ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 8373 - 2025 / 6 / 14 - 16:44
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
لعقود كان المجتمع السوري نموذجاً للمجتمع الممسوك، يتحكم به نظام يغذي الانقسامات وعدم الثقة بين جماعاته، ويقمع منظماته أحزابه العابرة لهذه الجماعات، ويحمي "وحدته الوطنية" التي كانت تعني الوقوف "صفاً واحداً" خلف "القيادة التاريخية الحكيمة" للأسدين. عبر تغذية المخاوف والشكوك بين الجماعات الأهلية السوري من جهة ومنع السوريين من تطوير روابط غير أهلية أو عابرة للأهلي من جهة ثانية، عاش المجتمع السوري أزمة ثقة وطنية مديدة، تمثلت في خوف جماعات من غيرها وارتياب جماعات بغيرها. العلاقة بين العرب والكرد، بين المسلمين والمسيحيين، بين السنيين والعلويين وغيرهم، هي علاقة خوف من جهة وارتياب من جهة أخرى. الثقة المفقودة تلوذ بالحياة الخاصة، وسقفها هو الجماعة المحلية، وأوسع أفق لها هو الجماعة الأهلية ككل. هذا الوضع مصنوع سياسياً بغرض إضعاف أي مقاومات اجتماعية للحكم الأسدي. الإمساك بالمجتمع مدفوع بإرادة الإمساك بالسلطة "إلى الأبد"، مثلما صار يقال بدءاً من ثمانينات القرن العشرين. والطائفية هي المفهوم الذي يكثف العلاقة بين نظام السلطة وتنظيم المجتمع في الحقبة الأسدية الطويلة.
بهذه الصورة امتنع تشكل مجتمع سوري، وظهرت مجتمعات تفاعلاتها محدودة وسطحية، داخلية الثقة وخارجية عدم الثقة. نتكلم على مجتمع ممسوك لتسمية هذا الشرط الذي تداعى بحدة بعد الثورة لسورية قبل أن ينهار كلياً بسقوط الحكم الأسدي قبل نصف عام. وبطبيعة الحال، المجتمع الممسوك ليس مجتمعاً متماسكاً، قد يمكن تعريفه بكثافة التفاعلات العابرة للجماعات، وبخاصة بظهور وتكاثر روابط غير جماعاتية أو غير عضوية، تحول دون انفرط المجتمع إذا لم يعد ممسوكاً.
ما الذي يمكن قوله اليوم عن المجتمع السوري؟ هل نحن أقرب إلى نموج المجتمع الممسوك أم المجتمع المتماسك؟ وهل هناك جهة سير يمكن تبينها ترجح أننا سائرون في هذا الاتجاه او ذاك؟ ظاهر أن المجتمع السوري اليوم أقل تماسكاً بكثير مما كان في بداية الحكم البعثي كما بداية الحقبة الأسدية. هذا أثر أزمة ثقة جرت تغذيتها سياسياً طوال أكثر من نصف تاريخ البلد. لكن التمركز السني لصيغة الحكم الحالية يبدو سلفاً مبعث عدم ثقة على المستوى الوطني، ويرجح نموذج المجتمع الممسوك. لا حاجة إلى القول إن السوريين لا يتوحدون على أرضية دينية أو قومية، ولا يوفر الدين ولا القومية أرضية ثقة جامعة بينهم. ما قد يوفر قدراً من الثقة هو الروابط المدنية الطوعية القائمة على المواطنة التي تحرر قدراً أكبر من الأفراد من المنابت والجذور الموروثة. كانت الروابط والقوى المدنية تعرضت لتفكيك مديد خلال جيلين، ما جعل من سورية صحراء سياسية بلا واحات يركن إليها من لا يرتاحون في الجماعات العضوية، ولا يرتضون تعريف أنفسهم بها.
تتضافر اليوم شروط انقسامية موروثة مع تكوين فئوي للحكم الجديد لتضعف فرص ظهور مجتمع سوري ذاتي التماسك. ربما يقال إن ستة أشهر على التغير في سورية لا تكفي للحكم في شأن النموذج الاجتماعي السوري. صحيح. لكن ليس مؤكداً أن المسألة مسألة وقت، وأن الأمور ستسير باتجاه نظام اجتماعي غير طائفي، قائم على الروابط الطوعية والمواطنة. المؤشرات المتاحة ترجح العكس، وتشير إلى حكم سني حصري، لم نعرف مثله طوال تاريخ الكيان السوري الذي لا يتجاوز قرناً وسبع سنوات، حكم يتعذر أن يتماهى به غير المسلمين، وغير المسلمين السنيين، وغير قليل من المسلمين السنيين بالميلاد، فضلاً عن أكثرية الكرد ممكن يتفوق التعريف القومي لأنفسهم على غيره. وعدا أن الهوية الوطنية تتكون بعمليات تماه جامعة، تنعقد على الدولة ومؤسساتها، وأن التماهي الجامع تعبير عن قوة التماسك الاجتماعي، عدا ذلك، فإن ضعف التماهي الجامع يسير مع رهان أكبر على وسائل القوة والإكراه لضمان الضبط الاجتماعي والاستقرار السياسي. أي هنا أيضاً إلى الإمساك بالمجتمع لضمان الإمساك بالسلطة. وما رأيناه من عنف فائض وغير وظيفي حيال الجماعة العلوية في آذار، وما لا يزال يرى هنا وهناك كما في الدالية وبيت عانا قبل أيام، يظهر أولية الإمساك بالسلطة على حساب كل شيء آخر، ولو بتغريب قطاع واسع من العلويين. هناك سلفاً هجرة لعلويين سوريين وطلبات لجوء متزايدة إلى بلدان أوربية، لا تختلف كثيراً عن هجرة ولجوء جمهور سني واسع بعد الثورة إلى بلدان قريبة وبعيدة.
والمقصود بالعنف غير الوظيفي العنف الذي يتجاوز الوظيفة القمعية للدولة، الموجهة نحو قمع تمرد مثلاً أو ضبط أوضاع أمنية متفلتة، إلى سحق قطاع من المجتمع وإرهابه وكسر عينه. من ذلك حرق بيوت ونهب ممتلكات واعتقال أشخاص وتغييبهم، أو قتلهم ورمي جثثهم في العراء، مثلما حدث مؤخراً في عش الورور وقطنا، ما يبث في القطاع المستهدف من السكان شعوراً بالغربة وعدم الأمان العميق، هو ما يدفع إلى الهجرة. هذا ليس منطق قمع بل منطق إبادة، وإن كان عدد الضحايا قليلاً جداً، أو حتى فرد واحد. لا يهاجر الناس بسبب قمع منضبط، بل بسبب مخاطر على الحياة، مخاطر وجودية. الهجرة تعني فشلاً اجتماعياً وسياسياً، ليس لمن يهاجرون، فهم مكرهون بهذا القدر أو ذاك، بل للهياكل السياسية القائمة التي تخفق في توفير أمان وحماية متساوية للسكان في عهدتها. بين الغربة في البلد والعيش في الغربة خارجه، ربما يفضل القادرون غربة الخارج لأنها آمنة أكثر.
للمجتمع الممسوك ديناميكية خاصة تفضي به إلى الانهيار بعد حين يطول أو يقصر. فالإمساك به يقتضي تعزيز القبضة الأمنية التي تقلل من تماسكه الذاتي أكثر وأكثر، وهذا يطلب المزيد من القبضة الأمنية والتوسع في وسائل الإكراه. ويقود هذا التوسع إلى تعزيز سلطة أمنيين بدون كفاءة سياسية، قد يبلغ بهم الغرور ما بلغ ببشار الأسد وأجهزة حكمه حتى انهارت أمام قوات أضعف منها بكثير. النظام الأسدي انهار من رأسه الذي لم يعتد أن يقوم بما يتعين على رأس أن يقوم به: أن يفكر، وأن يقود. وإذا حدث الانهيار مرة فليس هناك ما يمنع حدوثه مرة أخرى، وبخاصة حين يعرض المتحكمون الجدد هذا القدر من الاكتفاء بأنفسهم والاعتقاد بأنهم لا يقارنون بغيرهم.
ويمتنع أن يتماسك المجتمع السوري ما دام يجري النظر إليه كجماعات أهلية حصراً. على هذا المستوى ليس ثمة غير التباعد، وفي أحسن الأحوال تجاور دون تعارف فعلي. فرص التماسك مرهونة بما تقدمت الإشارة إليه من ظهور روابط طوعية، تدرج عادة تحت عنوان المجتمع المدني. في تاريخ علم الاجتماع الفرنسي والألماني تمييزات مفهومية مثل التضامن الآلي للمجتمعات ما قبل الصناعية والتضامن العضوي في المجتمعات الصناعية عند إميل دوركهايم، والغزلشافت والغماينشافت عند فرديناند تونيز، تمييزات مفهومية مقاربة للتمييز بين المجتمع الأهلي والمجتمع المدني عندنا، وتحيل إلى معيار نوعية تضامن، أو تماسك، كل من هذين الشكلين الاجتماعيين. المجتمع الأهلى لا يطور تضامنات جامعة، فهو مجتمع غير متماسك، لا يبقى معاً إلا بقدرما يكون ممسوكاً، لكنه في النهاية ينفرط كلياً مثل كيس من الرمل. المجتمع المدني يطور تضامنات جامعة، تعزز من تماسكه وتغني عن ضرورة الإمساك به بوسائل السلطة الإكراهية.
التحول من شكل للمجتمع الممسوك إلى شكل آخر، ومن ممسكين أهليين إلى ممسكين أهليين غيرهم، ليس نقلة ثورية. نتكلم على نقلة ثورية حين نتحول من مجتمع ممسوك إلى مجتمع متماسك، يقوم على تضامنات مدنية طوعية. هذا النقلة تطرح نفسها منذ الآن على جدول التفكير والفعل السوري.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟