أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - هيغل وآرنت: فكر بدايات وفكر نهايات















المزيد.....

هيغل وآرنت: فكر بدايات وفكر نهايات


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 8502 - 2025 / 10 / 21 - 21:04
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


يتوزع مفكران اثنان انجذبتُ إلى أعمالهما في زمنين مختلفتين، على خانتي النهايات والبدايات: هيغل (1770-1831) وحنه آرنت (1906-1975).
هيغل الذي قرأت عنه وقرأت له في سنوات الشباب هو مفكر نهايات، يفلسف زمنه، ويقول إن الفلسفة هي وعي زمنها، وإن كان لا يفصل الفلسفة عن تاريخها، لا بل إنه يُماهي بينهما. الحكمة تأتي عند الغروب، وبومة مينزفا، إلهة الحكمة عن الرومان، لا تطير إلا عند الغسق. والفيلسوف الألماني الذي عاصر الثورة الفرنسية شاباً وشهد الاحتلال الفرنسي لبلده أيام نابليون، وبلغ مراتب عُليا من التقدير والشهرة في الأعوام الخمس عشرة الأخيرة من حياته التي لم تتجاوز 61 عاماً، أنهى التاريخ بالملكية البروسية المستنيرة في أيامه. التاريخ ينتهي بتحقق الحرية، وقد بدت له متحققة أو تتحقق في زمنه. فلسفة التاريخ عند هيغل لها اتجاه، من الشرق وآسيا إلى الغرب، والحرية تتسع وتعي ذاتها كلما اتجهت روح التاريخ نحو الغرب واقتربنا من الزمن الراهن. الحاضر الأوربي هو القمة والتتويج، النهاية بصورة ما. هيغل ليس من مفكري الأفول والسقوط، هو مفكر اكتمال. النهاية عنده اكتمال وليست موتاً. لكن ماذا بعد الاكتمال؟ "نهاية التاريخ"؟ أحد شراح هيغل، ألكسندر كوجيف، أبرز تصور نهاية التاريخ في فلسفة هيغل حيث تنتهي روح العالم إلى أن تعي ذاتها، وعلى كوجيف استند فرانسيس فوكوياما في إعلان نهاية التاريخ بالديمقراطية الليبرالية في الغرب بُعيد نهاية الحرب الباردة.
حنة آرنت (وهي قراءة متأخرة) مفكرة بدايات، يشغل مفهوم البداية موقعاً مركزياً في تفكيرها الذي يدور بقدر كبير حول الحرية، لكن بطريقة مختلفة عن هيغل. حرية آرنت هي المعنى الوحيد للسياسة وللثورة، وهي لا تقبل بأن التاريخ محكمة العالم العادلة، حيث ما يعيش يستحق العيش وما يموت لا يستحق غير ذلك، مثلما تصور هيغل. وفي أساس ذلك أن التاريخ ميدان الترابط الكلي والغائية، ويتجه مسوقاً بضرورة باطنة نحو الحرية، فيما هو مجال العرضية والجواز عن آرنت. هنا الحرية ممكنة، وليست مضمونة سلفاً. وهي قرينة الفعل البشري، الذي تميزه عن الكدح: تدبر ضرورات العيش وما يقيم أودنا بيولوجياً، كما عن الشغل: إنتاج ما يتجاوز الحياة البيولوجية، وأعمارنا ذاتها، من أدوات معمرة ومن عمران وفنون وغير ذلك. أما الفعل فهو جهد الناس على الناس، الاجتماع والكلام والتعاون. قد نقول بشيء من التبسيط إن الكدح يعرف دائرة الاقتصاد وإنتاج الحياة المادية المباشرة، والشغل دائرة الحضارة، الفن والتكنولوجيا والعمران، فيما يعرف الفعل دائرة السياسة التي تعرف بغايتها الوحيدة: الحرية. في الكدح نحن في مجال الضرورات، ولذلك فإن بناء السياسة على دائرة الكدح، مثلما عمل ماركس في رأيها، يلغي الحرية التي لا تقوم إلا على الفعل حيث نحن في أبعد نقطة عن مجال الضرورة. وأول الإنتاج وأول البدايات هو إنتاج الحياة البشرية ذاتها، مجيء أناس جدد إلى العالم، ما تسميه آرنت الانولاد natality، وهو فرصة لجديد غير مسبوق في العالم. الناس لا يولدون أحراراً، لكن يمكن أن يصيروا أحراراً، على ما قالت في كتابها عن الحرية.
حرية هيغل المكتوبة في مخطط شامل للتاريخ (انبساط الفكرة المطلقة في الزمن، وهذا هو التاريخ) يمكن أن تسلم نفسها لحكم شمولي، على ما أخذ عليه، وعلى من تأثروا بهم، كثيرون، من أبرزهم كارل بوبر. أما آرنت التي خبرت شخصياً صورة من الحكم الشمولي، النازية، وبلورت هي شخصياً مفهوم الشمولية (التوتاليتارية)، فقد بنت تصورها للحرية بالتضاد من ذلك.
ورغم أن آرنت لم تكن سياسية، أو امرأة فعل (على نحو ما نقول رجل فعل)، فإنها منظرة الفعل والبدايات أكثر من غيرها. تقول إنها تستطيع ألا تفعل شيئاً، لكنها لا تستطيع ألا تحاول أن تفهم. ثم رغم أنها ترفض أن تُعرّف كفيلسوفة، وتفضل تعريف نفسها كمنظرة سياسية، إلا أنها عاشت حياة تأمل أو حياة فكر، وليس حياة فعل أو حياة نشطة بحسب تمييزاتها هي.
الحياة النشطة هي الحياة السياسية من حيث المبدأ، حياة تدور حول الفعل المغير للعالم، لكن فقط بقدر ما يكون الفعل حراً وغايته الحرية.
هيغل أيضاً عاش حياة تأمل وفكر وليس حياة نشطة، لكنه رأى الحرية كمحصلة، كشيء يتحقق في النهاية، وليس كمنطلق للفعل والسياسة. مفكر النهايات هيغل فكر في الأصول، وهي تُوجِّه النظر نحو الماضي. أما مفكرة البدايات آرنت فتوجهها فكرة البداية نحو المستقبل، نحو ما يحدث ويأتي.
السياسة عند آرنت هي الفعل والكلام. وهي لم تنظر في احتمالات انفصالهما وعواقبه. وهذا الانفصال ليس افتراضاً مجرداً، ونحن نعرفه مما حولنا، كما من سيرة آرنت نفسها. الكلام دون فعل هو اقتراب من حياة التأمل التي عاشتها آرنت منذ لجوئها إلى أميركا عام 1941 (نشطت في منظمة صهيونية في سنوات لجوئها في فرنسا بين 1933 و1941)، وعاش مثلها هيغل. كانا يكتبان ويدرِّسان، نشاطهما الأساسي وشبه الوحيد هو الكلام. ماذا يحتمل أن يكون الفعل دون كلام؟ فعلاً محضاً، نزعة فِعْلجية، أو عبادة للفعل. وهو يمكن أن ينزلق بالتالي إلى إرهاب. ليس المقصود بالفعل دون كلام الفعل بصمت، بل الفعل الذي ينضبط بكلام ناجز مسبق (دين نظامي أو "نظرية ثورية")، أو الذي يقتصد كثيراً في الكلام ويرده إلى وظيفته الإبلاغية والإيعازية مثلما في دولة أورويل، ومثلما حاول الخمير الحمر في كمبوديا بين 1975 و1979 (وقد تسببوا في مقتل 1,7 مليون من مواطنيهم).
تفاعل كلاهما، هيغل وآرنت، مع عصرهما بقدر كبير، وفكرهما متجذر بعمق في الزمن الذي عاشه كل منهما. هناك غير قليل من السوسيولوجيا في فكر هيغل، بالمقارنة مع كانط، سلفه المباشر، وهذا ربما بتأثير الثورة الفرنسية والثورة الصناعية وفكر آدم سميث الذي كان هيغل مطلعاً جداً عليه. وأكثر من علم الاجتماع، مفهوم التاريخ مركزي في فكر هيغل أكثر من أي فيلسوف سابق له، لكن التاريخ عنده مخطط لتحقق الحرية، مسار معقول من التقدم، يشكل الحاضر أعلى ذراه. ورث ماركس نزعة هيغل التاريخية، وإن يكن قد قلب محرك التاريخ من الفكرة إلى إنتاج الحياة المادية. بالمقابل، هناك غير قليل من الفلسفة في فكر "المنظرة السياسية" آرنت، وهذا على الأرجح بأثر تتلمذها على هايدغر وجاسبرز، ومعرفتها الممتازة بالأصول اليونانية والرومانية التي تتواتر الإحالة عليها عندها باسم "تقليدنا".
يجمع بين آرنت وهيغل أنها مركزيان أوربيان بقدر كبير. ويفرق بينهما أن هيغل يبدو واقفاً على قمة جبل، ينظر إلى الوراء ويغطي تاريخ العالم كله من موقعه العالي، بينما آرنت تحتفي بالبدء والظهور، بما يبادر ويدخل جديداً إلى العالم، وتنظر إلى الأمام. فكر هيغل فكر نمو من حيث أن الفكرة تتطور في التاريخ عبر الصراع مع نقيضها ثم تشكل تركيب جديد منهما. لكن هيغل يأتي وقد اكتمل النمو. فكر آرنت فكر ولادة ونمو لا تُعرف مآلاته، يعتني بما ينشأ، بما لا يمكن التنبؤ بمصيره.
وإنما لأن هيغل وآرنت منغرسان في زمنيهما، ينطبق عليهما التمييز بين تفكير نهايات وتفكير بدايات، وهو تمييز أقل قائدة في تناول مفكرين آخرين لم ينشغلوا بالتاريخ بهذا القدر.
***
هل يحتمل للطلب على التفكير التاريخي أن يتسع إثر التغير السياسي الكبير في سورية قبل ما يقترب من عام؟ نخمن ذلك. يدفع التغير إلى التفكير فيما ينتهي وفيما يبدأ، في الانقطاع والاستمرار، في إدراج ما يحدث اليوم في سياقات زمنية أطول، في تقصي الأصول والمنعطفات وأوقات الجمود. وإنما لذلك من شأن صورتين للتفكير في التاريخ، هيغلية وآرنتية، أن تكونا محفزتين للأذهان للتفاعل مع أسئلة كثيرة تطرحها علينا آخر البدايات السورية.



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تصورات الأقلية والأكثرية على ضوء التاريخ السوري
- ديمقراطية وجينوقراطية: في تشكل الشعب السوري وتفكّكه
- مصالحة وطنية في سورية!
- حوار ثان مع علي جازو: العالم والكتابة واللغة والنشر و...سوري ...
- أزمة القيادة في البيئات السنّية السورية
- كلام في المثال: مؤتمر سوري عام
- في مفهوم الخيال السياسي وأزمته
- المتن والهامش: جولة أفكار بين سورية والعالم
- بين ماضي سورية وحاضرها: بدايات مهدورة ومشكلات عسيرة
- حل الإخوان السوريين واحتكار التمثيل السني
- الوطنية السورية وبدائلها
- سورية بين ثلاث مدارس للحكم والسياسة
- أي سلطة في سورية، أي معارضة، وأي مستقبل؟
- «الأمة» ضد الدولة: في جذور فشل بناء الدولة في سورية
- الوطنية السورية وحكم الإسلاميين الراهن
- في نقد النصر
- إبادة جوّالة من الساحل إلى السويداء: حدث أم نمط؟
- اليوم كما بالأمس: الطغيان والطائفية هما المشكلة في سوريا
- محنة الوطنية والدولة في سورية اليوم
- الإرهاب سورياً: أمامنا، وراءنا، أم معنا؟


المزيد.....




- الكشف عن قيمة المسروقات من متحف اللوفر
- -مسار الأحداث- يناقش أسباب زيارة دي فانس وكوشنر وويتكوف لإسر ...
- غزة بعد الاتفاق مباشر.. إسرائيل تفحص جثتي أسيرين وحماس تؤكد ...
- البرلمان التركي يقر تمديد إرسال قوات إلى العراق وسوريا
- فرنسا تعلن قيمة -كنوز اللوفر- المسروقة.. وتوجه تحذيرا إلى ال ...
- ترامب عن لقاء بوتين: -لا أريد أن أضيع وقتي-
- نتنياهو يُقيل تساحي هنغبي: خلافات غزة والرهائن تُطيح بمستشا ...
- كيف وجد الرئيس ساركوزي نفسه وراء القضبان، ومن هو الملياردير ...
- بين شهادة المرحوم مصطفى البراهمة و مسلسل “حين يرونا”: خاطرة ...
- شاهد..برشلونة يحقق مكاسب بالجملة بعد الفوز على أولمبياكوس


المزيد.....

- المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية / ياسين الحاج صالح
- قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي / رائد قاسم
- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - هيغل وآرنت: فكر بدايات وفكر نهايات