|
«الأمة» ضد الدولة: في جذور فشل بناء الدولة في سورية
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 8438 - 2025 / 8 / 18 - 21:08
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
انطرح على سورية بعد انطواء الحقبة الأسدية تحدٍّ مشابه لما يواجه بلداً تحرر لتوه من الاستعمار: البناء الوطني، وفي القلب منه بناء الدولة. لا يلزم عن ذلك أن الحكم الأسدي كان استعماراً (كان أسوأ من أوجه عديدة)، يلزم فقط القول إن سورية خرجت من تلك الحقبة التي غطت نصف كامل تاريخها ككيان سياسي حديث بجغرافيا وطنية ممزقة ومجتمع منقسم تخترمه أزمة ثقة مركبة، واقتصاد مدمر وبنى تحتية منهارة، وقوى عسكرية أمنية وعسكرية منزوعة الوطنية، ومؤسسات حكم عاطلة، ودرجات من ثالوث «الجهل والفقر والمرض» تشابه ما عرفت قبل ثمانين عاماً، غداة استقلالها. وفي الجملة، هذه أحوال تحاكي حال بلد تحرر لتوه من استعمار عنيف. البناء الوطني يعني توحيد السلطة العليا بوصفها قوة الحكم العامة، وتوحيد الجغرافية الوطنية عبر انتشار أجهزة الحكم فيها، والعمل على بناء جسور ثقة بين السلطات والجماعات الأهلية والجهوية عبر أشكال عادلة من التمثيل، ثم رعاية البنية التحتية التي تشدّ أطراف البلد إلى بعضها، وكذلك نظام تعليم وطني ومواطني جديد، يولي محو الأمية ورفع مستوى التعليم أهمية قصوى، ورعاية صحية تحارب الأوبئة والأمراض السارية. ويُفترض بجملة هذه الإجراءات أن تؤسس لانطلاقة سياسية وتنموية وتعليمية، توسع داخل البلد المعني وتتيح له سيراً متوازناً إلى الأمام. وبالنظر إلى أن الدولة في العالم المعاصر (وهناك 192 منها اليوم) مكونة من أجهزة حكم عامة أو دولة بالمعنى المحدد للكلمة، ثم شعب واحد، فأرض واحدة بحدود معلومة، فإن جوهر البناء الوطني يُحيل إلى بناء هذه الركائز الثلاث: قوة الحكم العامة المنظمة، والشعب المتقارب مما هو قبل ذلك جماعات متراصفة أو حتى متنازعة، والأرض الموحدة التي يتحرك الناس في أرجائها دون الحاجة لإذن خاص. وليس لذلك صيغة واحدة مقررة سلفاً. فالجغرافيا الموحدة لا تنفي درجاتٍ وأشكالاً من اللامركزية والتوزيع الجهوي للسلطة، والشعب الواحد لا ينفي تعدد وتنازع مصالح، ولا اختلافات ثقافية ولغوية ودينية وإثنية، ولا تعدد التعبيرات السياسية عن مطالب قطاعية أو عامة. ونتكلم على الدولة كقوة حكم عامة منظمة، لأن هذا ما يميزها عن السلطة التي هي قوة ليست عامة بالضرورة ولا منظمة حتماً، ثم لأن الدولة لا يُمكنها أن تنظم المجتمع إن لم تكن منظمة هي ذاتها. وبهذا التكوين كأرض واحدة وشعب متقارب وقوة حكم منظمة تحظى الدولة باعتراف الدول الأخرى والمؤسسات الدولية، ويتوقع منها حد أدنى من الاشتغال وحل المشكلات في داخلها، والتصرف بقدر من المسؤولية في النطاق الدولي. حكم الفوضى خلال أكثر من ثمانية أشهر لم يتحقق أي تقدم على هذا الجبهات الثلاث في سورية. بالعكس، انطلاقاً من وضع بدئي سيئ صرنا اليوم في وضع أسوأ. الجغرافيا الوطنية أقل تواصلاً وأكثر تقطعاً وتجزؤاً مما كانت في الأشهر الثلاث الأولى بعد سقوط الحكم الأسدي. والمجتمع أكثر انقساماً ومستويات عدم الثقة أعلى بكثير مما كانت في البدايات، وتبلغ أحياناً مستويات من القطيعة لا مثيل لها في تاريخ الكيان السوري الحديث. ويربط بين التقطع الجغرافي والتمزق الاجتماعي دعوات انفصال صريحة لم يسمع مثلها منذ أيام الانتداب الفرنسي. بيد أن المشكلة الأساسية تكمن في قوة الحكم العامة المنظمة المفترضة التي هي الدولة. فالموجود في سورية اليوم هو قوة خاصة غير موحدة وغير منظمة، عشوائية كثيراً، مشرشرة ولا حدود واضحة لها تميزها عن قطاعات من المجتمع، وهي كذلك عنيفة وفوضوية غير منضبطة بأيّ قواعد متسقة. ولأنها غير منظمة فهي لا تستطيع أن تعمل على تنظيم المجتمع، بل كانت بالفعل خلال الأشهر الماضية قوة بث للنزاع والتمزق وعدم الثقة في البلد وبين السوريين، مع تردد في الإقبال الدولي عليها الذي كان في تصاعد حتى بعد مجازر العلويين في آذار (مارس)، لكنه ما بين تباطؤ وانقلاب بعد مجازر الدروز في تموز (يوليو). وما شهدناه في موجتي المجازر هاتين ليس عنف دولة قمعياً، بل هو عنف فئوي إبادي، فائض وسفيه، مارسته أذرع معدومة المسؤولية إلى أقصى حد. هناك فشل كبير في البناء الوطني، أساسه هذا الفشل في بناء الدولة، ويتمثل جذره العميق في التكوين الطائفي الاستبعادي للسلطة القائمة، غير الوطني بالتالي. ربما يقال إن من المبكر إصدار حكم نهائي في هذا الشأن، لكن هذا غير صحيح. فالاتجاه العام خلال الأشهر المنقضية هو تركيز السلطة الفعلية (وغير الفعلية) في أيْدٍ أهلية بعينها، سنية وموالية لأصحاب النفوذ المسيطرين اليوم. ليس هذا حكم كفاءات، ولا هو حكم تمثيلي، ولا حكم وجهاء. إنه حكم فئوي، يجمع بين متطرفين سلفيين وطائفيين هائجين وجانحين مضادين للمجتمع. وهو إن كان لا يخلو من أناس معتدلين حسني النية، فإنهم متعايشون مع وضع متطرف وطائفي وفوضوي تسبب بكوارث وطنية سلفاً. وأياً يكن سبب هذا التعايش، ضعف المعتدلين أو انتهازيتهم، فليس هناك ما يؤشر على أننا سائرون نحو حكم وطني أو عقلاني، أو نحو ظهور الدولة كقوة حكم عامة منظمة. هذا للقول إن المشكلة الأساسية اليوم تكمن في بنية السلطة القائمة، في تكوينها الفئوي دون الوطني، وليست في العلويين أو الدروز أو غيرهم؛ وأن حل هذه المشكلة، أي بناء الدولة، هو المدخل الصحيح للبناء الوطني، ومنه تقارب الشعب ووحدة وتواصل الجغرافيا. المشكلة في الرأس، وليس في أي مكان آخر من الجسم. لكن كيف نفهم أن السلطة اليوم قوة فوضى، لا يمكنها أن تنظم المجتمع الذي هو في كل مكان من حيث المبدأ بيئة كثرة وفوضى وأنانيات متعددة؟ هذا ما يُعيدنا إلى الكلام في الحكم الفئوي من جديد. ماذا نعني حين نتكلم على حكم فئوي؟ نعني أنه طائفي أو عشائري أو عائلي، أنه سلطة خاصة وليس حكماً عاماً منظماً. وبضبط أكبر، نعني أن قسماً مما هو مجتمعي داخل في الدولة، وأن جزئية وفوضوية وأنانية قطاع أو قطاعات مجتمعية (العائلة، العشيرة، الجماعة الدينية، الإثنية…)، تخترق الدولة وتسخرها لحسابها. نعني أن تلك القطاعات تتصرف بمنطقها العرفي الخاص، القائم على الواسطات ومحاباة الأقارب والاستثناءات، بل والهبش والسلبطة، لا بمنطق بيروقراطية الدولة والوظيفة العامة المنضبطة بقواعد معلومة. ونحن بالفعل نعلم التكوين الفصائلي للقوى المسلحة للحكم الحالي، فليست الفرقة 62 إلا «لواء السلطان سليمان شاه»، أو «العمشات»، وكان هذا الفصيل جزءاً من الجيش الوطني التابع لتركيا، واشتُهر بانتهاكاته للملكيات والأعراض في مناطق سيطرته في أعزاز وعفرين؛ وليست الفرقة 76 إلا «الحمزات»، وهي مثل سابقتها في الانضواء تحت الجيش الوطني كما في الفساد والجريمة. وبحسب تقرير «لجنة التحقيق الدولية المستقلة» في «الانتهاكات ضد المدنيين في الساحل وشمال غرب سوريا»، وقد صدر يوم الخميس الماضي، فقد شاركت هاتان الفرقتان في المجازر والنهب ضد العلويين، ومعهما عناصر من «أحرار الشام»، ومن الفرقة 400 التي «تتألف من ألوية سابقة تابعة لهيئة تحرير الشام»، فضلاً عن «جهاديين أجانب»، وعن أفراد متنوعين، بعضهم فتيان، استجابوا لنفير عام دعا إليه مشايخ وخطباء مساجد (يفترض أن الدولة وحدها مخولة بإعلان النفير العام). وينسب تقرير اللجنة الدولية نفسها إلى المبعوث الخاص للأمم المتحدة قوله إن الجماعات المسلحة التابعة للحكومة الحالية مستقلة إلى درجة أن لبعضها «مصادر إيرادات منفصلة». هذه ليست قوى موحدة لتوحِّد، أو منظمة لتنظم. هذه قوى مسلحة طائفية، تقتل وتذل وتعفش مثل القوات الأسدية، هي في الواقع استمرار سني لها. الفارق أن «سوق السنة» كان على أرض الواقع، فيما يبدو أن «سوق العلوية» موجود على صفحات وسائل التواصل الاجتماعي، حيث رأى الأهالي صوراً لما جرى تشليحهم إياه بالقوة معروضاً للبيع، بحسب تقرير اللجنة الدولية نفسه. والفائدة الجانبية التي يُمكن استخلاصها من تقرير اللجنة الدولية هي أن هذا التشكيل لقوات الحكم الحالي لا يقبل الإصلاح، ويمتنع أن يتشكل جيش وطني من مجموعات لها تاريخ سابق طويل في الفوضى والجريمة. بأصدقاء مثل هؤلاء، لا يحتاج الحكم الحالي إلى أعداء! ولا حتى إسرائيل. وبالفعل ما كان يمكن لأي قوة معادية أن تكون مؤذية أكثر من «قوات وزارة الدفاع». فإذا كانت المجازر في الساحل قد وقعت دون تخطيط مسبق، فإن في تكرر المجازر والنهب والإذلال والخطف في السويداء وحولها، بعدها بأكثر من أربعة أشهر، ما يفيد بأن التكوين الطائفي الفوضوي مترسخ ومتفاقم. كانت الأولوية الأعلى هي العمل على تنظيمه وضبطه، وتهدئة الأمور مع السويداء، وليس مهاجمة المدينة وأريافها. وكان من شأن ظهور قوى مسلحة منضبطة ومنظمة، ووطنية، أن يشكل نموذجاً مشجعاً على الاندماج والتخلي عن السلاح الخاص. واليوم إذا لم يكن مقبولاً أن تدخل قوات قسد ككتلة في الجيش، ولا يجب أن يكون مقبولاً بالفعل، فإن وجود كتل كالعمشات والحمزات وأحرار الشام والجهاديين الأجانب يُقوّض هذا المسعى، ويضعف شرعية مطالبة قسد باندماج قواتها في الدولة فردياً. هم ونحن، الطوائف و«الأمة» الطائفية ليست اختراع اليوم في سورية، ومن أخذوا يكتشفونها في الأشهر والأسابيع الأخيرة ربما كانوا نياماً طوال نصف قرن سابق وأكثر. لكن المجتمعي الذي يطفح اليوم في سورية، ويظهر قرب مراكز السلطة وينشر لهجاته وعوائده فيها هو مجتمعي سني، ريفي في عمومه، مُرثث وبرّي أكثر من غيره. لقد تعرض المجتمع السوري لعملية ترثيث مديدة، تفكك وتمييز و«تخليف»، طالت السنيين أكثر من غيرهم (والريفيون بينهم أكثر من المدينيين)، وأنتجت مجتمعاً برياً، بلا التزامات متبادلة ولا قوانين ولا حس بالعدالة. وهو ما تفاقم خلال السنوات الطويلة بما بعد الثورة، بفعل الإفقار والتهجير وحرمان مئات الألوف على الأقل من التعليم. لكن لا شيء من هذا الطفح جديد في تاريخ سورية، ولا شيء منه يُفرّد السنيين الريفيين عن غيرهم. حدث الانتشار الريفي الذي كان يفضل البعض (ومنهم الراحل ميشيل كيلو) تسميته «غزواً للسلطة»، في ستينيات القرن العشرين وسبعينياته، أي بعد الحكم البعثي (يُنظر كتاب البعث لسامي الجندي)، وأكثر بعد انقلاب حافظ الأسد، وحمل معه اللهجات المحلية والمظاهر والعوائد الخاصة. وحتى عشرين عاماً خلت فقط كانت فكرة «ترييف المدينة» تتعرض للنقد باعتبار أنها تصدر عن شعور طائفي سني مضاد للعلويين الذين كان ينظر إليهم أحياناً (عند عبد الرزاق عيد مثلاً) كسكان أرياف «غزوا» مدناً سنية وريّفوها (ينظر كتاب: وردة أم قنبلة؟ لمحمد كامل الخطيب، صادر عام 2006). ثم هناك شيء مميز آخر اليوم، يتمثل في أن الطائفية السنية المنتصرة، «الأموية»، تستغني بهوج شديد بأكثريتها الاسمية عن العمل على إقامة شراكات وطنية أوسع. خلال ثمانية أشهر لم تكسب السلطة شركاء غير سنيين، وخسرت قطاعات من السنيين لا يستسيغون الفوضى والهوج والأنانية. وبين عموم السوريين، كسب الحكم الحالي أعداء بالجملة بسرعة قياسية، ولم يكسب أصدقاء ولو بالمفرق. بالمقارنة، كان نظام حافظ الأسد في بواكيره قد وضع أمنه ودوامه بيد موثوقيه الطائفيين، فوسع من تسرب منطق مجتمعي فوضوي وغير عقلاني في الدولة، لكنه عمل على ضم قطاعات مجتمعية أخرى إلى قاعدة نظامه، بما في ذلك قطاعات مدينية سنية (كانت أكثر الأرياف السنية مضمونة للبعث سلفاً وقتها)، ومنها أوساط من «الأقليات» التي جمع بين تأليف قلوبها بمكاسب مادية وسلطوية وبين تخويفها في مرحلة لاحقة من البعبع السني. في المحصلة، ما كان حكماً أقلياً فئوياً، وسع من نفسه وعمل على تكثيرها بصور متعددة، بينما ما يستند إلى أكثرية أهلية اسمية، يجنح لأن يصير أقلياً أكثر وأكثر. ومن أكثر ما يدل على التكوين الفئوي للحكم الحالي رد محازبيه حين يجري انتقاده: لماذا لا تقولون شيئاً عنـ«هم» (الهجري، الفلول، قسد، وغيرهم)، خصوم السلطة اليوم؟ الجماعة يصدرون عن «نحن» و«هم»، وكلتاهما معرفتان طائفياً أو إثنياً. ظاهر أن فكرة الدولة العامة غائبة في المدارك بقدر ما هي غائبة في الوقائع. فحيث هناك نحن وهم، ليس ثمة دولة عامة ولا جماعة وطنية، بل مجتمع عصبيات وسيطرة العصبية الأقوى. وإنما لذلك لا تزال مهمة بناء الدولة على رأس جدول أعمال البناء الوطني، وأول بناء الدولة هو نزع فئويتها (طائفية كانت أم عشائرية أو جهوية). الحقبة الأسدية فوتت هذا الواجب، والبرهة الراهنة تُفوِّته بهمة لافتة. وفي المرتين بفعل تطييف السلطة العمومية. الطائفة ضد الدولة في كل حال، وهو ما يبقى صحيحاً إن سمت الطائفة الأكبر نفسها الأمة، مثلما يقول ويكرر إيديولوجيو الأموية الجديدة. هنا لعب غير مستقيم، يخلط بين الأمة السياسية والأمة الدينية، ويُحيل غير السنيين إلى غرباء. الأمة الدينية ضد الدولة الوطنية، وما يتوافق مع الدولة الوطنية هو فقط أمة المواطنين المتساوين، بغض النظر عن الدين والإثنية والجنس. إلى ذلك فإن السنيين السوريين أقرب إلى أرخبيل مكون من جزر متعددة متفاوتة الحجم، منهم إلى كتلة متضامّة واحدة. والأموية هي التلفيقة الإيديولوجية التي تحاول أن تصنع من هذا الأرخبيل كتلة، أكثرية جاهزة للحكم الجديد. الأموية لا تصلح رؤية وطنية لسورية. إنها إيديولوجية طائفية. للدكتور برهان غليون كتاب صدر في تسعينيات القرن الماضي، عنوانه الفرعي الدولة ضد الأمة، وأطروحته الرئيسية أن فشل المجتمعات العربية في النهوض والتقدم يعود إلى دول عنيفة معادية لمجتمعاتها وتتعامل معها بعنف وعدائية. الكتاب عانى من مشكلة أساسية: الأمة غير معرّفة فيه، وتُغذي كثيراً من صيغ المؤلف الالتباس بين الأمة الدينية والأمة السياسية. وما كان يُسهل من الالتباس أن غليون، على دأب الكتاب السوريين في تلك الفترة، كان يتكلم على الدول العربية، وليس على دولة بعينها، رغم أن أمثلته الضمنية سوريّة في معظمها. اليوم، وقد صار الحكم الأسدي من الماضي، يُمكن أن نقلب صيغة غليون لتصير: «الأمة» ضد الدولة، الأمة الدينية ضد الدولة الوطنية. وهذا ظاهر في تقرير اللجنة الدولية المحال إليه فوق من أن المجازر والنهب والاغتصاب والخطف بحق العلويين مُوِرس باسم الدين، وبرر نفسه به، مارسه أولئك الذي يقولون عن أنفسهم أنهم أمة وليسوا طائفة. المحنة مستمرة (العنوان الرئيس لكتاب غليون هو المحنة العربية)، وجذرها اليوم كما بالأمس هو السلطة الفئوية التي تحكم بالعنف. الدولة و«النوبة» ونختم بنقطة نظرية تتصل بالتمايز بين الدولة والمجتمع. يشيع في التفكير السياسي العربي تصور أن الديمقراطية تعني انعكاس المجتمع في الدولة التي ينبغي أن تكون مرآة له، أو هي ارتباط الدولة بالمجتمع ومصالحه، وأن مشكلة البلدان العربية تتمثل في «الاستبداد»، الذي يُعرّف بانفصال الدولة عن المجتمع. ولا يجري التمييز بين انفصال بنيوي ووظيفي للدولة، يوفر لها استقلالاً عن المجتمع واشتغالاً وفق منطق عام مجرد، وبين كون الدولة قوة خارجية، مثالها الوحيد على ذلك في الزمن المعاصر هو الاستعمار (ونظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا سابقاً، وفي فلسطين اليوم). لكن مشكلة الدولة في المجال العربي ليس انفصالها عن المجتمع، بل بالأحرى عدم انفصالها، وليست في خارجيتها عن المجتمع بل داخلية المجتمع فيها إن جاز التعبير، أي دخول كثير من المجتمع وآلياته العرفية وغير المنظمة وقواه الأهلية في تكوينها (صاغ هذه الفكرة لأول مرة وضاح شرارة، المثقف اللبناني المعروف، في سياق نظره في الدولة والمجتمع اللبنانيين أثناء الحرب الأهلية). ولذلك الدولة غير قادرة على تنظيم المجتمع لكونه متغلغلاً فيها بلا نظام ووفقاً لقواعد غير معترف بها، بل يجري إنكارها أشد الإنكار: الطائفية في الحقبة الأسدية، واليوم ضرب من الطائفية السنية، وإن مع تمايزات جهوية وطبقية ضمنها. ولذلك يمكن القول إننا حيال دولة بالمعنى العربي القديم لكلمة دولة، نوبة في الحكم، تعرف بالسلالة المسيطرة. وللنوبة نهاية مهما طالت، حتى لو ارتدت قناع الأبد. نحن – السوريين – آخر من يحتاج إلى تذكير بذلك. ومجتمع النوبة هو مجتمع العصبيات الذي تكلم عليه ابن خلدون، مع فارق مهم اليوم: لا يقوم مجتمع العصبيات والدولة- النوبة في زمننا دون حماية أجنبية (لكن لن نتوسع في ذلك هنا). الدولة- الأمة (أو الدولة الوطنية) أهم اختراع في الحداثة السياسية بسبب ما يُتيح لها استقلالها عن المجتمع من أن تعمل على تنظيمه وعقلنته، بحيث يصير هو مجتمعاً منظماً، معقولاً، مجتمع دولة. كان الأستاذ عزيز العظمة قد نسب إلى الدول القائمة أنها تعمل على بناء «مجتمع الدولة المكون من أفراد». هذا بدوره كلام عن الدول العربية لا عن دولة بعينها، وكتب هو الآخر في تسعينيات القرن الماضي أيضاً. الحكم غير صحيح وقتها بالتأكيد، فقد كانت العلاقات السلطانية في تقدم عام وكان حافظ الأسد يُعد ابنه لوراثته، لكن التطلع إلى مجتمع دولة مكون من أفراد كان بالفعل، ولا يزال، أساس المواطنة والدولة- الأمة. هناك جانب احترافي في عمل الدولة يتصل بمهنة الحكم في أوجهها المختلفة: الإدارة، المالية، الاقتصاد، القضاء، التشريع، الشرطة، الحرب، الدبلوماسية، العلاقات الدولية وغير ذلك كثير؛ وجانب آخر، تمثيلي، هو ما يتيح للمجتمع أن يدخل في الدولة دخولاً منظماً معقولاً، ويؤثر فيها. التمثيل مَعبرٌ وحَدٌ في آن. معبر يتيح الاتصال ذهاباً وإياباً بين المجتمع والدولة، وحد بمعنى أنه يقتضي إذن مرور، يحول دون أن يدخل المجتمع في الدولة بلا نظام، أي ككتل وأجسام، كعمشات وحمزات وعشائر وما شابه. إذن المرور الأكثر عدالة في عصرنا هو الانتخابات الحرة. يمكن تشبيه التمثيل بعملية هضم الغذاء. يدخل الغذاء إلى الدم بعملية استقلاب، تعقب الهضم، والتمثُل (أسيميليشن)، وليس في صورته الخام مثلما يحدث في عملية الأكل. وعبر هذه العملية تتجدد العضوية وتستمر في الحياة. تجدد الدم السياسي يقتضي شيئاً مماثلاً، عمليات التمثيل التي توفر للمجتمع الدخول في الدولة، لكن بصور «مهضومة» وقابلة للتمثل. الاحتراف والكفاءة والخبرة تؤسس لاستقلال المهنة السياسية بوصفها جملة أنشطة تنظيم المجتمع، وبالتالي استقلال الدولة، فيما يقتضي التمثيل عبر عمليات الانتخاب حرية المجتمع، بما في ذلك حرية أنشطة تمثيلية غير تقليدية مثل الاحتجاج والإضراب والتنظيم والإعلام. الحداثة السياسية تركيب بين استقلال الدولة وحرية المجتمع. … والخلاصة العامة أنه لا يمكن توحيد الأرض والشعب، بينما الدولة طائفية. العدالة والمنطق المجرد والتجربة التاريخية السورية تزكي كلها نزع طائفية الدولة كمنطلق لوطنية سورية معافاة. هذا صحيح اليوم بقدر ما كان صحيحاً في الحقبة الأسدية.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الوطنية السورية وحكم الإسلاميين الراهن
-
في نقد النصر
-
إبادة جوّالة من الساحل إلى السويداء: حدث أم نمط؟
-
اليوم كما بالأمس: الطغيان والطائفية هما المشكلة في سوريا
-
محنة الوطنية والدولة في سورية اليوم
-
الإرهاب سورياً: أمامنا، وراءنا، أم معنا؟
-
تراثان فكريان سياسيان في سورية: أي دروس للراهن؟
-
عداليون وحضاريون: معيارا العدالة والحضارة في النقد الاجتماعي
...
-
مستقبل عدم: إسرائيل وصراعاتها الوجودية المستمرة
-
أفراد أذكياء وبنى اجتماعية غبية
-
ممسوك أم متماسك؟ المجتمع السوري بين صورتين
-
انتهت الأزمة، ابتدأت الأزمة
-
الدولة المترددة: عن الاعتدال والتطرف في سورية اليوم
-
العناية بسورية، البلد غير المحبوب من أهله
-
تعاقد سوري: نزع السلاح مقابل المشاركة في السلطة
-
المعجزة والأبد والمستحيل: في الشوق إلى الممكن
-
تكثير السلطة: لماذا الحكم منحدر في مجالنا؟
-
سقط النظام، الثورة لم تنتصر، والصراع السوري مستمر!
-
الحزب السياسي وأزمة الذاتية المعاصرة
-
بعد أربعة أشهر، سورية من هنا إلى أين؟
المزيد.....
-
أصالة في بيروت وأحمد حلمي وعمرو يوسف يخطفان الأنظار بحفل للـ
...
-
ميكرفون مفتوح يلتقط لحظة حديثه مع ماكرون عن بوتين.. ماذا قال
...
-
ترامب بعد لقائه بزيلينسكي: -التوصل إلى وقف إطلاق النار ليس ش
...
-
بصفقة دواك.. ليفربول يتخطى 227 مليون إسترليني من بيع لاعبيه
...
-
زفاف جندي إسرائيلي مبتور الساقين: حقيقة أم مجرد دعاية؟
-
-الجميع يترقب نهاية الحرب-.. هل بات وقف إطلاق النار بغزة وشي
...
-
مصر تحقق المليون السكاني الأخير بأبطأ وتيرة منذ سنوات
-
ترامب يوضح موعد حسم الضمانات الأمنية لأوكرانيا لتأمين اتفاق
...
-
أمن الدولة تخلي سبيل ماهينور المصري بكفالة 50 ألف جنيه في ال
...
-
بعد توتر مع فرنسا وأستراليا.. نتنياهو يعقد اجتماعا طارئا بشأ
...
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|