|
كلام في المثال: مؤتمر سوري عام
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 8471 - 2025 / 9 / 20 - 18:05
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
ورثت سورية تركة ثقيلة تكسر الظهر، يمكن حملها فقط بتكاتف وطني واسع. لكن ما يحدث هو تركز السلطة بأيدي فريق أحادي اللون وضيق الكتفين. على هذا النحو تدخل مقتضيات حمل التركة الباهظة في تعارض مع مقتضيات تأمين السلطة، ويضحى بالأولى لمصلحة الثانية. لكن أليس هذا ما فعله حافظ الأسد قبل جيلين، وأورثنا الكساح السوري المعلوم؟ ولا يُرَدُّ على ذلك بإعطاء مناصب شكلية لمنحدرين من خارج اللون السائد، فقد فعل حافظ الأسد مثل ذلك وأكثر، دون أن يغير الأمر من التعارض بين التكوين الضيق للسلطة السياسية الأمنية ومقتضيات نهوض وتقدم المجتمع السوري. هذا التعارض بين نهوض البلد وبين البنية السياسية الأمنية المسيطرة اليوم أسرع ظهوراً لأسباب معلومة، أبرزها الوجود المسبق لجماعات أهلية مسلحة تسيطر على مناطق من البلد. ومن المفهوم، بل والعادل، ألا تتخلى عن سلاحها دون مشاركة فعلية في السلطة. هذا الوضع بالتالي يمكنه أن يكون فرصة لحل وطني، وليس مشكلة فحسب. هنا محاولة لطرح تصور شبه مثالي عن الحل، ليس بمعنى أنه غير واقعي بالتحديد، أو أنه معني بمبدأ العدالة حصراً وليس بموازين القوى، لكن كذلك بمعنى أنه محاولة من أجل وضوح أكبر، وإن على حساب تفاصيل كثيرة. التصورات هي إحدى جبهات العمل العام في سورية اليوم، والوضوح هو فضيلتها الأولى. والفكرة المثالية أو شبه المثالية هي أنه إن كان لسورية أن تبقى وتسير إلى الأمام، فلا بد من مؤتمر سوري عام، يعقد في وقت قريب، ويتمخض عن وعد/ عهد سوري جديد. أليس الوقت متأخر سلفاً على ذلك، وسط ما ينتشر من دعوت متحمسة للتقسيم ومنسوب الكراهية المرتفع جداً والمثابر على الارتفاع؟ ربما، ولكن لماذا يترك المجال لتلك الدعوات وحدها؟
أولا، مؤتمر سوري من أجل ماذا بالضبط؟ ما هي القضية او القضايا التي يفترض به أن يتصدى لها؟ نفكر به كمؤتمر سوري عام، مؤتمر إعادة تأسيس وطني ومصالحة وطنية، يحدد ملامح نظام سياسي جديد يقوم على الاستيعاب والمواطنة والحريات العامة واللامركزية. إنه المؤتمر الذي كان ينبغي أن يعقد في دمشق بعد سقوط النظام، يجمع طيفاً سورياً واسعاً، وينظر في أسس سورية جديدة لجميع مواطنيها. مؤتمر النصر الذي عقده عسكريو السلطة هو تأسيس لحكم سني مسلح، وليس لحكم وطني سوري. والحوار الوطني الذي تلا كان مهزلة. المؤتمر السوري هو أعلى سلطة في البلد أثناء انعقاده، والقضية الوحيدة للمؤتمر هي تصور جديد لسورية ككيان وكدولة، أي للأمة السورية، بما يجنب أي جماعة سورية المجازر والبلد التقسيم. والمجزرة والتقسيم، قتل البشر وقتل البلد، يسيران اليوم يداً بيد، وجذرهما معاً الحكم الواحدي الفئوي لبلد متعدد. تصور سورية المضاد للمجزرة والتقسيم يشمل حتماً الحريات العامة والسياسية، والمشاركة في السلطة المركزية، واللامركزية وتوزيع السلطة لصالح الأطراف. المؤتمر بالتالي يقوم بدور جمعية تأسيسية، سيدة نفسها، تضع الدستور السوري الجديد. ومن تجربة سورية في الماضي ومن مخاوف اليوم، يتعين أن يكون من مخرجات المؤتمر تجريم التعذيب وتحريم الحكم إلى الأبد، وهو ما يقتضي وضع آلية سلمية لتداول السلطة. من يحضر المؤتمر؟ حتى في تصور مثالي، لا مجال لاستبعاد قوى الأمر الواقع القائمة، في دمشق وفي السويداء وفي الجزيرة، فهي تمثل قطاعات من السوريين. لكن التصور المثالي يقتضي ألا يقتصر المؤتمر عليها. وهذا لأنه يتعين ألا ينحصر التمثيل في قوى كانت كلها على علاقة غير طيبة بالثورة السورية، وإن صعدت على ظهرها وتدين لها بوجودها ذاتها. وصحيح أن القوى التي شغلت مواقع تمثيل الثورة السورية آلت بنفسها إلى التبعية والفساد والتعطيل، إلا أن من بقي حياً من الثوريين الذين دافعوا عن المثل الديمقراطية والتحررية للثورة، عن المواطنة والمساواة والحريات العامة، وضد تطييف الدولة وخصخصتها، هم من أولى من يتعين أن يكون لهم مشاركة وأصوات تسمع في المؤتمر. إلى ذلك، فإن معارضة الحكم الأسدي والنضال من أجل الديمقراطية لم يبدأ مع الثورة، وله تاريخ يتجاوز نصف قرن. لا يجب تكرار سيرة الحكم الأسدي، بإلغاء تاريخ سورية السابق له وجيل المناضلين والسياسيين السابقين. سورية لا تختصر إلى الجماعات الأهلية المسلحة، أو إلى مجموع الطوائف والإثنيات، ولا بطبيعة الحال إلى الحكم الحالي الذي نجح في الانتكاس إلى جماعة أهلية مسلحة، بقدر ما فشل في أن يتصرف كدولة. التنظيمات السياسية على تبعثرها، والشبكات المدنية على تشتتها، والمنظمات الحقوقية، فضلاً عن عدد لا بأس به من مثقفين وصحفيين، كلها مقصاة من التمثيل إن اقتصر الأمر على التشكيلات الأهلية المسلحة والملتحقين بها. وليس في هذا الطرح أي تطرف، بل تحفزه بالفعل روح الاعتدال. التطرف ينشأ عن الاستبعاد، من تصرف طرف اجتماعي أو سياسي ما كما لو أنه هو الأطراف كلها. هكذا تصرف الحكم الأسدي، وهكذا يجنح إلى التصرف حكام اليوم. وتؤول المسالك المتطرفة والاستبعادية في سورية حتماً إلى الطائفية في بحثها عن ركيزة اجتماعية تستند إليها وتحتمي بها. هذا نسق متكرر في التاريخ السوري، والقطيعة معه تستوجب الاعتدال والتخلي عن أوهام "الأبد" و"إلى يوم القيامة". النجاح الذي تحقق لجنوب أفريقيا في مطلع تسعينات القرن الماضي جاء بفضل اعتدال نلسون مانديلا وحزب المؤتمر الوطني الأفريقي الذي دافع عن تصور جنوب أفريقيا دون تمييز بين السود والهنود والملونين، والبيض أنفسهم. لقد كسبت هذه السياسة التفوق الأخلاقي، وانحازت لها أعداد متزايدة من البيض، قبل أن تكسب المعركة السياسية وينهار نظام الفصل العنصري. بعدها بقليل صار مانديلا الذي قضى 27 عاماً ونصف العام في السجن رئيساً للبلد. سورية بحاجة إلى هذه الروحية المعتدلة، ويفترض أن يكون الأمر أسهل لدينا بالنظر إلى أن الجماعات السوري كلها أصلية، ولم تكن أي منها قوة احتلال أو تمييز عنصري، وعلى النظام السياسي أن يضمن مشاركتها والمساواة بينها. على أن من غير المتصور أن ينعقد مؤتمر سوري عام دون دفع ورعاية من الدول العربية الفاعلة، ومن القوى الغربية. كانت هذه القوى إيجابية حيال الحكم السوري الحالي قبل مجازر الدروز في السويداء في تموز الماضي، وهي تبدو اليوم مترددة بعض الشيء. تخشى من انهيار عام وحرب أهلية جديدة، ولكن تبدو أكثر تشككاً في قدرة السلطة الحالية على ضمان الاستقرار. لذلك يمكن لفكرة مؤتمر سوري أن تنال دعمها. التذكير بقرار مجلس الأمن 2254 في بيان مجلس الأمن يوم 10 آب الماضي، وهو ينص على هيئة حكم انتقالي كاملة الصلاحية، مؤشر على التحفظ في دعم الحكم الحالي، وعودة إلى بيان العقبة الذي صدر بعد أيام من سقوط النظام الأسدي. بدا وقتها أن القرار الدولي متجاوز، لكن من دفع القوى الدولي إلى نبْشه هو المسالك الاستئثارية والعنيفة للحكم الحالي. المشكلة في الرعاية العربية والدولية لمؤتمر سوري هي أنه يرجح لها أن ترعى تفاهماً بين قوى الأمر الواقع حصراً، أو مصالحة بين حملة السلاح، شيء يشبه اتفاق الطائف الذي رعته السعودية بين فرقاء الحرب اللبنانية عام 1989، واقترح مثله لسورية قبل أسابيع صحفي سعودي. وهو ما يناسب فرقاء الحرب في سورية، لكنه بذلك يستبعد غير المسلحين وغير الأهليين من السوريين، ويكافئ المسلحين وأمراء الحرب، كما يستبعد تطلعات الثورة السورية والمدافعين عن روحية عام 2011. لذلك قد يكون الأنسب أن تشرف الأمم المتحدة على المؤتمر العتيد، وللشبكات والجمعيات والقوى السورية المنظمة نفاذ أفضل نسبياً إليها مما إلى الدول. ليس هناك خيارات واقعية طيبة في سورية اليوم. لكن كل فكرة المؤتمر السوري العام، لا تتطلع إلى أن تكون واقعية، بمعنى الركون إلى ما تسمح به الظروف. هي بالأحرى دعوة إلى تفكير سياسي نقدي، يعمل على تجاوز الظروف الحالية ويتطلع إلى سلم سوري مستدام. لا ينبغي للالتحاق بإحدى الجماعات الأهلية المسلحة، وهو خيار "واقعي" كفاية، أن يكون الخيار الوحيد المتروك للسوريين. والغرض العام من الفكرة هو تكاتف سوري جديد لحمل التركة الثقيلة الموروثة، والنهوض بالأعباء والتحديات المتجددة بقدر أكبر من الثبات.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في مفهوم الخيال السياسي وأزمته
-
المتن والهامش: جولة أفكار بين سورية والعالم
-
بين ماضي سورية وحاضرها: بدايات مهدورة ومشكلات عسيرة
-
حل الإخوان السوريين واحتكار التمثيل السني
-
الوطنية السورية وبدائلها
-
سورية بين ثلاث مدارس للحكم والسياسة
-
أي سلطة في سورية، أي معارضة، وأي مستقبل؟
-
«الأمة» ضد الدولة: في جذور فشل بناء الدولة في سورية
-
الوطنية السورية وحكم الإسلاميين الراهن
-
في نقد النصر
-
إبادة جوّالة من الساحل إلى السويداء: حدث أم نمط؟
-
اليوم كما بالأمس: الطغيان والطائفية هما المشكلة في سوريا
-
محنة الوطنية والدولة في سورية اليوم
-
الإرهاب سورياً: أمامنا، وراءنا، أم معنا؟
-
تراثان فكريان سياسيان في سورية: أي دروس للراهن؟
-
عداليون وحضاريون: معيارا العدالة والحضارة في النقد الاجتماعي
...
-
مستقبل عدم: إسرائيل وصراعاتها الوجودية المستمرة
-
أفراد أذكياء وبنى اجتماعية غبية
-
ممسوك أم متماسك؟ المجتمع السوري بين صورتين
-
انتهت الأزمة، ابتدأت الأزمة
المزيد.....
-
مجلس الأمن الدولي يصوت ضد رفع العقوبات المفروضة على طهران
-
كندا تحظر دخول فرقة -نيكاب- لدعمها فلسطين.. والفرقة تلجأ للق
...
-
رئيس وزراء السودان يناشد الإقليم والعالم دعم مبادرة لفك حصار
...
-
بعد تصويت على عودة العقوبات.. بزشكيان: لا يمكن إيقاف إيران ع
...
-
تزايد إقبال المتطوعين على الخدمة العسكرية في الجيش الألماني
...
-
نائب رئيس جنوب السودان المعتقل يعلن استعداده للمحاكمة
-
مرصد: إسرائيل تفجر بغزة يوميا 17 عربة كل واحدة تعادل زلزالا
...
-
بعد قرار مصر الحد من الولادة القيصرية.. لماذا ترتفع معدلاتها
...
-
محاولات شعبية لتسيير أسطول الصمود المصري في مواجهة تحديات قا
...
-
كيف دمّرت سياسة ترامب خطط طلاب غزة؟ شاهد ما قالته فلسطينية ل
...
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|