|
|
سورية والمسألة الجيليّة
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 8527 - 2025 / 11 / 15 - 21:43
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
المشكلات الدينية والإثنية والجهوية حاضرة بقوة في الجدال السوري اليوم. المشكلات الطبقية أقل حضوراً، رغم أنه يرجح لها أن تكتسب أهمية عامة أكبر فيما يأتي من سنوات. المشكلة الجندرية حاضرة بقدر معقول، ومرشحة بدورها لمزيد من الحضور العام. لكن المشكلة الجيلية غائبة كلياً. أعني بالمشكلة الجيلية جملة القضايا المتصلة بالفوارق بين الأجيال ودرجة التواصل والتكامل الجيلي في البلد، وبخاصة ما يتصل منها بالهدر الجيلي، إهدار طاقات جيل أو أكثر. وتأخذ هذه المسألة شكلاً خاصاً اليوم بعد سقوط الحكم الأسدي، من حيث التمركز حول جيل المسيطرين الجدد، وهم في مطالع الأربعينات فما دون. الأكبر سناً بين السوريين يبدون مُحالين إلى تقاعد عام. سبق لما يشبه ذلك أن حدث عند استيلاء حافظ الأسد على السلطة، وقد كان وقتها في الأربعين. غيّب "ابن الشعب البار"، وكان هذا أبكر ألقابه، الجيل الأكبر: ميشيل عفلق (مواليد 1910، عاش أكثر من 20 عاماً منفياً في العراق، وتوفي في باريس عام 1989)، صلاح الدين البيطار (مواليد 1912، اغتاله النظام في فرنسا عام 1980)، أكرم الحوراني (مواليد 1911، مات في عمان عام 1996)، وعصام العطار (موالي 1927، جرت محاولة اغتياله عام 1989، وقتلت فيها زوجته بنان الطنطاوي، رحل في ألمانيا التي عاش فيها 60 عاماً عام 2024)، ومن جايلهم. هذه أشكال استبعاد عدوانية. أما خالد بكداش (1912- 1995) وعبد الغني قنوت (1922- 2001) فقد استُتبعا في "الجبهة الوطنية التقدمية". اليوم كذلك يُستتبَع البعض ويهمش من لا يُستتبعون، ويُعرض الرئيس الانتقالي أحمد الشرع ليس بأنه قائد سياسي بارع، بل الأفضل في كل شيء كذلك. هو شخصياً تطوع بالقول عن نفسه إنه ليس امتداداً لا للحركات الجهادية ولا للإخوان المسلمين ولا للربيع العربي، وهو ما يقربه من بدء بلا سوابق، أو ما يجعله أباً لنفسه. هناك مشكلة جيلية حيثما جاء عهد سياسي جديد فكر في نفسه كبدء منقطع عما سبقه. هكذا فكر حافظ الأسد، "باني سورية الحديثة"، حتى أن تاريخ سورية قبله كان مغموراً، وأسماء رجالاتها ورؤسائها لم تكن تذكر، لا في التعليم المدرسي ولا في وسائل الإعلام. وهكذا يُفكَّر اليوم حين ينظر إلى الحقبة الأسدية كعقود ضائعة، كخسارة محض، نبدأ بعدها من الصفر. هذا خطأ. الحقبة الأسدية لم تأت من فراغ، وإن كان لجرائمها ألا تتكرر، فلا بد من إدراك أنها كانت إجابة سيئة على سؤال حقيقي: كيف يتحقق الاستقرار؟ كيف تكف سورية عن أن تكون ملعباً لقوى إقليمية ودولية؟ إجابة حافظ كانت بأن تصير هي لاعباً بغيرها، أي أن يلعب هو مع الكبار بالصغار في المحيط القريب، بينما يغلق الداخل سياسياً كلياً، ويحجر على السوريين كلهم، ويعتقل ويعذب ويقتل المشاغبين أو المتمردين. واليوم المشكلة مطروحة على سورية، إذ يبدو أنه تجري العودة، بغفلة، إلى ما قبل الحقبة الأسدية، ويعود البلد ملعباً للاعبين إقليميين ودوليين، لكل منهم مرتكزاته الداخلية في سورية بفعل سياسات استبعاد نشطة من طرف السلطة الحالية. هذا يقود إلى حقبة جديدة من "الصراع على سورية"، وهو ما يُبقي إغراء حافظ الأسد أمامنا، بعد أن صار هو وسلالته وراءنا. لكن ليس هذا بالتحديد موضوع هذه المناقشة. الموضوع هو الهدر الجيلي الذي يُسهم، مع صور أخرى من الهدر (من أظهرها التمييز الديني والإثني والجهوي)، في توفير مرتكزات للاعبين إقليمين ودوليين في الملعب السوري. وهذا للقول إن المسلك الذي يغلق المعلب الداخلي أمام متلاعبين خارجيين هو بالضبط الذي يعالج أوجه الهدر المختلفة، أي فقط بفتح الملعب للداخل السوري المتعدد والمتنوع. وهو ما يعني في هذا السياق الخصوص العمل على ضمان التواصل الجيلي، وإيجاد الطرق الأنسب لتكامل الجهود والخبرات بما لا يُهدِر طاقات متنوعة لا تملك سورية ترف إهدارها. يوجب ذلك كسر التمركز حول السلطة السياسية، أي ألا تكون السلطة المرجع المقرر في كل مجال. في فرنسا، الرئيس شاب نسبياً، وهو يفضل رؤساء وزارة ووزراء من جيله، لكن لا المؤسسات التشريعية ولا القضائية، ولا كذلك الإعلامية، ولا البيروقراطية، تنضبط بهذا التحيز الجيلي. في سورية اليوم إرادة بدء من الصفر تبدو كارثية في تحيزها الجيلي (والديني والجهوي والجندري). الضحية هي الكفاءة المهنية، وهي المساواة بين السوريين. في الآونة الأخيرة هناك تراجع عن الشكل المتطرف من الهدر الجيلي إفساح المجال لمنشقين من الجيش ومن الجهاز الدبلوماسي، لكن يبدو الأمر شكلياً، والمواقع المعروضة على المعنيين تبدو ثانوية وغير مقررة. ربما يقال إن هذا منطق الثورات: تجبُّ ما قبلها. يمكن التعاطف مع هذا المنطق لو أن المسألة الجيلية كانت هي الوحيدة، وليست من أوجه مشكلة أوسع، أساسها اختزال الثورة إلى انقلاب سني (فتستعدي بطيش الجماعات الدينية والإثنية الأخرى). يمكن التعاطف مع الطرح كذلك لو أن الفريق المسيطر اليوم يعترف بديْنه للثورة السورية والربيع العربي، ويقول إنه امتداد لهما، وبالتالي ينفتح على الطيف الثوري المتنوع، ولا يقتصر على من التحقوا بالثورة متأخرين، وبعد عداوة لجذعها الوطني الشعبي، ومن فكروا فيها بمنطق طائفي حصراً. كما يمكن التعاطف مع هذا المنطق لو أنه لم يُعلن بعد وقت قصير من سقوط الأسدية انتهاء الثورة وبدء الدولة. الدولة تقتضي، وبخاصة مع التركة الثقيلة المعلومة، عدم استبعاد طاقات اجتماعية وسياسية ومهنية وجيلية ضرورية لسير متوازن إلى الأمام. ويبدو الهدر الجيلي بنيوياً، نابعاً من التكوين الفئوي والنرجسي للسلطة الحالية، ومن غريزة الإمساك الطائفي بالسلطة وعدم إفلاتها بأي ثمن. وهو ما يعني أنه بعد عشرين عاماً سيكون الحاكمون ستينيون، وسيبقى التحيز الجيلي لمصلحة جيلهم، بينما ينصب الهدر الجيلي عندها على الأجيال الأصغر، فضلاً عمن يبقى على قيد الحياة من الأكبر سناً. هذا أيضاً وقع في زمن حافظ الأسد، الذي صار لقبه في الصنف الثاني من ثمانينات القرن الماضي: الأب القائد. حين مات كان رجاله في عمره، بلا طاقة ولا روح ولا فكر ولا شخصية. وكان شيء مشابه قد حدث في الاتحاد السوفييتي، حتى أنه حين اختير غورباتشوف أميناً عاماً للحزب الشيوعي السوفييتي عام 1985، وكان في الخامسة والخمسين، اعتبر شاباً. وكان هذا أحد أوجه هدر عام ميز النظام السوفييتي وقاده إلى حتفه. ستظهر، وتظهر منذ الآن، معارضة مجايلة وأصغر سناً للحكم الحالي، مثلما سبق أن ظهرت معارضة مجايلة لحكم حافظ الأسد. إذا طال الأمد بالعهد الحالي، فستميل معارضته النوعية إلى أن تكون مجايلة له، وبالتالي ستتكون ممن لم يكونوا معارضين لعهد حافظ. وبقدر ما تدخل في سياسة قطيعة كلية، فقد يستبعد منها حتى معارضو عهد بشار. منطق البدء الكلي الذي يطوي سلبياً صفحة الحقبة الأسدية يجنح لأن يسري كذلك على المعارضة الجديدة.
في الختام، يبدو الكلام على مشكلة جيلية، تتمثل اليوم في إهدار طاقات جيل أكبر، في تعارض مع التقدير الشائع بأن ثقافة مجتمعاتنا بطريركية وأبوية، متمركزة حول سلطة الآباء والجيل الأكبر من "ذوي الأسنان". هذا غير صحيح بالقطع على المستوى السياسي. وبما أنه صحيح بالفعل على المستوى الاجتماعي، فإنه قد يعني أن المستوى السياسي في مجتمعاتنا منفلت عما يفترض أنه من الثوابت الأنثروبولوجية في الثقافة العربية، والسورية منها. لكن هذا انفلات قديم وأنثروبولوجي هو ذاته: قضايا السياسة والسلطة أظهرت أنها غير قابلة للترويض، وثقافتنا الموروثة أظهرت أنها ضعيفة حيالها، وعجزت عن أن تطور قواعد وأصولاً لضبطها. كان السلطة وحشاً بالأمس، وهي وحش اليوم، وفرص الأنسنة في مجتمعاتنا مرهونة بترويض هذا الوحش. وهو ما يعني أن تطوير تفكير ومناهج للسلطة والحكم في مجالنا هو تحد راهن. التفكير بالمسألة الجيلية هو أحد المداخل إلى التفكير بوحش السلطة ومناهج ضبطه.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
صراع الذاكرات السورية وسياساتها
-
طبّالون ومكيودون وحائرون
-
هيغل وآرنت: فكر بدايات وفكر نهايات
-
تصورات الأقلية والأكثرية على ضوء التاريخ السوري
-
ديمقراطية وجينوقراطية: في تشكل الشعب السوري وتفكّكه
-
مصالحة وطنية في سورية!
-
حوار ثان مع علي جازو: العالم والكتابة واللغة والنشر و...سوري
...
-
أزمة القيادة في البيئات السنّية السورية
-
كلام في المثال: مؤتمر سوري عام
-
في مفهوم الخيال السياسي وأزمته
-
المتن والهامش: جولة أفكار بين سورية والعالم
-
بين ماضي سورية وحاضرها: بدايات مهدورة ومشكلات عسيرة
-
حل الإخوان السوريين واحتكار التمثيل السني
-
الوطنية السورية وبدائلها
-
سورية بين ثلاث مدارس للحكم والسياسة
-
أي سلطة في سورية، أي معارضة، وأي مستقبل؟
-
«الأمة» ضد الدولة: في جذور فشل بناء الدولة في سورية
-
الوطنية السورية وحكم الإسلاميين الراهن
-
في نقد النصر
-
إبادة جوّالة من الساحل إلى السويداء: حدث أم نمط؟
المزيد.....
-
فيديو متداول -للحظات الأولى لانفجار منطقة المزة في دمشق-.. ه
...
-
من هم الأشخاص الذين ذُكرت أسماؤهم أيضاً في ملفات إبستين؟
-
كيف تهدد هجمات روسية السلامة النووية في أوكرانيا وأوروبا؟
-
البرازيل: آلاف الأشخاص يجوبون شوارع بيليم في مسيرة حاشدة للد
...
-
إيران: الحرس الثوري يؤكد احتجاز ناقلة نفط في مياه الخليج
-
وزير الإعلام الإريتري: إثيوبيا تسعى لإشعال حرب ضدنا
-
نقل أحمد سعد إلى المستشفى إثر حادث سير
-
سوريا ليست أفغانستان.. شاهد على التجربتين يكشف الفروق الجوهر
...
-
لماذا لا ينبغي لبعض الأشخاص الجلوس بوضعية التربيع؟
-
بوتين ونتنياهو يبحثان هاتفيا الوضع في غزة والشرق الأوسط
المزيد.....
-
سبل تعاطي وتفاعل قوى اليسار في الوطن العربي مع الدين الإسلام
...
/ غازي الصوراني
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|