أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - منظورات سورية:ي تبدُّلات المعرفة والسياسة بموازاة تغيُّر الزمان والمكان السورييَن















المزيد.....


منظورات سورية:ي تبدُّلات المعرفة والسياسة بموازاة تغيُّر الزمان والمكان السورييَن


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 8537 - 2025 / 11 / 25 - 15:58
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


دخلَ معطيان سوريان كبيران مجالَ التاريخ قبل نحو عام، لا تستقيم معرفةٌ ولا سياسةٌ دون أخذهما بعين الاعتبار المُستحَقّ. وكلاهما يتصل بطبيعة الحال بسقوط الحكم الأسدي بعد 54 عاماً في السلطة؛ أبدٌ كامل.
1
المُعطى الأول زماني. هناك زمان سوري جديد، كان يوم 8/12/2024 نقطة الفصل فيه عن الزمان القديم. وبمجرد أن نتكلم على زمان جديد، فإننا نتكلم على قبل وبعد، على نهاية وبداية، على قطيعة واستمرارية، أو قطائع واستمراريات، وعلى «كان» و«صار». لقد صارَ ممكناً الكلام على الحقبة الأسدية بصيغة الماضي، صارَ تاريخاً، وهذا أمرٌ عظيم معرفياً وسياسياً، لم يكن مُتخيَّلاً قبل عام من اليوم. وبفعل هذه الإمكانية نجدُ أنفسنا حتماً مدفوعين إلى النظر في أطوار تاريخ سورية، وفي هذا التاريخ بمجمله، كي نُموضِعَ الأشهر المنقضية على التغيُّر، وكي نفهم بصورة أفضل الحقبة الأسدية ذاتها. هناك ممكنات جديدة في هذا الشأن، وهناك فرص اختيار.
والمُعطى الثاني مكاني. هناك مكان سوري جديد، مختلفٌ عمّا سبق، يمكن الدخول إليه والخروج منه والحركة فيه، على نحو يدفع إلى إعادة النظر في العلاقة بين الداخل والخارج، أو الدواخل والخوارج السورية. لقد كان ما لا يقل عن 7 ملايين، نحو 30 بالمئة من السوريين، يعيشون خارج البلد في 127 بلداً بحسب تقرير لهيومان رايتس ووتش في شباط 2022، بعضهم يعودون، بعضهم لا يعودون، بعضهم يتحركون بين الخوارج التي يعيشون فيها منذ سنوات وبين الداخل المتني السوري أو الدواخل الناشئة. هذا فضلاً عن مليونين ونصف كانوا يعيشون في مخيمات شمال البلد. هنا أيضاً هناك ممكنات جديدة وفُرَصُ اختبارٍ لها واختيارٍ بينها.
ومن ضمن هذا المُعطى الثاني توزُّعٌ جديد للمكان السوري على داخل متْني ودواخل فرعية بفعل موجتين من الدم في الساحل والسويداء. يبدو الدم قوة ترسم حدود الحركة وتقطع المكان الاجتماعي، مثلما هي من وجهٍ آخر تَفْسخُ الزمان إلى ما قبل المجزرة وما بعدها. لا شيء يبقى مثلما كان بين ما قبل الدم وما بعده.
يُمكن تكثيف التحدي الذي يطرحه المعطى الزماني في سؤال: من أين نبدأ حين نتكلَّمُ على أحوال اليوم كلاماً نريده أن يكون ذا معنى؟ قبل عام؟ قبل 55 عاماً (بداية الحكم الأسدي)؟ قبل 79 عاماً (الاستقلال) قبل 107 أعوام (نشوء الكيان السوري)؟ أو ربما قبل ذلك من أيام المسألة الشرقية وبدايات تكوين الشرق الأوسط المعاصر؟ أمّا التحدي المتصل بالمعطى المكاني فيُكثِّفهُ سؤال: من أي موقع نتكلم؟ من داخل سورية؟ من خارجها؟ من موقع مُتحرك بين داخل وخارج؟ هل من تَغيُّر مؤثر في حركيات السوريين خلال العام المنقضي؟ من توسَّعت حركيتهم ومن تضيَّقت؟ وأي توزُّع جديد للداخلية والخارجية بعد التوزّع الناشئ قبل عام لِلما قبل والما بعد؟
منظوراتنا تتغير مع تَغيُّرَي الزمان والمكان السورييَن، ومواقعنا من هذين التغيُّرين، وكذلك تَغيُّرنا المُحتمَل بالعلاقة معهما. هذه المقالة تنظر في جوانب من الأثر المُحتمَل لهذه المنظورات على التصورات والمواقف السياسية.
سنناقش ما إذا كان الموقع الأنسب، معرفياً وسياسياً، هو موقعٌ داخل البلد، قريبٌ بالتالي مما يجري فيه، على ما تقتضي «الوطنية المنهجية»، 1 وما إذا كان من شأن إدراج الزمن الجديد في زمنية أطول، تغطي كامل تاريخ الكيان السوري المعاصر، وربما ما قبل تاريخه بصورة ما (عصر التنظيمات والمسألة الشرقية)، أن يكون هو الوحدة التاريخية الأنسب. ثم ما إذا كان الأقلَّ مناسبةً، بالتالي، هو موقعٌ خارجي، يقتصر كذلك على الزمنية الأقصر، هذا العام الأخير. وهناك تنويعة من الاختيارات الأخرى بينهما: زمنية أقصر وموقع داخل البلد، زمنية مقتصرة على فترة الثورة والحرب وموقع داخل أو خارج البلد، زمنية أطول تغطي الحقبة الأسدية أو البعثية، أو منذ زمن الاستقلال، وموقع داخل أو خارج أو متحرك، وهكذا.
سنحاول فيما يلي قول أشياء عن التباديل المُحتملة لتغيُّرات الزمانية والموقع.
2
يمكن النظر إلى الراهن كبدءٍ مُطلَق من زاويتين سياسيتين متقابلتين: كي نقول إن 8 كانون الأول (ديسمبر) فجرٌ جديد دشنته عملية تحرير بطولية، وما بعده حقبة تحرُّر مجيدة، أو كي نقول إنه ترتيبٌ دولي على الأرجح، وما بعده حقبة سوداء من حكم الإرهاب والفاشية. ويبدو الحكمُ على مدى إطلاقية البدء تابعاً للحكم على الوضع الحالي إيجاباً أو سلباً أكثرَ من العكس، بمعنى أننا قد لا نقول بالحرف إنه بدءٌ مطلق، لكن موقفنا القطعي إلى جانب أو ضد الحكم الحالي يُسبغ على حدث 8 ديسمبر فرادة وقطعية، تُضمر أنه بدءٌ جذري، مطلقٌ أو يكاد. منظوراتُنا تتبعُ انحيازاتنا السياسية أحياناً، والانحيازاتُ هي التي تتبع المنظورات في أحيان أخرى.
بيد أن هناك اعتباراً يُضفي كامل الوجاهة على الاقتصار على الزمنية القصيرة، العام الموشك على الانقضاء، وهو الاعتبار الحقوقي. فالمسؤولية عن الجرائم والمحاسبة عليها لا تحتاج إلى سياق تاريخي ولا إلى موقع جغرافي محدد. الناس مسؤولون عن أفعالهم في كل حال، والمحاسبة على الأفعال الإجرامية هي ما تحمي عمومية الحق في العدالة. والمبدأ هنا هو الدفاع عن العدالة والضحايا هنا والآن. ننحاز إلى هذا المبدأ من مدخل سياسي أيضاً وليس فقط من مدخل حقوقي، لأن هذا ما يتوافق مع انتقال سياسي جدي أو مع اعتراض متّسق على شكلية هذا الانتقال، ولأن من شأن تأجيل الموقف السياسي الأخلاقي اليوم إلى وقت آخر، سنكون فيه حتماً عادلين وأخلاقيين ووطنيين، أمّا اليوم فالوقت اليوم غير مناسب، من شأن ذلك أن يُحوِّلنا نحن إلى اعتذاريين للمسالك الإجرامية، ثم مُبرِّرين لها، وربما بعد ذلك مشاركين في مثلها. ضد ذلك، نرى أن اليومَ هو وقتُ المسلك العادل والأخلاقي والوطني، غداً سيكون بلا قيمة.
وهذا الاعتبار الحقوقي السياسي الذي يُعطي الأولوية للراهن، لما يحدثُ الآن، هو ما من شأنه أن يُسهِّلَ تقارُب الدواخل السورية والتغلُّب على ما رسمَ الدمُ من حدودٍ على تَوزُّع المكان والزمان السوريين خلال العام الموشك على الانقضاء. ما وقع في السويداء والساحل من مجازر هو تجاربُ مؤسِّسة للجماعتين الدرزية والعلوية، وينبغي أن تكون تجاربَ مؤسِّسة للوطنية السورية إن كان لمنظورات السوريين أن تتقارب. في النهاية، الوطنيةُ مسألةُ منظوراتٍ تتقارب، شراكات تتسع في العلاقة مع الزمان والمكان، في التذكُّر والتوقُّع والحركة والعلاقة بالحدود.
ولا يربط الموالون للحكم الجديد، الحكم ذاته، زمنهم بما سبقه إلا حين يُبرِّرُ ذلك مشكلات اليوم ومصاعبه. ما عدا ذلك ينزع القوم إلى رمي الحقبة الأسدية في سلة المهملات، وهذا خطأ جسيم، ليس من وجهة نظر المعرفة فقط وإنما السياسة كذلك. فعدا عن أن الحقبة الأسدية تغطي أكثر من كامل نصف تاريخ البلد حتى السقوط، فقد كانت إجابةً على مشكلات أثارها تكوين سورية ومجتمعها وموقعها وتاريخها، وليست مجرد نتاج طغيان شخصي أو طائفي لحافظ الأسد وعائلته. من شأن تَجاهُلِ ذلك أو الغفلة عنه أن يُسهِّلَ الوقوع فيه من جديد، على يد من يحسبون أنفسهم خصومه الجذريين أو على يد غيرهم.
أمّا إذا نظرنا إلى الحكم الحالي من موقع الرفض المطلق، فإننا سنميلُ إلى فصله عمّا سبقه، إما خشيةَ إضفاء النسبية على جرائمه وانتهاكاته، أو لأننا نجد الزمن الحالي زمن غربة وسقوط، وهو ما ينطبق على من لم يكونوا من قبل معارضين للحكم الأسدي، أو كانوا على فتورٍ حيال الطيف المعارض له والثائر عليه أشدَّ مما حياله هو.
فإذا نظرنا إلى هذا العام الأخير كانقطاع واستمرار معاً، أو محاولين تبيُّنَ عناصر القطيعة وعناصر الاستمرارية، مع الحقبة الأسدية الطويلة، فلا شيء يوجب أن نتوقف هنا. الحقبة الأسدية نفسها بدايةٌ كبيرة وليست بدءاً مطلقاً، ويتعيّنُ فَهمُها بالنظر إلى موقعها في تاريخ سورية المستقلة، بل وتاريخ سورية قبل الاستقلال ومنذ النشوء. هذا يوجب فتح هذه الحقبة التي صارت ماضياً على ما قبلها من تاريخ سورية منذ النشوء في نهاية الحرب العالمية الأولى.
3
المنظور الذي يُفكر في زمنية أطول مُقيَّضٌ له أن يرى مشكلات اليوم غير منقطعة الصلة مع تعثرات تاريخ سورية المعاصر، ومع مسار طويل من فشل البناء الوطني والدولة. هنا أيضاً هذا ليس مهماً من أجل الفهم فقط، وإنما من أجل الفعل كذلك. فسورية بلد مُفكَّك بشدة، تَفكُّكهُ ليس ابن اليوم ولا حتى هو مجرد نتاج للحقبة الأسدية، كما قد يعتقد المُتحكِّمون الحاليون. البلد مفتقر إلى قوة جذب داخلية، ولم يسبق في التاريخ أن شكّل إقليماً متميزاً ملتئماً على نفسه؛ لا شيء هنا يشبه مصر أو تونس. والأصواتُ الداعية للتقسيم والانفصال ليست بدورها ابنةَ اليوم، فقد وُجِدَت في سنوات الانتداب الفرنسي، ولم تكن غائبة تماماً في زمن ما بعد الاستقلال. مجازر الساحل والسويداء بعثتها من جديد وأعطتها وجاهة من نوع ما، لكنها ليست بِدَعاً غير مسبوقة. هذا للقولِ إن تاريخ سورية كله، وهو ليس طويلاً، يدفع نحو إعادة اختراع البلد، أو تشكيله على أسس جديدة، لا تَحولُ دون التقسيم إلا بأن تجد صيغة وجود قائم على الشراكة في مُلكية البلد والدولة. الأسدية السنّية ليست الحل، هي المشكلة اليوم بالأحرى.
وظاهرٌ أن ما يدفع إلى الربط بين العام ما بعد الأسدي الأول والأربع وخمسين عاماً الأسدية هو ذاته ما يدفع إلى ربط الحقبة الأسدية بما قبلها، والتفكير في عالم سورية كله، في زمانها ومكانها بأكملهما.
4
تغيُّرُ الزمنِ السوري كان تَغيُّراً للمكان السوري كذلك. صارت الحركة ممكنة إلى المكان الجديد، وصار يمكن للاجئين العودة إلى البلد أو زيارته أو مقاطعته. بعض من لم يعودوا مضطرون، لكن هناك من اختاروا عدم العودة أو حتى الزيارة لأسباب شخصية أو سياسية أو إيديولوجية. الحركة داخل البلد صارت ميسورة أكثر في الشهور الأولى الباكرة بعد التغيير، لكن كذلك نشأت أشكال جديدة من تعذُّرِ الحركة أو تقطُّعِها، أو ارتسمت حدود جديدة مع السويداء تُصعِّب الحركة، وتقطع الحواجزُ الأمنيةُ المجال في الساحل، ولا يزال يحدث أن يُطرح ما سماه أحد معارفي ساخراً بـ«السؤال الذهبي»: شو دينك؟ أو: من أي طائفة أنت؟ وهو ما يخلق مجالاً لزجاً، يدفع إلى التجنب والحركة المحدودة إن لم يكن المرءُ مضطراً. هذا فضلاً عن حركة غير مُيسَّرة، لزجة بدروها، بين المتن السوري ومناطق سيطرة قسد في الجزيرة. ولا يستطيع من يذهبون إلى هناك التعبير عن آرائهم بحرية. لأول مرة وضع الحريات العامة في مناطق سيطرة قسد أسوأ ممّا في المتن السوري، وهذا بدوره قيد حركي.
على أن التركيز هنا سينصرف إلى الحركة من خارج سورية إلى داخلها، ومن داخلها إلى خارجها، وأثر التغيّر في المواقع على التغيّر في المواقف والتصورات.
من المفهوم أن أكثر من عادوا نهائياً إيجابيون تجاه الأوضاع الجديدة في البلد. وهم عادوا لأنهم بالأصل إيجابيون تجاه أوضاع اليوم، وبما يُضفي معنى إيجابياً على خيار العودة الذي اعتمدوه. على أن منهم قطاعات من عموم السوريين اضطروا إلى اللجوء إلى بلدان مجاورة دون أن تكون لهم مواقف سياسية، ولمثلهم الأوضاعُ اليومَ آمنةٌ سياسياً في كل حال، وقد تكون أو لا تكون آمنة معاشياً واقتصادياً.
ولا ينبغي أن يكون هناك جدالٌ بخصوص أن الموقع الأنسب من وجهة نظر المعرفة كما السياسة هو داخل البلد، إن كان الخيار الوحيد الآخر هو خارج البلد. أهم ما يحدث سورياً اليوم يحدث في الداخل، وهذا بعد سنوات طويلة من أحداث بلا حدثيّة، أو من مراوحة دموية في المكان.
على أن هذه المناقشة تدافع عن أفضلية موقع مُتحرِّك بين داخل وخارج. قد نُؤثِرُ الحياة خارج البلد اختياراً، أو قد نضطر لها، أو قد تكون العودة عسيرة نفسياً على بعضنا، لكن من وجهة نظر النشاط العام، العيش في سورية هو الموقع الصحيح، والحركة داخلها والسفر خارجها هو المسلك الأكثر مُلاءمة حيثما كان ذلك ممكناً.
وإن كان لي أن أقدم شهادة بخصوص أثر ذلك من زاوية نظر هذه المناقشة، أي من زاوية المنظورات، فيبدو لي أن أول أثر لمعاينة الأوضاع مباشرة هو امتلاكُ أو تطويرُ حسٍّ بالتفاصيل، بتعدد أوجه الواقع ولا قابليتها للاختزال إلى عناوين عريضة، إلى برشامات تُكثِّفُ الواقع في جملة واحدة أو جمل قليلة. «النوانس»، دقائقُ الأمور والفوارق الصغيرة، أشدُّ حضوراً في تفاعلات عموم الداخليين حتى حين لا يشاركهم المرء شيئاً من انحيازاتهم، بينما حضوره أضعف عند عموم الخارجيين حتى حين يشاركهم المرء موقفاً بدئياً متقارباً.
والأثر الثاني هو نزعُ الصفة الدرامية التي يُسبغها البعد أو النظرة الخارجية على واقع مُعقَّد. ويبدو هذا مهماً اليوم بينما نشهد الدرامات تغزو الفضاء العام لسوريا العالمية global Syria، أعني المجال المتكوِّن من مجموع السوريات القائمة والشتات السوري المتناثر في العالم، وتتحول إلى الشكل الرائج أكثر من غيره للتعبير السياسي. وتُرافقها في ذلك العمليات المعرفية النفسية المألوفة في الكتابات الدرامية، من مبالغة وتهويل وتبسيط واختزال، وخلط الأمور ببعضها حين يلزم، أو عدم التمييز حين يكون التمييز ضرورياً، وكل ذلك مضروباً بضغط «الترند»، الدافع نحو ما يُروَّج ويصير viral في انتشاره أو يكاد. وعلى هذا النحو، يجد تفكيرٌ معتنٍ بالتفاصيل ونازعٌ للدراما؛ ويُفترَضُ أن نزع الدراما هو ما يُنتظَر من الكتابة النقدية، يجد نفسه مقصىً من التداول لمصلحة تبسيطات متناقضة. في واقع الأمر، ليس ما يجري هي ملحمة تحرير ونصر وبناء، وإن لم يكن كذلك سقوطاً نهائياً في كارثة بلا قعر بما يوجب حتماً التقسيم والانفصال. المُعاينة المباشرة تُدخِلُ التعقيد على المشهد، وتَحولُ دون الدراما وهيجاناتها.
وللكلام على نزع الدراما تأثير مُعلمِنٌ على التفكير، يفصله عن سرديات قطعية بقدر ما يصله بواقع دنيوي، مضطرب، متحرك ومتعدد الأوجه. بالمقابل، تبدو المقاربات القطعية دراميةَ المبنى والمُخيلّة، وعلى قطيعة مع تعقيد الواقع وتشابكه وتَعدُّده، تحفزها في بعض الحالات إرادة عدم معرفة نشطة، ربما تصون بناءها الدرامي بمقاطعة تعقيدات الواقع.
5
وباستقلالٍ عن التجربة الشخصية، فإن للنظرة من داخلٍ ميزةُ المعاينة عن قرب والإحساس بكثروية الواقع وتعقُّده، فيما للنظرة عن بُعد ميزةُ المسافة والوضوح وإدخال قدر من النظام على الوفرة المُربِكة والفوضوية للنظرة القريبة. من هذا الباب فإن الموقع المتحرك هو الأنسب، لأنه يجمع بين فضائل النظرتين معاً، وإن لم يكن هذا الموقع مُتاحاً لكثيرين. وقد تكون أحوال اليوم فرصة نادرة للجمع بين الكثرة القريبة والنظام البعيد، فنحن لا نعلم إن كان الموقع المتحرك سيبقى ممكناً. هو اليوم سلفاً أقل يُسراً مما كان خلال الأشهر الأولى التالية بعد سقوط النظام الأسدي.
ولعل اعتبارات المعرفة تتفارقُ عن اعتبارات السياسة في شأن الموقع. فاعتباراتُ السياسة تقتضي موقعاً داخلياً ما أمكن، وما لم يَصِرْ ذلك مستحيلاً. الموقع المتحرك المناسب للمعرفة أقل ملاءمة للفاعلية السياسية. ويتفارقُ هذان الاعتباران بقدرٍ ما في شأن الزمانية. فزمانيةُ الفعل السياسي قصيرةٌ نسبياً (والفعل الحقوقي أقصر بعد)، ليست آنية بالتأكيد، لكنها متّصلة بحقل سياسي راهن، تتفاوت راهنيته طولاً وقصراً. كان الأبد الأسدي هو حقل الفعل السياسي في سنوات بشار وأبيه، لكن حتى هنا وجبَ ابتداءً من عام 2005، في تقدير شخصي، إدراجُ بعدين في بناء المواقف السياسية: واحدٌ يتصل بلبرلةٍ مَحاسيبية للاقتصاد، وواحدٌ بظهور ديني تزايدَ في الفضاء العام. يغيب عن كثيرين أن سورية كانت في شبه حرب أهلية باردة حول الدين، الإسلام السنّي بخاصة، وظهوره في الفضاء العام ودوره في السنوات السابقة للثورة. بالمقابل، سياسات اليوم والمواقف السياسية تعمل في حقل عمره بالكاد عام واحد، وهي إن فتحت تحليلاتها على إيقاع زمني أطول، إلا أن المواقف مدعوة لأن تنظر أساساً في أفعال المُسيطرين وتتبيَّنَ سُبُلَ الاعتراض عليها، بل هي مُلزَمة بأن تفعل ذلك. أما من وجهة نظر المعرفة فنحتاج بلا شك إلى زمنية أطول، إلى تتريخِ العناصر المختلفة في بنية الوضع الراهن.
6
يمكن تَصوُّرُ تراكيب متعددة بتعدد المنظوارت الزمانية والمكانية. منها أن يكون المرء داخل البلد، ويُدرِجَ هذا العام الأخير في نظرة لا تتوقف عند الحقبة الأسدية والبعثية بل تشمل مجمل تاريخ الكيان السوري. وفي القطب الأقصى المقابل، أن يكون المرء خارج البلد، لا يحاول أن يعاين مباشرة الواقع السوري الجديد، ويقتصر فوق ذلك على العام الأخير في نظره وأحكامه. وهناك تنويعة من منظورات تتشكل من تقاطع إحداثيَي الزمان والمكان، منها زمنية قصيرة وموقع داخل البلد، وزمنية متوسطة (أسدية وبعثية) مع موقع داخل أو خارج البلد، وزمنية طويلة وموقع خارج البلد.
لا تتحدد منظوراتنا بهذين العنصرين الزماني والمكاني وحدهما. تتدخل عناصر تتصل بالطبقة والجيل والجندر والمهنة والجهة والطائفة والمكانة الاجتماعية، ما يُشكل خريطة معقدة جداً، هي الخريطة الاجتماعية السياسية السورية. ثم أنها تتصل بموقع سورية في إطار إقليمي ودولي متشابك ومؤثر جداً. بلدنا ليس كوكباً مستقلاً أو جزيرة معزولة، وهو في الواقع يكاد يكون بلا داخل بفعل وجود كثير من الخارج فيه، كما بأثر تَناثُر سُكَّانه في أرجاء الكوكب، وهو ما يقضي بعدم نفع مضاعف لـ«الوطنية المنهجية»، المُجادَل في نفعها في كل مكان أصلاً. إلى ذلك فإن هناك زمانيات عالمية متعددة نشارك فيها بصور مختلفة؛ زمانية اتصالية ومعلوماتية شبه فورية، زمانية بيئية لا تعترف بحدود ولا بداخل وخارج، وزمانيةُ أزمة سياسية عالمية مقبلة على الأرجح على رياح تغيير قوية في سنوات مقبلة (صعود الصين، التحدي الروسي، العجز الأوروبي، نمو اليمين شبه الفاشي في أميركا). الكلام على داخل وخارج سورييَن يُجازف بأن يفقد منفعته إن لم نعمل في الوقت نفسه على تبيُّن الزمانيات والمكانيات المحيطة بنا. تَتريخُ أوضاعنا لا يعني وضعها في السياقات التاريخية المتصلة بها فقط، وإنما إدراجها في سياق عالمي أعرض كذلك.
المنظوران الزمانيُ والمكانيُ ليسا اختيارين اعتباطيّين مع ذلك. يستجيب الأول لواقعة التغيّر الكبير في الزمان السوري، والثاني، المكاني، لواقعة الحركة بين داخل خارج سورييَن وتغيُّرات أنماط الحركة وتوزعها الاجتماعي. وهما بالتالي يوفران مدخلاً ملائماً للربط بين مواقع السوريين ومواقفهم.

هامش
1– الوطنية المنهجية مفهوم وضعه كل من أندرياس فيمر ونينا غلوك شيلر عام 2006، وهو ينتقد التفكير في الدولة الأمة كوحدة تحليل طبيعية ونهائية، وافتراض أن حدود الدولة طبيعيةٌ بدورها، وأنها الحاوية لكل ما هو مهم من تفاعلات اجتماعية وثقافية وسكانية. المفهوم مُصمَّم لنقد هذه العقيدة الجامدة، وللتفكير في البلدان المختلفة كتشكُّلات متفاوتة الصلابة لتدفقات سلعية ومعلوماتية وسكانية وتكنولوجية واقتصادية وغيرها. وما هو صحيح بخصوص دول أمم متينة الكيان، هو أصح بعد بخصوص بلد مثل سورية يكاد يكون بلا داخل، أو متعدد الدواخل، وتنافس تفاعلات بعض دواخله مع خارجه أو خوارجه تفاعلاتها فيما بينها. ورقة فيمر وشيلر التي طورا فيها المفهوم متاحة هنا.



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فصاحة السلطة عامية الشعب
- قصة محمد بن راشد: حداثة بلا سياسة، وجمالية بلا تاريخ
- سورية والمسألة الجيليّة
- صراع الذاكرات السورية وسياساتها
- طبّالون ومكيودون وحائرون
- هيغل وآرنت: فكر بدايات وفكر نهايات
- تصورات الأقلية والأكثرية على ضوء التاريخ السوري
- ديمقراطية وجينوقراطية: في تشكل الشعب السوري وتفكّكه
- مصالحة وطنية في سورية!
- حوار ثان مع علي جازو: العالم والكتابة واللغة والنشر و...سوري ...
- أزمة القيادة في البيئات السنّية السورية
- كلام في المثال: مؤتمر سوري عام
- في مفهوم الخيال السياسي وأزمته
- المتن والهامش: جولة أفكار بين سورية والعالم
- بين ماضي سورية وحاضرها: بدايات مهدورة ومشكلات عسيرة
- حل الإخوان السوريين واحتكار التمثيل السني
- الوطنية السورية وبدائلها
- سورية بين ثلاث مدارس للحكم والسياسة
- أي سلطة في سورية، أي معارضة، وأي مستقبل؟
- «الأمة» ضد الدولة: في جذور فشل بناء الدولة في سورية


المزيد.....




- جورجينا رودريغيز تجمع بين الأناقة والاحتشام على شاطئ الدوحة ...
- -المسيرة الغامضة نحو تغيير النظام في فنزويلا- - مقال في نيوي ...
- أونكتاد: إعادة إعمار غزة ستكلف 70 مليار دولار وتستغرق عقوداً ...
- دعوة لحضور مؤتمر صحفي
- شروط السلام الأمريكية.. تحفظ أوكراني وأوروبي ورفض روسي لمقتر ...
- حماس والجهاد الإسلامي ستسلمان جثة رهينة إسرائيلي في وقت لاحق ...
- غينيا بيساو.. الرئيس إمبالو ومنافسه دياس يتنازعان الفوز بالا ...
- استطلاع رأي يتوقع فوز جوردان بارديلا برئاسة فرنسا
- -العبقري- التركي يظفر بأرفع جوائز إيمي الدولية.. ومسلسل ألما ...
- عُثر عليها بالصدفة.. بيع أولى نسخ -سوبرمان- بـ9.1 ملايين دول ...


المزيد.....

- سبل تعاطي وتفاعل قوى اليسار في الوطن العربي مع الدين الإسلام ... / غازي الصوراني
- المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية / ياسين الحاج صالح
- قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي / رائد قاسم
- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - منظورات سورية:ي تبدُّلات المعرفة والسياسة بموازاة تغيُّر الزمان والمكان السورييَن