أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - يا زميل! في وداع حسن النيفي














المزيد.....

يا زميل! في وداع حسن النيفي


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 8561 - 2025 / 12 / 19 - 19:18
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


رحل حسن النيفي دون مقدمات. أقلّه دون مقدمات يعرفها أصدقاؤه وزملاء سنوات سجنه المبعثرين في بلدان كثيرة. يبدو أنه نقل إلى المشفى لمرض ألمّ به في فرنسا، ورحل خلال أيام قليلة.
في الثالثة والعشرين من عمره، كان حسن في طالباً في كلية الآداب في جامعة حلب حين اعتقل عام 1986، وهذا في أطار حملة واسعة في بلدات وأرياف حلب الشرقية جمعت فوق أربعين شخصاً، اتهموا بـ"بعث العراق"، أو "اليمين المشبوه" بحسب الرطانة الأمنية للحكم الأسدي في تلك السنوات. كان ذلك تجريفاً لبيئة اجتماعية أكثر مما هو حملة اعتقالات تستهدف تنظيماً سياسياً وتعمل على تقويضه.
تعرفت على حسن في سحن حلب المركزي، المسلمية، وطوال نحو ست سنوات في ذلك السجن تلقى معتقلو البعث- القيادة القومية، ومنهم حسن، زيارة واحدة من أهاليهم، وكانت في أحد الأعياد. صرنا صديقين رغم اختلافنا الفكري والسياسي. وقد يكون قرّب بيننا اهتمام بالثقافة والكتب. وبالموسيقا. كنا محبين معاً لأم كلثوم، لكن أذواق حسن كانت أكثر تقليدية مني، وموسيقيوه المفضلون هم زكريا أحمد ومحمد القصبجي ورياض السنباطي. وما كنت أجده عجيباً هو معرفته بالإيقاعات والمقاومات الموسيقية. هذا مقام حجاز، والإيقاع سماعي ثقيل، قد يقول.
ولا أذكر كيف اخترعنا نحن الاثنين قصة تعارفنا قبل السجن في أحد الكباريهات في حلب، حيث كان حسن ضارب إيقاع أو طبالاً، فيما كنت أنا صحفيا فنياً أجري مقابلات مع راقصات الكباريه ومغنياته، وأنشرها في المجلات. وعلى مسمع من أبي حسن الهنغوري، وهو رجل سبعيني وقتها اعتقل مع حسن ضمن حملة التجريف نفسها، كنا نُجوّد في هذه القصة مفتخرين بماضينا الفني، ونبتدع أسماء مغنيات وراقصات، حين أخذ أبو حسن بتوبيخنا على الإساءة لسمعة أهالينا. كان ذلك مبهجاً جداً في سنوات السجن المفتوحة التي لم نكن نعرف متى تنقضي. كنا في سجن المسلمية منذ سنوات، مع أقدمية لي على حسن بنحو خمس سنوات ونصف.
وفي عدرا التي نقلنا إليها في نيسان 1991 لنقدم إلى محكمة أمن الدولة العليا في دمشق، نقلنا تفاصيل سيرتنا الفنية العطرة إلى بعض الزملاء، وانطلى الأمر على رفيقنا أبو حيان، عدنان المقداد، وهو شاعر بدوره مثل حسن، ومثله رحل مبكراً قبل سنوات في الأردن حيث كان لاجئاً. وأورثنا ذلك التاريخ الفني العريق لقب الزميل نتبادله في مخاطبة بعضنا.
بعد أن حُكمنا في أواسط 1994، ونلنا نحن الاثنين 15 عاماَ من الحبس لكل منا، جرت مساومتنا من جديد على أن نتعاون مع المخابرات ويفرج عنا وإلا نبقى في السجن أو نعامل بطريقة أخرى. كان ذلك في مساء يوم 22 تشرين الثاني 1995، وكنا، حسن وأنا، ممن رفضوا التعاون. وفي مطلع 1996 نقلنا، 30 معتقلاً من ثلاث تنظيمات إلى سجن تدمر، من رفضوا التعاون منا ومن وافقوا. فرقونا هناك إلى شيوعيين و"يمين مشبوه"، ولم يفرقوا بين أعضاء التنظيمين الشيوعيين الذين وزعوا على مهجعين، قبل أن نجمع معاً في تموز 1996. لكن لن نرى حسن أو أحداً من رفاقه الثمانية أو نسمع عنهم بينما كنا في تدمر.
حسن الذي كان في السجن منذ تسع ونصف وقت نفينا إلى تدمر قضى ست سنوات هناك، وهي لا تقارن بمثلها في أي سجن آخر في سنوات حكم الأب، ولم ينقل من معسكر التعذيب ذاك إلى صيدنايا إلا قبل ثلاثة أشهر من انتهاء حكمه (وقتها لم يكن سجن صيدنايا ما سيكونه في عهد الابن، مسلخاً بشرياً بحسب ما وصفته منظمة العفو الدولية). وفي طريقه من دمشق إلى منبج عام 2001، كان الأمل اللجوج في قلب حسن هو أن يجد والدته على قيد الحياة، لكنها كانت قد رحلت قبل ثلاث سنوات. زرتُ الزميل في منزل العائلة في منبج بُعيد الإفراج عنه، وكان كما هو دائماً، الرجل الودود، المحترم، الصادق، العادل.
كان حسن شاعراً موهوباً، يكتب القصيدة العمودية، وقد نشر له كتاب شعري قبل الاعتقال بعنوان: هواجس وأشواق، وطبع عملين بعد السجن: رماد السنين عام 2004، ثم مرافئ الروح عام 2010. وكان يكتب مقالات سياسية بروح وطنية جامعة منذ خروجه من سورية، ينشرها في منابر سورية مستقلة ومعارضة.
انخرط حسن في الثورة السورية منذ البداية، وكان عضواً في مجلس محافظة حلب الحرة، ونشط سياسياً في حزب النداء الوطني الديمقراطي. وهو اضطر إلى الخروج من سورية مطلع عام 2014، حيث عاش لسنوات مع أسرته في مدينة عنتاب التركية، قبل أن يُقبل كلاجئ في فرنسا.
كانت محنة حسن، صليبه بالفعل، معاناة ابنه البكر من مرض نادر، جعل منه صعب المراس إلى أقصى حد. كان حسن هو الوحيد الذي يستطيع ضبط الولد الذي قارب العشرين اليوم. وكان مطمعه من اللجوء إلى فرنسا هو أن تتولى مؤسسة علاجية خاصة الاهتمام بوضع الابن، وكان قد وعد بذلك، لكن أكثر من ثلاث سنوات مرت دون أن يوفى بالوعد. وبعد سقوط الحكم الأسدي كان حسن يخطط للذهاب على سورية ما إن يرتفع عن كاهله عبء رعاية ابنه.
يوم 11 تشرين الثاني الماضي، أرسلت لحسن من نيويورك صورة لي مع أناند كوبال، الباحث الأميركي الذي كان يعرف حسن ومنبج، ويُعدُّ كتاباً عن المدينة، وسجلت له صوتيه تقول إنني سعدت بمعرفتهما وبحضوره هو في الكتاب الموعود. وبتهذيبه المعتاد، رد حسن بعد دقائق مسلماً على "الدكتور أناند"، ولم ينس أن يوصني بأن أستغل الفرصة لنوسع عملنا نحو كبريهات نيويورك، وقد وعدته خيراً. سألته إن كان يمكن أن نلتقي في باريس التي كنت سأقصدها بعد أيام، فرد بأنه للأسف لا يستطيع لوجوب بقائه قرب ابنه ومتابعة وضعه. واتفقنا على أن نتحدث حين استقر في سكني في برلين.
لم أتصل بحسن بعدها، يا أسفي. ولم يكن في البال أن يُخطّف هكذا دون مقدمات، وهو في الثانية والستين. يخيل لي أن الألم هو ما قتل حسن، طبقات من الآلام هي ما فجرت قلبه في النهاية.
أنعيك يا زميل وفي القلب حسرة على أننا لم نلتق منذ سنوات، ولم نتكلم في شؤوننا الخاصة، وفي الشؤون السياسية والثقافية، والموسيقية.
يا لها من حياة، يا زميل! ويا له من بلد هذا الذي كان نصيبنا من بين البلدان! ويا له من عالم هذا الذي تركك وحيداً، غربياً، وشبه سجين من جديد!



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- دماء في صُبح سورية الأغبر
- سورية بعد عام: عواقب الفراغ السياسي
- منظورات سورية:ي تبدُّلات المعرفة والسياسة بموازاة تغيُّر الز ...
- فصاحة السلطة عامية الشعب
- قصة محمد بن راشد: حداثة بلا سياسة، وجمالية بلا تاريخ
- سورية والمسألة الجيليّة
- صراع الذاكرات السورية وسياساتها
- طبّالون ومكيودون وحائرون
- هيغل وآرنت: فكر بدايات وفكر نهايات
- تصورات الأقلية والأكثرية على ضوء التاريخ السوري
- ديمقراطية وجينوقراطية: في تشكل الشعب السوري وتفكّكه
- مصالحة وطنية في سورية!
- حوار ثان مع علي جازو: العالم والكتابة واللغة والنشر و...سوري ...
- أزمة القيادة في البيئات السنّية السورية
- كلام في المثال: مؤتمر سوري عام
- في مفهوم الخيال السياسي وأزمته
- المتن والهامش: جولة أفكار بين سورية والعالم
- بين ماضي سورية وحاضرها: بدايات مهدورة ومشكلات عسيرة
- حل الإخوان السوريين واحتكار التمثيل السني
- الوطنية السورية وبدائلها


المزيد.....




- -كوشنر سيحضرها-.. مصدر يكشف لـCNN تفاصيل جديدة عن محادثات مي ...
- العدل الدولية تنظر في قضية الإبادة الجماعية بميانمار في يناي ...
- العقوبات على الجنائية الدولية.. هل تجهز واشنطن على القانون ا ...
- 3 شهداء وعدة مصابين في قصف مدفعي إسرائيلي على مبنى يؤوي نازح ...
- خبير عسكري: إسرائيل تعيق قدرة الجيش اللبناني على نزع السلاح ...
- لماذا توصف المرحلة الثانية من اتفاق غزة بأنها الأكثر تعقيدا؟ ...
- الحب وترامب والغرب و3 ملايين سؤال.. عرض لوقائع وكواليس مؤتمر ...
- ساحل جزيرة هرمز الإيرانية يتحول إلى اللون القرمزي الداكن.. ش ...
- -من فوق جبل قاسيون-.. من هم القادة الذين شكرهم أحمد الشرع بع ...
- رئيس الوزراء المصري في بيروت.. القاهرة تدين الانتهاكات الإسر ...


المزيد.....

- سبل تعاطي وتفاعل قوى اليسار في الوطن العربي مع الدين الإسلام ... / غازي الصوراني
- المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية / ياسين الحاج صالح
- قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي / رائد قاسم
- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - يا زميل! في وداع حسن النيفي