أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - علي طبله - الطبقة، الطائفة، والتبعية قراءة تحليلية منهجية في بلاغ المجلس الاستشاري الموسّع للحزب الشيوعي العراقي















المزيد.....



الطبقة، الطائفة، والتبعية قراءة تحليلية منهجية في بلاغ المجلس الاستشاري الموسّع للحزب الشيوعي العراقي


علي طبله
مهندس معماري، بروفيسور، كاتب وأديب

(Ali Tabla)


الحوار المتمدن-العدد: 8557 - 2025 / 12 / 15 - 00:01
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


في سياق النقاش العام

لظروفٍ قاهرةٍ وخارجةٍ تمامًا عن إرادتي، وجدتُ نفسي ملزمًا بتقديم هذه الورقة إلى النقاش العام في هذا التوقيت تحديدًا. وبسبب هذه الظروف ذاتها، قد أُضطر إلى التوقف عن النشر لفترة قد تمتد لايام اولأسابيع قليلة. غير أنّ هذا التوقف الاضطراري لن يمنعني من متابعة ما يُنشر، بالقدر الذي تسمح به إمكاناتي، ولا من التفاعل الفكري والسياسي مع ما يطرحه الرفاق والأصدقاء والمهتمون.
آمل تفهّمكم، مع خالص محبتي واحترامي للجميع.

الطبقة، الطائفة، والتبعية

قراءة تحليلية منهجية في بلاغ المجلس الاستشاري الموسّع للحزب الشيوعي العراقي

نحو إعادة وصل السياسة بالواقع الاجتماعي وبناء أفق طبقي للتحرّر

د. علي عبد الرضا طبله
2025.12.14

مقدمة

لا تأتي هذه الورقة ردًّا سياسيًا سريعًا، ولا تعقيبًا إعلاميًا، ولا تقييمًا انتخابيًا بالمعنى الضيق، بل تأتي بوصفها قراءة تحليلية منهجية لبلاغٍ سياسيٍّ علنيٍّ صادرٍ عن هيئةٍ قياديةٍ في الحزب الشيوعي العراقي. وكون البلاغ قد قُدِّم إلى الرأي العام، فإنّ من حق هذا الرأي العام، ومن واجب الشيوعيين على حدّ سواء، أن يُناقَش ويُفكَّك ويُقرأ قراءةً عميقة، لا دفاعية ولا هجومية، بل نقدية بمعناها الماركسي الصارم.

نكتب هذه القراءة انطلاقًا من قناعة راسخة مفادها أنّ النقد والنقد الذاتي ليسا ترفًا تنظيميًا ولا خطرًا على وحدة الحزب، بل شرطًا من شروط بقائه حيًّا وقادرًا على الفعل. والخوف من النقد، أو التحفّظ المسبق عليه، لا يحمي التنظيم، بل يحمي الأخطاء ويُراكمها حتى تتحوّل إلى أزمة بنيوية.

إنّ بلاغ المجلس الاستشاري الموسّع يعكس قلقًا مشروعًا إزاء نتائج الانتخابات الأخيرة، ويشير بوضوح إلى اختلالات بنيوية في العملية الانتخابية، وإلى هيمنة المال السياسي، واستغلال مؤسسات الدولة، وتصاعد الخطاب الطائفي، وضعف تكافؤ الفرص. وهذه تشخيصات صحيحة في جوهرها، ولا يجوز التقليل من أهميتها. لكن السؤال الذي تفرضه اللحظة التاريخية الراهنة لا يتوقف عند ماذا جرى؟ بل يتعدّاه إلى لماذا جرى؟ وكيف جرى؟ وضمن أي بنية اجتماعية–اقتصادية–سياسية جرى؟

فالعراق بعد عام 2003 ليس مجرّد ساحة سياسية مختلّة، ولا دولة تعاني من سوء إدارة فحسب، بل هو تشكيلة اجتماعية مركّبة تشكّلت في ظل الاحتلال، وأُعيد بناؤها على أسس ريعية وطائفية وتبعية، وأُديرت عبر منظومة محاصصة جعلت من الدولة أداة توزيع للغنائم لا إطارًا جامعًا للمجتمع. وفي مثل هذه التشكيلة، لا يمكن عزل الانتخابات عن بنية الحكم، ولا فصل الخطاب السياسي عن المصالح الطبقية التي يقف خلفها.

من هنا، فإنّ هذه القراءة تنطلق من محورٍ مركزيٍّ نرى أنّه ما يزال ضعيف الحضور في الكثير من النقاشات العلنية، بما فيها بلاغ المجلس نفسه، وهو محور الطبقة/الطائفة/التبعية بوصفه مثلثًا حاكمًا لواقع ما بعد 2003. هذا المثلث لا يفسّر فقط نتائج الانتخابات، بل يفسّر أيضًا حدود الفعل السياسي، وأسباب اغتراب الجماهير، وتراجع المشروع الطبقي، وصعود الهويات الفرعية بوصفها أدوات تعبئة وإدارة.

كما أنّ هذه الورقة لا تتعامل مع الحزب الشيوعي بوصفه كيانًا معزولًا عن مجتمعه، بل بوصفه جزءًا من هذا المجتمع، يتأثّر ببناه بقدر ما يسعى إلى التأثير فيها. ومن هنا، فإنّ السؤال عن أداء الحزب لا يُطرح بوصفه سؤال محاسبة أخلاقية، بل بوصفه سؤال موقع اجتماعي: أين يقف الحزب اليوم داخل التشكيلة الطبقية العراقية؟ وكيف يُرى من قبل الفئات التي يفترض أنه يناضل باسمها؟

إنّنا نكتب هذه القراءة بروح رفيقية، ومن موقع الانتماء لا القطيعة، وبمنهجٍ ماركسيٍّ تشكيكيٍّ نقديٍّ تجديدي، يرى في الفكر أداة للفهم والتغيير، لا منظومة شعارات مغلقة. ولسنا هنا بصدد تقديم وصفات جاهزة، ولا ادّعاء امتلاك الحقيقة، بل فتح مسار نقاش عميق، صريح، ومسؤول، يليق بتاريخ الحركة الشيوعية العراقية وبالتضحيات الهائلة التي قدّمها مناضلوها.

من هذا المدخل، ننتقل إلى السؤال الذي يشكّل الأساس لكل ما سيأتي: أين نقف تاريخيًا؟ وما طبيعة المجتمع والدولة اللذين نعمل ونتحرّك داخلهما اليوم؟

من الدولة إلى المجتمع: أين نقف تاريخيًا؟

لا يمكن قراءة بلاغٍ سياسيٍّ معاصر، ولا تقييم تجربة انتخابية راهنة، ولا حتى مساءلة أداء حزبٍ عريق كالحزب الشيوعي العراقي، من دون تثبيت الموقع التاريخي الذي نقف عنده اليوم. فالعراق لم يدخل القرن الحادي والعشرين بوصفه دولةً خرجت من مسار تطوّر طبيعي، بل بوصفه كيانًا أُعيد تشكيله مرارًا عبر القسر والعنف والاحتلال وانقطاع التراكم الاجتماعي–الاقتصادي.

منذ تشكّل الدولة العراقية الحديثة في ظل الانتداب البريطاني، جرى بناء دولة سابقة على مجتمعها، دولة تستند إلى جهاز إداري–عسكري أكثر مما تستند إلى عقد اجتماعي. لم تُبنَ هذه الدولة على قاعدة إنتاج صناعي أو زراعي حديث، ولا على دمج تدريجي للطبقات الشعبية في السياسة، بل على إدارة تناقضات مجتمع متعدّد الهويات عبر القمع حينًا، والاحتواء حينًا آخر. وفي هذا السياق، ظلّ تشكّل الطبقات الاجتماعية هشًّا، متقطعًا، ومفتوحًا دائمًا على التدخل الخارجي.

لم يعرف العراق مسارًا رأسماليًا وطنيًا متماسكًا يسمح بتبلور طبقة عاملة مستقرة على النمط الكلاسيكي الذي عرفته بلدان أوروبا. فالصناعة ظلّت محدودة ومركّزة في قطاعات بعينها، والزراعة بقيت أسيرة علاقات شبه إقطاعية، فيما لعبت الدولة، منذ الخمسينيات، دورًا مركزيًا في التشغيل والتوزيع. هذا المسار، الذي كان يمكن أن يتطوّر في اتجاه بناء دولة وطنية ذات مضمون اجتماعي، تعرّض لسلسلة انقطاعات عنيفة: انقلابات، قمع، حروب، عسكرة المجتمع، ثم الحصار الطويل، وأخيرًا الاحتلال المباشر.

في كلّ مرحلة من هذه المراحل، لم يكن المجتمع يعاد تنظيمه على أسس طبقية حديثة، بل كان يُدفع للارتداد إلى أشكال تضامن ما قبل الدولة: العشيرة، الطائفة، المنطقة، الجماعة الدينية. لم تكن هذه الأشكال بقايا جامدة من الماضي، بل أدوات بقاء في ظل غياب الدولة العادلة وانهيار منظومات الحماية الاجتماعية. وهنا تكمن إحدى المعضلات المركزية في الحالة العراقية: الطائفية والعشيرة لم تنشآ لأن المجتمع “متخلّف”، بل لأن الدولة فشلت تاريخيًا في أن تكون إطارًا جامعًا للحقوق والمواطنة.

مع دخول الإسلام إلى بلاد ما بين النهرين، تشكّل بُعد ديني–ثقافي عميق في المجتمع، لكن الصراع الطائفي لم يكن، في جوهره، صراع عقائد، بل صراع سلطة وهيمنة. فالتاريخ العراقي، منذ القرون الأولى، شهد دورات متكرّرة من الإقصاء والاضطهاد والعنف باسم المذهب، غالبًا في ظل دول مركزية ضعيفة أو إمبراطوريات متنازعة. ولم تكن فترات التعايش سوى استثناءات قصيرة، مرتبطة بتوازنات سياسية محدّدة، لا بتجاوز جذري لمنطق السيطرة.

تفاقم هذا الإرث التاريخي مع توالي الاحتلالات: من المغول والتتار، إلى العثمانيين، فالانتداب البريطاني، وصولًا إلى الاحتلال الأميركي. كل احتلال لم يكن يكتفي بالسيطرة العسكرية، بل كان يعيد ترتيب البنى الاجتماعية بما يخدم استقراره، مستثمرًا الانقسامات القائمة، ومعمّقًا إياها حينًا، أو ملبسًا إياها أشكالًا جديدة حينًا آخر. وهكذا، لم يُتح للمجتمع العراقي أن يطوّر سرديته الوطنية الخاصة به بعيدًا عن العنف المفروض من الخارج.

حين نصل إلى عام 2003، نكون أمام مجتمع أنهكته ثماني سنوات من الحرب، وثلاث عشرة سنة من الحصار، ودولة حُوّلت إلى جهاز قمعي مغلق، ثم جرى تدميرها دفعة واحدة. الاحتلال الأميركي لم يأتِ إلى فراغ اجتماعي، بل إلى مجتمع مفكّك، مُنهك، بلا قوى طبقية منظّمة قادرة على فرض مسار بديل. ومن هنا، فإنّ ما جرى بعد 2003 لم يكن “انفجار الطائفية” من تحت، بل إعادة هندسة الطائفية من فوق، بوصفها آلية حكم وإدارة.

هذا التثبيت التاريخي ضروري، لأنّه ينقلنا من القراءة الأخلاقية أو السياسية السطحية إلى قراءة بنيوية أعمق. فنحن لا نعيش أزمة عابرة، ولا اختلالًا انتخابيًا تقنيًا، بل نعيش داخل تشكيلة اجتماعية–سياسية تشكّلت تاريخيًا على نحوٍ يعقّد مسألة الصراع الطبقي، من دون أن يلغيها. ومن هنا، يصبح السؤال التالي حتميًا: هل المجتمع العراقي مجتمع طبقي بالمعنى الماركسي؟ أم أنّ طبقته مشروطة ببنى أخرى تتقاطع معها وتقيّد تشكّلها؟
هل المجتمع العراقي مجتمع طبقي؟

يبدو السؤال، للوهلة الأولى، بسيطًا: هل يمكن توصيف المجتمع العراقي بوصفه مجتمعًا طبقيًا بالمعنى الماركسي الأصيل؟ لكن هذا السؤال يخفي خلفه تعقيدًا تاريخيًا واجتماعيًا عميقًا، لأنّه لا يُجاب عنه بـ«نعم» أو «لا» مجردتين، بل بتفكيك الشروط التي تشكّلت فيها الطبقات، والعوائق التي أعاقت تبلورها، والأشكال التي اتخذتها علاقات الاستغلال والسيطرة.

من منظور ماركسي، لا يوجد مجتمع خارج علاقات الإنتاج، ولا يوجد استغلال من دون طبقات. بهذا المعنى، المجتمع العراقي هو مجتمع طبقي بلا شك. لكنّه ليس مجتمعًا طبقيًا مكتمل البنية، ولا يعمل وفق نموذج رأسمالي وطني مستقر يسمح بظهور طبقة عاملة متماسكة، وبرجوازية وطنية منتِجة، وصراع طبقي واضح المعالم. إنّه مجتمع طبقي مشروط، تشكّلت طبقاته داخل سياقات غير مكتملة، وتحت ضغط الاحتلال، والدولة الريعية، والعنف السياسي، والانقطاعات التاريخية.

الطبقة العاملة العراقية لم تتكوّن عبر مسار صناعي طويل، بل عبر توسّع الدولة بوصفها ربّ العمل الأكبر، وارتباط قطاعات واسعة من المجتمع بالوظيفة الحكومية، أو بالأعمال الخدمية والهشّة المرتبطة بها. ومع تفكك القطاع العام بعد 2003، لم تنتقل هذه الفئات إلى سوق رأسمالي منتج، بل إلى فضاء غير منظم، هش، متقلّب، يفتقر إلى الضمانات وإلى التنظيم النقابي الفعلي. وهكذا، تحوّلت قطاعات واسعة من العمّال والموظفين وصغار الكسبة إلى ما يمكن توصيفه بـبروليتاريا مهدَّدة، تعيش على حافة البطالة، وتتنقّل بين العمل والهشاشة، بلا أفق طبقي واضح.

في المقابل، لم تتشكّل برجوازية وطنية عراقية بالمعنى التاريخي المعروف، بل نشأت طبقة مالكة ريعية، ارتبطت بالدولة أكثر مما ارتبطت بالإنتاج، واستمدّت ثروتها من الريع النفطي، والعقود الحكومية، والوساطات، والتجارة الاستيرادية، لا من التصنيع أو الزراعة الحديثة. هذه الطبقة لم تكن بحاجة إلى سوق داخلية قوية ولا إلى طبقة عاملة منظّمة، بل على العكس، كان من مصلحتها تفكيك أي إمكان لتشكّل قوة اجتماعية مستقلة تهدّد امتيازاتها.

لكن هذه العلاقة الطبقية لم تُعرض على المجتمع بوصفها صراعًا بين مستغِلّين ومستغَلّين. لقد جرى تلبيسها لبوسًا طائفيًا ومناطقيًا وعشائريًا. العامل لا يُخاطَب بوصفه عاملًا، بل بوصفه ابن طائفة أو منطقة أو عشيرة. والبطالة لا تُقدَّم بوصفها نتيجة بنية اقتصادية ريعية، بل بوصفها ظلمًا واقعًا على «مكوّن» معيّن. والفساد لا يُرى كآلية تراكم طبقي، بل كفساد هذا الحزب، أو ذاك، أو هذه الطائفة، أو تلك.

بهذا المعنى، لا تلغي الطائفية وجود الطبقة، بل تحجبها. هي لا تنفي الاستغلال، بل تعيد تنظيمه لغويًا وسياسيًا على نحو يمنع تحوّله إلى وعي طبقي. الطائفية هنا ليست نقيض الطبقة، بل أداتها السلبية، أو بتعبير أدق: أداتها المُضادّة.

الفارق بين المجتمع الحضري والمجتمع الريفي يضاعف هذا التعقيد. ففي المدن الكبرى، حيث تتداخل علاقات العمل والتعليم والخدمات، يمكن تلمّس ملامح وعي طبقي جنيني، سرعان ما يُجهض بفعل الهشاشة الاقتصادية والخطاب الهويّاتي. أما في الريف، حيث تراجعت الزراعة الحديثة وتفكّكت العلاقة الإنتاجية بالأرض، فقد عادت العشيرة والطائفة لتؤدّيا دور شبكة الأمان الوحيدة، على حساب أي إمكان لتنظيم طبقي مستقل.

إنّ هذا الواقع لا يعني استحالة الصراع الطبقي في العراق، بل يعني أنّه صراع معقّد ومشوَّه ومؤجَّل، يحتاج إلى أدوات تحليل وتنظيم مختلفة عن تلك التي نشأت في سياقات رأسمالية مستقرة. ومن هنا، فإنّ أي قراءة للانتخابات، أو للأداء الحزبي، أو للخطاب السياسي، من دون إدراك هذا التشوّه البنيوي في تشكّل الطبقات، ستقع حتمًا في التبسيط أو التوهيم.

من هذا الفهم، يصبح الانتقال إلى مسألة الطائفية انتقالًا منطقيًا لا عرضيًا. فإذا كانت الطبقة موجودة ولكن محجوبة، فإنّ السؤال التالي هو: كيف تحوّلت الطائفية من هوية اجتماعية إلى أداة حكم؟
الطائفية: من بنية اجتماعية تاريخية إلى أداة حكم حديثة

الطائفية في العراق ليست ظاهرة طارئة، ولا اختراعًا معاصرًا لما بعد 2003، كما أنّها ليست «جوهرًا أزليًا» ثابتًا في المجتمع لا يتغيّر. إنّها، في حقيقتها، بنية تاريخية متحوّلة، جرى توظيفها بأشكال مختلفة تبعًا لطبيعة السلطة، ونمط الدولة، وشكل الاقتصاد.

منذ دخول الإسلام إلى بلاد ما بين النهرين، عرفت هذه الأرض صراعات مذهبية دامية، اتّخذت في فترات طويلة طابع الإقصاء والعنف والإبادة الرمزية أو المادية. غير أنّ هذه الصراعات لم تكن يومًا معزولة عن السلطة السياسية، بل كانت دائمًا مرتبطة بسؤال: من يحكم؟ وباسم أي شرعية؟ وبأي موارد؟

السلطات المتعاقبة — الأموية، العباسية، السلجوقية، العثمانية، الصفوية، ثم الاستعمار البريطاني — لم تُنتج الطائفية من عدم، لكنها أعادت تنظيمها بما يخدم تثبيت السيطرة. الطائفة كانت، في الغالب، وسيلة لضبط المجتمع حين تعجز الدولة عن بناء رابطة مواطنة، أو حين لا ترغب في ذلك أصلًا.

في الدولة العراقية الحديثة (1921–1958)، جرى قمع التعبيرات الطائفية سياسيًا، لكن من دون تفكيك جذورها الاجتماعية أو معالجة التفاوتات الطبقية والمناطقية. كان «السكوت الطائفي» جزءًا من هندسة دولة نخبوية مرتبطة بالإمبراطورية البريطانية، لا تعبيرًا عن حلّ تاريخي لمسألة الانقسام. وعندما اهتزّ هذا التوازن، ظهرت الطائفية مجددًا بأشكال عنيفة، كما في 1963 وما تلاه.

في ظل الدولة البعثية، فُرض قمع صارم لكل أشكال التنظيم المستقل، بما فيها التنظيمات الدينية، لكن الطائفية لم تُلغَ؛ بل أُعيد إنتاجها في الخفاء، عبر المحاباة، والتمييز الصامت، والضرب الانتقائي، ثم انفجرت بقوة مع انهيار الدولة المركزية بعد 2003.

هنا بالضبط، يجب التوقّف:
ما جرى بعد الاحتلال الأميركي لم يكن «عودة الطائفية»، بل تحويل الطائفية إلى مبدأ دستوري لإدارة الدولة.

دستور 2005 لم يكرّس الطائفية نصًّا، لكنه بنى الدولة على مفهوم «المكوّنات»، لا على مفهوم المواطنة. هذا التحوّل كان حاسمًا: فالطائفة لم تعد مجرد هوية اجتماعية، بل أصبحت وحدة سياسية واقتصادية لها «استحقاق»، وحصة، وتمثيل، وحماية خارجية.

منذ تلك اللحظة، لم تعد الانتخابات تنافسًا بين برامج اقتصادية–اجتماعية، بل صارت آلية لإعادة توزيع الريع بين كتل طائفية–حزبية. ولم يعد الفساد انحرافًا عن النظام، بل صار شرطًا من شروط استمراره، لأنّ كل كتلة تحتاج إلى موارد لإدامة شبكات الزبائنية داخل طائفتها.

بهذا المعنى، الطائفية ليست نقيض الدولة، بل شكل الدولة الريعية حين تعجز عن التحوّل إلى دولة مواطنة. وهي ليست نقيض الطبقة، بل أداتها الأشدّ فعالية لتعطيل الوعي الطبقي.

العامل الشيعي يُستَخدم كدرع انتخابي باسم «المظلومية».
العامل السنّي يُستَخدم كوقود سياسي باسم «التهميش».
العامل الكردي يُستَخدم كرهينة باسم «القضية القومية».

لكنّ العامل — في الحالات الثلاث — يبقى عاملًا: أجره هش، عمله غير مضمون، مستقبله معلّق، وحقوقه مؤجّلة إلى إشعار آخر.

هنا تتقاطع الطائفية مع التبعية الخارجية. فالنظام الطائفي لا يعيش من دون رعاة. كل «مكوّن» يحتاج إلى داعم إقليمي أو دولي يضمن حصته في الصراع الداخلي. وهكذا، تصبح السيادة الوطنية مجرّد شعار، لأنّ القرار موزّع بين عواصم متعددة، ولكل منها وكلاؤها المحليون.

من هنا، لا يمكن فصل نقد الطائفية عن نقد الدولة الريعية التابعة. ولا يمكن الاكتفاء بإدانة الخطاب الطائفي، من دون تفكيك الأساس الاقتصادي–السياسي الذي يعيد إنتاجه.

وهنا نصل، منطقيًا، إلى السؤال التالي:

إذا كانت الطبقة محجوبة بالطائفية، والطائفية مُدارة بالتبعية، فمن الذي يحكم العراق فعليًا؟

من يحكم العراق؟

الطبقة الحاكمة بين الريع والسلاح والتبعية

إذا أردنا أن ننتقل من اللغة العامة إلى التحليل الماركسي الملموس، فلا بدّ من طرح السؤال الذي كثيرًا ما يُلتفّ عليه في البيانات السياسية، ومنها بلاغ المجلس الاستشاري: من هي الطبقة الحاكمة فعليًا في العراق اليوم؟

ليس الجواب: «الأحزاب الطائفية» وحده كافيًا. وليس الجواب: «الفساد» أو «المحاصصة» أو «سوء الإدارة». هذه توصيفات لظواهر، لا لتشكيلة طبقية.

ما يحكم العراق منذ 2003 هو كتلة طبقية هجينة تشكّلت في شروط استثنائية: احتلال عسكري مباشر، تفكيك دولة، اقتصاد ريعي أحادي، وفتح شامل للسوق أمام الرأسمال العالمي والإقليمي. هذه الكتلة ليست برجوازية وطنية بالمعنى الكلاسيكي، وليست طبقة سياسية عادية، بل هي:

طبقة ريعية–فصائلية–بيروقراطية–تجارية، مرتبطة عضوياً بالخارج، ومحصّنة داخلياً بالطائفية والسلاح.

تتكوّن هذه الطبقة من عناصر متداخلة:
قيادات أحزاب دينية وقومية تحوّلت من معارضة إلى مالكة للريع،
شبكات فصائل مسلّحة أصبحت فاعلًا اقتصاديًا لا يقلّ وزنًا عن دورها العسكري،
بيروقراطية عليا تدير الدولة كغنيمة،
رأسمال تجاري–مصرفي يعيش على الاستيراد، لا على الإنتاج،
وسطاء وشيوخ عشائر ورجال دين ومقاولين يشكّلون الحزام الاجتماعي للنظام.

هذه الكتلة لا تحكم عبر «الدولة» بوصفها جهازًا قانونيًا محايدًا، بل عبر تفكيك الدولة وإعادة تركيبها كشبكة مصالح. الوزارات ليست مؤسسات عامة، بل إقطاعيات. البرلمان ليس ساحة تشريع، بل سوق تفاوض. الانتخابات ليست آلية تداول سلطة، بل وسيلة لتجديد الشرعية الشكلية.

وهنا تظهر حدود بلاغ المجلس الاستشاري بوضوح.

فالبلاغ يشخّص — بدقّة نسبية —:
المال السياسي، شراء الأصوات، تسخير الدولة، الخطاب الطائفي، ضعف المفوضية، إعادة إنتاج المنظومة.

لكنّه يتوقّف عند هذا الحدّ، ولا يسمّي الطبقة التي تقف خلف هذه الظواهر، ولا يشرح كيف تُنتج سلطتها، ولا لماذا يستحيل إصلاحها من داخل الآليات نفسها.

اللغة تبقى، في الجوهر، لغة إدانة سياسية–أخلاقية، لا لغة تفكيك طبقي.

وهنا مكمن الإشكال المنهجي.

فالقول إنّ «النتائج أفرزت لونًا سياسيًا واحدًا» لا يجيب عن السؤال: لماذا هذا اللون قادر على الفوز دائمًا؟
والقول إنّ «العملية افتقرت إلى العدالة» لا يفسّر لماذا صُمّمت العملية أصلًا كي لا تكون عادلة.
والتحذير من «تقاسم السلطة والمغانم» لا يكفي ما لم يُربط ببنية الريع التي تجعل من السلطة موردًا اقتصاديًا مباشرًا.

الطبقة الحاكمة في العراق لا تخوض الانتخابات لتطبيق برنامج، بل لتجديد حقّها في الريع. لذلك، لا يعنيها ضعف المشاركة، ولا يعنيها غضب الشارع ما دام لا يتحوّل إلى تنظيم طبقي مستقل.

وهنا نصل إلى مسألة التبعية.

هذه الطبقة لا تملك قرارها السيادي. وهي لا تريد امتلاكه أصلًا. فهي تعيش على التوازن بين هيمنتين متداخلتين:
هيمنة أميركية–غربية–خليجية تتحكّم بالمال، والنفط، والدولار، والنظام المصرفي، والأسواق،
وهيمنة إيرانية–إقليمية تتحكّم بأجزاء من المجال الأمني، والفصائلي، والسياسي.

هذان المساران لا يتناقضان جذريًا كما يُروَّج في الإعلام الشعبوي، بل يتعايشان عبر مقايضات دائمة:
ضغط هنا، تسهيل هناك؛ تصعيد لفظي، وتفاهمات صامتة؛ صراع على الحصص، لا على بنية النظام.

العراق ليس «محتلًا من طرف واحد»، ولا «تابعًا خالصًا» لمحور واحد. هو ساحة إدارة مشتركة لتبعية مزدوجة، تدفع كلفتها الطبقة العاملة والكادحون.

ومن هنا، فإنّ أي خطاب سياسي لا يضع هذه الحقيقة في قلب تحليله، سيبقى أسير التعميمات.

الانتخابات: من لحظة سياسية إلى اختبار اجتماعي

هنا يصبح من الضروري التوقّف عند الانتخابات، لا بوصفها إجراءً قانونيًا فقط، بل بوصفها مرآة اجتماعية.

بلاغ المجلس الاستشاري يصف الحملة الانتخابية بوصفها ساحة خروقات وتزوير. لكن ما لم يُقَل بوضوح هو ما كشفته الحملة ميدانيًا: القطيعة العميقة بين الحزب والشرائح التي يفترض أنّه يخاطبها.

نزول بعض قيادات الحزب ومرشحيه إلى الشارع لم يكشف فقط عن عسف السلطة، بل كشف عن اغتراب متراكم:
عمال لا يرون الحزب جزءًا من حياتهم اليومية،
شباب ينظرون إليه بوصفه «قوة أخلاقية» لا أداة تغيير،
فقراء لا يجدون فيه لغة تعكس شروط عملهم الهشّة،
نقابات ضعيفة أو مفرغة لا تشكّل جسرًا عضويًا.

هذا ليس فشل حملة، بل نتيجة مسار طويل انتقل فيه الحزب من مشروع طبقي إلى خطاب «مدني عام»، ومن تنظيم اجتماعي إلى فاعل انتخابي محدود التأثير.

وهنا بالضبط، تتقاطع موضوعة:
الحزب والطبقة — أين انقطعت الصلة؟
مع موضوعة:
من القوى المدنية إلى المشروع الطبقي.

لكن هذا الانتقال لا يمكن معالجته بالشعارات، ولا بنداءات الوحدة، بل بإعادة بناء المنهج واللغة والممارسة.

المجتمع العراقي: طبقي أم طائفي؟

تفكيك سؤال مضلِّل وبناء قراءة جدلية

يُطرح في النقاش العام، وفي الإعلام، بل وحتى في بعض أدبيات اليسار، سؤال يبدو للوهلة الأولى مشروعًا: هل المجتمع العراقي مجتمعٌ طبقيٌّ أم طائفي؟
غير أنّ هذا السؤال، بصيغته الثنائية الحادّة، لا يقود إلى الفهم، بل إلى التبسيط، لأنّه يفترض تعارضًا بين الطبقة والطائفة، حيث لا يوجد في الواقع إلا تداخلٌ تاريخيٌّ معقّد.

المجتمع العراقي، في بنيته المادية، مجتمع طبقي بلا أدنى شك. علاقات العمل، وأنماط الدخل، ومواقع الناس في عملية الإنتاج والتوزيع، ترسم خطوطًا طبقية واضحة بين من يملك الريع ومن يعيش على الأجر، بين من يتحكم بالثروة ومن يبيع قوة عمله في ظروف هشّة. العامل في الميناء، والمعلمة بعقد مؤقت، والموظف الصغير في دائرة مترهلة، والعاطل في حيّ مهمّش، ينتمون جميعًا إلى موقع طبقي واحد مهما اختلفت طوائفهم أو مناطقهم أو أصولهم.

لكن هذا الانتماء الطبقي لا يُعاش بوصفه وعيًا مباشرًا، لأنّ الطبقة في العراق لا تتجسّد في وعيها بذاتها، بل تُكسى بأشكال أخرى من التنظيم الاجتماعي والرمزي: الطائفة، العشيرة، المنطقة، والانتماء الديني أو القومي. هذه الأشكال لا تلغي الطبقة، بل تحجبها، وتعيد تفسير الاستغلال بلغة غير لغته الأصلية.

فالفقر لا يُقدَّم بوصفه نتيجة بنية اقتصادية ريعية تابعة، بل بوصفه ظلمًا طائفيًا أو تهميشًا مناطقيًا. والبطالة لا تُفهم بوصفها نتاج تفكيك العمل المنتج، بل بوصفها إقصاءً سياسيًا لمكوّنٍ بعينه. والاستغلال لا يُسمّى باسمه، بل يُعاد تدويره في خطاب المظلومية، أو خطاب الحقوق الهوياتية.

هنا تحديدًا، تظهر الطائفية لا كجوهر اجتماعي ثابت، بل كـ أداة سياسية حديثة لإدارة مجتمع طبقي. فالطائفية في العراق لم تكن يومًا قدرًا تاريخيًا لا فكاك منه، بل كانت دومًا مرتبطة بشكل الدولة ونمط السلطة. في فترات غياب الدولة الوطنية الحديثة، أو في لحظات ضعفها وانهيارها، عادت الطائفة لتؤدي وظيفة الضبط الاجتماعي التي تعجز الدولة عن أدائها أو لا ترغب فيها.

ما جرى بعد 2003 لم يكن “عودة الطائفية”، بل ترقية الطائفية إلى مبدأ حكم. فقد أُعيد بناء الدولة على أساس “المكوّنات”، لا على أساس المواطنة، وأُدخلت الطائفة من مجال الاجتماع والثقافة إلى قلب السياسة والاقتصاد والدستور. منذ تلك اللحظة، لم تعد الطائفة إطارًا للانتماء فحسب، بل صارت قناة توزيع الريع، وأداة تنظيم الولاء، ووسيلة لضبط الجماهير ومنع تشكّل وعي طبقي عابر للهويات.

في هذا السياق، لا يعود السؤال الحقيقي: هل المجتمع العراقي طبقي أم طائفي؟
بل يصبح السؤال: كيف تُستخدم الطائفية لتعطيل تشكّل الوعي الطبقي؟

العامل الشيعي لا يُستَخدم لأنه شيعي، بل لأنّ طائفته تُستَخدم لإبقائه داخل علاقة تبعية سياسية واقتصادية. والعامل السنّي لا يُستَغل لأنه سنّي، بل لأنّ هويته تُستثمر لإعادة تفسير فقره بوصفه إقصاءً سياسيًا لا استغلالًا بنيويًا. والعامل الكردي لا يُفصل عن بقية العمال لأنّه كردي فقط، بل لأنّ القضية القومية تُستَخدم لتبرير قيام سلطة ريعية محلية لها مصالحها الطبقية الخاصة.

بهذا المعنى، الطائفية ليست نقيض الطبقة، بل قناعها الأيديولوجي في لحظة تاريخية محددة. وهي لا تزدهر إلا حين يغيب التنظيم الطبقي، وتُفرَّغ النقابات، وتضعف الأحزاب التي كان يمكن أن تعيد ربط الناس بمصالحهم المادية المشتركة.

من هنا، فإنّ أي خطاب يكتفي بإدانة “الخطاب الطائفي” من دون تفكيك الأساس الاقتصادي والسياسي الذي يعيد إنتاجه، يبقى خطابًا أخلاقيًا لا تغييريًا. وأي دعوة إلى “المواطنة” لا تربطها مباشرة بالصراع ضدّ الريع والتبعية والعمل الهشّ، تتحوّل إلى شعار قانوني مجرّد.

هذا هو جوهر المسألة التي ينبغي أن تكون في قلب أي قراءة نقدية لبلاغ المجلس الاستشاري: ليس السؤال كيف نُخفّف الطائفية في الخطاب، بل كيف نكسر وظيفتها الطبقية في بنية الحكم.
الحزب والطبقة: أين انقطعت الصلة؟

ليس من المبالغة القول إنّ أزمة الحزب الشيوعي العراقي، في جوهرها العميق، ليست أزمة تنظيمية ولا انتخابية ولا حتى سياسية بالمعنى الضيق، بل هي أزمة علاقة بالطبقة. وكلّ ما عدا ذلك ليس إلا مظاهر، أو أعراضًا، أو نتائج مترتبة على هذا الانقطاع الأساسي.

حين وُلد الحزب الشيوعي العراقي، لم يولد بوصفه “قوة سياسية” فحسب، بل بوصفه تجسيدًا واعيًا لحركة اجتماعية صاعدة. كان الحزب، في لحظات صعوده الكبرى، موجودًا حيث توجد الطبقة العاملة فعلًا: في الموانئ، في السكك، في المعامل، في الورش، في الأحياء الفقيرة، في الريف، وفي النقابات. لم تكن العلاقة آنذاك علاقة تمثيل، بل علاقة اندماج عضوي؛ الحزب كان جزءًا من حياة الناس اليومية، من لغتهم، من مطالبهم، من مخاوفهم، ومن أشكال مقاومتهم.

هذا الاندماج لم يكن رومانسيًا ولا تلقائيًا، بل كان ثمرة وعيٍ نظري وتنظيمي يرى في الطبقة العاملة فاعلًا تاريخيًا لا جمهورًا انتخابيًا، وفي النضال اليومي مدرسةً للوعي لا مادةً للبيانات.

لكنّ هذه العلاقة بدأت تتآكل تاريخيًا، لا دفعة واحدة، بل عبر مسار طويل من الانكسارات، والقمع، والمنافي، والتراجعات، وصولًا إلى لحظة ما بعد 2003، حيث وقع التحوّل الحاسم. في تلك اللحظة، لم يُطرح السؤال الجوهري: كيف نعيد بناء الحزب بوصفه أداة تنظيم طبقي في مجتمع أعيد تشكيله بالكامل؟ بل طُرح سؤال آخر، أقل خطورة في ظاهره، وأكثر تدميرًا في نتائجه: كيف نتموضع داخل “العملية السياسية”؟

منذ تلك اللحظة، أخذ الحزب ينزلق، ببطء، ولكن بثبات، من موقع التنظيم الطبقي إلى موقع الفاعل السياسي العام، ثم إلى موقع “القوة المدنية” ضمن مشهدٍ تُحدّد قواعده الطبقة الحاكمة الريعية–الطائفية. لم يعد الحزب يذهب إلى الطبقة بوصفها أساس وجوده، بل صار يبحث عن الطبقة داخل خطابه، داخل بياناته، داخل شعاراته، لا داخل بنيتها الحقيقية.

الطبقة العاملة العراقية نفسها لم تختفِ، لكنها تغيّرت. تفككت الصناعة، تريّفَت المدن، تمدّد الاقتصاد الهش، توسّع العمل بالعقود المؤقتة، وظهرت شرائح واسعة من العمال غير المنظمين في الخدمات والنقل، والموانئ، والتعليم، والصحة. هذه التحوّلات كانت تتطلب قفزة نظرية وتنظيمية جريئة، تعيد تعريف الطبقة، وأشكال تنظيمها، ولغتها، وأدوات نضالها.

لكن ما حدث هو العكس: بدلاً من أن يُعاد بناء الحزب انطلاقًا من هذه التحوّلات، جرى تبسيط المجتمع في خطابٍ مدني عام، تُستبدل فيه الطبقة بمصطلحات فضفاضة مثل “الجمهور”، و“الناس”، و“المواطنين”، و“القوى المدنية”. ومع هذا الاستبدال، انقطعت الصلة بين الحزب وموقع الإنتاج الاجتماعي الحقيقي، وحلّ مكانها خطاب أخلاقي–سياسي يصف الظلم، لكنه لا يُحدّد بدقّة من يُنتجه، ولا كيف يُعاد إنتاجه يوميًا.

هذا الانقطاع لم يكن نظريًا فقط، بل تجسّد بوضوح في الممارسة. الحملة الانتخابية الأخيرة، ونزول بعض قيادات الحزب ومرشحيه إلى الشارع، كشفت — من دون قصد — حجم الاغتراب القائم. لم يكن الاغتراب ناتجًا عن عداء مباشر من الناس، بل عن غياب علاقة حية سابقة. الشارع الذي زاره الحزب لم يكن شارعًا يعرفه بوصفه تنظيمًا حاضرًا في نضالاته اليومية، بل بوصفه زائرًا موسميًا يحمل خطابًا عامًا لا يختلف كثيرًا، في نظر كثيرين، عن خطابات قوى “مدنية” أخرى.

هنا لا تكمن المشكلة في صدق النيات، ولا في شجاعة النزول إلى الشارع، بل في حقيقة أنّ العمل الميداني لا يُستعاد بالقرار، بل بالبناء الطويل. الطبقة لا تُقابَل في موسم الانتخابات، بل تُنظَّم في المواسم كلها؛ في النزاعات العمالية، في الإضرابات، في قضايا العقود، في صراعات التعليم، في الموانئ، في الخدمات، في الدفاع عن الحق في العمل والسكن والضمان.

بلاغ المجلس الاستشاري، حين يتحدث عن “الانحياز إلى الجماهير” و“تعزيز الحضور الميداني”، يلمس هذا الجرح، لكنه لا يذهب إلى عمقه. فالانحياز ليس موقفًا لفظيًا، والحضور ليس نشاطًا ظرفيًا. الانحياز الحقيقي يعني أن يعيد الحزب تعريف نفسه بوصفه أداة تنظيم طبقي قبل أن يكون فاعلًا سياسيًا عامًا، وأن يقبل بأن استعادة هذه العلاقة ستعني صراعًا طويلًا، مؤلمًا، وربما غير مربح انتخابيًا في المدى القريب.

هنا، تصبح المراجعة المطلوبة أعمق من “تقييم الأداء”. المطلوب ليس تحسين الخطاب، ولا تطوير الحملات، ولا توسيع التحالفات فحسب، بل إعادة طرح السؤال الذي تجنّبه الجميع طويلًا:
هل ما زال الحزب ينطلق من الطبقة ليبني سياسته، أم ينطلق من السياسة ليبحث عن طبقة؟

الإجابة على هذا السؤال هي التي ستحدّد ما إذا كان الحزب قادرًا على الخروج من أزمته التاريخية، أم سيبقى يدور داخل حلقة إعادة إنتاجها.

من «القوى المدنية» إلى المشروع الطبقي:
كيف جرى الاستبدال، ولماذا وصل إلى حدوده؟

حين ظهر تعبير «القوى المدنية» في الخطاب السياسي العراقي بعد 2003، لم يكن في ذاته خطأً أو انحرافًا بالضرورة. لقد جاء، في لحظة محددة، كردّ فعل على الطائفية السياسية الصارخة، وعلى عسكرة المجتمع، وعلى انهيار فكرة الدولة بوصفها إطارًا عامًا للمواطنة. كان التعبير، في بداياته، محاولة للبحث عن مساحة مشتركة خارج قاموس المكوّن والطائفة والسلاح.

لكن ما حدث لاحقًا هو أنّ هذا التعبير تحوّل، تدريجيًا، من جسرٍ مؤقّت إلى بديلٍ دائم، ومن أداة تكتيكية إلى أفقٍ استراتيجي، ومن لغة مواجهة للطائفية إلى لغة تعايش معها. وهنا بدأ الخلل المنهجي.

في التجربة الماركسية، لا تُختزل السياسة في توصيفات أخلاقية عامة، ولا تُبنى المشاريع الكبرى على مفاهيم سائلة. فالمدنية، حين تُفصل عن سؤال: من ينتج الثروة؟ ومن يسيطر عليها؟ ومن يملك الدولة؟ تتحول إلى شعارٍ فارغ يمكن أن يتعايش معه أي نظام، مهما كان ريعيًا أو فاسدًا أو تابعًا.

ما جرى عمليًا هو أنّ مفهوم «القوى المدنية» استُخدم ليحلّ محلّ المفهوم الطبقي، لا ليخدمه. جرى الحديث عن الاستبداد والفساد والمحاصصة، من دون تفكيك البنية الطبقية التي تنتجها. وبدل أن يُطرح الصراع بوصفه صراعًا بين طبقة حاكمة ريعية–زبائنية–فصائلية وبين طبقات كادحة مُفقَرة، جرى تقديمه بوصفه صراعًا بين «مدنيين» و«طائفيين»، أو بين «قوى تغيير» و«قوى تقليدية».

هذا الاستبدال لم يكن بريئًا في نتائجه. فهو، أولًا، طمس البنية الطبقية الحقيقية للنظام القائم، وجعل الطائفية تبدو وكأنها أصل الأزمة، لا أداتها. وثانيًا، سمح لشرائح من الطبقة الوسطى المتآكلة، ولشخصيات ليبرالية ونخبوية، أن تتصدّر المشهد بوصفها ممثلة لـ«المدنية»، من دون أي ارتباط عضوي بالكادحين أو بمواقع الإنتاج الاجتماعي. وثالثًا، وضع الحزب الشيوعي نفسه في موقع الدفاع الدائم عن خطابٍ عام، بدل أن يكون صاحب مشروعٍ مميّز وواضح الجذور.

بلاغ المجلس الاستشاري، حين يتحدث عن «القوى المدنية الديمقراطية» التي جرى إقصاؤها انتخابيًا، يعيد إنتاج هذا الإطار من دون مساءلته. فهو يُشخّص الإقصاء، لكنه لا يُسائل حدود هذا الاصطفاف نفسه. لماذا لم تتمكن هذه القوى، مجتمعة، من التحول إلى قوة اجتماعية ضاغطة؟ لماذا بقي حضورها محصورًا في مواسم الانتخابات؟ ولماذا لم تستطع كسر هيمنة المال السياسي والسلاح والطائفة؟

الجواب لا يكمن فقط في التزوير، ولا في قانون الانتخابات، ولا في المال السياسي، رغم خطورة كل ذلك. الجواب الأعمق هو أنّ المدنية، بوصفها هوية سياسية عامة، لا تُنتج قوة مادية. القوة المادية تُنتجها الطبقة حين تُنظَّم حول مصالحها المباشرة، وحين ترى في التنظيم السياسي أداةً لتحسين شروط حياتها، لا مجرد حاملٍ لقيمٍ مجردة.

في العراق، حيث المجتمع مشدود بقوة إلى شبكات الريع، والرعاية الزبائنية، والعشيرة، والدين، لا يمكن لأي مشروع تغيير أن ينجح ما لم يخترق هذه الشبكات من موقع طبقي، لا من موقع خطابي. العامل بعقدٍ هش، أو المعلّم الذي يتقاضى راتبًا لا يكفي نصف الشهر، أو العامل في الميناء الذي يواجه شركات وسماسرة وسلاحًا، لا يغيّر موقعه السياسي لأنّه اقتنع بـ«المدنية»، بل لأنّه رأى تنظيمًا يقف معه في معركته اليومية، ويدافع عن خبزه وأمانه وكرامته.

التحول من المشروع الطبقي إلى مشروع «القوى المدنية» جعل الحزب، ومعه قوى أخرى، يخاطب مجتمعًا متخيَّلًا أكثر مما يخاطب المجتمع الفعلي. مجتمعًا يفترض وجود مواطن حرّ مستقل عن شبكات العيش، في حين أنّ الواقع هو مجتمع مُقيَّد اقتصاديًا، ومفكك طبقيًا، ومشدود إلى آليات بقاء قاسية.

وهنا نصل إلى الحدّ الذي وصل إليه هذا الخيار. ليس لأنّ «المدنية» فكرة خاطئة أخلاقيًا، بل لأنّها، حين تنفصل عن التحليل الطبقي، تصبح غير قادرة على الفعل. وهذا ما أظهرته الانتخابات، وأظهرته الحملات، وأظهره ضعف القدرة على تحويل السخط الشعبي الواسع إلى قوة منظمة.

المراجعة المطلوبة، إذن، ليست التخلّي عن قيم الحرية والمواطنة والعدالة، بل إعادة تأصيلها طبقيًا. أي نقلها من مستوى الشعار العام إلى مستوى الصراع الاجتماعي الملموس. وهذا لا يتم إلا عبر إعادة بناء الحزب بوصفه حزبًا طبقيًا، لا مجرّد ركنٍ متقدم في تحالف مدني واسع.

الطبقة/الطائفة/التبعية: تفكيك المثلث الحاكم لما بعد 2003

إذا كان القسم السابق قد حسم أن المجتمع العراقي مجتمع طبقي مشروط، تتراكب فيه الطبقة مع الطائفة والعشيرة والمناطقية والدين، فإنّ الخطوة التالية هي تفكيك آلية الحكم التي حوّلت هذا التراكب إلى نظام سيطرة مستدام بعد 2003.

ما يحكم العراق اليوم ليس الطائفة بوصفها عقيدة دينية، ولا الطبقة بوصفها علاقة إنتاج صافية، بل مثلث سلطوي يقوم على:

الطائفة بوصفها أداة تعبئة وضبط،
والطبقة الريعية–الزبائنية بوصفها المستفيد الفعلي،
والتبعية الخارجية بوصفها الضامن النهائي لتوازن هذا البناء.

هذا المثلث لا يعمل بعناصره منفصلة، بل كوحدة واحدة. الطائفية لا تُنتج السلطة بذاتها، بل تُستخدم لإخفاء الطابع الطبقي للسلطة. والطبقة الحاكمة لا تستطيع الحكم بالريع وحده، بل تحتاج إلى غطاء هويّاتي يحوّل الصراع من «من ينهب؟» إلى «من يمثل؟». أما التبعية، فهي ليست حادثًا طارئًا، بل شرط بقاء هذا الترتيب كلّه.

بلاغ المجلس الاستشاري يلمس أطراف هذا المثلث، لكنه لا يدخل إلى بنيته الداخلية. يتحدث عن المال السياسي، والمحاصصة، والضغوط الخارجية، لكنه يتعامل معها كعوامل متجاورة، لا كنظام واحد متكامل.

في الواقع، لا يمكن فهم المال السياسي من دون الريع النفطي، ولا فهم الريع من دون خضوعه لمنظومة الدولار والقرار المالي الأميركي، ولا فهم هذا الخضوع من دون شبكة التوازنات الإقليمية، ولا فهم كل ذلك من دون إدراك أنّ الطائفية هي اللغة اليومية التي تُدار بها هذه العلاقات أمام المجتمع.

بهذا المعنى، ليست الطائفية «انحرافًا عن الديمقراطية»، بل صيغة حكم. وليست التبعية «ضغطًا خارجيًا» فقط، بل جزءًا من آلية إعادة إنتاج الطبقة الحاكمة. وليست الانتخابات «ممارسة ديمقراطية مشوّهة» فحسب، بل أداة ضبط دورية لإعادة توزيع المواقع داخل الطبقة نفسها.

الانتخابات والحملة الميدانية: حين اصطدم الخطاب بالواقع الاجتماعي

هنا تكتسب تجربة الانتخابات الأخيرة، كما أشار إليها بلاغ المجلس، دلالة أعمق من مجرّد خسارة انتخابية أو إقصاء سياسي.

نزول بعض قيادات الحزب ومرشحيه إلى الشارع كان، من حيث النية، خطوة صحيحة ومتأخرة. لكنه كشف، من حيث النتيجة، عن اغترابٍ اجتماعي عميق لا يمكن تجاهله أو تجميله.

الشارع الذي جرى النزول إليه لم يكن شارعًا «مدنيًا» بالمعنى الذي يفترضه الخطاب. كان شارعًا يعيش على:

عقود هشّة بلا ضمان،
شبكات رعاية حزبية–طائفية،
وظائف مؤقتة مرتبطة بالولاء،
خوف دائم من فقدان الراتب أو الحماية،
وذاكرة مثقلة بالقمع والحروب والخداع.

في هذا الشارع، لا يُسأل المرشح: ما برنامجك الديمقراطي؟
بل يُسأل: ماذا ستفعل لي غدًا؟ من يحميني؟ من يضمن بقائي؟

هنا اصطدم خطاب الحزب – كما خطاب قوى مدنية أخرى – بواقع لم يُخترق تنظيميًا قبل الانتخابات، ولم تُبنَ فيه علاقات يومية طويلة النفس. فبدا الخطاب، رغم صدقه، وكأنه يأتي من خارج دورة العيش الفعلي للناس.

هذه ليست مسألة «ضعف دعاية»، بل مسألة غياب تمركز طبقي فعلي. فالحزب الذي لا يوجد في الميناء قبل موسم الانتخابات، ولا في المدرسة قبل الإضراب، ولا في حيّ العمال قبل ارتفاع الإيجارات، لا يستطيع أن يتحوّل فجأة إلى خيارٍ جماهيري عبر حملة قصيرة.

بلاغ المجلس يعترف بالحاجة إلى «تعزيز الحضور الميداني»، لكن الاعتراف وحده لا يكفي. المطلوب هو فهم أن الميدان ليس مساحة ظهور، بل مساحة بناء بطيء للثقة، وأن هذه الثقة لا تُبنى إلا حين يرى الكادح في الحزب أداة دفاع عن حياته، لا مجرد صوتٍ احتجاجي محترم.

عن العداء الأيديولوجي: بين الحقيقة التاريخية والتوظيف السياسي

لا يمكن، ولا ينبغي، إنكار وجود عداء أيديولوجي تاريخي بين الشيوعية والتيارات الدينية السياسية. هذا عداء متأصل في جوهر المشروعين:
الشيوعية، بوصفها مشروع تحرّر طبقي علماني،
والتيارات الدينية السياسية، بوصفها – في صيغها السائدة – حارسة للملكية الخاصة والتفاوت الاجتماعي.

لكن تحويل هذا العداء من تحليل بنيوي إلى خطاب تعبوي عام ضد “الدين” أو “المتدينين” أو “الطائفة”، هو خطأ قاتل، سياسيًا وطبقياً.

ما توصّلنا إليه في الوثيقة الرابعة واضح:
الأحزاب الحاكمة اليوم لم تعد أحزابًا دينية بالمعنى الكلاسيكي، بل تحوّلت إلى مشاريع اقتصادية ريعية–زبائنية تستخدم الدين والطائفة كموارد تعبئة، لا كمرجعية أخلاقية حقيقية.

بهذا المعنى، فإنّ الصراع الحقيقي ليس بين «الشيوعية» و«الإسلام»، بل بين مشروع تحرّر طبقي ومشروع سلطة ريعي–تابع يتغطّى بالدين. الخلط بين المستويين يخدم السلطة لا المجتمع.

بلاغ المجلس، حين يتحدث عن تصاعد الخطاب الطائفي، يُدين الظاهرة، لكنه لا يُفكك من يستفيد منها وكيف ولماذا. والطائفية لا تُهزم بإدانتها، بل بكشف وظيفتها الطبقية.

من نقد الأداء إلى نقد المنهج: أين ينبغي أن يذهب النقاش؟

أهمية بلاغ المجلس تكمن في أنه فتح، ولو بحذر، باب المراجعة. لكنه ما زال يتحرّك داخل سقفٍ إصلاحي محدود: تحسين الأداء، توسيع النشاط، مراجعة الخطاب.

ما نطرحه هنا ليس نفيًا لهذه الخطوات، بل وضعها في سياقها الصحيح:
لا يمكن لأي مراجعة أن تكون جدّية إذا لم تمسّ المنهج الذي حكم قراءة الحزب للمجتمع والدولة والصراع بعد 2003.

المشكلة ليست فقط في «ضعف الحضور»، بل في طبيعة المشروع الذي يُراد لهذا الحضور أن يخدمه.
وليست فقط في «القانون الانتخابي»، بل في الوهم القائل بإمكانية التغيير عبره من دون بناء قوة طبقية موازية.
وليست فقط في «الضغوط الخارجية»، بل في موقع العراق البنيوي داخل نظام تبعية مزدوجة تُدار بتوافقات دولية–إقليمية.

تمهيد للخاتمة السياسية

بهذا المعنى، فإنّ هذه القراءة لا تُقدَّم ضد بلاغ المجلس، بل من داخله وضده في آن واحد: من داخله لأنها تنطلق من قلقه وأسئلته، وضده لأنها ترفض الاكتفاء بالتشخيص السطحي.

مرحلة التلقّي والوعي

في شروط استيعاب النقد وتحويله إلى قوة اجتماعية

لا تكتمل أي عملية نقد تاريخي أو مراجعة منهجية بمجرد نشر النصوص أو إعلان المواقف، مهما بلغت دقتها وصرامتها. فالنقد، في المنظور الماركسي، ليس فعل كتابة فقط، بل عملية اجتماعية مركّبة تمرّ بمراحل متمايزة: من الصدمة، إلى المقاومة، إلى التلقي، ثم إلى الوعي، وأخيرًا – إن توفرت الشروط – إلى الفعل.

من هنا تأتي أهمية ما يمكن تسميته بـ مرحلة التلقّي والوعي: وهي المرحلة الفاصلة بين النص بوصفه إنتاجًا فكريًا، وبين تحوّله إلى عنصر فاعل في الوعي الجمعي، وإلى أداة لإعادة النظر في المسلّمات والممارسات.

في هذه المرحلة، لا يكون السؤال الأساسي:
هل ما كُتب صحيح أم خاطئ؟
بل:
كيف يُستقبل ما كُتب؟ وبأي أدوات ومرجعيات؟ وتحت أي شروط نفسية وتنظيمية وتاريخية؟

التجربة التاريخية للحركة الشيوعية، في العراق كما في غيره، تُظهر أن النصوص النقدية الجذرية لا تُستقبل عادةً بالترحيب الفوري، حتى حين تكون صادقة ومسنَدة نظريًا.
بل غالبًا ما تُواجَه، في لحظتها الأولى، بمزيج من الصمت، أو الدفاع، أو سوء الفهم، أو الاختزال، أو ردود فعل عاطفية ترى في النقد تهديدًا للهوية أو للتاريخ أو للتنظيم.

وهذا ليس عيبًا أخلاقيًا بقدر ما هو تعبير عن ثقل التراكم التاريخي:
تراكم الهزائم، والقمع، والمنافي، والانكسارات، والآمال المؤجَّلة، التي تجعل أي نقد جذري يُقرأ – في الوهلة الأولى – كاتهام أو إلغاء، لا كدعوة للفهم والتحرير.

لكنّ مرحلة التلقي ليست لحظة عابرة؛ إنها زمن اجتماعي.
في هذا الزمن، يبدأ النص بالانفصال عن كاتبه، وبالدخول في فضاء القراءة المتعددة، حيث يُعاد تفسيره، وربطه بالتجربة الشخصية لكل قارئ، وبموقعه التنظيمي، وبمخاوفه، وآماله. هنا بالضبط يبدأ النقد بأداء وظيفته الحقيقية: ليس كحكم، بل كمرآة.

الوعي الذي يُنتَج في هذه المرحلة ليس وعيًا متجانسًا ولا فوريًا.

إنه وعي متدرّج، متناقض أحيانًا، يتقدّم خطوة ويتراجع خطوتين، لكنه – إذا كُتب النقد بصدق ومنهجية – يفتح شقوقًا في الجدار الصلب للمسلّمات. وهذه الشقوق، لا البيانات، هي ما يسمح بدخول الهواء الجديد.

من الخطأ القاتل استعجال نتائج هذه المرحلة، أو قياسها بردود الفعل السريعة، أو بعدد المؤيدين والمعارضين. فالنقد الذي يُستوعَب بسرعة غالبًا ما يكون سطحيًا. أمّا النقد الذي يُقاوَم أولًا، ثم يُعاد التفكير فيه بصمت، فهو الذي يمتلك قابلية التحول إلى وعي.

في هذا السياق، لا يكون دور الكاتب أو المفكر أو المناضل النقدي هو الدفاع الدائم عن نصّه، ولا الدخول في سجالات استنزافية، بل حماية الفضاء النقدي نفسه: أي الإصرار على حق السؤال، وشرعية الشك، وضرورة المراجعة، من دون تحويل ذلك إلى معركة شخصية أو تنظيمية.

إنّ مرحلة التلقي والوعي هي المرحلة التي يُختَبَر فيها النص لا بمنطقه الداخلي فقط، بل بقدرته على:
كسر الصمت،
إعادة فتح الأسئلة المؤجَّلة،
زعزعة الراحة الزائفة،
وإعادة وصل الفكر بالواقع المعيش.

وحين تنضج هذه المرحلة، لا يعود السؤال: من كتب النص؟
بل: ما الذي كشفه النص؟ وما الذي لم نعد قادرين على تجاهله بعده؟

بهذا المعنى، لا تُكتب هذه النصوص لتكون خاتمة، بل لتكون بداية زمن جديد من التفكير؛ زمن لا يُقاس بسرعة التحوّل، بل بعمقه، ولا بعدد المواقف المعلَنة، بل بنوعية الوعي الذي يتشكّل ببطء داخل القاعدة الاجتماعية والتنظيمية.

إنّ تحويل النقد إلى قوة مادية – كما علّمنا ماركس – لا يتمّ بالقفز فوق مرحلة الوعي، بل بالعمل الصبور داخلها. وهذه المرحلة، بكل ما تحمله من توتر وصمت وتردّد، ليست علامة ضعف، بل شرطًا ضروريًا لأي تحوّل حقيقي.

خاتمة سياسية: من توصيف الأزمة إلى استعادة البوصلة الطبقية

ليست الغاية من هذه القراءة تسجيل موقف، ولا الدخول في سجال تنظيمي، ولا إحراج قيادة أو تبرئة أخرى. الغاية أبسط وأخطر في آن واحد: إعادة البوصلة إلى موقعها الصحيح في لحظة تاريخية لم يعد فيها التباس الاتجاهات مسألة نظرية، بل مسألة وجود سياسي واجتماعي.

بلاغ المجلس الاستشاري الموسّع عبّر، بوضوح نسبي، عن شعور مأزوم داخل الحزب: شعور بأن شيئًا ما لا يعمل، بأن النتائج لا تتناسب مع التضحيات، وبأن المسافة بين الحزب والمجتمع تتسع بدل أن تضيق. هذا الاعتراف بحد ذاته خطوة إيجابية، لا يجوز التقليل من شأنها، خصوصًا في تقليد سياسي طالما خشي المراجعة العلنية.

لكنّ الاعتراف لا يصبح نقطة انطلاق حقيقية ما لم يُستكمل بسؤال أعمق:
هل الأزمة أزمة أدوات، أم أزمة قراءة، أم أزمة موقع تاريخي لم يُحسم بعد؟

ما تحاول هذه الورقة قوله بوضوح هو أن الأزمة أعمق من الأداء الانتخابي، وأعمق من القانون الانتخابي، وأعمق من سطوة المال السياسي، وأعمق حتى من الطائفية بوصفها ظاهرة خطابية. الأزمة تكمن في انقطاع الصلة العضوية بين الحزب والطبقة التي يفترض أنه وُجد من أجلها، وفي انتقال مركز ثقله – من حيث لا يقصد أحيانًا – من مشروع طبقي تحرّري إلى موقع احتجاجي أخلاقي داخل نظام لا يمكن إصلاحه من الداخل.

العراق ما بعد 2003 لم يُحكم فقط بالطائفية، بل حُكم بطائفية مُنتَجة داخل اقتصاد ريعي تابع، وبطبقة حاكمة أعادت تشكيل نفسها بوصفها طبقة مالية–زبائنية–مسلّحة، وبنظام تبعية مزدوجة تضمن استقرار هذا الترتيب. في هذا السياق، لم تكن الانتخابات ساحة تنافس ديمقراطي، بل إحدى آليات إعادة توزيع المواقع داخل الطبقة نفسها، وضبط المجتمع عبر وهم التمثيل.

حين لا يُوضَع هذا كله في صلب التحليل، يتحوّل النضال السياسي إلى دوران داخل حلقة مغلقة: احتجاج بلا قوة مادية، خطاب بلا قاعدة اجتماعية، ومشاركة انتخابية بلا أفق تغيير.

ما نحتاجه اليوم ليس حزبًا «أكثر حضورًا إعلاميًا»، بل حزبًا أكثر تجذّرًا اجتماعيًا. ليس خطابًا «أكثر حداثة»، بل مشروعًا أكثر التصاقًا بحياة البروليتاريا المهدَّدة: عمّال الموانئ، والعقود الهشّة، والمعلمين، والممرضين، وسائقي النقل، والعاطلين، وفقراء الأحياء، والنساء العاملات في الظل. هؤلاء لا يبحثون عن شعارات كبيرة، بل عن قوة تنظّم غضبهم، وتحمي مطالبهم، وتحوّل معاناتهم اليومية إلى صراع واعٍ.

ولا يمكن بلوغ ذلك من دون شجاعة فكرية هادئة تقول:
إنّ الانتقال من خطاب «القوى المدنية» إلى مشروع طبقي واضح لم يعد خيارًا نظريًا، بل شرط بقاء.

وإنّ التعامل مع الطائفة بوصفها «وعياً زائفاً» من دون تفكيك شروط إنتاجها المادية، يتركها فاعلة ومهيمنة.
وإنّ الحديث عن السيادة من دون مواجهة التبعية الريعية والمالية والعسكرية يبقى خطابًا رمزيًا لا يغيّر ميزان القوى.

هذه ليست دعوة إلى القطيعة مع تاريخ الحزب، بل إلى تحرير هذا التاريخ من الجمود، وإعادته إلى وظيفته الأصلية: أن يكون أداة لفهم الواقع وتغييره، لا مرجعًا يُستدعى لتبرير العجز أو الخوف من الأسئلة الصعبة.

إنّ النقد الذي نقترحه هنا ليس موجّهًا ضد الحزب، بل موجّه من أجله. ليس نقدًا للتشكيك في نوايا الرفاق، بل نقدٌ لمنهجٍ أثبتت الوقائع محدوديته. وليس هدفه الهدم، بل إعادة التأسيس على أرض أكثر صلابة.

في لحظات كهذه، لا تُقاس المسؤولية بما نقوله داخل القاعات، بل بما نجرؤ على قوله علنًا، وبالأسئلة التي نضعها أمام القاعدة والجمهور بلا مواربة. فالحزب الذي يخشى النقد يفقد قدرته على التعلم، والحزب الذي لا يتعلم يتقدّم عليه الواقع بلا رحمة.

الطريق إلى استعادة الدور التاريخي للحزب الشيوعي العراقي لا يمرّ عبر تحسين موقعه داخل النظام القائم، بل عبر بناء قوة اجتماعية خارجه وضدّه؛ قوة ترى في الحزب أداتها، لا غايتها. وحين تعود السياسة إلى معناها الطبقي، وحين يُعاد وصل التنظيم بحياة الناس الفعلية، تتحوّل الانتخابات إلى تفصيل ضمن معركة أوسع، لا إلى مقياس وحيد للفعل والتأثير.

بهذا المعنى، لا تُقدَّم هذه القراءة بوصفها خاتمة نقاش، بل دعوة مفتوحة إليه. دعوة لإعادة طرح الأسئلة التي جرى تأجيلها طويلًا، وللكفّ عن الخوف من كلمة «نقد»، واستعادة معناها الماركسي الأصيل: أداة للتحرّر، لا سلاحًا للإقصاء أو التشهير.

فالطبقة قبل الحزب،
والواقع قبل الخطاب،
والتحرّر قبل أيّ اصطفاف.

من هنا فقط يمكن أن يبدأ مسار جديد؛ مسار لا يراهن على حسن نية النظام، ولا على أخلاق الخصوم، بل على وعي الطبقة بقوتها حين تجد من ينظّمها، ويثق بها، ويضع نفسه في خدمتها لا فوقها.



#علي_طبله (هاشتاغ)       Ali_Tabla#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الوثيقة الثالثة: تشخيصُ السيادة والدين والطبقة في عراق ما بع ...
- الوثيقة الثانية: تشخيصُ الأزمة ومساراتُ العمل
- تشخيصُ الأزمة ومساراتُ العمل
- ماذا يريد الشيوعيون؟
- الوثيقة المركزية لإعادة التأسيس الشيوعي في العراق - يا شيوعي ...
- لماذا خسر الحزب؟ وما الذي يجب فعله الآن؟
- العودة إلى الطبقة: في إعادة تأسيس الحركة الشيوعية العراقية د ...
- أوقفوا الإبادة فورًا: الشعب الفلسطيني يقرر
- الاعتراف الغربي بدولة فلسطين و”مشروع ترامب للسلام”: تحليل ما ...
- التراث في الفكر العربي الحديث: قراءة ماركسية نقدية
- من هو عدونا؟ سؤال طبقي لا طائفي
- قراءة ماركسية تجديدية في صناعة الكراهية وتغييب الوطنية
- الطبقة العاملة العراقية – تحديات الوجود وأفق التغيير
- هيمنة الرأسمالية المالية في العراق
- الانتخابات والتحالفات في العراق – من الاحتلال إلى اللا-دولة
- التحولات الطبقية في العراق المعاصر: قراءة ماركسية نقدية في ض ...
- تحرير المفاهيم: من الاشتراكية المشوّهة إلى العدالة الجماعية ...
- الحرية لا تُنتزع بالخطب، بل بالسلطة الطبقية الواعية
- الاشتراكية والثورة: هل يمكن التحرر دون سلطة؟ رد على أحمد الج ...
- نحو الأممية الشبكية والتنظيم الافقي في الحزب الشيوعي: منهجية ...


المزيد.....




- -أب وابنه-.. أستراليا تعلن تفاصيل جديدة عن مشتبه بهما والسلا ...
- وفاة إيمان شقيقة -الزعيم- عادل إمام وأرملة الراحل مصطفى متول ...
- مسلم أعزل ولا يمتلك خبرة في الأسلحة.. من هو الرجل الذي انت ...
- المغرب: قتلى جراء -تدفقات فيضانية استثنائية- في آسفي جنوب ال ...
- نيوزويك: اليابان تكشف عن سلاح ليزر سيغير قواعد الحرب
- مصر.. أسعار السيارات مُرشحة لتراجع جديد في عام 2026
- سوريا تعتقل 5 مشتبه بهم بعد مقتل جنديين أمريكيين ومترجم في ه ...
- السلطات السورية تُعلن توقيف خمسة أشخاص وتكشف خلفية منفّذ هجو ...
- -استيقظت فوجدت ضلعي مكسورًا-.. عشرات المعارضين خارج السجون ا ...
- -غير قانوني-.. حكم قضائي يُبطل قرار الحكومة الإسرائيلية إقال ...


المزيد.....

- الطبقة، الطائفة، والتبعية قراءة تحليلية منهجية في بلاغ المجل ... / علي طبله
- قراءة في تاريخ الاسلام المبكر / محمد جعفر ال عيسى
- اليسار الثوري في القرن الواحد والعشرين: الثوابت والمتحركات، ... / رياض الشرايطي
- رواية / رانية مرجية
- ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - علي طبله - الطبقة، الطائفة، والتبعية قراءة تحليلية منهجية في بلاغ المجلس الاستشاري الموسّع للحزب الشيوعي العراقي