نفسي (...) وقد دمعت عيناي مع إحساس بالمرارة" كان ناصر، يقول ماجد، "نوعاً من الأمل والتحدي، لكثر من جيلي". وحين عاد إلى حلب بعد هذه التجربة الأردنية، "لم يصدق أهلي أعينهم (...)، أني عدت". لكنه حين دخل مدرسة المتنبي بعد تلك التجربة، لم يكن الشخص الذي كانه من قبل: "في السابق كان ثمة شعور ينتابني هو مزيج من الوحدانية والخصوصية والهوان، ينمو بسبب نظرة الأخرين لي كلاجئ، كغريب، كآخر". الان "لم أكم مجرد طالب في الثانوية، إذ كنت في نظر الآخرين الفلسطيني من فتح". و"الفلسطيني من فتح" كان يشرف على مجلة حائط في المدرسة تورد أخبار العمل الفدائي، وهذا قبل أن تجري إزالتها من قبل مدير المدرسة الجديد، وقد كان فلسطينياً هو الآخر. كان الفلسطينيون المنتمون إلى حزب البعث الحاكم "يتفانون في تقديم خدمات مجانية لإثبات ولائهم (...) أمام الجهات المسؤولة"، وذهبت مجلة الحائط ثمناً لإثبات الولاء. كان ماجد محباً للقراءة، ومما قرأ في تلك السنوات كتب لناجي علوش ومنير شفيق وإلياس مرقص وصاد جلال العظم... و"أدبيات الثورة الفيتنامية". وحرصاً على "عملنا وصورتنا" ظل علاقته بعشرات الفتيات الناشطات في اتحاد طلاب فلسطين في جامعة حلب "منزهة عن أي أعراض لها علاقة بالمراهقة أو بالعواطف، فذلك كان آخر هم لي في تلك المرحلة". وفي تلك السنوات كان ماجد بين كثيرين يتدربون ويتعلمون في معسكر لفتح في بلدة مصياف السورية. المعسكر دمرته إسرائيل أثر عملية ميونيخ 1972، وأسهمت تبرعات أهالي مصياف في إعادة بنائه، لكن أغلقه نظام حافظ الأسد عام 1976 "بسبب الخلاف بين القيادة السورية وقيادة فتح". وكان ممن يحاضرون في المعسكر سعيد المزين، وهو الشاعر فتى الثورة، ذي التوجه الإسلامي، وعصام السرطاوي الذي كان يثقف "بمنهج جدل الإنسان الذي وضع المفكر الصري عصمت سف الدولة. السرطاوي اغتالته جماعة أبو نضال في سنوات لاحقة. وكان من أميز الشخصيات التي زارت المعسكر كمال عدوان، الذي اغتالته إسرائيل في بيروت عام 1972. يأخذ ماجد على قيادة فتح مسالكها الأبوية، وهو وجد نفسه دائماً أقرب إلى التيار النقدي أو اليساري في الحركة، إلى جانب أمثال حنا ميخائيل وماجد أبو شرار وآخرين. عام 1976 أضطر ماجد لمغادرة حلب هرباً من الملاحقة. في مؤتمر للاتحاد العام لطلبة فلسطين في حلب تسبب الطلبة المحسوبون على منظمة "الصاعقة"، أي الموالين للنظام في سورية بمشكلة منذ البداية، وتعرضوا بضرب مبرح لعزام الأحمد، عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير وقتها، ونُصِح ماجد بالمغادرة فوراً، وقد فعل. "سجلت تلك الحادثة أسرع مشوار جري في حياتي، إذ لاحقني أحدهم لكنني استطعت الإفلات، بركض سريع من كلية الهندسة إلى الملعب البلدي، وهي مسافة طويلة نسبياً". ورغم أنه زوج وأب فقد تطوع ماجد للمشاركة في مقاومة الغزو الإسرائيلي عام 1982، لكنه بينما كان متطوعون من أمثاله يتجهون إلى الجبهات، رأى قوات العاصفة التابعة لفتح تنسحب نحو الشمال، وقد قيل إن ذلك جرى بموافقة ياسر عرفات شخصياً. لماذا يتطوع الناس للمقاومة، إذن؟ ودع ماجد فتح في أواسط الثمانينات، ويقول إن ذلك عزز من حريته في التفكير والموضوعية في رؤيته السياسية. وبصورة عابرة، ولعلها متحرجة، يشير إلى ثلاث سنوات قضاها في "فتح الانتفاضة"، التي يدين دوافعها الضيقة والانتهازية والتآمرية، وارتهانها المبتذل للنظامين السوري والليبي. أعقبت تلك التجربة اجتماعاً عاصفاُ في مكتب فنح في شارع الباكستان في دمشق، انتقد فيه ماجد قيادة المنظمة بحضور ياسر عرفات الذي غضب، لكنه قرّب ماجد وتلاطف معه قبل انفضاض الاجتماع. يتولد انطباع متواتر أثناء القراءة بمعالجات "خوشبوشية" للمشكلات، بدل قواعد عمل واضحة. من أبواب الكتاب المؤثرة رثاء المؤلف للكتب والمكتبات التي اضطر للتخلي عنها في تنقلاته بي المدنـ دمشق وحلب، والبلدان: أميركا وتركيا وألمانيا، حيث كان "متشرداً بين نيويورك واسطنبول وبرلين" بحسب تعبيره، قبل العودة إلى سورية وهو في السبعين. ويتكلم ماجد على الصحف والمجلات التي كتب فيها، يقر بديْنه لصحفيين تعاون مع منابرهم. ومن اللطائف السورية الفلسطينية لذلك الزمن أنه كان يرسل مقالاته في البدايات مع زوجته التي تتواتر زياراتها إلى أهلها في لبنان، أو مع صديق زائر لبيروت. هذه تجربة مجايلي ماجد من السوريين والفلسطينيين السوريين حتى قدوم عصر الانترنت. أما النشر في سورية ذاتها فلم يكن في الوارد. والباب الأخير من دفاتر الزمن الفلسطيني السوري، مخصص لراحلين فلسطينيين وسوريين، غادروا كلهم اغتيالاً أو في المنافي: ماجد أبو شرار، حنا ميخائيل، أنيس صايغ، مرعي عبد الرحمن، شفيق الحوت، صابر محي الدين، ميشيل كيلو، سميح شبيب، فيصل الحوراني، منصور الأتاسي، يوسف سلامة، سلامة كيلة، علي الشهابي، وأحمد بهجت. يهدي ماجد كيالي كتابه الممتع والمثير للتأمل "إلى أصدقاء تلك الأيام".
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الإسلامية البريّة: روح هائمة تبحث عن جسد
-
يا زميل! في وداع حسن النيفي
-
دماء في صُبح سورية الأغبر
-
سورية بعد عام: عواقب الفراغ السياسي
-
منظورات سورية:ي تبدُّلات المعرفة والسياسة بموازاة تغيُّر الز
...
-
فصاحة السلطة عامية الشعب
-
قصة محمد بن راشد: حداثة بلا سياسة، وجمالية بلا تاريخ
-
سورية والمسألة الجيليّة
-
صراع الذاكرات السورية وسياساتها
-
طبّالون ومكيودون وحائرون
-
هيغل وآرنت: فكر بدايات وفكر نهايات
-
تصورات الأقلية والأكثرية على ضوء التاريخ السوري
-
ديمقراطية وجينوقراطية: في تشكل الشعب السوري وتفكّكه
-
مصالحة وطنية في سورية!
-
حوار ثان مع علي جازو: العالم والكتابة واللغة والنشر و...سوري
...
-
أزمة القيادة في البيئات السنّية السورية
-
كلام في المثال: مؤتمر سوري عام
-
في مفهوم الخيال السياسي وأزمته
-
المتن والهامش: جولة أفكار بين سورية والعالم
-
بين ماضي سورية وحاضرها: بدايات مهدورة ومشكلات عسيرة
المزيد.....
-
-مهمة العدالة 2025-.. الصين تجري مناورات عسكرية واسعة لتطويق
...
-
ترامب يقول إنه تم إحراز تقدّم في محادثات أوكرانيا، لكن -قضاي
...
-
إصابة 7 من الشرطة التركية في اشتباك مع عناصر من داعش
-
ماكرون يقول إن حلفاء كييف سيجتمعون في باريس مطلع يناير
-
قصف جوي ومدفعي إسرائيلي على مناطق في غزة
-
كوسوفو: حزب رئيس الوزراء المنتهية ولايته يتصدر الانتخابات ال
...
-
الصين تجري مناورات عسكرية بالذخيرة الحية وتايوان تندد
-
رئيس وزراء قبرص الشمالية: لا حلّ إلا بدولتين متكافئتين في ال
...
-
إندونيسيا.. حريق في دار مسنين يقتل 16 شخصا
-
التوتر يتصاعد.. الصين تجري مناورات عسكرية وتايوان تنشر الجيش
...
المزيد.....
-
سبل تعاطي وتفاعل قوى اليسار في الوطن العربي مع الدين الإسلام
...
/ غازي الصوراني
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|