|
تصورات الأقلية والأكثرية على ضوء التاريخ السوري
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 8499 - 2025 / 10 / 18 - 20:07
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
اتسع تداول مدرك الأقلية/ الأقليات في التداول السوري بشدة بعد سقوط الحكم الأسدي، وصارت عبارات مثل حقوق الأقليات، حماية الأقليات، تحالف الأقليات، الاعتداء على الأقليات، من المتواترات في كلام السوريين السياسي. ونحن اليوم قوم منقسمون على أنفسهم بشدة، حتى ليمكن القول إن ما يوحد السوريين هو شدة الانفعال الجامعة بينهم، وتوجه انفعالاتهم ضد بعضهم. والانفعالات لا ذاكرة لها ولا عُمر، إنها راهنة دوماً، مزامنة لما يحدث في الواقع، ولا تدوم طويلاً. وما يحدث في سورية كبير وكثير: عنف دموي بلغ الذروة في موجتين من المجازر، وفي الخلفية حدث زلزالي كبير هو سقوط الأسدية بعد 54 عاماً من الحكم، ثم مطالبات وثارات وضغائن واعتداءات واغتيالات وكراهيات وشماتات وألف مثيل لها. وفي مثل هذه الأجواء العاصفة لا يُتوقع أن يجري ضبط التعابير التي نتداولها، ومنها في هذا السياق الأقلية/ الأقليات، وتصورات الأكثرية المقابلة لها. هذا ما سنحاوله هنا، نقاوم الانفعال ما أمكن، وننظر في زمنية أطول من الراهن. في زمن ما بعد الاستقلال، وبخاصة خمسينات وستينات القرن العشرين كانت الأكثرية تحيل على الجماهير الشعبية الكادحة، أو الطبقات الشعبية المحرومة، بالتقابل مع أقلية من أصحاب الامتيازات من برجوازيين وإقطاع وملاك كبار مع ممثليهم السياسيين المفترضين. الجماهير الشعبية كانت مكونة من عمال وفلاحيين وصغار كسبة، وربما جنود من غير أصحاب الرتب، ومن يقف إلى جانبهم من مثقفين ثوريين وضباط تقدميين. الفوارق الجهوية والدينية والإثنية أقل أهمية من هذا الفارق الطبقي الحاسم. والسياسة المشتقة من هذا التصور الاجتماعي الثوري تعمل على القضاء على حكم الأقلية من أصحاب الامتيازات بالثورة، وتلبية مصالح الأكثرية الشعبية الفقيرة والمستغلة. وهذا في الوقت نفسه عادل اجتماعياً وتحرري سياسياً وحقوقياً وتقدمي تاريخياً. التصور الثاني أخذ في الظهور في السبعينات، وصعد أكثر في التسعينات وما بعد بارتباط مع أزمة التصور الأول، الاجتماعي والثوري، بفعل انحطاط التجارب التي قامت عليه في بلداننا، ومنها سورية والعراق والجزائر وليبيا، وتحول ثائري الأمس إلى أوليغارشيات من أصحاب الامتيازات، وتنشيط بعضهم الانقسامات الأهلية سعياً وراء ركائز أهلية مضمونة. النموذج الأصلي، الشيوعية السوفييتية ومعسكرها، عانت من مصير مماثل وانهارت أواخر عقد الثمانينات. ويحيل التصور الجديد إلى أكثريات وأقليات أهلية موروثة: مثل الشيعة في العراق والبحرين، السنة في سورية، البلدان الثلاثة التي احتدت المشكلات الطائفية فيها أكثر من غيرها، يقابلها أقليات مسيطرة مثل السنة في العراق والبحرين والعلويين في سورية. لبنان مختلف بفعل نظامه التوافقي، ولأن المسيحيين كانوا بالفعل أكثرية وقت أرسي النظام. ثم كذلك لأن مُدرَك الأقلية بهذه الدلالة الوراثية لا ينطبق على من يشكلون ثلث السكان، وبخاصة حيث لا أكثرية مطلقة في هذا البلد. في سورية والعراق يحضر بعد إثني في تصور الأقليات والأكثريات بفعل وجود نسبة لا بأس بها من الكرد: نحو 20% في العراق، وما بين 8 و10% في سورية. ومن المنظور الإثني، الأكثرية عرب. والتقابل الأكثري/ الأقلي هنا عمودي، جماعة إثنية مقابل جماعة أو جماعات إثنية، مثلاً عرب وكرد، أو دينية مقابل دينية: مسلمون ومسيحيون، أو مذهبية: سنيون وعلويون ودروز واسماعيليون وغيرهم. والبيئة السياسية في البلدان المذكورة هي بيئة حرب أهلية، قد تفتر أو تبرد، لكنها نارها تحت الرماد غالباً، ويتواتر أن تدفع إلى تصور الجماعات المختلفة كشعوب أو إثنيات (مثلما دفع سقوط الامبراطوريات في ماض غير بعيد مثقفي جماعات مختلفة أنها قوميات، جديرة بالتالي بحق تقرير المصير). والدعوة السياسية الضمنية المبنية على التصور الوراثي للأقليات والأكثريات تتمثل في وجوب أن يؤول الحكم للأكثرية و/أو في ضرورة حماية الأقليات. هذا التصور للأكثرية والأقلية ساكن، يفترض أن هذه وتلك معطيات طبيعية لا تتغير. في واقع الأمر ليس الأمر كذلك. الأقلية والأكثرية هما نتاجان متحركان لعمليات أو ديناميكيات تقليل وتكثير، محلية ودولية، قد تأخذ شكل تقليل أو تكثير حرفيين: يغادر الناس جماعة إلى غيرها أو إلى لا جماعات، فيفكرون ويسلكون كأفراد مستقلين. لكن يمكن أن يحدث التكثير معنوياً، أي عبر الهيمنة: زيادة وزن أفكار وتوجهات نخب قائدة من الجماعات المعنية. التقليل المعنوي يحدث حين يجري العكس. ما قلل السنين سياسياً في الحقبة الأسدية مزيج من القمع وكتم الصوت من جهة، وانسياق قطاعات من الجمهور السني نحو التطرف والمناهج النخبوية في المعارضة، بما فيها الإرهاب، من جهة ثانية. وما قد يتسبب في تقليل وزن الأكثرية السنية اليوم هو الركون إلى الكثرة الساكنة والامتناع عن بناء شراكات وأكثرية سياسية عابرة للروابط الأهلية. ولم يكن ما كثّر الأقليات السورية المتفرعة عن الجذع الإسلامي، العلويين والدروز والاسماعيليين في ستينات القرن العشرين، وزنهم المهم في حزب البعث والسلطة القائمة باسمه فقط، وإنما ديناميكية تكثير بفعل إدراج معان قومية واشتراكية ومناهضة للاستعمار في الخطابات السياسية لتلك الفترة، أي عملياً عبر كسب معركة الهيمنة. وهو ما خاطب قطاعات أوسع من المجتمع السوري، بما فيها سنيون ومسيحيون، وحتى بعض الكرد الذين لا تجتذبهم بطبيعة الحال الدعوة القومية العربية. هذا أثر الهيمنة. فبقدر ما تعمل السيطرة على التقليل السياسي للمسيطر عليهم وتكثير المسيطرين، فإن الهيمنة تكثر من يمكن أن يكونوا أقلية، وتقلل من وزن أكثرية غير مهيمنة، مفتقرة إلى معان وأفكار وقيم عامة تشرك غيرها معها. الإسلامية لا تجتذب غير قطاع من المسلمين السنيين، ولا تجذب أحداً من غيرهم لأنها دعوة انعزالية، يمتنع أن تكون مهيمنة. وهي تجنح نسقياً إلى العنف أو السيطرة العنيفة تعويضاً عن ذلك. الهيمنة، بالمقابل، تتوافق مع الاقتصاد في العنف أو خفض الحاجة إليه. في سورية جنح الصراع الاجتماعي نحو العنف في النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي بتوافق مع تدهور هيمنة الأفكار القومية والتقدمية لتلك الفترة. لقد أخذت التقدمية البعثية بالانحطاط وفقد الهيمنة منذ ذلك الوقت، وارتدت إلى قناع على وجه الطائفية التي كانت ترعاها الدولة فعلياً بينما تجرم الكلام عليها سياسياً وقانونياً. وما سهل هذا الانحطاط هو تحول ركيزة السلطة إلى الحاكم الفرد، المرفوع فوق الأكثريات والأقليات، حافظ الأسد، كما إلى أجهزة أمنية مطيفة، مع إلغاء كامل وعنيف للسياسة والنشاط السياسي. قام النظام فوق ذلك على إعادة إنتاج مستمرة للانقسام العمودي، الأقلي الأكثري، بما يحول دون تكون أكثرية اجتماعية من أي نوع. كان كمال جنبلاط أول من نسب إلى حافظ الأسد سياسة تحالف الأقليات، ويحتمل أن هذا كان من أسباب اغتياله عام 1976. وقد بلغ انحطاط التقدمية البعثية الحضيض مع توريث السلطة، وفرض أبدٍ لا يتغير على سورية، ووجهت محاولات الانتهاء منه بعنف إبادي طوال 14 عاماً. ولم نكد نعرف في سورية تصوراً ثالثاً للأكثرية والأقلية، الأكثرية السياسية المنتخبة في انتخابات حرة، يكون الخاسرون فيها هم الأقلية. عرفنا انتخابات حرة في خمسينات القرن وفي عام 1962، لكنها لم تتكرر، فلم تشكل نمطاً للحكم، تتبدل فيه الأكثريات والأقليات. كان هذا التصور حاضر في نقاشات مثقفين ومناضلين ممن يرفضون بحق التصور الساكن، وهو ينفتح على فكرة الديمقراطية والنضال من أجل انتخابات حرة وتحكيم صندوق الاقتراع في تحديد الأكثرية والأقلية. وأقرب شيء عرفناه لهذه الدلالة السياسية هو تشكل طيف تقدمي واسع في مرحلة "المد القومي" في الستينات الماضية، تقاطعت الهيمنة والسيطرة في ظهورها، دون أن تكون نتاج انتخابات حرة. في سورية اليوم هناك تطابق بين الأكثرية الساكنة والنخبة الحاكمة، بعد عقود من عدم تطابقهما. هذا يخلق بيئة أصلح مبدئياً للنضال الديمقراطي والدفاع عن التعدد، بفعل ما يظهر منذ اليوم أن الحكم الحالي ينزع منزعاً أوليغارشياً، يعاني منه جمهور متنوع، بما فيه قطاعات متسعة من الأكثرية الساكنة (السنية)، وليس الأقليات الأهلية فقط. إلى ذلك، فإن الصفة الدينية للحكم، تقرب بين الديمقراطية والعلمانية بعد عقود من التفارق. النضال الديمقراطي يقتضي برامج اجتماعية وسياسية وحقوقية تخاطب هذا الجمهور المتنوع، وتعمل على أن تصنع منه جمهوراً سياسياً يتقارب فيما بينه بقدر ما يتباعد عن المعطيات الأهلية الموروثة. وهو منهج التكثير الضروري اليوم، تكثير سلمي وسياسي وبرنامجي، عمل من أجل الهيمنة، لا بد له أن يسير يداً بيد مع مقاومة السيطرة التي تمعن في تقليل الأقليات، وربما تحلم بتحويلها إلى نوادر، على قول قائل من المشاركين في مجازر الساحل قبل سبعة أشهر.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ديمقراطية وجينوقراطية: في تشكل الشعب السوري وتفكّكه
-
مصالحة وطنية في سورية!
-
حوار ثان مع علي جازو: العالم والكتابة واللغة والنشر و...سوري
...
-
أزمة القيادة في البيئات السنّية السورية
-
كلام في المثال: مؤتمر سوري عام
-
في مفهوم الخيال السياسي وأزمته
-
المتن والهامش: جولة أفكار بين سورية والعالم
-
بين ماضي سورية وحاضرها: بدايات مهدورة ومشكلات عسيرة
-
حل الإخوان السوريين واحتكار التمثيل السني
-
الوطنية السورية وبدائلها
-
سورية بين ثلاث مدارس للحكم والسياسة
-
أي سلطة في سورية، أي معارضة، وأي مستقبل؟
-
«الأمة» ضد الدولة: في جذور فشل بناء الدولة في سورية
-
الوطنية السورية وحكم الإسلاميين الراهن
-
في نقد النصر
-
إبادة جوّالة من الساحل إلى السويداء: حدث أم نمط؟
-
اليوم كما بالأمس: الطغيان والطائفية هما المشكلة في سوريا
-
محنة الوطنية والدولة في سورية اليوم
-
الإرهاب سورياً: أمامنا، وراءنا، أم معنا؟
-
تراثان فكريان سياسيان في سورية: أي دروس للراهن؟
المزيد.....
-
السعودية في معرض فرانكفورت: تحد لصورة نمطية لكن بأي شكل ومحت
...
-
بايرن يلحق الهزيمة الأولى بدورتموند.. ولايبزغ يرتقي للوصافة
...
-
-خسرنا ثقة القطريين-...ويتكوف يشعر بـ-الخيانة- حيال هجوم إسر
...
-
فايننشال تايمز: بهذا رد البرغوثي على بن غفير في فيديو المواج
...
-
البرهان: مستعدون للتفاوض بما يصلح السودان ويبعد أي تمرد
-
الداخلية السورية تفكك خلية لتنظيم الدولة في ريف دمشق
-
نتنياهو: الحرب ستنتهي بعد تنفيذ المرحلة الثانية من اتفاق غزة
...
-
فيديو منسوب للبرهان بشأن مفاوضات تسوية النزاع بالسودان.. هذه
...
-
الصليب الأحمر يسلم جثامين 15 فلسطينيًا من إسرائيل إلى غزة
-
كيف يمكن للهرمونات أن تتحكّم بعقولنا؟
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|