|
|
الوطنية السورية وحكم الإسلاميين الراهن
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 8430 - 2025 / 8 / 10 - 15:57
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
أثار الهجوم الحكومي على السويداء والكارثة الإنسانية والوطنية التي ترتبت عليه استياءً واسعاً بين السوريين في الداخل والخارج. كانت تلك معركة اختيارية، لم تكن السلطة مضطرة لها، ورغم أنها خرجت منها «ملومة مدحورة»، لم تعلن تحمل المسؤولية عن الكارثة، أو تعترف بوقوع كارثة. بالعكس، بعد المجزرة الطائفية ضد الدروز والانكفاء الاضطراري عن السويداء بفعل القصف الإسرائيلي وضغوط أمريكية وتركية، جرت الدعوة إلى «مسيرات جماهيرية» لدعم القيادة يوم الجمعة، 1 آب الجاري. بقدر ما كانت الدعوة للمسيرات تعبيراً عن اضطراب السلطة وتراجع ثقتها بنفسها، كانت الاستجابة الهزيلة لها تعبيراً عن تراجع الثقة بها ضمن جمهور متنوع. سوريا بفعل هذه المسالك الطائشة في أزمة وطنية كبيرة، تهدد كيانها ومجتمعها. لم يكن أكثر الجمهور السوري على ولاء خاص للسلطة الجديدة ورجالها، رغم الحماس الواسع لإسقاط الحكم الأسدي. لكن المزاج العام كان إيجابياً تجاه التغيير الحاصل، راغباً في المشاركة، ومترقباً لما يأتي. وطوال أشهر، بدا أن هناك عالمين متوازيين في سوريا، بينهما جسور وممرات، وفضول، لكن الجسور والممرات تعرضت لضغط شديد ومتكرر من قبل السلطة الجديدة وأنصارها فتقطع أكثرها، والفضول تراجع وانقلب إلى نفور، واتجه العالمان إلى التباعد. وفي جذر هذا التباعد شيئان أو ثلاثة. الأول هو التركز المطرد للسلطة الفعلية بأيدي فريق واحد، ليس سنياً فقط، وإنما هو من مقربي هيئة تحرير الشام، فكرياً وجهوياً. والثاني هو المجازر والإذلالات البشعة التي ارتكبت في الساحل ثم في السويداء. والثالث هو تدخلات واستفزازات دينية يقوم بها طائفيون سنيون أو سلفيون ملتزمون، مستقوون بالسلطة، في الجامعات والجوامع والأحياء. وهي كلها تشكك في أي كلام على بناء الدولة. الدولة لا تبنى بتدمير المجتمع. تستفز هذه المسالك جهوراً سورياً واسعاً ومتنوعاً، بمن في ذلك سنيون محافظون، وتطعن فكرة الوطنية السورية في القلب. القضية التي نسوقها هنا هي أن الوطنية السورية هي الأرضية الأوسع والأصلب للاعتراض على الحكم الحالي. لا السياسات طائفية أو إثنية التمركز، ولا دعوات التقسيم، ولا القومية العربية، ولا الإسلامية الحالية أصلح. الوطنية السورية هي الرابطة الجامعة العابرة للطوائف، والتي لها سلفاً تاريخ يتجاوز القرن. صحيح أنه لم يوجد قط تعبير سياسي عن الوطنية السورية، وأنها ليست قوية بقدر ما هي الوطنية المصرية مثلاً، إلا أن قاعدتها الاجتماعية أوسع من أي دعوة منافسة. وهي تشمل سنيين ليسوا إسلاميين (وتتيح لهم الابتعاد عن الحكم الحالي)، واللاطائفيين من الجماعات الأهلية الأخرى (وإن تراجعت نسبتهم بعد المجازر بحق العلويين والدروز)، ويمكن أن تنال ولاء جمهرة كردية أوسع إن ضُمنت الحقوق السياسية والثقافية للكرد، معززة بمشاركة فعلية في السلطة (وهذه أقرب إلى نقاط إجماع سورية اليوم). وما يجعل الوطنية السورية أرضية الاعتراض الأصلح على السلطة الحالية، وعلى دعوات التقسيم، هو قدرتها المبدئية على استيعاب التعدد السوري، السياسي والأهلي. ثم هو علمانيتها الضمنية بفعل قيامها المبدئي، ومنذ المؤتمر السوري العام عام 1919، على المواطنة ومبدأ الوطن للجميع. وهو بعد ذلك اعتدالها ومنزعها الاستيعابي المضاد للتطرف. الميول التطرفية في سوريا، سواء باتجاه عروبي أو إسلامي أو طوائفي، هي نتاج التخلي عن الوطنية السورية وليست نتاج التمسك بها والصدور عنها، ولذلك فهي الأرضية الأمتن لمقاومة التطرف بكل صوره. وعموماً، يبدو أن الوطنيات المعاصرة هي الترياق ضد الحكم الديني الذي لا يمكن إلا أن يكون فئوياً وتمييزياً، وإن تعين إصلاح تلك الوطنيات في اتجاهات ديمقراطية. أثار الحكم الديني في مصر احتجاجات وطنية الدوافع ضد حكم الإخوان، لا يطعن في أحقيتها أن الجيش صعد على أكتافها إلى الحكم. كان ذلك خيانة للاحتجاجات الشعبية على «أخونة الدولة» وليس وفاء لها. افتقرت مصر إلى قوة اجتماعية سياسية ثالثة، تتمثل فيها الوطنية المصرية، بالتمايز عن حكم العسكر والإخوان، أو تقترح صفقة يتنازل الإسلاميون فيها عن طلب السيادة، مقابل الحق في السياسة في دولة ديمقراطية، أي أن يكونوا حزباً مثل غيرهم، ينافس مثل غيره على السلطة. جذر المشكلة الدينية السياسية في سوريا، يتمثل في لا ديمقراطية الدولة من جهة، وفي سيادية القوى الدينية أو إرادتها السيطرة على الدولة من جهة ثانية في سوريا، ليس الجيش من يقف ضد أسلمة الدولة الجارية، فقد تحلل وانحل، وكان فاقداً للوطنية أصلاً بفعل ولوغه في دم السوريين (والفلسطينيين واللبنانيين في وقت سبق) وانقياده لقوى أجنبية. ما يقف ضد أسلمة الدولة هو جماعات أهلية مسلحة، يمتنع أن يتشكل حول أي منها أو حول مجموعها أكثرية سورية. ومن شأن التعويل عليها أن يفتح فصلاً جديداً من الحرب الأهلية الشاملة، فإنه ممتنع دون راع دولي لهذا الائتلاف، يسلحه ويموله ويغطيه سياسياً. وهذا غير متاح في أوضاع اليوم. المرشح الأبرز هو إسرائيل، لكن يبدو أنه يتعذر على إسرائيل ذاتها أن تخوض مغامرة كبيرة كهذه، وإن كان مناسباً لها إضعاف السلطة الحالية، واستخدام جماعات أهلية مسلحة لهذا الغرض. ولما كانت سوريا تفتقر أكثر حتى من مصر إلى قوة ثالثة، غير الإسلاميين والجماعات الأهلية المسلحة، أي غير نوعين من الجماعات الأهلية المسلحة، فلا يبقى لتجنب حرب أهلية شاملة غير العمل على قيام هذه القوى الثالثة. وفي التداول سلفاً أفكار متنوعة، نشط تداولها مؤخراً، ومنها فكرة مؤتمر وطني جامع، يعمل على بلورة تصور نظام سياسي استيعابي في سوريا. وهناك بالفعل حاجة ملحة إلى نشوء قوة وطنية ديمقراطية، تشكل من جهة استئنافاً للتطلعات الباكرة للثورة السورية، وتستجيب من جهة أخرى لواقع التعدد السوري الذي خذلته السلطة الحالية مراراً. هذه الأخيرة تظهر كنظام أزمة متجددة في واقع الأمر بفعل تكوينها الأحادي والضيق. وبنظرة عريضة، فإن جذر المشكلة الدينية السياسية في سوريا، وقبلها في مصر وبلدان عربية أخرى، يتمثل في لا ديمقراطية الدولة من جهة، وفي سيادية القوى الدينية أو إرادتها السيطرة على الدولة من جهة ثانية. لا يريد الإسلاميون أن يكونوا قوة سياسية إلى جانب قوى سياسية أخرى، بل أن يكونوا الدولة. ومن جهتها، تلغي أكثر دولنا الحياة السياسية، فلا تشجع أيا كان على أن يعرف نفسه بالسياسة أو يعمل من أجل أن يكون قوة سياسية بين قوى سياسية أخرى. ومن هذا الباب فإن المخرج من الأزمة المزمنة ربما يتمثل في تسوية تاريخية، ينال فيها الإسلاميون السياسة مقابل التخلي عن السيادة (ألا يمارس عنف باسم الدين ولا تكون لأي قوى دينية ولاية عامة)، وتحتكر الدولة السيادة (العنف والولاية العامة) مقابل أن تصير ديمقراطية. والمشكلة راهنة في سوريا، حيث يستأثر إسلاميون بالسيادة والسياسة معاً، في صورة تستعيد قيادة حزب البعث للدولة والمجتمع. لكن هذا تسبب سلفاً في موجتين من المجازر خلال ثمانية أشهر، وفي نفور عام من المتحكمين الجدد وتشاؤم متسع حيال المستقبل. الوقائع الصلبة تفرض نفسها: سوريا لا يمكن أن تحكم من فريق ديني، لأنه لا يمكن أن يكون وطنياً (وغير قليل من المنحازين له يتفاخرون باحتقارهم لمبدأ الوطنية). والأساس الأمتن للاعتراض على الحكم الديني هو الوطنية السورية، لا العروبة، ولا الطوائفية، ولا بطبيعة الحال الإسلامية.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في نقد النصر
-
إبادة جوّالة من الساحل إلى السويداء: حدث أم نمط؟
-
اليوم كما بالأمس: الطغيان والطائفية هما المشكلة في سوريا
-
محنة الوطنية والدولة في سورية اليوم
-
الإرهاب سورياً: أمامنا، وراءنا، أم معنا؟
-
تراثان فكريان سياسيان في سورية: أي دروس للراهن؟
-
عداليون وحضاريون: معيارا العدالة والحضارة في النقد الاجتماعي
...
-
مستقبل عدم: إسرائيل وصراعاتها الوجودية المستمرة
-
أفراد أذكياء وبنى اجتماعية غبية
-
ممسوك أم متماسك؟ المجتمع السوري بين صورتين
-
انتهت الأزمة، ابتدأت الأزمة
-
الدولة المترددة: عن الاعتدال والتطرف في سورية اليوم
-
العناية بسورية، البلد غير المحبوب من أهله
-
تعاقد سوري: نزع السلاح مقابل المشاركة في السلطة
-
المعجزة والأبد والمستحيل: في الشوق إلى الممكن
-
تكثير السلطة: لماذا الحكم منحدر في مجالنا؟
-
سقط النظام، الثورة لم تنتصر، والصراع السوري مستمر!
-
الحزب السياسي وأزمة الذاتية المعاصرة
-
بعد أربعة أشهر، سورية من هنا إلى أين؟
-
القنبلة السلفية والسلم الأهلي في سورية
المزيد.....
-
ترامب: نجني ترليونات الدولارات ومن يعارضون الرسوم الجمركية -
...
-
تعرّف على -طائرة الخيال العلمي- التي قد تسافر على متنها يوما
...
-
مصير مقاتلي حماس في أنفاق رفح.. هل تفتح إعادة رفات هدار غولد
...
-
لافروف مستعد للقاء روبيو… وروسيا تتمسك بشروطها لإنهاء حرب أو
...
-
فرنسا: فتح تحقيق في تهديد إرهابي يشمل أحد المشاركين في هجمات
...
-
بوليفيا تفتح صفحة جديدة في العلاقات مع الولايات المتحدة
-
حماس تدعو الوسطاء لإيجاد حل لمقاتليها العالقين في رفح وتؤكد
...
-
العراق: أكثر من 1,3 مليون ناخب عسكري يدلون بأصواتهم في الانت
...
-
اعتداءات المستوطنين تشعل الضفة الغربية وسط صمت دولي
-
تراهما بعينيك.. كوكب المشتري والقمر يزينان سماء العالم العرب
...
المزيد.....
-
سبل تعاطي وتفاعل قوى اليسار في الوطن العربي مع الدين الإسلام
...
/ غازي الصوراني
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|