أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - علي طبله - النقد والنقد الذاتي - الوثيقة السادسة















المزيد.....



النقد والنقد الذاتي - الوثيقة السادسة


علي طبله
مهندس معماري، بروفيسور، كاتب وأديب

(Ali Tabla)


الحوار المتمدن-العدد: 8571 - 2025 / 12 / 29 - 00:18
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


من ثقافة التبرير إلى منهج التصحيح الثوري

الوثيقة السادسة في إعادة التأسيس الشيوعي في العراق

د. علي عبد الرضا طبله
2025.12.12

تمهيد: لماذا النقد الآن؟ ولماذا بهذه الصرامة؟

ليست هذه الوثيقة إضافةً شكلية إلى سلسلة وثائق، ولا استكمالًا لغويًا لما سبقها، ولا ردًّا متأخرًا على سجالات عابرة. إنها ضرورة تاريخية فرضها المسار نفسه، حين تبيّن أن كثيرًا من الأزمات التي ناقشتها الوثائق السابقة—من أزمة الحاضنة الاجتماعية، إلى اختلال التمثيل، إلى شيخوخة البنية التنظيمية، إلى اغتراب الحزب عن زمنه—تشترك جميعها في جذرٍ واحدٍ عميق لم يُمسّ بما يكفي: تعطّل النقد، وتشويه النقد الذاتي، وتحويلهما من أدوات حياة إلى مصادر خوف.

النقد، في المنهج الماركسي، ليس ترفًا فكريًا، ولا زينةً نظرية تُضاف إلى البرامج. هو فعل معرفة، وفعل صراع، وفعل تصحيح. حين يتعطّل النقد، لا يتوقف الخطأ؛ بل يتراكم. وحين يُحاصر النقد الذاتي، لا تُحمى الوحدة؛ بل تُصنع هشاشة مؤجلة تنفجر لاحقًا في أشكال أكثر إيلامًا: نزيف عضوي، قطيعة صامتة، لا مبالاة اجتماعية، وتحوّل الحزب من فاعلٍ تاريخي إلى جهازٍ دفاعي يدير الخسارة بدل أن يقلبها.

هذه الوثيقة تُكتب لأن السؤال لم يعد: هل أخطأنا؟ بل صار: لماذا لم نُراجع أخطاءنا في وقتها؟ ولماذا تحوّل الاعتراف بالخطأ إلى تهديدٍ للهيبة، وتحولت الهيبة إلى بديلٍ عن الحقيقة؟ تُكتب لأن ثقافة التبرير—تحت عناوين “المرحلة”، و“الظروف الموضوعية”، و“المؤامرة”، و“الحرص على الوحدة” —راكمت طبقات من الصمت فوق أسئلة لم تُجب، حتى بات الصمت نفسه سياسةً غير معلنة.

منذ منتصف السبعينيات، وبصورةٍ أدق منذ التحالف الكارثي عام 1973 وما أعقبه من تفكيك منظم للمنظمات الجماهيرية عام 1976، لم يتعرض الحزب فقط لقمعٍ خارجي، بل دخل في مسارٍ داخليّ تغيّرت فيه وظيفة النقد. لم يعد النقد وسيلةً لتصحيح المسار، بل صار، في مراحل عديدة، عنصرًا مُقلقًا يُؤجَّل أو يُفرَّغ أو يُحتوى إداريًا. ومع الحروب، والمنافي، والشتات، ثم الاحتلال، ثم الدولة الريعية–الطائفية–الفصائلية، تعمّق هذا الخلل: صار الخطأ يُنسب إلى الخارج أكثر مما يُفكّك في الداخل، وصار النقد يُطالَب به القاعدة أكثر مما يُمارَس في القيادة، وصار النقد الذاتي يُستدعى في الخطب أكثر مما يُرى في القرارات.

لا تُكتب هذه الوثيقة لتصحيح الماضي بميزان الحاضر، ولا لمحاكمة أجيالٍ قدّمت تضحيات جسيمة. تُكتب لأن إعادة التأسيس الشيوعي—إن أُريد لها أن تكون فعلًا لا شعارًا—لا يمكن أن تُبنى فوق أرضٍ لم تُنقَّب نقديًا. لا يمكن بناء حزبٍ للمستقبل بأدوات ثقافية تشكّلت لإدارة الهزيمة. ولا يمكن استعادة الثقة الاجتماعية إذا بقيت الأسئلة المؤلمة محرّمة داخل البيت الحزبي.

في المنهج الماركسي–اللينيني، لا تُقاس قوة الحزب بقدرته على إسكات النقد، بل بقدرته على تحويله إلى معرفة، ثم إلى سياسة، ثم إلى فعل. الحزب الذي يخاف من نقده الداخلي، سيخاف حتمًا من الصراع الطبقي الخارجي. والحزب الذي يُراكم التبريرات بدل المراجعات، يُدرّب نفسه—من حيث لا يريد—على قبول الانحدار بوصفه “واقعية”.

من هنا، فإن هذه الوثيقة ليست دعوةً إلى الفوضى التنظيمية، ولا تشجيعًا على التفلت، ولا تبريرًا لأخطاء فردية. إنها محاولة لتثبيت حدٍّ فاصلٍ واضح بين النقد بوصفه أداة تصحيح ثوري، والنقد بوصفه تشهيرًا أو عداءً؛ بين الانضباط الواعي والطاعة الصامتة؛ بين الوحدة المبنية على الصدق والوحدة المبنية على الكتمان. وهي، قبل ذلك كله، محاولة لاستعادة النقد والنقد الذاتي إلى مكانهما الطبيعي: في قلب الممارسة اليومية للحزب، لا في هوامشها.

لقد أظهرت الوثيقة الرابعة أن الحزب يعاني أزمة تمثيل وانتماء ووظيفة تاريخية. وهذه الوثيقة الخامسة تقول، بوضوحٍ لا لبس فيه: لا يمكن معالجة تلك الأزمة من دون إعادة تأسيس ثقافة نقد حيّة، شجاعة، ومنضبطة طبقيًا. فالنقد ليس تهديدًا لإعادة التأسيس؛ بل شرطها الأول. ومن دون هذا الشرط، ستبقى كل وثيقة—مهما بلغت دقتها—معلّقة بين النية والواقع.

من هنا يبدأ هذا النص. لا ليفتح جراحًا من أجل الجرح، بل ليمنع تعفّنها. لا ليكسر وحدة الحزب، بل لينقذها من التآكل الصامت. ولا ليقدّم أجوبة سهلة، بل ليُعيد الاعتبار لسؤالٍ ثوريٍّ قديمٍ ما زال صالحًا: كيف نصحّح مسارنا ونحن في قلب الصراع، لا خارجه؟

ما هو النقد في المنهج الماركسي؟

من كشف التناقض إلى أداة للفعل

في الماركسية، لا يُفهم النقد بوصفه موقفًا أخلاقيًا، ولا بوصفه شجاعة فردية، ولا بوصفه حقًا شخصيًا مجردًا. النقد هو منهج معرفة قبل أن يكون موقفًا، وهو أداة صراع قبل أن يكون رأيًا. إنّه فعل يهدف إلى كشف التناقضات المادية داخل الواقع الاجتماعي والتنظيمي، لا إلى إدانة الأشخاص ولا إلى تسجيل النقاط.

ماركس لم يمارس النقد لأنه “ضد” أحد، بل لأنه كان يسعى إلى فهم العالم من أجل تغييره. النقد، في هذا المعنى، ليس خطابًا فوق الواقع، بل غوصًا في بنيته، في علاقات الإنتاج، في توازنات القوة، في المصالح الطبقية المتصارعة. وحين انتقل هذا المنهج إلى المجال التنظيمي، صار النقد جزءًا لا يتجزأ من بناء الحزب نفسه، لأن الحزب ليس كيانًا منزّهًا عن التناقضات، بل شكلًا اجتماعيًا يعيش داخل مجتمع متناقض.

لينين، في أكثر لحظات الصراع حدّة، لم يتعامل مع النقد بوصفه خطرًا على الحزب، بل بوصفه شرطًا لبقائه حزبًا ثوريًا. لم يكن يخشى الانقسام الفكري إذا كان ناتجًا عن اختلافات حقيقية في قراءة الواقع، لكنه كان يخشى ما هو أخطر: الوحدة الصامتة التي تخفي التناقضات وتؤجل انفجارها. ولهذا كانت السجالات، والرسائل، والنقاشات العلنية، جزءًا من الحياة الطبيعية للحزب البلشفي في لحظاته التأسيسية.

في هذا الإطار، النقد ليس “كلامًا جارحًا”، ولا “تشويشًا”، ولا “تجاوزًا على الهيئات”. هو محاولة لربط النظرية بالممارسة، ولقياس المسافة بين ما يُقال وما يُفعل، وللكشف عن اللحظة التي يتحوّل فيها البرنامج من أداة تحرّر إلى نصّ محفوظ، وتتحوّل فيها القيادة من تعبير عن خبرة جماعية إلى موقع إداري محمي.

لكن هذا الفهم للنقد بدأ يتآكل تاريخيًا، ليس فقط في العراق، بل في تجارب شيوعية عديدة، حين تحوّل الحزب من أداة صراع إلى جهاز إدارة، ومن حركة اجتماعية إلى بنية تنظيمية تسعى قبل كل شيء إلى الاستمرار. في هذه اللحظة، يصبح النقد مصدر قلق، لأنه يهدّد التوازن الداخلي، ويكشف هشاشة القرارات، ويفتح أسئلة لا تملك القيادة دائمًا أجوبة جاهزة لها.

وهنا يبدأ الانزلاق الخطير: يُفصل النقد عن وظيفته الطبقية، ويُعاد تعريفه بوصفه “مشكلة تنظيمية”. بدل أن يُسأل: هل ما قيل صحيح؟ يُسأل: من قاله؟ وبأي لهجة؟ وفي أي توقيت؟ وبدل أن يُناقش المحتوى، تُناقش النيّة، ويُستبدل التحليل السياسي بالتأويل النفسي أو الأخلاقي.

في التجربة العراقية، تراكم هذا الانزلاق عبر عقود. ومع تكرار الهزائم، والقمع، والمنفى، صار الحفاظ على التنظيم—بأي ثمن—أولوية غير معلنة. ومع هذه الأولوية، جرى تقييد النقد تدريجيًا: مرة باسم “الظروف الأمنية”، ومرة باسم “الحفاظ على الوحدة”، ومرة باسم “عدم تشويه صورة الحزب”. لكن النتيجة الفعلية كانت واحدة: تفريغ النقد من محتواه الثوري، وتحويله إلى طقس شكلي أو خطر محتمل.

النقد الذي لا يصل إلى مراكز القرار يفقد معناه. والنقد الذي يُسمح به فقط حين لا يغيّر شيئًا، يتحوّل إلى ديكور ديمقراطي. والنقد الذي يُطلب من القاعدة ولا يُمارَس في القمة، يخلق علاقة غير متكافئة تُقوّض الثقة الداخلية، وتحوّل الانضباط إلى خضوع.

من هنا، لا يمكن الحديث عن إعادة تأسيس شيوعي حقيقي من دون استعادة النقد إلى موقعه الطبيعي: في قلب القيادة، وفي صلب اتخاذ القرار، وفي تقييم الخط السياسي نفسه. النقد ليس وظيفة ثانوية، ولا “حقًا” يُمنح أو يُمنع، بل ضرورة بنيوية لأي حزب يدّعي أنه طليعة طبقية واعية.

حين يغيب هذا الفهم، تظهر بدائل مشوّهة: نقد هامشي يُفرَّغ، أو غضب مكتوم يتحوّل إلى قطيعة، أو انسحاب صامت، أو تمرّد فردي بلا أفق. وكل هذه الأشكال ليست خطرًا بحد ذاتها؛ الخطر الحقيقي هو أن تصبح هي القنوات الوحيدة للتعبير، في غياب فضاء نقدي منظّم داخل الحزب.

في الماركسية، لا يوجد نقد بلا هدف. الهدف ليس الهدم، بل التصحيح. ليس التشهير، بل إعادة الربط بين الحزب وطبقته. ليس كسر الوحدة، بل إعادة بنائها على أساس الحقيقة لا المجاملة. والنقد الذي لا يقود إلى فعل، وإلى تغيير في السياسة أو البنية أو الممارسة، يبقى ناقصًا، مهما بدا جريئًا في لغته.

لهذا، فإن السؤال المركزي ليس: هل نسمح بالنقد؟
بل: هل نمتلك البنية السياسية والثقافية التي تحوّل النقد إلى قوة تغيير داخل الحزب؟

هذا السؤال يقودنا مباشرة إلى المقطع التالي، الأكثر حساسية:
كيف تحوّل النقد الذاتي من منهج تصحيح إلى طقس تبريري؟

كيف تحوّل النقد الذاتي من منهج تصحيح إلى طقس تبريري؟

من المراجعة الثورية إلى إدارة الخطأ

النقد الذاتي، في الماركسية، ليس اعترافًا أخلاقيًا بالخطأ، ولا ممارسة طقسية تُؤدّى في لحظات الانكسار لامتصاص الغضب، بل آلية مادية لإعادة ضبط العلاقة بين النظرية والممارسة. هو فعل سياسي منظم، يُفترض أن يفتح الطريق أمام تغيير فعلي في الخط، أو في البنية، أو في أسلوب القيادة. لكن ما جرى في التجربة الشيوعية العراقية هو مسار معاكس: لم يُلغَ النقد الذاتي رسميًا، بل أُفرغ تدريجيًا من مضمونه، حتى تحوّل إلى لغة بلا أثر.

في كثير من المحطات، جرى التعامل مع النقد الذاتي بوصفه ضرورة خطابية لا ضرورة تنظيمية. يُستدعى في المؤتمرات، وفي الخلاصات، وفي الوثائق الختامية، لكنّه نادرًا ما يُترجَم إلى قرارات ملموسة تمسّ جوهر السياسة أو بنية القيادة أو آليات اتخاذ القرار. وهنا حدث التحوّل الأخطر: النقد الذاتي لم يعد أداة تصحيح، بل أصبح وسيلة لإغلاق الملف.

حين يُقال: “نعم، حصلت أخطاء”، من دون تحديد من اتخذ القرار، ولماذا، وكيف، وبأي ميزان قوى، وبأي نتائج، يصبح النقد الذاتي غطاءً لغموض مقصود. وحين يُربط الخطأ دائمًا بـ“الظرف الموضوعي” أو بـ“قوة العدو” أو بـ“تعقيد المرحلة”، من دون تفكيك الخيارات الذاتية، يتحوّل النقد الذاتي إلى تبرير مؤجَّل لا إلى مراجعة.

بهذا المعنى، لم يعد النقد الذاتي سؤالًا مفتوحًا، بل أصبح نصًا مُغلقًا: يُكتب لكي لا يُعاد فتحه. تُقدَّم خلاصة عامة، تُستكمل بالانتقال إلى بند آخر، ويُترك الجوهر من دون مساس. ومع الزمن، تعلّم التنظيم—بوعي أو من دونه—أن النقد الذاتي لا يُغيّر موازين داخل الحزب، وأن الاعتراف العام لا يستتبع محاسبة سياسية، ولا إعادة توزيع أدوار، ولا تغييرًا في الخط.

الأخطر من ذلك أن النقد الذاتي، بدل أن يُمارَس من الأعلى إلى الأسفل، بدأ يُطالَب به من القاعدة أكثر مما يُمارَس في القيادة. يُطلب من الرفيق أن “ينتقد ذاته”، أن “يضبط لهجته”، أن “يراعي التوازنات”، بينما تبقى القرارات الكبرى، والتحالفات المصيرية، والخيارات الاستراتيجية، خارج أي مساءلة فعلية. هنا تنقلب العلاقة: يصبح النقد الذاتي أداة انضباط، لا أداة تحرّر.

في هذه اللحظة تحديدًا، يفقد النقد الذاتي طابعه الثوري. لا يعود وسيلة لتصحيح المسار، بل يتحوّل إلى جزء من ثقافة الطاعة الواعية ظاهريًا، الصامتة فعليًا. يُنتج رفاقًا “منضبطين”، لكن غير فاعلين؛ مخلصين، لكن محبطين؛ حاضرين تنظيميًا، لكن غائبين سياسيًا. ومع تراكم هذا النمط، تتشكّل فجوة خطيرة بين الخطاب والممارسة، بين ما يُقال في الوثائق وما يُعاش في الحياة الحزبية اليومية.

وهنا يجب التمييز بدقة:
المشكلة لم تكن يومًا في وجود نقد ذاتي “كثير” أو “قاسٍ”، بل في غياب آليته الثورية. النقد الذاتي الذي لا يغيّر شيئًا أخطر من غيابه، لأنه يخلق وهم التصحيح، ويُراكم خيبة أمل صامتة. ومع كل دورة من هذا الوهم، يخسر الحزب جزءًا من رصيده الأخلاقي والسياسي لدى رفاقه، قبل أن يخسره لدى المجتمع.

تحوّل النقد الذاتي إلى طقس تبريري لم يكن نتيجة سوء نية، بل نتيجة تفاعل عوامل متراكمة:
الخوف من الانقسام بعد تجارب قاسية،
الحرص المفرط على بقاء التنظيم،
الخلط بين الهيبة والقداسة،
وتحوّل القيادة—في بعض المراحل—من موقع قابل للنقد إلى موقع يُدار بحذر شديد.

لكن النتيجة واحدة: تعطّل آلية التصحيح.

وحين تتعطّل هذه الآلية، لا يعود الحزب قادرًا على التعلّم من أخطائه، بل فقط على التكيّف معها. والتكيّف مع الخطأ، مهما كان مبرَّرًا في لحظة معينة، يتحوّل مع الزمن إلى نمط وجود، وإلى ثقافة داخلية تُنتج مزيدًا من الأخطاء، ومزيدًا من الصمت، ومزيدًا من النزيف.

من هنا، فإن إعادة الاعتبار للنقد الذاتي لا تعني الإكثار من الاعترافات، ولا كتابة فقرات أكثر حدّة، بل تعني إعادة ربط النقد الذاتي بالفعل:
أن يقود إلى تغيير في الخط،
أو إلى مراجعة تحالف،
أو إلى إعادة توزيع أدوار،
أو إلى فتح نقاش علني داخل الحزب،
أو إلى تصحيح مسار تنظيمي ملموس.

من دون ذلك، يبقى النقد الذاتي كلامًا صحيحًا، لكنه عديم الجدوى.

وهنا نصل إلى العقدة التالية، التي لا يمكن القفز فوقها:
كيف جرى الخلط بين الانضباط الواعي والطاعة الصامتة؟
وهذا ما سنفكّكه في المقطع القادم، لأنه يمسّ جوهر العلاقة بين الحزب ورفاقه، وبين القيادة والقاعدة.

الانضباط، الوحدة، والخوف من الانقسام

كيف أُغلِق الفضاء النقدي باسم الحرص على الحزب؟

في التجربة الشيوعية، لم يكن الانضباط يومًا نقيضًا للنقد، بل شرطه التنظيمي. الانضباط الواعي، كما صاغه لينين، ليس خضوعًا صامتًا، بل التزامًا جماعيًا بقرارات خضعت لنقاش حقيقي، وصيغت على ضوء اختلافات معلنة، ثم حُسمت ديمقراطيًا. لكن ما جرى في مسارات لاحقة، وفي سياقات مأزومة تحديدًا، هو انزلاق الانضباط من كونه أداة تنظيم ثوري إلى كونه آلية ضبط دفاعية.

حين تتكاثر الهزائم، ويطول زمن القمع، ويتحوّل البقاء التنظيمي إلى هاجس، تبدأ القيادة—بوعي أو من دونه—في إعادة تعريف مفاهيم أساسية. تصبح “الوحدة” قيمة عليا تُقدَّم على الحقيقة، ويُعاد تأويل الانضباط بوصفه صمتًا مسؤولًا، لا مشاركة نقدية. في هذا المناخ، لا يُقال للرفيق: “ناقش ثم التزم”، بل يُقال له: “التزم كي لا تضرّ بالوحدة”.

هكذا يُختصر الصراع الفكري إلى مشكلة سلوكية، ويُعاد تصنيف النقد لا بحسب صحته أو خطئه، بل بحسب أثره على “الانسجام الداخلي”. السؤال لم يعد: هل ما يُقال صحيح؟ بل: هل يفتح هذا القول باب خلاف؟ وهل نحن مستعدون لتحمّل كلفته؟ ومع تكرار هذا المنطق، يتحوّل الخلاف من ضرورة تطوّر إلى خطر يجب تحييده.

في هذه اللحظة، يبدأ الفضاء النقدي بالانغلاق من دون قرار رسمي. لا تُمنع النقاشات صراحة، لكنها تُؤجَّل. لا يُقمع النقد علنًا، لكنه يُعاد توجيهه نحو قنوات ضيقة، أو يُختزل في ملاحظات هامشية، أو يُطالَب صاحبه بتعديل نبرته إلى حدّ فقدان المعنى. ومع الوقت، يتعلّم الرفاق—خصوصًا الأكثر حساسية تجاه مصير الحزب—أن الصمت أضمن من الصراحة، وأن “الانضباط” يُكافَأ أكثر من الجرأة.

هذا التحوّل لا يُنتج وحدة حقيقية، بل وحدة هشة. وحدة قائمة على تجنّب الصدام، لا على حسم التناقضات. وحين تتراكم التناقضات غير المحسومة، لا تختفي، بل تنتقل إلى مستوى آخر: إلى القطيعة الصامتة، أو إلى الانسحاب الفردي، أو إلى انفجارات مؤجَّلة تظهر في لحظات الأزمة الكبرى.

الخطر هنا مزدوج. من جهة، يُفرَّغ الانضباط من مضمونه الواعي، ويتحوّل إلى طاعة شكلية. ومن جهة أخرى، يُشوَّه النقد، فيُقدَّم بوصفه نقيضًا للوحدة، لا شرطًا لبنائها. بهذه الطريقة، يُغلق الحزب على نفسه تدريجيًا، لا عبر القمع، بل عبر الخوف من التفكك.

لكن التجربة التاريخية للحركات الثورية تقول العكس تمامًا: الأحزاب لا تتفكك بسبب كثرة النقد، بل بسبب تأجيله. لا تنهار بسبب الصراعات الفكرية المعلنة، بل بسبب التناقضات المكتومة. الانقسام الحقيقي لا يبدأ حين يختلف الرفاق، بل حين يتوقفون عن الكلام.

حين يُدار الحزب بمنطق “إدارة الخلاف” بدل “حسمه”، يُنتج ثقافة وسطية مريحة ظاهريًا، لكنها قاتلة على المدى الطويل. لا يتبلور خط واضح، ولا تتحدّد مسؤوليات، ولا تُستخلص دروس فعلية. تُرحَّل الأخطاء من دورة إلى أخرى، وتُعاد صياغتها لغويًا، لكنّها تبقى تعمل في العمق.

هنا يتقاطع هذا المحور مع ما ناقشته الوثيقة الرابعة بوضوح: القيادة التي تتحوّل إلى وظيفة، والمقرّ الذي يصبح مركز الثقل، والإدارة التي تطغى على السياسة. في هذا السياق، يصبح النقد عبئًا على “العمل اليومي”، ويُنظر إليه بوصفه إرباكًا لا إضافة. ومع الوقت، يتشكّل وعي ضمني يقول: الحزب لا يحتمل هذا القدر من الصراحة.

لكن الحزب الذي لا يحتمل الصراحة، لن يحتمل الصراع الطبقي الحقيقي. لأن الصراع الخارجي أعنف، وأكثر تعقيدًا، وأقل رحمة من أي نقاش داخلي.

من هنا، فإن إعادة الاعتبار للنقد لا يمكن أن تتمّ من دون إعادة تعريف الانضباط. الانضباط الثوري ليس صمتًا، بل قدرة على النقاش ثم الالتزام. وليس خضوعًا، بل وعيًا جماعيًا بالمسؤولية. وليس خوفًا من الانقسام، بل استعدادًا لتحمّل كلفة الحقيقة.

وهذا يقودنا مباشرة إلى السؤال التالي، الأكثر حساسية في التجربة العراقية:
كيف تحوّل الخوف من “تشويه صورة الحزب” إلى أداة إسكات؟
وما الذي خسره الحزب حين قدّم الصورة على المضمون؟

“صورة الحزب” أم حقيقة الحزب؟

حين يصبح الحفاظ على الواجهة بديلاً عن تصحيح الجوهر

من أكثر الذرائع التي استُخدمت، بوعي أو من دونه، لتقييد النقد داخل الحزب الشيوعي العراقي، ذريعة “عدم تشويه صورة الحزب”. هذه العبارة، التي تبدو في ظاهرها حرصًا مشروعًا، تحوّلت مع الزمن إلى أداة سياسية–تنظيمية خطيرة، لأنها نقلت مركز الاهتمام من حقيقة الحزب ووظيفته إلى صورته وانطباعه الخارجي.

في المنهج الماركسي، لا تُقاس الأحزاب الثورية بسمعتها، بل بقدرتها على التعبير عن مصالح طبقية حيّة، وعلى تصحيح مسارها حين تنحرف. الصورة ليست قيمة مستقلة، بل انعكاس متغيّر للممارسة. حين تُفصل الصورة عن المضمون، تصبح كيانًا يجب حمايته، حتى لو كان المضمون يتآكل.

ما الذي حدث عمليًا؟

مع تراجع الدور الجماهيري، ومع تقلّص الحضور الاجتماعي، ومع تزايد العزلة السياسية، بدأ الحزب—بدل أن يفتح نقاشًا جذريًا حول أسباب هذا التراجع—يميل إلى حماية ما تبقّى من رمزيته التاريخية. صار يُخشى أن يؤدّي أي نقد علني أو داخلي واسع إلى “إضعاف الموقع المعنوي”، أو “إعطاء الذخيرة للخصوم”، أو “تشويش الجمهور”.

لكن أي جمهور؟
وأي خصوم؟
وأي موقع معنوي إذا كانت الصلة بالكادحين قد ضعفت أصلًا؟

في هذا المناخ، لم يعد النقد يُواجَه بالحجّة، بل بالتحذير. لم يُقَل للناقد: “أخطأت في التحليل”، بل قيل له: “توقيته غير مناسب”، أو “المرحلة لا تحتمل”، أو “هذا سيُساء فهمه”. وهكذا، تحوّل النقاش من محتوى السياسة إلى إدارة الانطباع عنها.

الأخطر من ذلك أنّ “صورة الحزب” لم تكن تُفهم بوصفها صورة الحزب في عيون الطبقة العاملة، بل غالبًا بوصفها صورته في عيون نخب سياسية، أو حلفاء ظرفيين، أو وسائل إعلام، أو قوى “مدنية” عابرة. أي أن الصورة التي جرى الدفاع عنها لم تكن بالضرورة صورة الحزب بوصفه أداة تحرّر طبقي، بل صورة حزب “مسؤول”، “عقلاني”، “غير صدامي”.

بهذا المعنى، تحوّلت الصورة إلى معيار للانضباط. ما ينسجم معها يُقبل، وما يهدّدها يُهمَّش. ومع الوقت، يتعلّم الرفاق أن التفكير بصوت عالٍ مخاطرة، وأن الصراحة قد تُفهم “تجاوزًا”، وأن الأفضل هو الحديث بلغة عامة، ملساء، لا تُغضب أحدًا.

لكن الحزب الذي يربّي كوادره على تجنّب الإحراج، لا يربّيهم على مواجهة السلطة. والحزب الذي يخشى على صورته أكثر مما يخشى على صدقه، يفقد تدريجيًا احترام المجتمع—even إن بقيت له هالة رمزية.

هنا يجب أن نقول بوضوح ماركسي لا لبس فيه:
لا يوجد حزب ثوري بلا أخطاء.
لكن يوجد حزب ثوري يعترف بأخطائه، وحزب آخر يُخفيها. الأول يتعلّم ويتقدّم، والثاني يتآكل من الداخل.

تاريخ الحركة الشيوعية العالمية يثبت أن أكثر اللحظات إيلامًا—الانقسامات، الهزائم، المراجعات القاسية—كانت أيضًا لحظات تجديد. لم تُدمَّر الأحزاب لأنها ناقشت أخطاءها، بل لأنها رفضت ذلك. السوفييت أنفسهم لم يسقطوا لأن النقد كان كثيرًا، بل لأن النقد أصبح مستحيلًا.

في التجربة العراقية، أدّى الخلط بين “حماية الصورة” و“حماية الحزب” إلى نتائج ملموسة:
تراكم أخطاء لم تُراجَع.
انسحاب رفاق شعروا أن الصراحة غير مرحّب بها.
تحوّل النقد إلى همس، ثم إلى قطيعة.
وتحوّل الحزب، في نظر كثيرين، إلى تنظيم يفضّل السلامة على الحقيقة.

الصورة التي تُبنى على الصمت لا تصمد.
والهيبة التي تُحمى بالكتمان تتحوّل إلى قشرة.
والحزب الذي يخاف من رؤية نفسه بوضوح، لن يراه المجتمع بوضوح أيضًا.

من هنا، فإن استعادة النقد تعني، بالضرورة، كسر وهم “الصورة المحصّنة”. لا من أجل الفضيحة، ولا من أجل جلد الذات، بل من أجل إعادة التأسيس على قاعدة الصدق. صورة الحزب لا تُصان بإخفاء الشقوق، بل بإصلاحها. لا تُصان بالبيانات، بل بالفعل.

وهذا يقودنا إلى سؤال أكثر عمقًا وخطورة:
كيف تحوّل النقد الذاتي نفسه—بوصفه ممارسة ثورية—إلى طقس لغوي فارغ؟
وكيف جرى استخدامه للتبرير بدل التصحيح؟

النقد الذاتي: من ممارسة تغيير إلى لغة تبرير

إذا كان النقد هو فعل كشف، فإن النقد الذاتي في المنهج الماركسي هو لحظة الشجاعة القصوى: لحظة اعتراف التنظيم بنفسه كجزء من الواقع المتناقض، لا ككيان يقف خارجه. النقد الذاتي ليس جلدًا للذات، ولا اعتذارًا أخلاقيًا، ولا تمرين تواضع لفظي؛ إنّه أداة لإعادة ربط الحزب بوظيفته الطبقية، حين تتبيّن المسافة بين ما يعلنه وما يفعله.

في التجربة الشيوعية العراقية، جرى الاعتراف نظريًا بأهمية النقد الذاتي، لكنه جرى في الوقت نفسه تفريغه عمليًا من مضمونه. تحوّل من ممارسة تغيّر السياسات والبنى والقيادات، إلى لغة تُقال من دون أن تُترجَم. صار حاضرًا في الخطب والوثائق، غائبًا في القرارات والنتائج. وهنا تكمن المفارقة الأخطر: أن النقد الذاتي صار وسيلة لتثبيت الوضع القائم بدل تغييره.

كيف حدث ذلك؟

حدث حين فُصل النقد الذاتي عن المسؤولية. في النقد الماركسي الحقيقي، لا يُقال “أخطأنا” بوصفها صيغة لغوية عامة، بل يُقال: أين كان الخطأ؟ من اتّخذ القرار؟ ما نتائجه؟ وما الذي تغيّر بعد الاعتراف؟ حين تُمحى هذه الأسئلة، يتحوّل النقد الذاتي إلى تعبير جماعي غامض، بلا فاعل، بلا زمن، وبلا أثر.

بهذا المعنى، أصبح النقد الذاتي في مراحل عديدة أقرب إلى طقس تطهيري منه إلى أداة تصحيح. يُستدعى في المؤتمرات، ثم يُطوى. يُقال إن “التجربة أظهرت قصورًا”، من دون أن يُقال ما هو هذا القصور، وكيف سيُعالَج، ومن سيحاسَب. والنتيجة أن الخطأ يستمر، لكن بلغة أكثر حذرًا.

الأخطر أن هذا الشكل من النقد الذاتي أُعيد استخدامه لتبرير السياسات ذاتها. بدل أن يكون لحظة قطيعة مع مسار خاطئ، صار مدخلًا لإعادة إنتاجه مع بعض التعديلات الشكلية. يُقال إن “المرحلة تغيّرت”، وإن “الظروف فرضت خيارات صعبة”، وإن “التوازنات لا تسمح بأكثر من ذلك”. وهكذا يتحوّل النقد الذاتي إلى خطاب تكيّف، لا إلى أداة صراع.

في هذه اللحظة، يفقد النقد الذاتي وظيفته الطبقية. بدل أن يكشف العلاقة بين الحزب والطبقة، وبين السياسة والمصالح الاجتماعية، يصبح وسيلة لإدارة الأزمة داخل التنظيم. يخفّف الاحتقان، لكنّه لا يغيّر الاتجاه. يهدّئ القاعدة، لكنه لا يعيد بناء الثقة.

وهنا تظهر إحدى أخطر نتائج هذا التحوّل: تحميل القاعدة مسؤولية الإخفاق، مع تحييد القيادة عن المراجعة الجدية. يُقال إن “التنفيذ لم يكن بالمستوى المطلوب”، أو إن “الرفاق لم يتفاعلوا”، أو إن “الظروف لم تنضج”. نادرًا ما يُقال إن الخط السياسي نفسه كان قاصرًا، أو إن التحالفات كانت خاطئة، أو إن القراءة الطبقية كانت مضطربة.

بهذا الشكل، يُعاد إنتاج هرم غير معلن: القاعدة تُنتقَد، والقيادة تُحمى. القاعدة تُطالَب بالنقد الذاتي، والقيادة تُطالَب بالصبر. ومع الوقت، تتعلّم القاعدة أن النقد الحقيقي مكلف، وأن الأمان التنظيمي يمرّ عبر الصمت أو العمومية.

لكن النقد الذاتي الذي لا يطال مركز القرار ليس نقدًا ذاتيًا، بل إدارة لغوية للفشل.

في المنهج اللينيني، كان النقد الذاتي يعني تغيير الخط حين يتبيّن خطؤه، حتى لو كلّف ذلك القيادة مواقعها. لم يكن مرتبطًا بالحفاظ على الأشخاص، بل بالحفاظ على الوظيفة الثورية للحزب. ولهذا كان الاعتراف بالخطأ مقرونًا دائمًا بإجراءات ملموسة: إعادة توجيه، إعادة تنظيم، أو حتى إعادة تأسيس.

غياب هذا الربط بين الاعتراف والتغيير هو ما جعل كثيرًا من الرفاق ينظرون إلى النقد الذاتي بوصفه إجراءً شكليًا. ومع هذا الشعور، فقد النقد مصداقيته، وفقد الحزب إحدى أهم أدواته الحيوية.

الأخطر من ذلك أنّ النقد الذاتي، حين يتحوّل إلى لغة تبرير، يُدرّب الحزب على قبول التراجع بوصفه “حكمة”، وعلى قبول الخسارة بوصفها “واقعية”، وعلى قبول العزلة بوصفها “ثمن الموقف”. وهنا يتحوّل المنهج الثوري إلى فلسفة صبر، لا إلى أداة تغيير.

إعادة التأسيس الشيوعي لا يمكن أن تتمّ من دون إعادة الاعتبار للنقد الذاتي بوصفه فعل قطيعة حين يلزم، لا مجرّد مراجعة لفظية. نقد ذاتي لا يُغيّر شيئًا هو تواطؤ مع الخطأ، مهما كانت لغته متقنة.

ومن هنا يبرز السؤال التالي، الذي لا يقل حساسية:
من ينتقد؟ ومن يُنتقَد؟ وأين يقف النقد داخل البنية التنظيمية نفسها؟

هذا ما يقودنا إلى محور لا يمكن القفز فوقه: العلاقة بين النقد، الانضباط، والخوف التنظيمي.

النقد، الانضباط، والخوف التنظيمي: حين يُستبدَل الوعي بالطاعة

في التجربة الثورية، لا يكون الانضباط نقيضًا للنقد، بل شرطًا له. الانضباط، في المنهج الماركسي–اللينيني، ليس طاعة صامتة ولا امتثالًا إداريًا، بل التزامًا واعيًا ببرنامج يُناقَش، وبقرارات تُتَّخذ بعد صراع فكري، وبوحدة تُبنى على الاقتناع لا على الخشية. حين ينفصل الانضباط عن الوعي، يتحوّل إلى أداة ضبط، وحين يتحوّل إلى ضبط، يولّد الخوف، لا الالتزام.

في مسار الحزب الشيوعي العراقي، ومع تراكم الضربات والقمع والمنافي، بدأ مفهوم الانضباط يتغيّر تدريجيًا. صار يُقدَّم بوصفه شرط البقاء التنظيمي، لا بوصفه تعبيرًا عن وحدة سياسية حيّة. ومع هذا التحوّل، بدأ النقد يُرى كتهديد محتمل لهذا “البقاء”، لا كوسيلة لحمايته. هكذا نشأ مناخ غير معلن يُكافئ الحذر، ويعاقب الجرأة، ويُعيد تعريف “الرفيق الجيد” بوصفه من لا يربك التوازنات.

الخوف التنظيمي لا يُعلَن، لكنه يُمارَس. لا يُكتب في اللوائح، لكنه يتسرّب إلى السلوك اليومي: إلى ما يُقال في الاجتماعات، وإلى ما لا يُقال؛ إلى نوع الأسئلة المطروحة، وإلى الأسئلة المؤجَّلة؛ إلى الطريقة التي يُستقبَل بها النقد، وإلى اللغة التي يُردّ بها عليه. ومع الوقت، يتعلّم الرفيق—من دون تعليم مباشر—حدود المسموح، وحدود “غير المناسب”، وحدود “ليس الآن”.

بهذا المعنى، لا يحتاج الحزب إلى قمع داخلي مباشر كي يقيّد النقد. يكفي أن تتكوّن ثقافة تجعل الرفيق يحسب كلفة كل كلمة، لا من زاوية صحتها، بل من زاوية أثرها التنظيمي عليه. وحين تصبح الكلفة الشخصية للنقد أعلى من جدواه السياسية، ينتصر الصمت بوصفه خيارًا عقلانيًا.

هذا المناخ لا ينتج وحدة، بل هشاشة. وحدة تقوم على تجنّب الصدام، لا على حسمه. وحدة تُخفي التناقضات بدل إدارتها. وحين تنفجر هذه التناقضات—كما يحدث حتمًا—تظهر بأشكال أكثر حدّة: انقسامات صامتة، انسحابات فردية، أو قطيعة نهائية بلا نقاش.

الأخطر أن الخوف التنظيمي يُشوّه معنى المسؤولية. بدل أن تكون المسؤولية قدرة على اتخاذ موقف وتحمل نتائجه، تصبح القدرة على تفادي المخاطر الداخلية. وبدل أن تكون الجرأة السياسية قيمة، تتحوّل إلى “تهوّر”. ومع هذا الانقلاب القيمي، تتغيّر طبيعة القيادة نفسها: لا يصعد من يملك رؤية وقدرة على الصدام، بل من يملك مهارة إدارة التوازنات.

في هذا السياق، يُعاد تعريف الانضباط بوصفه التزامًا بالقرار بعد صدوره، لا مشاركة في صنعه. ويُعاد تعريف الوحدة بوصفها صمتًا بعد النقاش، لا نتيجة اقتناع. ويُعاد تعريف النقد بوصفه رأيًا يُقال “في وقته”، أي حين لا يغيّر شيئًا.

هذا ليس انحرافًا أخلاقيًا، بل نتيجة بنية تنظيمية تضع الاستقرار الشكلي فوق الحيوية السياسية. بنية تخاف من فتح الأسئلة، لأنها لا تثق بقدرتها على إدارتها. وبنية تُفضّل إدارة الخسارة على مخاطرة التغيير.

في التجارب الثورية الكبرى، لم يُحافَظ على الأحزاب عبر تقليص النقد، بل عبر تعميمه وتنظيمه. النقد، حين يُفتح داخل أطر واضحة، يصبح أداة ضبط واعية، لا عامل تفكيك. لكن حين يُكبت، يبحث عن مخارج أخرى: في الهمس، في التسريبات، في الانسحاب، أو في الانفجار.

من هنا، فإن استعادة النقد لا تعني إضعاف الانضباط، بل إعادة تعريفه. الانضباط الواعي هو الذي يحتمل السؤال، ويستوعب الاختلاف، ويحوّل الصراع الفكري إلى قرار جماعي. أما الانضباط القائم على الخوف، فينتج تنظيمًا هادئًا من الخارج، متآكلًا من الداخل.

وهنا نصل إلى مفصل لا يقل خطورة:
كيف تُدار الهيئات القيادية نفسها في ظل ثقافة خوف؟ وكيف يتحوّل غياب النقد إلى إعادة إنتاج للقيادة ذاتها؟

هذا ما يفتح الباب للمحور التالي: النقد والقيادة: من المساءلة إلى التحصين.

النقد والقيادة: من المساءلة إلى التحصين

في الحزب الثوري، لا تُقاس القيادة بمكانتها التنظيمية، بل بقدرتها على تحويل الخبرة الجماعية إلى قرار، وعلى تحويل النقد إلى تصحيح، وعلى تحمّل مسؤولية الخطأ كما تتحمّل شرف المبادرة. القيادة، في المنهج الماركسي–اللينيني، ليست موقعًا محصّنًا فوق الصراع، بل مركزًا مكثفًا له، يُفترض أن يكون الأكثر تعرّضًا للنقد، لا الأقل.

لكن حين يتعطّل النقد، يتغيّر موقع القيادة تلقائيًا. بدل أن تكون موضع مساءلة دائمة، تتحوّل إلى مرجعية مغلقة. وبدل أن تُقاس قراراتها بآثارها الاجتماعية والسياسية، تُقاس بمدى حفاظها على “الاستقرار الداخلي”. هنا يبدأ التحوّل الأخطر: من قيادة تُحاسَب إلى قيادة تُحصَّن.

التحصين لا يُمارَس عادةً بقرارات صريحة. لا يُقال: “هذه القيادة فوق النقد”. بل يُبنى تدريجيًا عبر شبكة من الأعراف غير المكتوبة: احترام “التجربة”، مراعاة “الظرف”، عدم “إرباك التنظيم”، الحفاظ على “الصورة العامة”. ومع تكرار هذه اللغة، يصبح نقد القيادة سلوكًا مشكوكًا في دوافعه، لا ممارسة مشروعة.

في هذا المناخ، يُعاد ترتيب العلاقة بين القاعدة والقيادة. لا يعود السؤال: هل القرار صائب؟ بل: هل الوقت مناسب لمناقشته؟ هل الطرح يخدم الوحدة؟ هل الأسلوب لائق؟ وهكذا يُنقل مركز الثقل من مضمون السياسة إلى شكلها، ومن صحة التحليل إلى “حسن التقدير التنظيمي”. النقد لا يُرفض، لكنه يُؤجَّل، يُفرَّغ، أو يُعاد تدويره في قنوات لا تصل إلى جوهر القرار.

ومع الوقت، تتشكّل قيادة تعيش داخل دائرة مغلقة من التغذية الراجعة. النقد الذي يصلها يكون غالبًا من النوع “الآمن”: ملاحظات تقنية، أو اقتراحات إجرائية، أو تعليقات لا تمسّ الخط العام. أما النقد الجذري—الذي يسأل عن الاتجاه، والتحالفات، واللغة، والعلاقة بالطبقة—فيبقى خارج القنوات المؤثرة، أو يُعاد تفسيره بوصفه سوء فهم.

هذا النمط لا يُنتج فقط أخطاء سياسية، بل يُعيد إنتاج القيادة نفسها. لأن غياب النقد الفعلي يعني غياب آليات التغيير الداخلي. الوجوه تتبدّل أحيانًا، لكن المنطق يبقى ذاته. تُعاد صياغة الأخطاء بلغة جديدة، وتُقدَّم الاستمرارية بوصفها “خبرة”، بينما هي في الواقع إدارة متراكمة للتراجع.

الأخطر من ذلك أن هذا التحصين يُشوّه معنى المسؤولية. حين لا تُحاسَب القيادة على نتائج قراراتها، لا يعود الخطأ حدثًا يستدعي التصحيح، بل “تقديرًا اجتهاديًا” يُطوى مع الزمن. وحين لا تُربَط السياسات بنتائجها الاجتماعية—في الشارع، في الحاضنة، في العضوية—تفقد القيادة حساسيتها تجاه الواقع، وتبدأ في العيش داخل منطقها الخاص.

في التجربة العراقية، تعمّق هذا الخلل بفعل ظروف استثنائية: القمع، السرية، المنافي، الاحتلال، والتشتّت. كل ذلك جعل من “الحفاظ على القيادة” قيمة بحد ذاتها، أحيانًا على حساب تجديدها أو مساءلتها. لكن ما كان مفهومًا في لحظة خطر، تحوّل مع الزمن إلى عادة تنظيمية، ثم إلى ثقافة.

ثقافة ترى في النقد تهديدًا، وفي الاستقرار غاية، وفي التغيير مخاطرة غير محسوبة. ثقافة تُفضّل التكيّف مع الواقع على صدامه، وتُفضّل إدارة الخسارة على المجازفة بكسرها. ومع هذه الثقافة، يصبح الحزب أقل قدرة على المبادرة، وأكثر ميلًا إلى ردّ الفعل، وأبعد عن لعب دور طليعي.

في المنهج الماركسي، لا توجد قيادة “طبيعية” أو “دائمة”. القيادة تُكتسَب، وتُختبَر، وتُفقد. تُكتسَب بالتحليل الصائب، وتُختبَر بالفعل، وتُفقد حين تفشل في قراءة الواقع أو في تمثيل مصالح الطبقة. وحين تُرفع القيادة فوق هذا المنطق، يتحوّل الحزب من أداة تغيير إلى جهاز صيانة.

استعادة النقد هنا تعني إعادة السياسة إلى موقعها الطبيعي: فوق الأشخاص، وفوق المواقع. تعني أن تكون القيادة أول من يفتح النقاش، لا آخر من يقبله. وأن تكون أول من يعترف بالخطأ، لا آخر من يبرّره. وأن ترى في النقد مورد قوة، لا خصمًا يجب تحييده.

ومن دون ذلك، سيبقى السؤال معلّقًا:
كيف يمكن لحزب لا يُساءل قادته أن يطالب المجتمع بمساءلة سلطته؟


النقد العلني والنقد الداخلي: متى يكون الصمت خيانة؟

قبل الخوض في مسألة النقد العلني وحدوده، لا بدّ من توضيح نقطة منهجية أساسية: هذه الوثيقة لا تُكتب بدافع الجدل، ولا بقصد كسر الانضباط، ولا سعياً إلى نقل الخلافات التنظيمية إلى الفضاء العام. ما يُطرح هنا يندرج حصراً في إطار النقاش الفكري–السياسي حول المنهج، والدور، والوظيفة التاريخية للحزب، أي في الإطار الذي يمسّ المجتمع والطبقة بقدر ما يمسّ التنظيم نفسه. إنّ التمييز بين ما هو داخلي تنظيمي، وما هو فكري–تأسيسي عام، ليس تفصيلاً شكلياً، بل شرطاً لفهم لماذا يصبح الصمت، في لحظات معيّنة، موقفاً سياسياً بحدّ ذاته، ولماذا يغدو النقاش العلني—حين يلتزم المنهج ويتجنّب الشخصنة—جزءاً من مسؤولية الحزب تجاه قاعدته الاجتماعية لا خروجاً عليها.

يثور، كلما طُرحت أسئلة نقدية جذرية في الفضاء العام، اعتراضٌ مألوف:
«لماذا يُكتب هذا علنًا؟ لماذا لا يبقى داخل الحزب؟ أليس في ذلك إضعاف؟»

هذا الاعتراض، في ظاهره، يبدو حريصًا على التنظيم. لكنه، في جوهره، يعبّر عن التباسٍ عميق في فهم النقد، ودوره، وحدوده، ووظيفته في المنهج الماركسي–اللينيني.

في الماركسية، لا يُختزل النقد في كونه إجراءً داخليًا تنظيميًا، ولا يُفهم بوصفه شأنًا خاصًا يُدار خلف الأبواب المغلقة. النقد هو فعلٌ معرفي–سياسي موجّه إلى الواقع الاجتماعي بقدر ما هو موجّه إلى التنظيم الذي يدّعي تغييره. ولهذا، فإن السؤال الحقيقي ليس: «هل يُكتب النقد علنًا أم داخليًا؟»
بل: ما طبيعة هذا النقد؟ وما موضوعه؟ ولمن يُوجَّه؟

حين يتعلّق النقد بمسائل تنظيمية حسّاسة، أو بأمن الرفاق، أو بتفاصيل انضباطية فردية، يصبح الطرح العلني غير مسؤول. أمّا حين يتعلّق النقد بالخط السياسي، والمنهج الفكري، ووظيفة الحزب التاريخية، وعلاقته بالطبقة والمجتمع، فإن حصره داخل الجدران التنظيمية لا يكون حرصًا، بل يصبح شكلًا من أشكال المصادرة.

ماركس لم يكتب نقده للرأسمالية لاجتماع داخلي، ولينين لم يخُض سجالاته الفكرية الكبرى في غرف مغلقة. الصراع الفكري، في التراث الشيوعي، كان دائمًا جزءًا من الصراع الطبقي العلني. لأن الوعي لا يُنتج في السر، ولا يتراكم في الصمت، ولا يتشكّل داخل دوائر مغلقة.

الخوف من النقد العلني لا ينشأ عادةً من قوة التنظيم، بل من هشاشته. التنظيم الواثق من منهجه، ومن قاعدته الاجتماعية، لا يخشى النقاش المفتوح، بل يستثمره لتوسيع تأثيره. أمّا التنظيم الذي يرى في كل نقد علني تهديدًا، فإنه يكون قد بدأ—من حيث لا يريد—تحويل الوحدة إلى صمت، والانضباط إلى خضوع، والاستمرار إلى إدارة خسارة.

الخلط بين النقد العلني والتشهير هو خلط مقصود أو كسول. فالنقد المنهجي، حين يلتزم تحليل البنى والسياسات والوظائف، ولا ينزلق إلى الشخصنة أو الاتهام الأخلاقي، لا يُضعف الحزب، بل يحميه من التحلّل البطيء. الحزب لا يُضرب حين يُنقد، بل حين يُمنع من تصحيح نفسه.

الأخطر من النقد العلني هو فراغ الساحة الفكرية. حين يمتنع الشيوعيون عن طرح أسئلتهم في العلن، تُترك الجماهير فريسة لخطابات طائفية، وشعبوية، وليبرالية سطحية. وحين يصمت الحزب عن نقد ذاته أمام المجتمع، يفقد صدقيته بوصفه قوة تغيير، ويتحوّل إلى جهازٍ يدافع عن صورته أكثر مما يدافع عن طبقته.

من هذا المنطلق، فإن العلنية ليست خروجًا عن الانضباط، بل ممارسة واعية لوظيفة المثقف العضوي. وهي ليست بديلًا عن النقاش الداخلي، بل مكملة له، وشرطًا لتحويل النقد من همسٍ معزول إلى قوة وعي اجتماعي.

الصمت، في لحظات الانعطاف التاريخي، ليس حيادًا. الصمت سياسة.
وفي حالات كثيرة، يكون الصمت خيانة غير معلنة لوظيفة الحزب ودوره.

لهذا، فإن إدراج هذا النقد في الفضاء العام ليس مغامرة، بل ضرورة. ليس تشهيرًا، بل دفاعًا عن جوهر المشروع الشيوعي نفسه:
أن يكون الفكر الثوري ملكًا للطبقة، لا حكرًا على التنظيم.

النقد الذاتي: حين يتحوّل من أداة تصحيح إلى خطاب تبريري

في التجربة الشيوعية، لم يكن النقد الذاتي يومًا اعترافًا أخلاقيًا بالخطأ، ولا طقسًا تطهيريًا يُمارَس في المناسبات. كان، في أصله، فعلًا سياسيًا منظّمًا يهدف إلى تفكيك أسباب الخطأ، لا الاكتفاء بتسميته، وإلى منع تكراره عبر تغيير السياسات والبنى، لا عبر الاكتفاء بالندم اللفظي.

لكن ما جرى، تاريخيًا، في مسار الحزب الشيوعي العراقي، هو انزلاق بطيء وخطير في وظيفة النقد الذاتي. بدل أن يكون لحظة مواجهة مع الذات التنظيمية، تحوّل في مراحل كثيرة إلى خطاب دفاعي مقنّع، يُستدعى بعد الهزائم لا لتفكيكها، بل لاحتوائها لغويًا. هكذا صار النقد الذاتي يُمارَس من دون أن يُنتج قطيعة مع ما سبّب الخطأ، ومن دون أن يُترجم إلى تغييرات ملموسة في الخط أو البنية أو القيادة.

في هذا السياق، ظهرت صيغة مألوفة ومكرّرة: الاعتراف العام بوجود “أخطاء” من دون تحديد مسؤوليات، ومن دون تسمية خيارات سياسية بعينها، ومن دون ربط الأخطاء بنتائجها الاجتماعية. تُقال العبارة، وتُطوى الصفحة، ويُطلب من الجميع “النظر إلى الأمام”. لكن الأمام، من دون مراجعة حقيقية، لا يكون إلا إعادة إنتاج للماضي بأدوات جديدة.

الأخطر من ذلك أن النقد الذاتي، بدل أن يُوجَّه إلى أعلى، بدأ يُعاد توجيهه إلى أسفل. القاعدة تُطالَب بالنقد الذاتي أكثر من القيادة. الكوادر الوسطى تُحاسَب على ضعف المبادرة، بينما لا تُسأل السياسات التي أغلقت أفق المبادرة. يُقال للرفيق: “أنت لم تفعل ما يكفي”، من دون أن يُسأل: هل كان هناك إطار فعلي يسمح له بأن يفعل؟

بهذا المعنى، تحوّل النقد الذاتي من أداة تحرّر داخل الحزب إلى أداة ضبط. لا يُستخدم لتفكيك القرار، بل لتأديب السلوك. لا يُستدعى لمراجعة الخط، بل لتفسير الإخفاق بوصفه تقصيرًا فرديًا أو ظرفًا قاهرًا. وهكذا يُنزَع الطابع السياسي عن الفشل، ويُعاد إنتاجه في شكل أخلاقي أو إداري.

في المنهج الماركسي، هذا التحوّل ليس تفصيلاً ثانويًا، بل انحرافًا بنيويًا. لأن الحزب الذي يعجز عن ممارسة نقد ذاتي فعلي، يعجز بالضرورة عن تطوير وعيه الطبقي. والوعي، حين يتجمّد، لا ينهار دفعة واحدة، بل يتحجّر. يتحوّل إلى لغة محفوظة، وإلى مقولات جاهزة، وإلى يقينيات لا تُختبَر.

النقد الذاتي الحقيقي يفترض ثلاثة شروط مترابطة:
أولها، الجرأة على تسمية الخيارات الخاطئة بأسمائها، لا الاكتفاء بتعميم الخطأ.
ثانيها، ربط الخطأ ببنية اتخاذ القرار، لا بفشل الأفراد فقط.
ثالثها، ترجمة المراجعة إلى تغيير ملموس في السياسة أو التنظيم أو القيادة.

حين يغيب أيّ من هذه الشروط، يتحوّل النقد الذاتي إلى أداء شكلي. يُقال ما يجب قوله، من دون أن يُفعل ما يجب فعله. ويصبح الاعتراف بالخطأ وسيلة لإغلاق النقاش، لا لفتحه. وهذا أخطر أشكال التبرير، لأنه يرتدي لباس الشجاعة بينما يعطّل أثرها.

في التجربة العراقية، تراكمت لحظات كان يمكن أن تشكّل منعطفات حقيقية: بعد 1973، بعد 1976، بعد الانكسارات الكبرى، بعد الاحتلال، بعد فشل الرهانات السياسية، بعد تآكل الحاضنة الاجتماعية. في كل مرة، جرى قدر من النقد، لكنه بقي في الغالب محصورًا في مستوى الخطاب، لا في مستوى إعادة البناء.

والنتيجة كانت واضحة: أخطاء تتكرّر بأشكال مختلفة، تحالفات تُعاد صياغتها بالمنطق نفسه، لغة تُبدَّل من دون تغيير الجوهر، وقيادات تُستبدَل شكليًا من دون مساس بمنطق القيادة ذاته. النقد الذاتي، في هذه الحالة، لا يصبح قوة دفع، بل صمام أمان يمنع الانفجار، ويُبقي الخلل قائمًا.

ما تحتاجه إعادة التأسيس الشيوعي ليس مزيدًا من الاعترافات العامة، بل إعادة الاعتبار للنقد الذاتي بوصفه آلية تغيير. آلية قاسية أحيانًا، لكنها ضرورية. آلية لا تبحث عن الملامة، بل عن السبب. ولا عن السبب فقط، بل عن ما يجب تغييره كي لا يتكرّر.

وهنا نصل إلى المفصل الأكثر حساسية في هذه الوثيقة:
الخوف من النقد، وكيف يتحوّل إلى ثقافة تنظيمية شاملة.

ومن داخل الجرح نفسه.

الخوف من النقد: حين تتحوّل الحماية التنظيمية إلى آلية شلل

لا يولد الخوف من النقد فجأة، ولا يُفرض بقرار مكتوب. إنّه يتكوّن تدريجيًا، كمنتَج جانبي لمسار طويل من القمع، والهزائم، والانكسارات، والعيش في ظروف استثنائية. في البداية يكون الخوف مفهومًا: حماية التنظيم من الاختراق، الحفاظ على ما تبقّى من بنية، تجنّب الانقسام في لحظات خطر. لكن ما يبدأ كإجراء مؤقّت يتحوّل، مع الزمن، إلى ثقافة مستقرة، ثم إلى منطق حكم داخلي.

في هذه اللحظة، لا يعود السؤال: هل النقد صحيح؟
بل يصبح: هل النقد آمن؟
وهذا التحوّل وحده كافٍ لإفراغ أي ممارسة ثورية من مضمونها.

في ثقافة الخوف، لا يُقمع النقد دائمًا بشكل مباشر. غالبًا ما يُدار بأساليب أكثر نعومة وأشد فاعلية: التجاهل، التأجيل، التمييع، الإحالة إلى لجان، أو تحويله إلى نقاش جانبي لا يصل إلى القرار. يُقال للناقد إن “الوقت غير مناسب”، أو إن “الظروف لا تحتمل”، أو إن “المرحلة تفرض الاصطفاف”. وهكذا يتحوّل النقد من فعل راهن إلى وعد مؤجّل، ومن ضرورة سياسية إلى عبء أخلاقي.

ومع تكرار هذه التجربة، يتعلّم الرفاق درسًا غير مكتوب:
قل ما لا يزعج، أو اصمت.
ناقش في الهوامش، لا في الجوهر.
كن نقديًا في العموم، لا في التحديد.

هكذا تتكوّن طبقة من “النقد المقبول”: نقد لغوي، عام، بلا أسماء، بلا قرارات، بلا نتائج. نقد يريح الضمير، لكنه لا يغيّر شيئًا. وفي المقابل، يُصنَّف النقد الذي يقترب من الخط السياسي، أو من القيادة، أو من آليات القرار، بوصفه “خطيرًا”، أو “غير مسؤول”، أو “يفتح ثغرات”.

في هذه البيئة، لا يُعاقَب الرفيق دائمًا على ما يقوله، بل على ما قد يترتّب على قوله. العقاب ليس بالضرورة فصلًا أو توبيخًا، بل إقصاء صامت: إبعاده عن مواقع التأثير، تجاهل مبادراته، تجفيف مسارات تطوّره التنظيمي. ومع الوقت، يفهم الرسالة من دون أن تُقال.

النتيجة ليست فقط إسكات الأصوات النقدية، بل تشويه الوعي نفسه. حين يتعوّد التنظيم على تجنّب النقد الجذري، يبدأ بإنتاج تفسيراته الخاصة للفشل. تُستبدَل الأسئلة السياسية بأسئلة إجرائية، وتُختزَل الأزمة في ضعف الموارد، أو في سوء الظروف، أو في “مزاج المجتمع”. وتُمحى العلاقة بين القرار والنتيجة، بين السياسة والخسارة.

هذا الخوف لا يدمّر النقد فقط، بل يدمّر الثقة. لأن الرفيق الذي يشعر أن الحقيقة مكلفة، وأن الصراحة ثمنها العزلة، سيتحوّل إمّا إلى صامت، أو إلى مزدوج الخطاب: شيء يُقال في الجلسات الخاصة، وشيء آخر يُقال في الاجتماعات الرسمية. وهذه الازدواجية ليست انحرافًا أخلاقيًا فرديًا، بل استجابة بنيوية لبيئة لا تكافئ الصدق.

من هنا، يصبح الانضباط نفسه مشوّهًا. الانضباط الثوري، في الأصل، هو التزام واعٍ بخط جماعي خاضع للنقاش والتقييم. لكن حين يُفصل الانضباط عن النقد، يتحوّل إلى طاعة. والطاعة، مهما بدت هادئة، لا تُنتج حزبًا ثوريًا، بل جهازًا إداريًا متماسكًا ظاهريًا، هشًّا في العمق.

في المنهج الماركسي–اللينيني، لا توجد قيادة فوق النقد، ولا قرار فوق المراجعة. القيادة تُختبَر بقدرتها على استقبال النقد، لا بقدرتها على تحييده. والوحدة تُقاس بقدرتها على احتواء التناقض، لا بإخفائه. الحزب الذي يخاف من كلماته الداخلية، سيعجز عن مواجهة لغة السلطة، ولغة الرأسمال، ولغة الطائفية، ولغة القمع.

إن أخطر ما في ثقافة الخوف من النقد هو أنها تُنتج استقرارًا وهميًا. يبدو الحزب متماسكًا، الاجتماعات هادئة، القرارات تمرّ بسلاسة. لكن هذا الهدوء ليس علامة صحة، بل علامة كبت. وما يُكبت لا يختفي؛ إمّا ينفجر، أو يتسرّب في شكل انسحابات صامتة، أو يتحوّل إلى لا مبالاة عامة، أو يُعاد توجيهه خارج الحزب بطرق غير منظّمة.

لهذا، فإن إعادة التأسيس الشيوعي تفرض مواجهة هذا الخوف لا بوصفه خللًا نفسيًا، بل بوصفه بنية ثقافية. بنية لا تُفكَّك بالشعارات، بل بإعادة بناء العلاقة بين النقد والقرار، وبين القاعدة والقيادة، وبين الانضباط والوعي.

وهنا نصل إلى السؤال العملي الذي لا يمكن تأجيله أكثر:
كيف يُمارَس النقد داخل الحزب؟ ومن يملك حق تحويله إلى قرار؟

من يملك النقد؟ ومن يملك القرار؟ حين ينفصل الكلام عن الفعل

لا قيمة لأي حديث عن النقد ما لم يُطرح السؤال الحاسم:
أين يذهب النقد بعد أن يُقال؟

في كثير من التجارب الحزبية، ومنها التجربة الشيوعية العراقية في مراحل طويلة، يُسمح للنقد بأن يُقال، لكن لا يُسمح له بأن يُغيّر. يُناقَش في حلقات محدودة، يُدوَّن في محاضر، يُحال إلى لجان، ثم يُعاد تدويره أو يُركَن. هكذا يتحوّل النقد من أداة تدخل في صلب اتخاذ القرار، إلى نشاط جانبي موازٍ لا يلامس جوهر السياسة.

في هذه اللحظة بالذات، يحدث الانفصال الأخطر:
القاعدة تنتج أسئلة،
لكن القيادة تحتكر الأجوبة.

والأخطر أن هذا الاحتكار لا يُمارَس دائمًا بوعي أو بنية استبدادية مباشرة، بل غالبًا تحت عناوين “الخبرة”، و“المعرفة بالظروف”، و“الرؤية الشاملة”. وهكذا يُعاد إنتاج هرم صامت: في أسفله نقاش، وفي أعلاه قرار لا يُمسّ.

حين يُفصل النقد عن القرار، يفقد معناه الثوري. يصبح مجرّد تنفيس، أو تمرين لغوي، أو اختبار ولاء. يبدأ الرفيق بسؤال: هل ما أقوله سيُغيّر شيئًا؟
وحين تكون الإجابة الواقعية: لا، يبدأ الانسحاب النفسي حتى قبل الانسحاب التنظيمي.

في التجربة الماركسية، النقد ليس رأيًا يُسجَّل، بل لحظة تدخل في مسار الفعل. النقد الذي لا يُترجَم إلى تعديل في الخط السياسي، أو في التكتيك، أو في البنية التنظيمية، هو نقد ناقص مهما كانت لغته جذرية. ولهذا شدّد لينين مرارًا على أن النقاش بلا قرار ليس ديمقراطية، بل تسويف، وأن القرار بلا نقاش ليس انضباطًا، بل قمع.

لكن ما الذي يحدث عمليًا حين تتراكم هذه الفجوة؟

يحدث أمران متوازيان:
الأول، أن القاعدة تتعلّم أن النقد لا جدوى منه، فتُقلِّصه، أو تُلطِّفه، أو تستبدله بالصمت.
والثاني، أن القيادة تعتاد اتخاذ القرار من دون مراجعة حقيقية، فتُصنِّع قناعتها الخاصة بالواقع، معتمدة على مصادر محدودة، وعلى دائرة ضيّقة من الأصوات المتشابهة.

بهذا المعنى، لا يعود الخلل في “ضعف الوعي”، بل في انقطاع الدورة:
وعي > نقد > قرار > فعل > تقييم > وعي جديد.

حين تنكسر هذه السلسلة عند حلقة القرار، يدخل الحزب في حالة دوران. يكرر اللغة نفسها، يعيد الشعارات نفسها، يتفاجأ بالنتائج نفسها، ثم يفسّر الفشل بالأسباب نفسها.

الأخطر أن هذا النمط يُنتج نوعًا من الامتثال الذكي. لا تمرّد صريح، ولا صدام علني، بل توافق شكلي. الرفيق يقول ما يُنتظر منه، يكتب ما لا يزعج، يلتزم بما هو قائم، لكنه يفقد ارتباطه الداخلي بالفعل. هذا الامتثال لا يبني حزبًا، بل يُدير سكونه.

من هنا، فإن السؤال الحقيقي ليس فقط: هل نسمح بالنقد؟
بل: هل نملك آلية تحوّل النقد إلى سياسة؟

إعادة التأسيس الشيوعي تتطلب إعادة بناء هذه الآلية من الأساس. ليس عبر خلق مساحات “حوار” عامة بلا أثر، بل عبر ربط النقد مباشرة بمسؤولية القرار. كل نقد جدي يجب أن يُقابل بسؤال: ما الذي نغيّره؟ متى؟ وكيف؟ ومن يتحمّل مسؤولية هذا التغيير؟

وهذا يقودنا إلى جوهر النقد الذاتي نفسه:
كيف تحوّل النقد الذاتي من أداة تحرّر إلى طقس تبريري؟

من داخل الجرح نفسه، لا حوله.

النقد الذاتي: من فعل شجاعة إلى لغة تبرير

في أصل المنهج الماركسي، النقد الذاتي ليس اعترافًا أخلاقيًا، ولا طقسًا تطهيريًا، ولا خطاب تواضع بعد الهزيمة. هو لحظة وعي تاريخي يُعاد فيها فحص المسار، لا الأشخاص فقط، والسياسات قبل النوايا، والنتائج قبل الشعارات. النقد الذاتي، بهذا المعنى، هو أرقى أشكال المسؤولية الثورية، لأنه يضع الحزب أمام ذاته كما هي، لا كما يريد أن يراها.

لكن ما جرى تاريخيًا، في التجربة الشيوعية العراقية كما في تجارب أخرى، هو انقلاب بطيء على هذا المعنى. النقد الذاتي لم يُلغَ صراحة، بل أُعيد تعريفه. صار يُستدعى في المناسبات الكبرى، بعد الهزائم الثقيلة، أو في المؤتمرات، أو في البيانات العامة، لكن من دون أن يمسّ البنية العميقة للخط السياسي أو لطريقة اتخاذ القرار. وهكذا تحوّل من أداة تصحيح إلى لغة تبرير.

التبرير هنا لا يُفهم بوصفه كذبًا متعمّدًا، بل بوصفه آلية دفاع. الحزب، حين يتعرّض لضغط طويل، وقمع متواصل، وهزائم متراكمة، يطوّر غريزيًا خطابًا يخفّف وطأة الفشل: “الظروف لم تكن ناضجة”، “الميزان الدولي كان معاديًا”، “الشارع تغيّر”، “الناس لم تفهم”. كل هذه العوامل قد تكون صحيحة جزئيًا، لكن استخدامها المتكرر بوصفها تفسيرًا كافيًا، يعطّل السؤال الأخطر: ما الذي كان يمكن أن نفعله بشكل مختلف؟

هنا يتحوّل النقد الذاتي إلى تمرين لغوي: نعترف بوجود “أخطاء”، لكن من دون تحديدها بدقة؛ نقرّ بوجود “قصور”، لكن من دون مساءلة من اتخذ القرار؛ نتحدث عن “دروس مستخلصة”، لكن من دون أن تظهر هذه الدروس في سياسات جديدة أو في تغيير ملموس في البنية التنظيمية. وهكذا يُفرَّغ النقد الذاتي من محتواه العملي، ويُستخدم بدل ذلك لإغلاق النقاش لا لفتحه.

الأخطر أن هذا النمط يُنتج ثقافة حزبية كاملة. ثقافة تتقن اللغة النقدية، لكنها تخشى الممارسة النقدية. ثقافة تعرف كيف تقول “أخطأنا”، لكنها لا تعرف كيف تقول “هنا بالضبط، ومن هنا يجب أن نغيّر”. ومع الوقت، يتعلّم الرفاق أن النقد الذاتي المقبول هو ذلك الذي لا يُحرج أحدًا، ولا يطال مواقع القوة، ولا يفتح ملفات حسّاسة. يصبح النقد الذاتي مشروطًا بسقوف غير مكتوبة، يعرفها الجميع ولا يصرّح بها أحد.

في هذه الثقافة، يُكافأ من يُتقن الصياغة، لا من يُصيب التشخيص. يُفضَّل النقد العام على النقد المحدد، واللغة المجردة على التحليل الملموس. ومع الزمن، يفقد الحزب إحدى أهم ميزاته التاريخية: قدرته على التعلّم من تجربته الخاصة. بدل أن تكون الهزيمة مادة معرفة، تتحوّل إلى عبء يُراد نسيانه. وبدل أن يكون الخطأ بداية مسار جديد، يصبح ذكره تهديدًا للاستقرار التنظيمي.

من هنا نفهم لماذا تتكرّر الأخطاء نفسها بأشكال مختلفة. لماذا يعود الحزب إلى التحالفات الملتبسة، أو إلى الخطاب المعزول، أو إلى الرهان على حلول فوقية، من دون أن يطرح بعمق: لماذا فشلت هذه الخيارات سابقًا؟ ما الذي تغيّر فعلًا؟ وما الذي لم يتغيّر؟

النقد الذاتي الحقيقي لا يكتفي بالقول إن “الظروف كانت صعبة”. هو يسأل: كيف تعاملنا مع هذه الظروف؟ هل قرأناها بدقة؟ هل امتلكنا الجرأة على تغيير خطّنا حين ثبت فشله؟ هل فتحنا النقاش داخل الحزب، أم أغلقناه باسم الضرورة؟ هل استمعنا إلى القاعدة، أم استبدلناها بتقارير مطمئنة؟

حين لا تُطرح هذه الأسئلة، يتحوّل النقد الذاتي إلى جزء من المشكلة لا من الحل. يصبح وسيلة لتدوير العجز، لا لتجاوزه. والأسوأ أنه يزرع لدى الرفاق إحساسًا عميقًا باللاجدوى: إذا كان كل شيء سيُبرَّر في النهاية، فما معنى أن نناقش، أو ننتقد، أو نغامر؟

إعادة التأسيس الشيوعي تقتضي كسر هذا النمط بوضوح. تقتضي إعادة تعريف النقد الذاتي بوصفه فعلًا يطال الخط السياسي، لا مجرد تقييم إداري؛ يطال القيادة كما يطال القاعدة؛ يطال البنية كما يطال الأداء. نقد ذاتي لا يُترجَم إلى تغيير ملموس هو اعتراف بلا قيمة.

وهنا نصل إلى سؤال لا مفرّ منه، وهو الأكثر حساسية في كل تجربة ثورية:
هل النقد الذاتي ممكن من دون مساءلة القيادة؟

من الانضباط الواعي إلى الطاعة الصامتة: كيف تُفرَّغ الوحدة من معناها

في الفكر الماركسي–اللينيني، الانضباط ليس نقيض النقد، بل شرطه التنظيمي. الانضباط الواعي يعني التزامًا سياسيًا بقرار جرى نقاشه، وفُهمت دوافعه، وقُبل بوصفه خيارًا مرحليًا قابلًا للمراجعة. أمّا الطاعة الصامتة، فهي شيء آخر تمامًا: هي قبول القرار لأنّه صدر، لا لأنّه صائب؛ وتنفيذه لأنّ الاعتراض مكلف، لا لأنّ الاقتناع حاصل.

الخلط بين هذين المفهومين كان أحد أكثر الانزلاقات تدميرًا في التجربة التنظيمية. شيئًا فشيئًا، جرى تحميل الانضباط ما لا يحتمل: صار يُستخدم لإسكات النقاش، ولتأجيل المراجعة، ولتحويل الخلاف السياسي إلى “مشكلة سلوكية”. وهكذا لم يعد الانضباط أداة لتنظيم الصراع، بل صار وسيلة لإدارة الصمت.

في هذا السياق، أُعيد تعريف “الوحدة” تعريفًا خطيرًا. لم تعد الوحدة تعني وحدة الرؤية في الاتجاه العام، ولا وحدة الهدف الطبقي، ولا وحدة البرنامج في مواجهة العدو الطبقي، بل صارت تعني—ضمنيًا—غياب الصوت المختلف. كل ما يُربك السردية السائدة صار يُقرأ بوصفه تهديدًا للوحدة، وكل نقاش حاد صار يُحمَّل مسؤولية “إضعاف الحزب”، وكأنّ الحزب يُضعَف بالكلام لا بالأخطاء غير المصحّحة.

بهذا المعنى، تحوّلت الوحدة من علاقة حية بين رفاق مختلفين إلى حالة انضباط شكلي. وحدة بلا صراع داخلي، بلا نقاش مفتوح، بلا مراجعة حقيقية. وهذه ليست وحدة ثورية، بل هدوء تنظيمي هشّ، ينهار عند أول اختبار جدّي.

النتيجة العملية لهذا التحوّل كانت كارثية على المدى المتوسط والبعيد. فحين يُقمع النقد باسم الانضباط، لا يختفي الخطأ، بل يستمرّ بلا مقاومة. وحين يُصادَر الخلاف باسم الوحدة، لا تُحلّ التناقضات، بل تتراكم تحت السطح. ومع الوقت، يصبح الحزب أقلّ قدرة على التعلّم من تجربته، وأكثر قابلية لتكرار الأخطاء نفسها، لكن في ظروف أشدّ قسوة.

الأخطر من ذلك أنّ ثقافة الطاعة تُنتج كوادر من نوع خاص: كوادر تتقن تنفيذ القرار، لكنها لا تتقن التفكير فيه؛ تحفظ الخط، لكنها لا تساهم في تطويره؛ تتجنّب الخطأ الفردي، لكنها تشارك—صامتة—في الخطأ الجماعي. وهنا يفقد الحزب أحد أهم شروط بقائه الثوري: إنتاج كوادر نقدية، لا مجرد منفّذين.

في التجربة العراقية، تعزّز هذا النمط بفعل ظروف موضوعية قاسية: العمل السرّي، القمع، الخوف من الاختراق، الهجرة، الشتات. كل هذه العوامل جعلت “الانضباط” يبدو كقيمة عليا لا يجوز المساس بها. لكن المشكلة بدأت حين لم يُعاد التفكير في هذا المفهوم بعد تغيّر الشروط. ما كان ضرورة أمنية في مرحلة، تحوّل إلى ثقافة تنظيمية دائمة. وما كان إجراءً استثنائيًا، صار قاعدة غير مكتوبة.

وهكذا، بدل أن يتحوّل الحزب إلى فضاء آمن للنقاش في زمن الانفتاح النسبي، بقي يحمل منطق الطوارئ إلى زمن مختلف. فصار الرفيق يُحاسَب على نبرة النقد أكثر مما يُناقَش مضمون النقد. وصار السؤال: هل هذا الطرح “يخدم الحزب”؟ لا: هل هو صحيح؟ وصار الصمت يُكافَأ بوصفه “حكمة”، بينما تُقرأ الجرأة بوصفها “تهوّرًا”.

هذا التحوّل لم يُضعف النقد فقط، بل شوّه النقد الذاتي نفسه. لأن النقد الذاتي، في ظل ثقافة الطاعة، لا يُمارَس بوصفه فعلًا حرًا، بل بوصفه اعترافًا مُراقَبًا. يُطلب من الرفيق أن “ينتقد نفسه”، لكن ضمن حدود مرسومة سلفًا، ومن دون أن يقترب من القرارات الكبرى أو من مواقع المسؤولية العليا. هكذا يتحوّل النقد الذاتي من أداة تحرير إلى طقس انضباطي، ومن منهج تصحيح إلى ممارسة تبريرية.

وهنا نصل إلى قلب المفارقة: الحزب الذي يخاف من النقاش الداخلي بحجة الحفاظ على وحدته، يفتح الباب—من حيث لا يريد—أمام أشكال أكثر خطورة من التفكك. لأن الصمت لا يمنع الانقسام، بل يؤجله. ولأن الطاعة لا تنتج التماسك، بل تُراكم الاحتقان. وعندما يأتي الانفجار، لا يأتي في شكل نقاش منظم، بل في شكل قطيعة، أو انسحاب جماعي، أو تشظّي صامت لا يمكن احتواؤه.

الوحدة الثورية لا تُبنى بالصمت، بل بالثقة. والثقة لا تُبنى إلا حين يشعر الرفيق أن صوته مسموع، وأن نقده لا يُحوَّل إلى ملف أمني أو سلوكي، وأن الاختلاف لا يعني الشبهة. حزب بلا اختلافات حزب ميت، حتى لو بدا منضبطًا. وحزب بلا نقاش حزب يتقدّم نحو الجمود، لا نحو الصراع.

من هنا، فإن إعادة الاعتبار للنقد والنقد الذاتي تقتضي إعادة تعريف الانضباط والوحدة معًا. الانضباط يجب أن يعود إلى معناه الواعي: التزام بعد نقاش، لا صمت قبل النقاش. والوحدة يجب أن تُفهم بوصفها وحدة صراع وهدف، لا وحدة رأي مفروض. من دون هذا التحوّل، سيبقى النقد محاصرًا، وستبقى الوحدة شكلية، وسيبقى الحزب عاجزًا عن تصحيح مساره في لحظات تحتاج فيها الجرأة أكثر من الطمأنينة.

وهذا يقودنا مباشرة إلى سؤال آخر لا يقلّ حساسية، بل هو نتيجة منطقية لما سبق:

كيف تحوّل النقد الذاتي من ممارسة جماعية شجاعة إلى خطاب تبريري يدير الهزيمة؟

المفصل الذي يفسّر لماذا تراكم الخطأ وكيف أُدير بدل أن يُصحَّح.

كيف تحوّل النقد الذاتي من منهج تصحيح إلى إدارة للهزيمة

في الماركسية، النقد الذاتي ليس اعترافًا أخلاقيًا بالذنب، ولا طقس تطهير نفسي، ولا إجراءً شكليًا يُدرج في التقارير لإغلاق الملفات. النقد الذاتي هو فعل سياسي جماعي، يُمارَس من موقع القوة لا الضعف، ومن موقع المسؤولية لا الخضوع. هو أداة لتفكيك الخطأ في سياقه البنيوي، ولربط النتائج بأسبابها، ولمنع تكرارها عبر تغيير السياسة أو البنية أو آليات القرار.

لكن ما جرى في التجربة الحزبية، على مدى عقود، هو انقلاب هادئ على هذا المعنى. شيئًا فشيئًا، جرى فصل النقد الذاتي عن مراكز القرار، وتحويله إلى خطاب عام يطفو في البيانات، أو إلى فقرات محفوظة في المؤتمرات، من دون أن يلامس جوهر السياسات أو الخيارات الكبرى. صار النقد الذاتي يُستدعى بوصفه “اعترافًا عامًا” بأن “أخطاءً حصلت”، من دون تحديد من اتخذ القرار، ولماذا، وكيف، وبأي ميزان قوى، وبأي بدائل كانت ممكنة.

بهذا التحوّل، لم يعد النقد الذاتي أداة تصحيح، بل صار أداة إدارة للهزيمة. بدل أن يُستخدم لتفكيك المسار الخاطئ، استُخدم لتبرير الاستمرار فيه بصيغ معدّلة لغويًا. وبدل أن يُطرح سؤال: ماذا نغيّر؟ صار السؤال: كيف نفسّر ما جرى بأقلّ كلفة تنظيمية؟ وبدل أن تكون المراجعة مدخلًا لإعادة التموضع، صارت وسيلة لامتصاص الغضب، واحتواء الاعتراض، وإغلاق النقاش.

في هذا السياق، ظهرت لغة خاصّة للنقد الذاتي، لغة مراوِغة لا تُسمّي الأشياء بأسمائها. أخطاء بلا فاعلين، قرارات بلا مسؤولين، مسارات “فرضتها الظروف”، وخيارات “لم تكن مثالية لكنها كانت الممكن”. هكذا يُنزَع الطابع السياسي عن الخطأ، ويُعاد تقديمه بوصفه حتمية تاريخية، لا خيارًا بشريًا قابلًا للنقاش والمحاسبة.

الأخطر من ذلك أنّ النقد الذاتي، حين يُمارَس بهذه الصيغة، يُطلب غالبًا من القاعدة لا من القيادة. يُطالَب الرفيق بأن “يراجع نفسه”، وأن “يضبط خطابه”، وأن “يضع مصلحة الحزب فوق رأيه”، بينما تبقى القرارات الاستراتيجية بمنأى عن التفكيك العلني. هذا الخلل يخلق علاقة غير متكافئة: قاعدة تُطالَب بالتواضع، وقمة تُحصَّن بالهيبة؛ قاعدة تُحاسَب على النبرة، وقيادة لا تُحاسَب على النتائج.

ومع الوقت، يفقد النقد الذاتي معناه التحرّري، ويتحوّل إلى أداة انضباط. يُمارَس لتذكير الرفيق بحدوده، لا لفتح أفق التغيير. ويُستخدم لإعادة دمج المختلف بعد “تأديبه”، لا لإعادة التفكير في المسار الذي دفعه إلى الاختلاف أصلًا. وهنا يصبح النقد الذاتي نقيض النقد، لا امتداده.

في التجربة العراقية، تعمّق هذا النمط بفعل الهزائم المتراكمة. كل هزيمة لم تُفكَّك في وقتها، تحوّلت إلى طبقة جديدة من الصمت. وكل صمت راكم خوفًا من فتح الملفات القديمة. ومع تراكم الزمن، صار الماضي عبئًا ثقيلًا: كلما تأخّرت المراجعة، ارتفعت كلفتها السياسية والأخلاقية. وهكذا فضّل التنظيم، في لحظات كثيرة، إدارة الخسارة بدل مواجهتها.

لكن إدارة الهزيمة لا تمنع تكرارها. بل تجعلها أكثر قابلية للتكرار، لأنها تحرم الحزب من أهم أدواته: التعلّم من التجربة. الحزب الذي لا يتعلّم من أخطائه، لا يتقدّم، بل يعيد إنتاج ذاته في شروط أسوأ. ومع كل دورة جديدة، يصبح الخطأ أقلّ قابلية للنقد، لأن الاعتراف به سيهزّ سردية كاملة بُنيت لتبرير ما سبق.

هنا يظهر التناقض العميق: الحزب الذي نشأ بوصفه أداة لكشف التناقضات في المجتمع، صار عاجزًا عن كشف تناقضاته الداخلية. والحزب الذي علّم أجيالًا أن الحقيقة الثورية تُنتَزع بالصراع، صار يدير خلافاته بلغة التوافق الصامت. وهذا التناقض لا يمكن تجاوزه بخطاب أخلاقي، بل فقط بإعادة الاعتبار للنقد الذاتي بوصفه ممارسة سياسية حقيقية، لا وظيفة شكلية.

النقد الذاتي الثوري يبدأ من الأعلى قبل الأسفل. يبدأ من مراجعة القرارات الكبرى قبل السلوكيات الفردية. يبدأ من تفكيك الخط السياسي قبل محاسبة الرفاق على ردود أفعالهم. وهو، قبل ذلك، يحتاج إلى شجاعة تنظيمية للاعتراف بأن بعض المسارات كانت خاطئة، لا فقط “غير موفّقة”.

من دون هذه الشجاعة، سيبقى النقد الذاتي يدور في حلقة مفرغة: كلمات كبيرة بلا نتائج، اعترافات بلا تغيير، مؤتمرات بلا قطيعة مع الأخطاء نفسها. وسيبقى الرفيق الناقد أمام خيارين قاسيين: إمّا الصمت، أو المغادرة.

وهنا نصل إلى سؤال لا يمكن تأجيله أكثر:

ما هي البنية التنظيمية والثقافية التي تسمح بتحويل النقد إلى خطر، بدل أن تحوّله إلى قوة؟

إننا الآن في صميم البنية التي جعلت النقد يُرى بوصفه تهديدًا لا ضرورة.

البنية التي تخاف من النقد: حين يتحوّل التنظيم من أداة تحرّر إلى جهاز دفاع

الخوف من النقد لا يولد من فراغ، ولا ينبع من سوء نية أفراد. إنّه نتاج بنية تنظيمية–ثقافية تتشكّل حين يصبح بقاء الجهاز أهم من تجديد المشروع، وحين تتحوّل القيادة من موقع مسؤولية تاريخية إلى موقع حماية ذاتية. في هذه اللحظة، لا يُنظر إلى النقد بوصفه مساهمة في تصحيح المسار، بل بوصفه خطرًا يهدّد توازنًا هشًّا بُني عبر سنوات من التسويات والتكيّف.

في مثل هذه البنية، لا يُقاس الاستقرار بمدى صحة الخط السياسي، بل بمدى انخفاض مستوى التوتر الداخلي. ويُعاد تعريف “الوحدة” بوصفها غياب الصراع، لا بوصفها اتفاقًا واعيًا على برنامج وخيارات. هكذا يصبح الصمت فضيلة، والاختلاف مصدر قلق، والنقاش العميق “ترفًا” لا تسمح به المرحلة.

هذه الثقافة لا تُعلَن رسميًا، لكنها تُمارَس يوميًا. تظهر في اللغة التي تُستخدم لتوصيف النقد: “غير مناسب للتوقيت”، “يُضعف المعنويات”، “يُستغل من الخصوم”، “يُربك القاعدة”. بهذه العبارات، يُنزَع عن النقد محتواه السياسي، ويُعاد تقديمه بوصفه خللًا في الانضباط أو نقصًا في المسؤولية. لا يُسأل: هل النقد صحيح؟ بل: ماذا سيُسبّب؟

ومع الوقت، تتكوّن آلية ذاتية للحماية: الرفاق يتعلّمون، من التجربة لا من النصوص، أين تقف الحدود غير المكتوبة. يعرفون ما يمكن قوله، وما يجب السكوت عنه، وأي الأسئلة تُرحَّب، وأيها تُقابل بالبرود أو الشبهة. هكذا يُنتَج “وعي تنظيمي” مشوّه، لا يقوم على القناعة، بل على التكيّف.

في هذه الأجواء، تُعاد صياغة القيادة نفسها. لا تُختار بالضرورة على أساس الجرأة في التفكير أو القدرة على النقد، بل على أساس القدرة على “إدارة التوازنات”، وامتصاص الخلاف، وتجنّب الصدامات. تتحوّل السياسة إلى فنّ تهدئة، لا إلى فنّ مواجهة. ويصبح النجاح التنظيمي مرادفًا للاستمرار، لا للتقدّم.

هذا التحوّل يُفرغ المركز القيادي من وظيفته الثورية. بدل أن يكون مركزًا لإنتاج التحليل، واتخاذ القرارات الصعبة، وفتح النقاشات الضرورية، يتحوّل إلى مرشح يمرّ عبره كل شيء ليخرج منزوع الحدّة. ومع كل دورة، يبتعد المركز أكثر عن الواقع الاجتماعي، لأن الواقع لا يُدار بالتوافقات الداخلية، بل بالصراع مع شروط قاسية لا ترحم.

الأخطر أن هذه البنية تُعيد إنتاج نفسها. الرفيق الذي يتقدّم داخلها يتعلّم سريعًا أن الجرأة النقدية لا تُكافَأ، وأن السلامة التنظيمية أهم من المبادرة الفكرية. وهكذا، لا يتم إقصاء النقد بالقوة، بل يُستنزَف بالروتين، ويُدفَع إلى الهامش، ويُترك ليذبل.

في لحظة كهذه، يصبح النقد الحقيقي إما خارجيًا أو متأخرًا. إمّا يُقال خارج الأطر، فيتحوّل إلى قطيعة، أو يُقال بعد فوات الأوان، حين تكون الكلفة قد تضاعفت. وبين هذين الخيارين، تضيع إمكانية التصحيح في الوقت المناسب.

ماركسيًا، هذه ليست مسألة “ثقافة تنظيمية” فحسب، بل مسألة علاقة بين البنية الفوقية الحزبية وقاعدتها الاجتماعية. حزب ينفصل عن صراعات المجتمع الحيّة، سيبحث لا شعوريًا عن الاستقرار داخل ذاته. وحزب يخسر حاضنته، سيحاول تعويض ذلك بالتماسك الداخلي. لكن هذا التعويض وهمي: التماسك الذي لا يقوم على علاقة حقيقية مع الطبقة يتحوّل إلى انغلاق، والانغلاق يسرّع التآكل.

هكذا نفهم لماذا يصبح النقد خطرًا: لأنه يهدّد آخر ما تبقّى من وهم السيطرة. لكنه في الحقيقة لا يهدّد الحزب، بل يهدّد نمطًا في إدارته. والنمط الذي لا يحتمل النقد، هو نمط غير قابل للحياة التاريخية.

من هنا، لا يمكن استعادة النقد من دون تفكيك هذه البنية. لا يكفي أن نطالب بحرية التعبير، ولا أن نضيف فقرات عن “النقد والنقد الذاتي” في النظام الداخلي. المطلوب أعمق من ذلك: إعادة بناء العلاقة بين القيادة والقاعدة على أساس الثقة السياسية، لا الخوف التنظيمي؛ وعلى أساس المشاركة في القرار، لا تلقّي نتائجه.

وهذا يقودنا إلى سؤال حاسم آخر:

ما الفرق بين الانضباط الثوري والطاعة الصامتة؟ وكيف تحوّلت الثانية إلى بديل عن الأولى؟

السؤال الذي يحدّد مصير أي حزب يدّعي الجدية الثورية.

الانضباط الثوري أم الطاعة الصامتة؟ حين يُختزل الالتزام إلى امتثال

في التجربة الماركسية–اللينينية، لم يكن الانضباط يومًا مرادفًا للصمت، ولا الطاعة العمياء، ولا الامتثال الشكلي. الانضباط الثوري هو وعي جماعي بالهدف، والتزام واعٍ بالبرنامج، واستعداد لتحمّل تبعات القرار بعد نقاش حرّ ومسؤول. هو انضباط نابع من القناعة، لا من الخوف؛ من الفهم، لا من الامتثال.

لكن حين تتعطّل آليات النقد، ويتحوّل الاختلاف إلى تهديد، يبدأ الانزلاق الخطير: يُعاد تعريف الانضباط بوصفه التزامًا شكليًا بالقرارات، بغضّ النظر عن كيفية اتخاذها أو مدى صوابها. في هذه اللحظة، لا يعود الانضباط أداة لبناء القوة، بل يتحوّل إلى وسيلة لضبط القاعدة وحماية المركز.

الفرق بين الانضباط والطاعة ليس لغويًا، بل سياسي–تنظيمي. الانضباط يفترض ذاتًا فاعلة تشارك في النقاش وتتحمّل المسؤولية. الطاعة تفترض ذاتًا متلقّية، تُطالَب بالتنفيذ لا بالفهم. وحين تسود الطاعة، يتغيّر سلوك الرفاق: لا يعود السؤال “هل القرار صحيح؟” بل “هل القرار صادر؟”. لا يعود الالتزام نابعًا من الاقتناع، بل من الخشية من العزل، أو التهميش، أو فقدان الموقع.

هذا التحوّل لا يحدث دفعة واحدة. يبدأ صغيرًا، في التفاصيل اليومية: في تقليص زمن النقاش، في تأجيل الأسئلة “إلى وقت لاحق”، في تمرير قرارات تحت عنوان “الاستعجال”، في تسفيه الملاحظات بوصفها “تفاصيل”. ومع الزمن، تتراكم هذه الممارسات لتصنع ثقافة كاملة: ثقافة لا تكافئ التفكير، بل الانضباط الشكلي؛ لا تشجّع المبادرة، بل الحذر.

في هذه الثقافة، يصبح الرفيق “المنضبط” هو من لا يطرح أسئلة مزعجة، ومن يعرف متى يصمت، ومن يتقن قراءة المزاج القيادي. بينما يُوسَم الرفيق النقدي بأنه “صعب”، أو “غير مرن”، أو “لا يفهم المرحلة”. وهكذا يُعاد ترتيب القيم داخل التنظيم من دون إعلان: الصمت فضيلة، والجرأة عبء.

الأخطر أن هذه الثقافة تُنتج قيادةً ترى في الطاعة دليل قوة. فكلما انخفضت الأصوات النقدية، بدا التنظيم أكثر “تماسكًا”. لكن هذا التماسك وهمي، لأنه يقوم على كبت التناقضات لا حلّها. التناقضات لا تختفي؛ إنها تتراكم في الصمت، ثم تظهر لاحقًا في شكل انسحابات، أو قطيعة، أو انفجارات غير منظّمة.

ماركسيًا، لا يمكن لحزب ثوري أن يُدار بمنطق الثكنة. الصراع الطبقي ليس تمرينًا إداريًا، بل عملية تاريخية معقّدة تتطلّب تفكيرًا جماعيًا، وقدرة على التعلّم من الخطأ، واستعدادًا لتغيير المسار. الطاعة قد تنفع في لحظة عسكرية محدودة، لكنها تقتل الحزب إذا تحوّلت إلى نمط دائم.

لينين نفسه شدّد، في أكثر من مناسبة، على أن الانضباط الحقيقي يفترض ديمقراطية داخلية حقيقية. الديمقراطية ليست نقيض الانضباط، بل شرطه. من دون نقاش حرّ، يصبح الانضباط قسرًا. ومن دون حق الاعتراض، يتحوّل الالتزام إلى خضوع. ومن دون تداول نقدي، تفقد القيادة قدرتها على رؤية الواقع كما هو.

في التجربة العراقية، ساهمت ظروف القمع، والعمل السرّي، والملاحقة الأمنية، في ترسيخ بعض أنماط الطاعة بوصفها “ضرورة”. لكن الخطأ كان في تحويل الضرورة المؤقتة إلى قاعدة دائمة، وفي نقل منطق السرّية إلى فضاء العمل العلني، وفي استمرار ثقافة “الحذر” حتى حين تغيّرت الشروط.

هكذا، ومع مرور الوقت، لم تعد الطاعة أداة حماية، بل تحوّلت إلى عائق أمام التجدّد. حزب يطالب المجتمع بالشجاعة في مواجهة السلطة، لا يمكن أن يربّي كوادره على الخوف من السؤال. وحزب يدّعي تمثيل الطبقة العاملة، لا يمكن أن يقبل بعلاقات داخلية تقوم على التراتبية الصامتة.

إعادة الاعتبار للنقد تمرّ حتمًا عبر إعادة تعريف الانضباط. انضباط يقوم على:
الوضوح في البرنامج،
الشفافية في القرار،
المشاركة في النقاش،
والمساءلة المتبادلة بين القيادة والقاعدة.

من دون ذلك، سيبقى النقد إمّا تمرّدًا فرديًا، أو همسًا غير مؤثّر، أو انفجارًا متأخرًا. ولن يصبح أبدًا أداة تصحيح ثوري منظّم.

وهنا نصل إلى عقدة أخرى لا تقلّ حساسية:

كيف تحوّل “النقد الذاتي” من ممارسة شجاعة إلى طقس تبريري؟

كيف شُوِّه النقد الذاتي؟ من اعتراف شجاع إلى طقس تبريري

في المنهج الماركسي، لا يُفهم النقد الذاتي بوصفه فعل إذلال للنفس، ولا اعترافًا أخلاقيًا بالذنب، ولا تمرينًا خطابيًا يُؤدَّى عند اللزوم. النقد الذاتي هو أداة تحليل مادي لمسارٍ خاطئ، يهدف إلى تحديد موقع الخطأ، وأسبابه البنيوية، وشروط تكراره، ومن ثمّ اتخاذ قرار واعٍ بعدم إعادة إنتاجه. هو فعل سياسي بامتياز، لا طقس تطهيري.

لكن ما جرى في التجربة الشيوعية العراقية، وعلى مدى عقود، هو تفريغ هذا المفهوم من محتواه الثوري، وتحويله إلى ممارسة شكلية لا تمسّ جوهر القرار ولا بنية القيادة ولا منطق العمل. صار النقد الذاتي يُستدعى في لحظات محددة، غالبًا بعد هزيمة أو أزمة، لكنه يُمارَس بلغة عامة، ضبابية، لا تُسمّي الأشياء بأسمائها، ولا تحدّد المسؤوليات، ولا تفتح الباب أمام تغيير فعلي.

هكذا تحوّل النقد الذاتي إلى خطاب يقول الكثير ولا يغيّر شيئًا.

بدل أن يُقال: أخطأنا هنا لأن تحليلنا للواقع الطبقي كان قاصرًا، قيل: “لم تكن الظروف مواتية”.
بدل أن يُقال: فشل هذا التحالف لأنه تناقض مع مصالح الكادحين، قيل: “أُسيء فهم نوايانا”.
بدل أن يُقال: القيادة لم تُصغِ، قيل: “لم تُنقل الملاحظات بالشكل المناسب”.

بهذه اللغة، لا يعود النقد الذاتي أداة كشف، بل يصبح آلية دفاع. لا يُستخدم لتفكيك الخطأ، بل لتدويره. لا يُقصد به فتح مسار جديد، بل إغلاق الملف بأقل قدر من الخسائر الرمزية.

الأخطر من ذلك أن النقد الذاتي، في كثير من الأحيان، لم يكن يُمارَس من موقع القوة السياسية، بل من موقع التبرير اللاحق. أي أنه لم يكن يسبق القرار، ولا يرافقه، بل يأتي بعد أن تكون النتائج قد استقرّت، وبعد أن يكون ثمن الخطأ قد دُفع اجتماعيًا وتنظيميًا. في هذه الحالة، يصبح النقد الذاتي أشبه باعتراف متأخر لا يملك قدرة على التصحيح، بل يكتفي بتفسير ما جرى.

ومع تكرار هذا النمط، تشكّلت علاقة مشوّهة مع الخطأ. الخطأ لم يعد فرصة للتعلّم، بل صار عبئًا يجب تقليله لغويًا. الاعتراف به لم يعد شجاعة، بل مخاطرة سياسية. ومع الوقت، باتت القيادة—أو بعض مفاصلها—تفضّل الصمت على النقد الذاتي، لأن الصمت لا يترك أثرًا مكتوبًا، ولا يخلق التزامات مستقبلية.

في هذا السياق، تحوّل النقد الذاتي إلى مهمة تُلقى غالبًا على عاتق القاعدة. القاعدة مطالَبة بأن تعترف بقصورها، وبضعف مبادرتها، وبقلة التزامها. أما مراجعة الخط السياسي، أو الخيارات الاستراتيجية، أو آليات اتخاذ القرار في القمة، فتُؤجَّل أو تُغلَّف بلغة عامة. هكذا نشأ اختلال خطير: نقد من الأسفل إلى الأسفل، وصمت من الأعلى إلى الأعلى.

ماركسيًا، هذا انقلاب على جوهر النقد الذاتي. النقد الذاتي الحقيقي يبدأ من الأعلى، لا لأن القيادة “أكثر ذنبًا”، بل لأنها تملك سلطة القرار. من لا يملك القرار لا يمكن تحميله مسؤولية المسار. وحين تُحمَّل القاعدة وزر خيارات لم تشارك في صياغتها، يتحوّل النقد الذاتي إلى أداة تأديب لا إلى أداة تصحيح.

هذا التشويه لم يبقَ بلا نتائج. على العكس، أنتج سلسلة من الآثار العميقة:
أولها، فقدان الثقة الداخلية. حين يرى الرفيق أن النقد لا يغيّر شيئًا، يتعلّم الصمت.
ثانيها، تآكل المبادرة. من يبادر ويتعب ثم يرى الخطأ يُبرَّر، لا يُراجَع، سيتوقّف عن المبادرة.
ثالثها، تراكم الغضب الصامت، الذي لا يعبّر عن نفسه نقديًا، بل يخرج في شكل انسحاب أو قطيعة.

وهنا نصل إلى مفارقة قاسية: حزب يملك تراثًا نظريًا غنيًا في النقد، لكنه يمارس نقدًا ذاتيًا فقيرًا في الممارسة. حزب يدرّس الماركسية كنظرية صراع، لكنه يدير أخطاءه كأسرار إدارية.

استعادة النقد الذاتي إلى موقعه الثوري تعني قلب هذا المنطق رأسًا على عقب. تعني أن يُمارَس النقد الذاتي:
في توقيته، لا بعد فوات الأوان؛
في مستواه السياسي، لا في عموميّات أخلاقية؛
في مراكزه القيادية، لا فقط في القاعدة؛
وبنتائج تنظيمية ملموسة، لا بخطابات تُطوى في الأرشيف.

من دون ذلك، سيبقى النقد الذاتي مجرّد فصل في الوثائق، لا قوة حيّة في الممارسة.

وهنا نصل إلى السؤال الأكثر حساسية، والذي غالبًا ما يُتجنَّب:

من يملك حق النقد؟ ومن يحدّد حدوده؟

من يملك حقّ النقد؟ ومن يحدّد حدوده؟

في الأحزاب الثورية الحيّة، لا يُطرح حقّ النقد بوصفه امتيازًا يُمنح من فوق، ولا بوصفه خطرًا يجب ضبطه، بل بوصفه وظيفة عضوية نابعة من الانتماء ذاته. الرفيق لا يكتسب حقّ النقد لأنه “مفكّر”، أو “قيادي”، أو “قديم”، بل لأنه جزء من جماعة سياسية تدّعي أنها واعية بتناقضات الواقع وتسعى لتغييره. وحين يُفصل حقّ النقد عن هذا الانتماء، يتحوّل الحزب من أداة صراع إلى جهاز ترخيص.

في التجربة العراقية، تكرّس عبر الزمن منطق غير مُعلَن، لكنه فعّال: النقد مسموح به ضمن حدود غير مكتوبة. يُسمح به إذا كان لغويًا لا سياسيًا، أخلاقيًا لا بنيويًا، موجّهًا إلى “الظروف” لا إلى القرار، وإلى “الأخطاء العامة” لا إلى الخيارات المحدّدة. أمّا حين يقترب النقد من خطوط القرار، أو من طبيعة التحالفات، أو من أسلوب القيادة، أو من بنية السلطة داخل الحزب، فإنه يُعاد تصنيفه فورًا: تشويش، تجاوز، شخصنة، أو “خدمة للخصوم”.

بهذا المعنى، لا يُقمع النقد غالبًا بقرار صريح، بل يُدار عبر آليات أكثر نعومة وخطورة: التجاهل، التسويف، إعادة التأطير، أو نقل النقاش من مضمونه السياسي إلى شكله التنظيمي. السؤال لا يعود: هل ما قيل صحيح؟ بل: هل قيل في المكان المناسب؟ هل قيل بالأسلوب المناسب؟ هل قيل في التوقيت المناسب؟ وهكذا يُختزل الصراع الفكري إلى نقاش بروتوكولي، وتُفرَّغ الأفكار من حدّتها عبر إحاطتها بسياج شكلي.

هذا النمط يخلق هرمية صامتة لحقّ الكلام. هناك من “يحقّ له” أن ينتقد، وهناك من يُنصَح بأن “ينتظر”، وهناك من يُفهَم ضمنيًا أن صمته أفضل له وللتنظيم. ومع الوقت، تتكوّن ثقافة داخلية تُكافئ الامتثال، لا الجرأة؛ وتُثمّن الولاء الصامت أكثر من العقل النقدي؛ وتخلط بين الانضباط الواعي والطاعة غير المشروطة.

لينينيًا، هذا المسار قاتل. لأن الحزب الطليعي لا يقوم على وحدة الأصوات، بل على وحدة البرنامج التي تُبنى عبر صراع الأفكار. والقيادة، في هذا الفهم، ليست جهة تُحاط بالحصانة، بل موقع يتحمّل عبء النقد أكثر من غيره، لأن موقعه أعلى تأثيرًا وأشدّ مسؤولية. حين تُحصَّن القيادة من النقد العملي، تُنزَع عنها صفة القيادة الثورية، وتتحوّل إلى إدارة.

الأخطر من منع النقد هو تشويه دوافعه. كثيرًا ما جرى—ويجري—التعامل مع النقد بوصفه انعكاسًا لمشاكل شخصية، أو طموحات غير محققة، أو “حساسية زائدة”. هذا التأويل النفسي يُستخدم لتفريغ النقد من مضمونه الطبقي، ولتحويل الصراع السياسي إلى مسألة نوايا وأمزجة. وبهذا، يُقتل النقاش في مهده، لا عبر الردّ عليه، بل عبر التشكيك في صاحبه.

هذا المناخ لا ينتج وحدة، بل خوفًا. والخوف لا يصنع حزبًا ثوريًا، بل يصنع تنظيمًا هشًّا يبدو متماسكًا من الخارج، بينما يتآكل من الداخل. الرفيق الذي يتعلّم أن النقد مكلِف، سيتعلّم كيف يتكيّف، لا كيف يفكّر. والرفيق الذي يُكافَأ على الصمت، سيتحوّل—من حيث لا يريد—إلى شاهد سلبي على أخطاء كان يمكن تصحيحها في وقتها.

إعادة تأسيس ثقافة النقد تعني إعادة تعريف جذري لملكيته وحدوده:
النقد حقّ وواجب لكل رفيق، لا امتيازًا.
حدوده ليست “الهيبة”، بل الحقيقة.
وضابطه ليس الخوف من الانقسام، بل الانحياز للبرنامج الطبقي.

لكن هذا يقودنا إلى سؤال أشدّ إيلامًا:
لماذا يخاف الحزب من النقد أصلًا؟
ولماذا يُعامَل أحيانًا كما لو كان خطرًا وجوديًا؟

الخوف من النقد: حين تتحوّل الهزيمة إلى عقلٍ دفاعي

الخوف من النقد لا يولد من فراغ. إنه نتاج تاريخ طويل من القمع، والانكسارات، والمطاردات، والسجون، والمنافي. في مثل هذا التاريخ، يتعلّم التنظيم—عن قصد أو عن غير قصد—أن البقاء بحدّ ذاته إنجاز، وأن أي هزّة داخلية قد تكون قاتلة. هكذا يتكوّن عقل دفاعي، يرى في كل سؤال احتمال انهيار، وفي كل خلاف بذرة انقسام، وفي كل مراجعة خطرًا على “ما تبقّى”.

لكن ما يصلح كآلية بقاء مؤقتة، يتحوّل إلى عائق تاريخي إذا جرى تطبيعه. الحزب الذي يعيش طويلًا في وضعية الدفاع، يفقد القدرة على الهجوم، ثم يفقد القدرة على المبادرة، ثم يفقد القدرة على التخيّل. ومع الوقت، يصبح هدفه غير المعلَن هو الاستمرار، لا التغيير. وحين تصبح الاستمرارية قيمة بحد ذاتها، يُعاد تعريف كل شيء وفق هذا الهدف: البرنامج يُخفَّف، اللغة تُلطَّف، النقد يُضبَط، والاختلاف يُدار لا يُحلّ.

في هذه اللحظة، يتحوّل النقد من أداة حياة إلى تهديد وجودي. لا لأنه خاطئ، بل لأنه يذكّر الحزب بما لا يريد رؤيته: بأن بعض ما نعتبره “ثوابت” قد يكون في الحقيقة نتائج مؤقتة لهزائم لم تُراجَع. وأن بعض “الواقعية” قد تكون تكيّفًا طويل الأمد مع واقع غير عادل. وأن بعض “الحكمة التنظيمية” قد تكون خوفًا مقنّعًا من فتح الأسئلة.

هذا الخوف يتغذّى أيضًا من غياب الأفق. حين لا يرى الحزب طريقًا واضحًا للخروج من أزمته، يصبح أي نقد إضافة إلى عبء ثقيل. أما حين يمتلك رؤية للتحوّل، يصبح النقد وقودًا لها. الفرق هنا ليس نفسيًا، بل سياسي: هل الحزب في حالة إدارة أزمة، أم في حالة مشروع تغيير؟

ماركسيًا، لا يُهزَم الحزب حين يُنتقَد، بل حين يتوقف عن إنتاج المعرفة حول هزيمته. النقد لا يخلق الأزمة؛ الأزمة موجودة أصلًا. النقد فقط يضعها في الضوء. ومن يفضّل الظلام على الضوء، لا يفعل ذلك بدافع الحكمة، بل بدافع الخوف.

الخروج من هذا المأزق لا يكون بالمواعظ، ولا بالدعوات الأخلاقية إلى “الانفتاح”، بل بإعادة بناء آليات ملموسة تجعل النقد جزءًا من البنية، لا طارئًا عليها. وهذا يقودنا إلى السؤال العملي الحاسم:

كيف نُعيد بناء النقد والنقد الذاتي كمنهج تصحيح ثوري داخل الحزب؟

النقطة التي تفرض نفسها الآن بوصفها قلب الوثيقة لا هامشها.

كيف نُعيد بناء النقد والنقد الذاتي كمنهج تصحيح ثوري؟

إعادة الاعتبار للنقد والنقد الذاتي لا تتمّ بقرار تنظيمي، ولا بإضافة فقرة جميلة إلى النظام الداخلي، ولا بترديد عبارات مألوفة عن “أهمية النقد”. ما نحتاجه هو تحوّل ثقافي–سياسي عميق يعيد تعريف معنى القيادة، والانتماء، والوحدة، والانضباط، والدور التاريخي للحزب نفسه.

في التجربة الشيوعية، النقد الذاتي لم يكن اعترافًا أخلاقيًا بالذنب، ولا طقسًا لغويًا يُمارَس في المؤتمرات ثم يُنسى. كان أداة مادية لإعادة ضبط العلاقة بين الحزب وواقعه. حين أخطأت القيادة البلشفية، لم يُطلب من القاعدة “تفهم الظروف”، بل جرى تفكيك الخطأ، وتحميل المسؤولية السياسية حيث يجب، وتغيير الخط إذا اقتضى الأمر. هذا ما جعل الحزب قادرًا على التعلّم من الهزيمة، لا التعايش معها.

في حالتنا، لا يمكن استعادة هذا المعنى من دون كسر ثلاث عُقَد متراكبة:

العقدة الأولى هي اختزال النقد الذاتي في الخطاب العام. كثيرًا ما يُقال إن الحزب “يمارس النقد الذاتي”، لكن هذا الادّعاء نادرًا ما ينعكس في قرارات ملموسة. تُقال العبارات، تُسجَّل في محاضر، لكن السياسات تبقى على حالها، والوجوه نفسها تُعاد، والخيارات ذاتها تُكرَّر. النقد الذاتي الذي لا يغيّر شيئًا ليس نقدًا ذاتيًا، بل إدارة لغوية للفشل.

العقدة الثانية هي تحميل القاعدة عبء النقد أكثر من القيادة. يُطلب من الرفاق في القواعد أن ينتقدوا “أداءهم”، و“ضعفهم”، و“تقصيرهم”، بينما تبقى قرارات القيادة، وتحالفاتها، وخياراتها الكبرى خارج المساءلة الفعلية. هذا يخلق علاقة غير متكافئة: قاعدة تُطالَب بالانضباط والتفهّم، وقيادة تُطالَب بالثقة فقط. في حزب يدّعي الماركسية، هذه معادلة مقلوبة.

العقدة الثالثة هي الخلط بين النقد والانقسام. كثيرًا ما يُلوَّح بفزاعة الانقسام كلما اقترب النقاش من مسائل جوهرية. لكن التاريخ يُظهر أن ما يُنتج الانقسام ليس النقد، بل كتمانه. الخلاف الذي لا يُناقَش يتحوّل إلى تكتّل صامت، ثم إلى قطيعة، ثم إلى خروج فردي أو جماعي. أما الخلاف الذي يُدار علنًا، وبقواعد واضحة، فيمكن أن يتحوّل إلى مصدر غنى وتطوّر.

إعادة بناء النقد كنظام حياة حزبية تقتضي، أولًا، الاعتراف بأن الخط السياسي ليس مقدسًا. لا برنامج، ولا تحالف، ولا تكتيك يجب أن يكون خارج المراجعة. المعيار الوحيد هو: هل يخدم هذا الخيار مصالح الطبقة الكادحة في شروطها الملموسة؟ وهل يقوّي قدرة الحزب على التنظيم والتأثير؟ إن لم يكن الجواب واضحًا، فالمراجعة واجب، لا خيانة.

وتقتضي، ثانيًا، إعادة تعريف القيادة بوصفها موقع مساءلة مضاعفة، لا موقع حصانة. القيادة الثورية لا تُقاس بقدرتها على ضبط التنظيم، بل بقدرتها على الإصغاء، وعلى الاعتراف بالخطأ، وعلى تصحيح المسار قبل أن يتحوّل الخطأ إلى بنية. القيادة التي لا تُنتقَد، لا تتطوّر، بل تتكلّس.

وتقتضي، ثالثًا، بناء فضاءات نقد منظّمة، لا فوضوية ولا شكلية. فضاءات يكون فيها النقاش سياسيًا، لا شخصيًا؛ علنيًا داخل الأطر، لا همسًا في الهوامش؛ مرتبطًا بالبرنامج والواقع، لا بالتوازنات الضيقة. النقد الذي لا يجد قناة منظّمة، سيجد طريقه بوسائل مشوّهة: منشورات فردية، انسحابات صامتة، أو انفجارات متأخرة.

لكن إعادة بناء النقد الذاتي لا تتوقف عند البنية التنظيمية. هناك بعدٌ أعمق، غالبًا ما يُهمَل: النقد الذاتي بوصفه علاقة الحزب بتاريخه.

النقد الذاتي والتاريخ: من التبرير إلى التفكيك

أحد أخطر أشكال تعطيل النقد الذاتي هو التعامل مع التاريخ بوصفه سردية مكتملة، لا مادة للتحليل. في كثير من الأحيان، يُستحضَر تاريخ الحزب إمّا بوصفه مجدًا لا يُمسّ، أو بوصفه سلسلة تضحيات تُغلق باب السؤال. كلا الموقفين يحوّل التاريخ من مصدر تعلّم إلى أداة دفاع.

النقد الذاتي الحقيقي لا يعني جلد الذات، ولا إنكار التضحيات، بل يعني طرح أسئلة دقيقة ومؤلمة:
لماذا دخلنا تحالفات بعينها؟
كيف قُيّمت نتائجها في وقتها؟
لماذا استمرّت خيارات ثبت فشلها؟
كيف أثّر ذلك على علاقتنا بالطبقة وبالمجتمع؟
وأهم من ذلك: لماذا لم نمتلك آليات لتصحيح المسار في حينه؟

حين لا تُطرح هذه الأسئلة، يُعاد إنتاج الأخطاء نفسها بأشكال جديدة. الماضي لا يُعاد لأن الظروف تتكرر، بل لأن طرق التفكير تتكلّس. والتاريخ الذي لا يُفكَّك نقديًا يتحوّل إلى عبء يُقيّد الخيال السياسي.

النقد الذاتي هنا ليس تمرينًا أكاديميًا، بل شرطًا لإعادة التأسيس. لا يمكن بناء حزب للمستقبل إذا بقي أسير روايات مريحة عن ماضيه. ولا يمكن استعادة ثقة المجتمع إذا بدا الحزب غير قادر على قول: هنا أخطأنا، وهنا تعلّمنا، وهنا نغيّر.

النقد، الوحدة، والانضباط: تفكيك معادلة زائفة

كثيرًا ما يُقدَّم النقد بوصفه نقيضًا للوحدة، والانضباط بوصفه نقيضًا للاختلاف. هذه معادلة زائفة لا تصمد أمام أي تحليل ماركسي جاد. الوحدة التي لا تحتمل النقد هي وحدة هشّة، والانضباط الذي يقوم على الصمت هو طاعة، لا وعي.

الوحدة الثورية ليست وحدة الشكل، بل وحدة الهدف. وهذه لا تُبنى إلا عبر صراع الأفكار، لا عبر كتمها. والانضباط ليس خضوعًا، بل التزام واعٍ بخط جرى نقاشه، وتبنيه، وتقييمه باستمرار. حين يُمنع النقاش، يُفرَّغ الانضباط من محتواه الطبقي، ويتحوّل إلى تقنية ضبط.

الحزب الذي يريد أن يكون طليعة لا يمكن أن يخاف من صراعه الداخلي، طالما كان هذا الصراع مرتبطًا بالبرنامج وبالواقع. الخوف الحقيقي يجب أن يكون من الركود، ومن تكرار اللغة نفسها، ومن الدوران في الدائرة نفسها بينما يتغيّر المجتمع من حولنا.

النقد كشرط لإعادة التأسيس

ما تقوله هذه الوثيقة، في جوهرها، بسيط وقاسٍ في آن واحد:
لا إعادة تأسيس شيوعي من دون إعادة تأسيس ثقافة النقد.
ولا نقد فعلي من دون استعداد لدفع ثمنه.
ولا ثمن أقلّ كلفة من ثمن الاستمرار في الخطأ.

إذا بقي النقد محصورًا في الهوامش، ستبقى الأزمات تتكرّر بأسماء مختلفة. وإذا بقي النقد الذاتي مجرّد إعلان نوايا، ستبقى القرارات نفسها تُعاد، وستبقى الفجوة بين الحزب وطبقته تتسع. أما إذا جرى تحويل النقد إلى منهج حياة حزبية، فإن كل وثيقة، وكل برنامج، وكل تنظيم، سيصبح قابلًا للتطوّر لا للتكلّس.

من هنا، فإن هذه الوثيقة الخامسة ليست خاتمة، بل اختبار. اختبار لمدى استعداد الحزب لأن ينظر في المرآة من دون زينة، وأن يعترف بأن بعض ما اعتُبر “حكمة” كان خوفًا، وأن بعض ما اعتُبر “واقعية” كان تراجعًا، وأن بعض ما اعتُبر “وحدة” كان صمتًا مؤجَّل الانفجار.

ويبقى السؤال الذي لا يمكن تأجيله أكثر:
هل نريد حزبًا يدير ماضيه، أم حزبًا يصنع مستقبله؟


ما العمل؟ حين يتحوّل النقد من وعي إلى ممارسة

إذا كان النقد والنقد الذاتي شرطًا لإعادة التأسيس، فإن السؤال الحاسم لا يكون: كيف نُعرّف النقد؟ بل: كيف نجعله يعمل داخل الجسد الحزبي، يوميًا، وملموسًا، ومؤثرًا؟
الجواب لا يكمن في وصفة تقنية، بل في إعادة ترتيب العلاقة بين المعرفة والتنظيم والقرار.

أولًا، يبدأ العمل بإقرار مبدأ بسيط وجذري: لا سياسة بلا مراجعة، ولا قرار بلا قابلية للنقض. كل خط سياسي، وكل تحالف، وكل مشاركة، وكل انسحاب، يجب أن يخضع لتقييم دوري علني داخل الأطر الحزبية. ليس المطلوب «تصفية حسابات»، بل تثبيت قاعدة: القرار الذي لا يُراجع يتحوّل إلى عبء. والتقييم الذي لا يؤثّر في القرار يصبح تبريرًا.

ثانيًا، تحويل النقد الذاتي من لحظة موسمية إلى سيرورة مؤسسية. لا يكفي أن يُستدعى النقد في المؤتمرات. المطلوب إدماجه في آليات العمل نفسها:
— تقارير سياسية لا تكتفي بعرض ما أُنجز، بل تُفكّك ما فشل ولماذا.
— هيئات لا تكتفي بالتصويت، بل تفتح نقاشًا فعليًا حول البدائل.
— محاضر لا تُدفن، بل تُعاد إليها القرارات عند الحاجة.
حين يصبح النقد جزءًا من دورة القرار، يفقد طابعه «الطارئ» ويتحوّل إلى ضمانة.

ثالثًا، إعادة تعريف الانضباط بوصفه التزامًا واعيًا بخط خاضع للنقاش، لا طاعة صامتة لقرارات محصّنة. الانضباط الثوري يفترض حقّ السؤال، وواجب الالتزام بما يُتّفق عليه بعد النقاش. أما الانضباط الذي يُبنى على الخوف من النقد، فينتج تماسكًا هشًّا ينهار عند أول اختبار.

رابعًا، فتح قنوات نقد منظّمة وآمنة. النقد الذي لا يجد قناة سيبحث عن منفذ. وإذا أُغلقت القنوات التنظيمية، ستظهر القنوات المشوّهة. المطلوب فضاءات نقاش محمية سياسيًا، لا أمنيًا ولا إداريًا؛ فضاءات يُناقَش فيها المحتوى لا النيّات، والخط لا الأشخاص، والسياسة لا السمعة. هذا وحده ما يمنع تحوّل النقد إلى قطيعة.

خامسًا، إعادة وصل النقد بالحاضنة الاجتماعية. النقد الذي يدور داخل التنظيم فقط، من دون اختبار اجتماعي، يتحوّل إلى جدل داخلي مغلق. معيار صحة النقد هو قدرته على إعادة ربط الحزب بالكادحين: هل غيّر خطابنا؟ هل عدّل أدواتنا؟ هل قرّبنا من مواقع العمل والاحتجاج؟ إن لم يحدث ذلك، فالنقد ناقص مهما بدا عميقًا.

سادسًا، تحميل القيادة مسؤولية مضاعفة. النقد الذاتي يبدأ من القمة لا من القاعدة. ليس لأن القاعدة بلا أخطاء، بل لأن القيادة هي من يحدّد الخط. حين ترى القاعدة قيادة تعترف بالخطأ وتغيّر المسار، يتحوّل النقد إلى ثقافة مشتركة. وحين ترى قيادة تحتمي بالصمت، يتحوّل النقد إلى همس أو انسحاب.

خاتمة الوثيقة الخامسة: من ثقافة الخوف إلى سياسة الشجاعة

ما تقوله هذه الوثيقة، في خلاصتها، ليس جديدًا على الماركسية، لكنه جديد على ممارستنا:
أن الحزب الذي يخاف من نقده، لا يستطيع أن يقود صراعًا.
وأن الوحدة التي تُبنى على الكتمان، لا تصمد.
وأن النقد الذي لا يُغيّر سياسة، ليس نقدًا، بل إدارة لغوية للأزمة.

لقد أظهرت الوثائق السابقة—من الأزمة الطبقية إلى التمثيل والانتماء—أن الحزب يقف أمام مفترق تاريخي. وهذه الوثيقة الخامسة تضيف: المفترق لن يُجتاز من دون شجاعة نقدية. الشجاعة هنا ليست في حدّة اللغة، بل في الاستعداد لدفع ثمن التصحيح. ليس في كشف الأخطاء فقط، بل في تغيير ما ينتجها.

إعادة التأسيس الشيوعي ليست جمع وثائق، بل بناء منهج حياة حزبية:
منهج يرى في النقد قوة، لا تهديدًا؛
وفي النقد الذاتي بوصلة، لا اعتذارًا؛
وفي الحقيقة شرطًا للوحدة، لا خطرًا عليها.

إن لم ننجح في تحويل النقد إلى ممارسة يومية، ستبقى كل إعادة تأسيس ناقصة.
وإن نجحنا، لن يكون النقد عبئًا على الحزب، بل دليله إلى استعادة دوره التاريخي.

وهنا، يعود السؤال للمرة الأخيرة—لا بوصفه خاتمة، بل بداية:
هل نمتلك شجاعة أن نُصحّح ونحن في قلب الصراع، لا على هامشه؟



#علي_طبله (هاشتاغ)       Ali_Tabla#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قراءة نقدية–منهجية في بلاغ اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الع ...
- من وهم التمثيل إلى ضرورة القطيعة
- الهوية بين الأصالة والدونية
- الانتخابات العراقية وإعادة إنتاج السلطة والأزمة الداخلية للح ...
- الوثيقة التصحيحية المنهجية التأسيسية في النهج التشكيكي النقد ...
- إعادة قراءة تشكيكية نقدية تجديدية للوثائق التأسيسية الثلاث ف ...
- الطبقة، الطائفة، والتبعية قراءة تحليلية منهجية في بلاغ المجل ...
- الوثيقة الثالثة: تشخيصُ السيادة والدين والطبقة في عراق ما بع ...
- الوثيقة الثانية: تشخيصُ الأزمة ومساراتُ العمل
- تشخيصُ الأزمة ومساراتُ العمل
- ماذا يريد الشيوعيون؟
- الوثيقة المركزية لإعادة التأسيس الشيوعي في العراق - يا شيوعي ...
- لماذا خسر الحزب؟ وما الذي يجب فعله الآن؟
- العودة إلى الطبقة: في إعادة تأسيس الحركة الشيوعية العراقية د ...
- أوقفوا الإبادة فورًا: الشعب الفلسطيني يقرر
- الاعتراف الغربي بدولة فلسطين و”مشروع ترامب للسلام”: تحليل ما ...
- التراث في الفكر العربي الحديث: قراءة ماركسية نقدية
- من هو عدونا؟ سؤال طبقي لا طائفي
- قراءة ماركسية تجديدية في صناعة الكراهية وتغييب الوطنية
- الطبقة العاملة العراقية – تحديات الوجود وأفق التغيير


المزيد.....




- زيلينسكي وترامب يناقشان الوضع في أوكرانيا والضمانات الأمنية ...
- جوائز غلوب سوكر: ديمبيلي الأفضل بالعالم ورونالدو نجم الشرق ا ...
- ألغاز بلا حلول .. سبع لغات لم يتمكن أحد من فك رموزها
- الرئيس الصومالي يعتبر اعتراف إسرائيل بـ-أرض الصومال- -تهديدا ...
- ترامب مستقبلا زيلينسكي: مفاوضات أوكرانيا بمراحلها النهائية
- -الموانئ والقواعد وتهجير الفلسطينيين-.. عناصر بيان عربي ضد ا ...
- البرهان: الجيش سيواصل القتال حتى إلقاء الدعم السريع السلاح
- جيروزاليم بوست: خطة تعاون عسكري بين إسرائيل واليونان وقبرص ت ...
- رسائل أحداث الساحل.. من يضغط على دمشق وبأي أدوات؟
- ماذا وراء التوتر في منطقة الساحل السوري؟


المزيد.....

- الانتخابات العراقية وإعادة إنتاج السلطة والأزمة الداخلية للح ... / علي طبله
- الوثيقة التصحيحية المنهجية التأسيسية في النهج التشكيكي النقد ... / علي طبله
- الطبقة، الطائفة، والتبعية قراءة تحليلية منهجية في بلاغ المجل ... / علي طبله
- قراءة في تاريخ الاسلام المبكر / محمد جعفر ال عيسى
- اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات، ... / رياض الشرايطي
- رواية / رانية مرجية
- ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - علي طبله - النقد والنقد الذاتي - الوثيقة السادسة