أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - المتن والهامش: جولة أفكار بين سورية والعالم















المزيد.....


المتن والهامش: جولة أفكار بين سورية والعالم


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 8465 - 2025 / 9 / 14 - 20:16
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


أسئلة علي جزو
وصف فرانسوا ميتران الأسد الأب بأنه مزيج من الصبر والعنف. فإذا أضفنا إليهما الأبدية صرنا أمام عنف بلا نهاية، وبالتالي بلا معنى. في الطور الثاني من الأبدية البائدة مع الأسد الابن وجدنا سوريا كما خلصت انت في كتاباتك أكثر من مرة رازحة تحت نوع من الحكم السلطاني. ماذا عنى لك على الصعيد الشخصي كل هذا الإرث الباهظ ليلة الثامن من كانون الأول ٢٠٢٤؟
كنت سعيداًُ جداً بسقوط النظام. كانت تلك نهاية كبيرة، زلزالية، وكان يمكن أن تعقبها بداية كبيرة، لكن ما وقع في الشهور اللاحقة كان صغيراً وضيقاً وأنانياً، وغير لائق بصراع كبير ومعاناة مهولة، مثل صراعنا ومعاناة ما لا يحصى منا بعد الثورة، وقبلها خلال نحو جيلين.
بعد سكرة الابتهاج بنهاية الأسدية، جاءت الفكرة بالتدريج، فكرة أني على الصعيد الشخصي خسرت شيئاً مهماً جداً: العدو. حين تكون في اشتباك طوال ثلاثة أرباع عمرك مع خصم، يصير جزءاً منك، تتشكل انفعالاتك واستعدادك السياسي الرئيس ومواضيع كتابتك ومساجلتك الضمنية متشكلة كلها بهذا الصراع الطويل. لقد كان صراعا معرفاً لي، مشكلاً لهويتي، إلى حد أنه يمكنك القول إن سقوط الحكم الأسدي أدخلني في أزمة هوية، أحاول أن أعطيها حقها وأخرج منها بترو، وأقدر أن ذلك سيأخذ وقتاً لا أستطيع تقديره. يقتضي الأمر ما يقارب حداداً على العدو، وداعاً لائقاً له، هما في الواقع حداد على جانب من النفس ووداع لحقبة طويلة من العمر. أحاول القيام بذلك عن طريق استحضار الحقبة الأسدية وإدراجها في الكتابة في سياق أطول، تاريخ سورية المعاصرة منذ البدء، أي بصورة ما إدراك معقوليتها. ما أرفضه هو التعامل معها كعقود ضائعة وبلا معنى، والبدء اليوم من الصفر أو العودة إلى ما قبلها. هذا مسلك طائش، يشبه تعامل بعضنا منع تجربة السجن كخسارة محض أو سنوات ضائعة من العمر. يبدو لي أن من فعلوا ذلك منا بتروا شيئاً من أنفسهم، وحرموا أنفسهم من تطور نشط ومنتج بعدها.
فرص سورية في الديمقراطية والتنمية السياسية وثيقة الصلة بالاعتراف بالحقبة الأسدية كطور عضوي من تاريخ البلد، يغطي نصف كامل تاريخ سورية المعاصر. عكس ذلك عدمية، وتأسيس لطغيان طائفي لا يمكن أن يشبه شيئاً أكثر من شبهه بالحكم الأسدي. ننفصل جدياً عن الأسدية بتذكرها والانكباب عليها، وليس بلعنها وتناسيها.
هناك جهد مواز للحداد المزدوج والانفصال عن الأسدية لا أريد الكلام عليه هنا.
اليوم، هناك حقل جديد للصراع واستقطابات جديدة، والمشهد عنيف جداً فيزيائيا ورمزياً. الحاجة لتفكير نقدي مترو ربما تكون أشد من أي وقت مضى.

انتهت المأساة السورية العامة بسقوط نظام الأبد ليلة الثامن من كانون الأول ٢٠٢٤. على الأرجح هي لم تنته. نحن أمام مآسي جماعات سورية الآن. مجازر الساحل ثم السويداء. والخشية مما يمكن أن يتعرض له سكان مناطق الإدارة الذاتية الكردية. هل يمكن القول إن المأساة نفسها تتفرق تتمزق وتتباعد عن أصلها ومنشأها. أم أن الأمر كان بالأساس على نحو يشبه الآن لكننا لم ننتبه إليه أو انتبهنا غير أننا لم نقر به ونتخذه مدخلاً لفهم أوضاعنا ثم تجاوزها ومعالجتها إن أمكن، أي الإقرار لا بوحدة سوريا، بل بكون سوريا بلداً قابلاً للوحدة، أم العكس ربما لم تعد هناك وسائل وشروط تدعم هذه الوحدة.
لم تنته المأساة، دخلنا في طور جديد من الصرع، وليس في سلم سوري واسع القاعدة.
أعتقد أن سورية مثل غيرها من البلدان قابلة للوحدة مثلما هي قابلة للتفرق والانقسام. الأمر رهن بكيفية إدارة التمايزات الاجتماعية الموروثة، وتعظيم القواسم المشتركة وتوسيع الأرضيات الجامعة. لا تتوافق مصالح الناس من تلقاء نفسها حتى لو لم يكونوا متعددي المنابت والجذور، التوافق مسألة حسن سياسة وحسن تدبير للمنازعات المحتملة. ما حصل خلال معظم تاريخ البلد، وهو ليس بالتاريخ الطويل، بالكاد 107 سنوات، هو بالعكس، رعاية الانقسامات والنشر المتعمد لعدم الثقة والارتياب. هذا صحيح خلال معظم الحقبة الأسدية التي تغطي وحدها أكثر من نصف تاريخ البلد، وصحيح خلال سنوات الانتداب الفرنسي التي تغطي ربع تاريخ سورية، ويبقى لدينا نحو ربع قرن بين الاستقلال وعام 1970 بسجل مختلط. في سنوات هذا السجل المضطربة حدث شيء استثنائي: زوال سورية انتحاراً في الوحدة مع مصر. هرب السوريون العاجزين عن حل مشكلاتهم إلى حل بلدهم في كيان آخر. هذا المنزع الانتحاري يجب إبقاؤه في البال كي نفهم البلد أفضل.
سورية ربما تختلف بعض الشيء عن غيرها في أنها بلد بلا تقاليد فوق كونها فتية الكيان، وما عرفه تاريخها من نزعات متطرفة، قومية عربية وإسلامية وطائفية، يحيل في رأيي إلى فقدان التقاليد لا إلى قوتها. وهذا مدخل محتمل إلى الإبداع، لكنه مدخل مرجح إلى العنف الفائق. وقد خبرنا عنفاً فائقاً، جعل من سورية مسلخاً بشرياً. والصفحة لم تطو، ووراءنا سلفاً موجتان من المجازر.
هذا بلد تراجيدي فعلاً، تاريخه خلال ثمانية عقود بعد الاستقلال يتراوح بين غير مستقر وعنيف جداً. لكن وعي النخب السورية، السياسية والثقافية والدينية، هو وعي ميلودرامي بالأحرى، يفكر في الصراعات السورية بأنها صراعات بين حق وباطل، وليس بين حق وحق بحسب تعريف أرسطو للمأساة. هذا منشأ محتمل للتطرف والمنازع الإلغائية والعدمية من جهة، ولفقر تفكيرنا السياسي والأخلاقي والديني من جهة ثانية. نحتاج إلى روح الاعتدال والديمقراطية، الروح التي تقبل بتوزع الحق بين الناس وتعمل على تنمية فرص التفاهم عبر النقاش المعقول والبحث عن الحلول السياسية للمشكلات الاجتماعية.
فإذا كنت تسألني هل أصوت للوحدة السورية أم للتقسيم، فجوابي هو الوحدة. لدينا بلد عمره فوق قرن، يعاني من مشكلات كثيرة، لكنها غير ممتنعة على المعالجة والإصلاح. بالمقابل، أرى أن الكيانات البديلة التي يجري التفكير فيها ستحمل كل مشكلات سورية اليوم، وقد لا يتماسك أي منها دون تطهير عرقي ومذابح إبادية، فضلاً عن أنها ستكون أطراً أضيق للتفاعل البشري والترقي السياسي والأخلاقي. لكن الوحدة يمكن أن تأخذ أشكالا مختلفة: لامركزية بسلطات محلية حقيقية (ويجب أن تكون منتخبة حتى تكون حقيقية)، أو اتحادية (فدرالية)، أو صور من الحكم الذاتي الأهلي. وعلى ضوء تجاربنا الأحدث وطوال زمن ما بعد الاستقلال، فإنه لا بد من ابتكار جديد للوحدة السورية. أصوت ضد الوحدة السورية القديمة، مثلما ضد الانفصال.

هل يمكن الحديث اليوم عن سوريا عشائرية مثلما يقال سوريا الطائفية أو الاسلامية أو البعثية. أقصد النزعة التبعية التي تستولي على الحيز العام وهي ضمنا نزعة طاردة للقيم المدنية المشتركة؟
أليس ذلك نتاج ضعف الوطنية السورية وصعود قوة الهويات الفرعية والروابط الأهلية؟ هذا ما أراه. أكثر مما أننا نعاني من أزمة وطنية حادة، نحن نعاني من أزمة مواطنة مزمنة، جرت التغطية عليها بتحويل الوطنية إلى أيديولوجية وقاعدة للولاء لمن في السلطة. البعثية والإسلامية تحجبان أزمة المواطنة باقتراح أمتين غير مطابقتين لواقع وتاريخ الكيان السوري المعاصر، واشتقاق الوطنية منهما حصراً. هذا غرّب غير العرب عن سورية البعثية قومياً، وغرب الجميع حقوقياً ومواطنياً. واليوم تجنح الإسلامية إلى تغريب غير المسلمين وغير المسلمين السنيين دينياً ومذهبياً، وتغريب الجميع مواطنياً وحقوقياً كذلك. والمعالجة الصحيحة لهذا الوضع المناقض لمنطق الدولة- الأمة (الدولة هي سورية والأمة هي السوريين) وللعدالة هي المواطنة المتساوية. العشائرية والطائفية هما نتاج التمييز، وبخاصة حين تمارسه السلطات العمومية. لا ينبغي أن تكون هناك مشكلة في تصوري في الولاء التفضيلي لأفراد أو مجموعات لجماعتهم الأهلية، يلتمسون فيها الثقة والدفء والأمان. المهم منع المنطق الأهلي من التسرب إلى الدولة.
والمواطنة ليست الحل السحري لجميع المشكلات، إنها الشرط اللازم وغير الكافي لقيام الدولة الأمة. هناك حقوق ثقافية ودينية للجماعات، لا ينبغي أن يحول دونها حائل. ثم هناك جبهات الصراع الاجتماعي والسياسي لمحاربة الفقر والبطالة ومشكلات التعليم والصحة، وهي جبهات النضال المتجددة في بلد استطاع الوقوف على قدميه.


الحديث عن فدرلة سوريا أو حتى تقسيمها أصبح متداولاً على نحو يومي وكثيف. يترافق ذلك مع عنف منفلت إذا ما استمر واتسع صرنا في الطور الثاني من تدمير سوريا كدولة ذات حدود متعارف عليها الى اليوم على الأقل من الناحية النظرية.
في ضوء التطورات الأخيرة، ما السيناريو الأقرب لمستقبل سوريا: من دولة موحّدة شديدة التمركز، إلى لامركزية واسعة، أم تقسيم فعلي يخضع لشروط الأمر الواقع التابع لسيطرة الميليشيات؟
كما قد تتوقع، فإن إجابتي ضد المركزية المناقضة للديمقراطية وللتعدد السوري المتعدد المستويات، وضد التقسيم كذلك. مع اللامركزية، إذن؟ أعرف أن هناك من يتكلمون على الفدرالية كثيراً، لكن يبدو لي أنهم إما لا يعرفون الخرائط الجغرافية الديمغرافية السورية، أو يعرفون ولا يبالون، إن بدافع الطمع أو المزايدة أو الطيش. ما هي الأقاليم الفدرالية السورية؟ وعلى أي أساس نميز بينها؟ جغرافي أو إثني و/أو ديني؟ إذا كان التمييز جغرافياً، فالكلمة الأنسب لذلك هي اللامركزية وتعزيز السلطات المحلية في المحافظات، أو توزيع مغاير للأقاليم السورية، يستند إلى اعتبارات تنموية وإدارية وغيرها، مثلا إقليم الجزيرة (الرقة ودير الزور والحسكة) وإقليم حلب وتتبعه إدلب، وإقليم الوسط (حمص وحماه)، وإقليم الساحل (اللاذقية وطرطوس) وإقليم دمشق وإقليم الجنوب (درعا والسويداء والقنيطرة). أو ربما نخص كل من الحسكة والسويداء بإقليم بالنظر إلى ثقل الكرد في الأولى والدروز في الثانية، وضرورة أن ينعكس هذه الثقل في إدارة إقليميهما. ما إذا كان المعيار إثنياً/ دينياً، فأين نضع حدود الأقاليم الفدرالية؟ لا الكرد ولا العلويين، ولا حتى الدروز، متركزون في مناطق جغرافية تشكل أقاليم متواصلة. المناطق التي تسيطر عليها قسد اليوم ربما يكون أكثريتها من العرب. وإذا فكرنا في الحدود الشمالية لسورية، فإن مناطق الكثافة الكردية متقطعة، دون أن يكون ذلك ذنب أحد. هناك مذنب بعثي بخصوص الحزام العربي، لكن الحزام يغطي أقل من ثلث الحدود السورية التركية الطويلة، نحو 275 كم من أكثر من 900. تل أبيض ومنبج وجرابلس بأكثرياتها العربية ليست ذنب أحد. والعلويون منتشرون اليوم، ومنذ ستين عاماً عل الأقل، في مناطق من حمص ودمشق، وبالطبع مدن اللاذقية وطرطوس وجبلة وبانياس، التي يسكنها كذلك سنيون وبعض المسيحيين. والمسيحيون منتشرون في معظم أرجاء البلد من ديريك إلى اللاذقية، ومن إدلب إلى درعا والسويداء. السويداء فيها أكثرية درزية كبيرة جداً، لكن ربما يقيم أكثر الدروز في جرمانا وأشرفية صحنايا.
هذا للقول إن الذهنية التي تحكم الكلام على الفدرالية والتقسيم اليوم على قرابة مع الذهنية التي عولجت بها مشكلات البلد طوال عقود: مزيج من جهل الوقائع ومن الانتهازية واللامبالاة بالعواقب. هذا هو التفكير الذي يجيب أن نطلقه لا الذي نتمسك به. وهو ما ينطبق أكثر على دعوات التقسيم. فلماذا لن تقوم حروب على الأرض والموارد والسكان بين السوريات الصغيرة الجديدة؟ وإذا كان تكوّن هذه السوريات الأصغر نتيجة إرادة انفصال بعض المناطق، وهو ما يتماهى به البعض أكثر من غيرهم في هذه المناطق ذاتها، فكيف لا تحدث صراعات عنيفة بين من يريدون الانفصال ومن لا يريدون؟ أخشى أن هذه الدعوات استمرار مختلف للنزعة الانتحارية التي رأيناها في الوحدة السورية المصرية. سورية مريضة بالفعل، والصحيح معالجة المرض وليس قتل المريض. والمرض اليوم هو حكم فئوي متطرف، أرى أن الصحيح توحيد القوى لمواجهته، وليس تقسيم البلد إلى كيانات سترث مشكلات سورية الكبيرة، دون أن تملك ذاكرتها وتاريخها.
وكما ترى، أفضل موقفاً متحفظاً، ومحافظاً إذا شئت، يعمل على إصلاح ما باليد، بدل التعجل في دفن شيء لا يمتنع على الإصلاح، ويشكل كياناً أغنى إن أصلح.
يجب أن أضيف أني لا أعبد وحدة سورية ولا يثير جزعي تقسيمها. الأولوية للحرية وكرامة الناس وليس لوحدة البلدان، وسورية الموحدة التي أدافع عنها هي فقط التي تؤسس وحدتها على حرية وكرامة مواطنيها كلهم، أفراداً وجماعات.


ثمة مقولة لهنري برغسون: “إذا أردت أن تلغيني صنفني”. يقصد برغسون أن للإنسان هويات متعددة، وحصره ضمن نطاق هوية وحيدة هو إلغاء لهوياته الأخرى، وبالتالي إلغاء له بكليته.
هل هي حال سوريا اليوم في دوامة الإلغاء المتبادل. وما هي عواقب هذه الحال؟
التصنيف منطق هويات، إلحاق الأفراد بالجماعات، جماعات الأصول، والحكم المجمل على هذه الجماعات بأنها كذا. وهذا المنطق في صعود في سورية منذ عقود، بارتباط مع الاستخدام السلطوي للوطنية وأزمة المواطنة من جهة، ومع تراجع إيديولوجيات العمل على الصعيد العالمي، أعني الدعوات إلى تغيير العالم والثورة. فور تداعي الشيوعية السوفييتية ومعسكرها، وكانت في تخثر وجمود طوال عقدين قبل السقوط على الأقل، صعدت إيديولوجيات الهوية والنزعات الحضاروية التي تعرف الحضارات بالعقائد والأديان، أي بالماضي. في أزمنة التغيير تتصدر ثنائية الذات والموضوع، وفي أزمنة الهوية تتصدر ثنائية الأنا والآخر. الذات مبدأ فعل تغييري، والأنا مبدأ فعل تصنيفي.
عزز من صعود فكر الهوية في سورية الأبد الأسدي الذي يعني عملياً إعدام المستقبل والفعل التغييري والذات الفاعلة، وترك باب الماضي وحده مفتوحاً، أي باب الهوية الموروثة. ثم أن المجتمع السوري مر بتجارب نازعة للأمان والثقة منذ النصف الثاني من السبعينات، وهو ما يدفع مطالب الأمان والثقة إلى الصدارة. أنت تعرف رياضتنا الوطنية المتمثلة في سؤال من لا نستدل من اسمه على أصله وفصله، من أين هو أو هي، وقد نسعى وراء تفاصيل أكثر كي نستطيع موضعته، أو تصنيفه. وهو ما يدعو إلى القول إن ما يحفز إلى التصنيف، ليس إرادة الإلغاء حصراً، بل طلب الأمان والثقة.
نحتاج إلى نظام أمان وثقة وطني، إلى سلم سوري جديد، كي نتحرر من هذا "الهابيتوس" المترسخ في تكويننا. ما دام الأمان فئوياً، فالأرجح أن تستمر النزعة إلى وضع بعضنا في فئات أو خانات، تنفي شخصيتهم وفرادتهم وتمردهم كي تشعر بالأمان حيالهم.
لكن التمرد واجب في كل وقت، وفي كل وقت نحن مدعوون إلى الامتناع عن التصنيف، ولو مجازفين بأمان أقل. وفي الأصل من أين يأتي التغيير إن لم يبادر بعضنا إلى الخروج على الأصناف والتصنيفات، والانفلات من الحتميات الاجتماعية التي تشدهم إلى المنبت والجذر والأصل؟ بقدر ما يلزم أن نفهم جذور المنازع التصنيفية، بقدر ما يتعين التمرد عليها في سلوكنا الفردي. نحن منتهكو حدود وعابرون للفئات، لا نغوي أن غوت غزياتنا ولا نرهن رشادنا برشادها حصراً. هذا ما أرجو أني أفعله في حياتي الشخصية، وإن كنت أبذل كل جهد للفهم في عملي الكتابي.

كانت السياسة العالمية، مع ما تحمله من أثر مباشر على بلداننا في الشرق الأوسط، محل تنافس مضبوط ونوع من التوازن الفكري، قناعات ومبادئ وطرق عيش، قبل سقوط المعسكر الاشتراكي بأكمله. بعدها مضت الأمور في مسالك ضبابية، صعبة الرؤية والتصنيف. أغلب الظن أننا منذ ذلك الحين نشهد نماذج فكرية سياسية ذات اتجاه واحد، أننا كأفراد نملك هوامش للحركة والتأثير والتفاعل. لكننا لسنا جزءاً من سياق، وفقدنا ما يمكن ان يسمى تياراً فكرياً وسياسياً. هل ترى هذا التوصيف دالاً على أحوالنا في الحقيقة، وما السبيل إلى خلق تيار مجتمعي جديد خارج حركية الاتجاه الواحد؟
أكثر من تيار فكري وسياسي. كانت الاشتراكية والدعوة الشيوعية مشروعا لتغيير العالم، وقوة منازعة للمعسكر الرأسمالي الغربي الذي كانت تجري مطابقته بالاستعمار والاستغلال والرجعية حتى ثمانينات القرن العشرين، في العقود الأخيرة صار تعريفاً للسواء الاجتماعي والسياسي والحقوقي والاقتصادي والثقافي، فلم يعد له خارج ولم نعد نستطيع موضعته ونسبنته.
انهار "المعسكر الاشتراكي" وأنا في السجن، فانضافت هزيمة فكرية إلى هزيمتنا السياسية، وأخذنا نعاني من أزمة هوية كذلك.
كنا قبل السجن متمردين اجتماعياً، منخرطين في منظمات سياسية تناضل من أجل التغيير، وتعمل على إنتاج معرفة بواقع مجتمعنا. تفاعلنا مع مركب الهزيمة/ الأزمة أخذ أشكالاً مختلفة. بعضنا حافظوا على التمرد الشخصي دون عناية بالمعرفة. وبعضنا تخلوا عنهما معاً، وركنوا إلى العائلة والروابط الأهلية. وبعضنا اعتنوا بمعرفة من نوع ما، دون تمرد شخصي. وبعض رابع ثابر على القديم، معرفة وسلوكاً، لكن المعرفة كانت تتقادم والسلوك لم يعد ثورياً.
يمكن أن نلام، نحن الذي اخترنا التمرد الشخصي ومحاولة تطوير معرفة تتجدد، على أننا لم نحاول تجديد أدوات النضال السياسي، من منظمات أو أحزاب، أي على أننا كنا لا سياسيين بقدر طيب. وهو ما أعترف به بطيبة خاطر وأقر بأنه قصور كبير. ولي في ذلك عذر أو عذرين. الأول والأهم هو أني بعد السجن لم أجد في نفسي الكفاءة والميل إلى النشاط السياسي. والثاني أن الشروط السورية لم تكن مواتية لعمل تحرري ثوري. تسمح بعمل سري أخذ يبدو لي منذ ذلك الوقت غير ثوري، أو بعمل علني داجن، غير ثوري بالتعريف.
لكن ما إن بدأت الثورة حتى انخرطت فيها بأدواتي، وفقدت فيها أهل وأحباب وأصدقاء.


تحدث تيودور أدورنو عن “الأدب الصغير: تأملات في حياة معطوبة” بمقالات قصيرة تتناول جوانب مختلفة من الحياة العامة بعد الحرب العالمية الثانية، أي أدب الحياة الدنيا إذا صح التعبير مقابل الأدب الكبير وفق ابن المقفع الذي وجهه للملوك والخاصة. قد تكون الخاصة في حالتنا هي النخبة السورية. قدرة الأعمال والسير الأقل شهرة على كشف التناقضات الاجتماعية. كيف يمكن للسوريين أن يتحدثوا عن أحزانهم الصغيرة. عن عائلة تبحث عن سكن لكنها لا تجده. عن حلم شراء منزل. عن شاب يبيع كل ما يملك محاولاً الهرب من سوريا، لكن رحلة الهرب تفشل. أقصد أننا من خلال سير الأفراد البسيطة إذا ما قورنت بالمتن المطحون يمكننا فهم أوضاعنا. قد يكون الهامش والنائي أفضل طريقة لفهم المتن والقريب. وسوريا بلد مليء بالهوامش، إن لم تكن هي نفسها اليوم بلداً هامشياً.
الحياة المعطوبة هي شرطنا نحن أيضاً. وهي بقدر كبير شرطي الشخصي منذ عقود، وإن كنت أفضل الكلام على حياة معلقة، أو حياة مرجأة، في انتظار "حياة كالحياة". الحياة المعلقة تعني أن عليك أن تعمل وتفكر، وتحيا، في المابين. ما بين زماني بانتظار الحرية أو عودة الغائبين أو الخلاص، وما بين مكاني بعد سقوط النظام وقدرتي على الحركة بين "المنفى" و"الوطن".
ويبدو لي أدب الحياة الدنيا وأفضلية الهامش والنائي مسألة نوع كتابي في جانب منها، وفي جانب آخر مسألة جيلية. أعتقد أن الأدب، وبخاصة الرواية، ثم الأبحاث الميدانية، أقدر على التعاطي مع الهامشي والصغير والبسيط، من نوع الكتابة الفكرية السياسية التي أكتبها وبعض أمثالي. أحاول بقدر المستطاع إدماج العياني والخبرة الحية في الكتابة، وأفعل ذلك كثيرا في واقع الأمر. وأدافع عن الكتابة المسكونة أو الآهلة بالبشر، التي تذكر أسماء وسيراً وحوادث بعينها وتذكرات وتجارب وتفاصيل. أفعل ذلك بين وقت وآخر، وأراه مخصباً.
الجانب الجيلي في الأمر يحيل إلى الى ما ورث جيلي من تجارب كتابية. كتابة أساتذتنا مجردة، خالية من البشر، مقاطعة للتفاصيل، ولا تحضر فيها حتى خبراتهم هم الحية إلا في نطاقات ضيقة. جيلي متتلمذ على هذا النهج الكتابي من جهة، لكنه اكتوى بنار الدولة وقمعها وسجونها، فحضر جانب التجربة الشخصية بقدر أكبر. "أدب السجون" في العقد الأول من هذا القرن بخاصة كان نتاج سجناء سابقين، وهو وقتها كتابة ممنوعة وهامشية.
لكن قد يكون الجيل الأصغر، الأربعينات ودونها، أفضل تأهيلاً لكتابة تفاصيل وهوامش وحيوات مطحونة. هل هذا يحدث؟ أنت أقدر على الإجابة على السؤال مني.


أليس من الأفضل، اجتماعياً ونفسياً، تناول سوريا من مبدأ المرض. أعني أننا أمام بلد ومجتمع مريضين، إن لم نقل موبوءين بأصناف شتى من العلل والآفات. على هذا يمكن على الأقل وضع يدنا على الجرح، على السبب الرئيس من مبدأ حياد الطبيب إزاء المريض وجسده، والتزامه المفترض في تقديم العلاج وفق أسس طبية صارمة.
بلى، أفضل. وهذا ينطبق على بلدان أقل مرضا من سورية، ومن باب أولى هذا البلد المأساوي الذي سالت فيه دماء كثيرة، والذي لم يحدث قط أن تداول أبناؤه في شأنهم المشترك في شروط من الأمان المتساوي والحرية. والأصل في الحاجة إلى السياسة أن الكتل البشرية المكونة من مئات الألوف والملايين وعشرات الملايين في حاجة إلى قواعد عاقلة وعادلة تسير عليها لأننا لم نوجد في العالم مزودين بغرائز توافقية تضمن ألا نتنازع ونتناحر. والمعرفة المغتنية بالمعطيات الموثوقة وبروح التواصل تسعف في رفد السياسات بما يضمن لها قدراً من السداد. نحن محتاجون إلى أن نتكلم مع بعضنا بمعرفة ووضوح وإقناع. السياسة بحسب حنه ارنت هي الكلام والفعل، وهذا الأخير يجنح نحو العنف المجرد أو الإرهاب بقدر ما يُستغنى عن الكلام المعقول المقنع. حين نكون محرومين من الكلام نعبر بالدموع (النساء يبكين أكثر لأنهن محرومات من التعبير عن أنفسهن أكثر من الرجال)، أو نلجأ إلى العنف القاتل، أو "نطق" ونموت مقهورين.
وبرأيي أننا لا نجيد الكلام خلافاً لما يتصور عنا من أننا أهل كلام لا أهل فعل. نحن أهل كلام سيء. وما نقوله هو أما تعبير عن الانفعالات المباشرة، أو هو كليشيهات وتعبيرات معلوكة، أو جمجمة مشوشة لا تبين. والمهن الكلامية الأساسية، المحاماة والمهنة القانونية بعامة، ثم الفلسفة والكلام المعقول أو المهن الثقافية بعامة، ثم التحليل النفسي كمجال للمعرفة كما للتعلم، تبدو إما غائبة تماماً أو هي في وضع مزر. إذا كنا نتطلع إلى الديمقراطية، فعلينا أن نطور كفاءاتنا الكلامية.
وأتصور أن فقرنا الكلامي محدد بثلاثة أشياء: لغوي، فاجتماعي، فسياسي. عربيتنا غير مطواعة للكلام الشخصي الطليق والمعبر، والفصاحة لدينا خاصية للكمات وليس لمضمون ما تنقل. المطلوب هو العكس، تفكير فصيح، وتعبير حر ومرن، وهو ما يقتضي فتح أقنية مع المحكيات. ويحيل المحدد الاجتماعي إلى التربية الباكرة وبنية الأسرة، مستوى الفردية في المجتمع. الفرد يحتاج إلى كلام واضح يعبر به عن نفسه كي يصير فرداً. والنساء محرومات من الفردية أكثر من الرجال، أي من السفور الكلامي. ويتصل المحدد السياسي بحرية التعبير، وبالتجارب التي تقبل التعبير عنها ولا تتجاوز قدرتنا على التسمية والوصف مثل المجازر والإبادات. هذه تقتل الكلام فيما تقتل.
ولكن قبل كل شيء علينا أن نعمل على محو الأمية الأبجدية. مئات ألوف الأولاد السوريين فاتتهم فرص التعلم في سنوات صراعنا الطويلة القاسية.
ويبقي أني أخشى، يا عزيزي علي، أنه ليس هناك أطباء مجتمع محايدون، وأن استعارة المرض والطبيب حين تنقل من مجال الأفراد وصحتهم إلى مجال المجتمع والسياسة يمكنها أن تكون خطيرة، وقد تبرر أشنع صور الطغيان. تنافر المصالح في المجتمعات، وحتى النزاع، ليس شرطاً مرَضياً، إنه "حالة الطبيعة"، إذا استعرنا تعبير توماس هوبس. لكن حالة الطبيعة يجب أن تتحول إلى حالة المدنية أو السياسة كي نحد من العنف إلى أقصى حد. العقد الاجتماعي الذي تكلم عليه هوبس بين آخرين ليس واقعة تاريخية، لكنه تعريف للواجب السياسي. ونحن اليوم هنا، في حالة هوبسية من حرب الجميع ضد الجميع، وفي حاجة إلى عقد اجتماعي جديد.



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- بين ماضي سورية وحاضرها: بدايات مهدورة ومشكلات عسيرة
- حل الإخوان السوريين واحتكار التمثيل السني
- الوطنية السورية وبدائلها
- سورية بين ثلاث مدارس للحكم والسياسة
- أي سلطة في سورية، أي معارضة، وأي مستقبل؟
- «الأمة» ضد الدولة: في جذور فشل بناء الدولة في سورية
- الوطنية السورية وحكم الإسلاميين الراهن
- في نقد النصر
- إبادة جوّالة من الساحل إلى السويداء: حدث أم نمط؟
- اليوم كما بالأمس: الطغيان والطائفية هما المشكلة في سوريا
- محنة الوطنية والدولة في سورية اليوم
- الإرهاب سورياً: أمامنا، وراءنا، أم معنا؟
- تراثان فكريان سياسيان في سورية: أي دروس للراهن؟
- عداليون وحضاريون: معيارا العدالة والحضارة في النقد الاجتماعي ...
- مستقبل عدم: إسرائيل وصراعاتها الوجودية المستمرة
- أفراد أذكياء وبنى اجتماعية غبية
- ممسوك أم متماسك؟ المجتمع السوري بين صورتين
- انتهت الأزمة، ابتدأت الأزمة
- الدولة المترددة: عن الاعتدال والتطرف في سورية اليوم
- العناية بسورية، البلد غير المحبوب من أهله


المزيد.....




- رئيس الوزراء القطري: الهجوم الإسرائيلي لن يوقف جهودنا للوساط ...
- خرافات وحقائق حول رائحة الفم الكريهة
- حرب -لا رابح- فيها.. أوروبا تتوحد ضد سياسة ترامب الجمركية
- من مصر إلى ألمانيا..كوكولا وماكدونالدز وأخواتها تُعيد تعريف ...
- أجزاء من -القنبلة الذرية- في طعامك ومطبخك .. قد تكون قاتلة! ...
- إيقاف سباق إسبانيا للدراجات في مدريد نهائيا إثر اشتباكات بين ...
- آلاف الفنزويليين يلبون دعوة مادورو للتدرب على السلاح استعداد ...
- %93 من الطيارين الألمان يأخذون -قيلولة- أثناء الرحلات.. هل م ...
- تحكمك الزائد قد يدمره.. ابنك ليس صدى أحلامك المؤجلة
- فيضانات جنوب السودان تُشرد الآلاف وتحذير أممي من تفاقم الأزم ...


المزيد.....

- المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية / ياسين الحاج صالح
- قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي / رائد قاسم
- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - المتن والهامش: جولة أفكار بين سورية والعالم