أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - علي طبله - العودة إلى الطبقة: في إعادة تأسيس الحركة الشيوعية العراقية دراسة نقدية















المزيد.....



العودة إلى الطبقة: في إعادة تأسيس الحركة الشيوعية العراقية دراسة نقدية


علي طبله
مهندس معماري، بروفيسور، كاتب وأديب

(Ali Tabla)


الحوار المتمدن-العدد: 8528 - 2025 / 11 / 16 - 09:16
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


دراسة نقدية في جذور الأزمة ومسارات استعادة وظيفة الحزب التاريخية في الصراع الطبقي العراقي

الجزء الأول

البنية النظرية ومنهج التحليل في تشخيص الأزمة الطبقية للحركة الشيوعية العراقية

في ضرورة بناء الإطار المعرفي قبل الخوض في التحليل

لا يمكن فهم الأزمة التي يعيشها الحزب الشيوعي العراقي اليوم من دون تأسيس إطار منهجي يحدد طبيعة النظر التي نعتمدها. فالمقاربات التي تُرجع التراجع التاريخي إلى القمع وحده، أو التي تلجأ إلى تبرئة الذات بلوم الشعب، أو تلك التي تكتفي بوصف الظواهر بلا تحليل طبقي لأسسها، كلها مقاربات لا تنتج معرفة علمية ولا تساعد في بناء مشروع لإعادة التأسيس. إن قراءة الأزمة ضمن منظور ماركسي–لينيني حديث تتطلب وضع التشكيلة الاجتماعية العراقية، وعلاقات الإنتاج، وتكوين الدولة، ودور الإمبريالية، وبنية الريع، في موقعها المركزي داخل التحليل.

في موقع النهج التشكيكي النقدي التجديدي كمدخل للقراءة

ينطلق هذا النص من اعتماد «النهج التشكيكي النقدي التجديدي في الماركسية واللينينية» بوصفه إطاراً معرفياً يتعامل مع التجربة الشيوعية العراقية دون تقديس الماضي أو القبول بالجمود، ودون الاستسلام للقراءات الليبرالية التي تفصل النضال الديمقراطي عن جذره الطبقي. يقوم هذا النهج على الشك المنهجي في المسلمات الراسخة داخل الوعي الحزبي، وعلى نقد الخيارات السياسية والتنظيمية والنظرية التي تَرسَّبت عبر العقود، وعلى تجديد أدوات الفهم والتحليل بما يجعل النظرية قادرة على الإحاطة بواقع العراق الراهن، لا واقع خمسينات القرن الماضي.

بهذا المعنى، لا يستهدف النهج التشكيكي نقد الماركسية ذاتها، بل نقد الاستخدام السطحي أو الجامد أو الميكانيكي لها؛ ولا يستهدف النهج النقدي تدمير التجربة، بل كشف طبقاتها، والتمييز بين ما هو تاريخي يجب تجاوزه وما هو جوهري يجب حفظه؛ ولا يستهدف النهج التجديدي القطيعة مع الإرث الثوري، بل إعادة وصل هذا الإرث بشروط الواقع العراقي المعاصر.

في إعادة تحديد وظيفة الحزب وضرورة استعادتها

إن تشخيص الأزمة يقتضي العودة إلى السؤال الجوهري: ما الوظيفة التاريخية للحزب الشيوعي؟ فالحزب، في المنظور الماركسي–اللينيني، ليس جهازاً انتخابياً، ولا إطاراً ثقافياً، ولا نادياً سياسياً للنخب؛ بل هو أداة طبقية، منظمة تنظيماً واعياً، تعمل على تحويل وعي العمال والفلاحين والكادحين من مستوى التجربة اليومية إلى مستوى الفهم التاريخي للصراع الطبقي. وإذا انفصلت هذه الأداة عن الطبقة، فإنها تفقد مضمونها حتى لو احتفظت بالشعارات والرموز.

من هذا المنظور، لا تُفهم الأزمة باعتبارها أزمة “حزب” فقط، بل أزمة “وظيفة طبقية” تآكلت تدريجياً بسبب الانقطاع عن مواقع الإنتاج والعمل والسكن، وتحوّل الحزب إلى فضاء سياسي وثقافي أكثر مما هو أداة طبقية.

في طبيعة الأزمة بوصفها أزمة تاريخية ممتدة

لا تنشأ الأزمات الكبرى فجأة؛ فالأزمة التي نحللها هنا ليست حدثاً طارئاً يرتبط بانتخابات أو مواقف سياسية عابرة، بل هي مسار طويل امتد عبر ستة عقود. تداخل في هذا المسار القمع الدموي الذي تعرّض له الشيوعيون، والانهيار التاريخي للمنظومة الاشتراكية، وصعود أشكال قيادية بيروقراطية، وانجراف الخط السياسي نحو المدنية الليبرالية، وتراجع العمل في مواقع الطبقة، وتفكك الأطر النقابية، وظهور سياسات تنظيمية إقصائية، وإعادة تشكيل الدولة العراقية بعد الاحتلال على أساس ريعي–مكوناتـي. لكن التعامل مع هذا المسار بوصفه “قدراً” يحجب مسؤولية الحزب عن خياراته، ويجعل القمع شماعة تختبئ وراءها الأخطاء الفكرية والتنظيمية.

في وحدة النظر بين البنية النظرية والبنية التاريخية

أي تحليل جدي يجب أن يدمج بين فهم التشكيلة الاجتماعية العراقية، وقراءة الاقتصاد الريعي باعتباره بنية يعاد فيها إنتاج التبعية والفساد والولاءات، وتشخيص الدولة التي صاغها الاحتلال وكيف تعمل كجهاز سياسي لتوزيع الريع، وتحديد تحولات الطبقة العاملة وأشكال العمل المأجور، وفحص التغيرات الاجتماعية المرتبطة بالهجرة الداخلية، وتفكك الريف، وأوضاع الشباب والنساء، وتحليل الأزمة التنظيمية من حيث علاقتها بهذه التحولات. إن الربط بين التاريخ والنظرية ليس زخرفة منهجية، بل شرط لتمكين الحزب من استعادة دوره بوصفه أداة طبقية واعية.

في ضرورة إعادة تعريف الطبقة العاملة اليوم بوصفها طبقة متغيرة لا غائبة

من أكثر الأخطاء التي انتشرت داخل الخطاب الحزبي في العقود الأخيرة الاعتقاد بأن الطبقة العاملة “اختفت”، أو أن الفلاحين “اندثروا”. هذه التصورات ليست فقط غير علمية، بل تكشف انفصالاً عن الواقع. فالطبقة العاملة لم تختف، بل تغيّرت؛ أماكن عملها تحولت من المصانع الكبيرة إلى قطاعات الخدمات والموانئ والبلديات والنقل والقطاع العام المترهل والاقتصاد غير الرسمي. والنساء العاملات يشكلن اليوم قوة عمل رئيسية في قطاعات غير مرئية وغير محمية. والفلاحون ما زالوا موجودين، لكن شروط الإنتاج الزراعي التي يعيشون تحتها تغيّرت بفعل الريع، وانهيار الدولة، وتغير المناخ، وسياسات السوق.

إنكار وجود الطبقة العاملة لا ينتج معرفة، بل يبرر العجز التنظيمي عن الوصول إليها. وبقدر ما يُنظر إلى هذه الطبقات من زاوية الهويات أو القيم أو “العقلية”، تُصبح السياسة مجرد خطاب ثقافي لا علاقة له بالصراع الطبقي.

الجزء الثاني

التفكيك التاريخي لمسار الانقطاع عن الطبقة: من ذروة أيار إلى ما بعد الاحتلال

في لحظة أيار: الذروة التي كشفت الإمكان التاريخي المغيَّب

حين خرجت الجماهير في مظاهرة الأول من أيار 1959، لم يكن ذلك استعراض قوة ولا محمولاً رمزياً فحسب، بل تعبيراً عن اندماج الحزب في الحياة الواقعية للعمال والفلاحين والحرفيين والشرائح الفقيرة. لم تُصنع تلك اللحظة بقرار فوقي أو بدعوات حزبية، بل بتراكم طويل في مواقع الإنتاج والنقابات والأحياء. كانت اللحظة إعلاناً بأن الحزب، في تلك المرحلة، كان جزءاً عضوياً من نسيج المجتمع العامل، وأن الوعي الطبقي لم يكن شعاراً، بل ممارسة يومية. غير أن هذه اللحظة، التي يفترض أن تكون بداية توسيع الحضور الطبقي، بدأت تتحول إلى نقطة مفصلية في المسار الذي سيقود لاحقاً إلى الانفصال.

إبعاد الرفيق سلام عادل إلى موسكو بعد فترة قصيرة شكّل لحظة مبكرة من لحظات تفكك الرابط بين القيادة والطبقة. كان لذلك الإبعاد معنى تنظيمي وفكري عميق؛ فهو أشار إلى انتقال بطيء نحو مركزية بيروقراطية تُدار من فوق، وابتعاد عن القيادة المنغرسة في الفعل الطبقي المباشر. لم يكن ذلك مجرد إجراء تنظيمي، بل علامة على توجّه ذهني جديد داخل جزء من القيادة، توجّه سيمتد أثره لعقود.

في مجازر شباط: حين تحطّم الوجود الطبقي ولم يُبنَ البديل

انقلاب شباط 1963 جاء بوصفه ضربة عنيفة للطبقة العاملة والفلاحين والفقراء، قبل أن يكون ضربة للحزب ذاته. فالمجازر التي ارتُكبت والاعتقالات الواسعة التي طالت الآلاف لم تدمر البنية التنظيمية فحسب، بل دمّرت أكثر العناصر ارتباطاً بحركة الواقع: النقابيون، العمال، المعلمون، الطلبة الفقراء، الكوادر القاعدية المتمرسة. كان يمكن لهذه الهزيمة أن تتحول إلى نقطة انطلاق لعملية نقد ذاتي وإعادة بناء، كما فعلت أحزاب شيوعية أخرى في لحظات تاريخية مشابهة، لكن المسار الذي تبلور داخل الحزب بعد ذلك لم يقترب من المستوى المطلوب من الجدية.

كانت إعادة البناء التي تمت بعد 1963 ترميمية أكثر منها تأسيسية. لم تُحوَّل التجربة القاسية إلى مادة لدراسة عميقة لطبيعة الدولة العراقية، ولا لطبيعة البنية الطبقية، ولا لكيفية عمل القمع وأثره على الحركة الثورية. وبدلاً من أن تتولد قيادة جديدة نابعة من الطبقة نفسها، تعمقت مظاهر المركزية التنظيمية التي تنظر إلى الطبقة من فوق، وتحول الحزب تدريجياً إلى كيان أقل ارتباطاً بالمجتمع العامل.

في حملات 1978: تفريغ المجتمع من الوجود الشيوعي وانسداد الأفق التنظيمي

لحظة 1978 جاءت امتداداً لسياسة بدأت قبلها، لكنها مثّلت الضربة الأكثر قسوة منذ 1963. فمع الاعتقالات، والإعدامات، والملاحقات، والمراقبة الأمنية، أصبح الوجود الشيوعي في الداخل شبه منعدم. لم يعد الحزب موجوداً في مواقع العمل، ولا في النقابات، ولا في الجامعات، ولا في القرى والأحياء الفقيرة. تكوّن فراغ اجتماعي كبير، ووجدت الدولة فرصة لإعادة تشكيل المجتمع دون مقاومة طبقية منظمة.

في هذه الظروف لجأ الحزب إلى تجربة الكفاح المسلح، وهي تجربة شجاعة بمعنى الإرادة، لكنها واجهت حدودها الموضوعية. فالجغرافيا، والظروف الدولية، وطبيعة بنية الدولة، وطبيعة الاقتصاد الريعي، وعوامل أخرى عديدة، جعلت من الصعب على هذا الشكل من النضال أن يتحول إلى بديل واقعي لإعادة بناء التنظيم الطبقي داخل المجتمع. ومع تزامن ذلك مع الانهيار التاريخي للاتحاد السوفيتي والمنظومة الاشتراكية، وجد الحزب نفسه أمام صدمة مزدوجة: انهيار السند الخارجي، وانهيار أحد أشكال نضاله الداخلية.

في لحظة انهيار المنظومة الاشتراكية: انكشاف التوتر بين النص والمنهج

كان لانهيار المنظومة الاشتراكية أثرٌ مدمرٌ على الحركة الشيوعية في العالم، والعراق لم يكن استثناءً. لكن خطورة هذه اللحظة في العراق كانت أكبر لأنها جاءت في وقت كان فيه التنظيم متشوهاً بفعل عقود من القمع والانقطاع الطبقي. وبدل أن تتحول الصدمة إلى فرصة لفتح نقاش نقدي حول التجربة السوفيتية، وطبيعة الدولة الاشتراكية، وأزمة البيروقراطية، والعلاقة بين الحزب والطبقة والدولة، أخذ الخط السياسي للحزب يميل نحو خط يساري–ليبرالي يرى الحل في “التحديث السياسي” و”التجدد المدني”.

هذا الانزياح الفكري لم يأتِ من فراغ؛ بل من غياب قاعدة طبقية تنظم الوعي. فحين يكون الحزب بعيداً عن الطبقة، تصبح الأفكار المستوردة من أجواء ليبرالية أو يسارية غربية بديلاً عن التحليل المادي للواقع.

في إعادة تشكيل الدولة بعد 2003: الفرصة التي ضُيِّعت

بعد الاحتلال الأمريكي وانهيار الدولة، وظهور المحاصصة المكوناتية، وتفكك مؤسسات الدولة، وانفجار الفقر والبطالة، وتحوّل الاقتصاد الريعي إلى أساس إعادة الإنتاج السياسي، وظهور طبقات أوليغارشية جديدة، كان يمكن للحزب أن يلعب دوراً تاريخياً لو كان قد احتفظ ببنيته الطبقية. فقد فُتح الفضاء العلني أمام التنظيم، وسقطت العديد من القيود الأمنية، وظهرت ساحات جديدة للوعي مثل الجامعات، والعمالة الهشة، والبلديات، والموانئ، والمستشفيات، وقطاعات الخدمات.

لكن العمل التنظيمي الذي تم بعد 2003 اتخذ منحى مختلفاً. فقد انتقل الحزب إلى بناء مقرات أكثر مما انتقل إلى بناء خلايا، واعتمد خطاباً سياسياً عاماً يتحدث عن الدولة المدنية ومحاربة الفساد، دون تحليل طبقي لآليات الفساد ولا للطبيعة الريعية للدولة. وغابت المبادرة الفكرية لإنتاج قراءة ماركسية جديدة لاقتصاد ما بعد الاحتلال، ولتحولات الطبقة العاملة، وللمسألة الزراعية، ولللامساواة الإقليمية والجندرية، وللانتقال من اقتصاد إنتاجي هش إلى اقتصاد ريعي تابع.

في غياب هذه المقاربات، أصبحت التحولات العميقة في ساحات العمل غير مرئية. عمال العقود، وعمال البلديات، وعمال الكهرباء، وموظفو الأجر اليومي، والعاملات في القطاعات المنزلية والخدمية، والفلاحون الذين انتزعهم الفقر عن الأرض—كل هؤلاء لم يجدوا حزباً موجوداً بينهم، رغم أن الحزب كان قد عاد إلى العلن. وحين تغيب الأداة الطبقية، يصبح الفراغ هو سيد الساحة.

في الشروخ الاجتماعية الجديدة: حين تتشكل طبقات بلا تنظيم

مع موجات الحرب، والحصار، والاحتلال، والهجرة الداخلية، وانهيار الزراعة، وتدهور الصناعة، ظهرت طبقات جديدة: طبقة الشباب المهمَّش، وطبقة العمال غير المنظمين، وطبقة النساء العاملات في القطاعات غير الرسمية، وطبقة العاطلين الدائمين، وطبقة فقراء الدولة الذين يعيشون على عقود غير مستقرة. هذه الفئات تشكل اليوم الجزء الأكبر من المجتمع العراقي. لكن الحزب لم ينجح في بناء أدوات تسمح له بالتواصل معها ولا بتحويلها إلى قوة اجتماعية واعية.

في لحظة تشرين: انكشاف الغياب التنظيمي عن الساحة التاريخية

انتفاضة تشرين 2019 لم تكن حركة “شبابية” فقط، بل كانت انفجاراً اجتماعياً طبقياً، تحركه البطالة، وانهيار الخدمات، وتفكك الدولة، والفساد كآلية توزيع للريع، وانعدام الأمان، واستحالة العيش. خرجت جماهير واسعة من الطبقات الدنيا والوسطى الدنيا، ورفعوا شعارات سياسية، لكنها كانت تتجه موضوعياً نحو الجذر الطبقي للمشكلة.

في تلك اللحظة التاريخية، كان الحزب غائباً عن الميدان، لا لضعف الإرادة بل لغياب البنية التنظيمية القادرة على الاندماج. ففي غياب الخلايا العمالية، والكوادر الشابة، وتحليل الاقتصاد الريعي، ورؤية طبقية لشكل الدولة، لا يستطيع أي حزب أن يكون جزءاً من حركة تاريخية حتى لو أراد.

لم تكن المشكلة في “طبيعة تشرين”، بل في أن الحزب لم يعد يمتلك الجذور التي تؤهله لاستثمار لحظة كهذه لإعادة بناء علاقته بالطبقة.

الجزء الثالث

الاقتصاد الريعي وبنية المجتمع وتحول الطبقات: قراءة مادية في شروط الانقطاع عن الطبقة

في مركزية الاقتصاد الريعي بوصفه البنية التي تعيد تشكيل المجتمع والدولة والحزب معاً

لا يمكن فهم ما جرى للحركة الشيوعية في العراق دون وضع الاقتصاد الريعي في مركز التحليل. فالاقتصاد الريعي ليس مجرد أحد قطاعات الاقتصاد، بل هو البنية التي تحدد شكل الدولة، وتعيد إنتاج العلاقات الطبقية، وتوزع الثروة والسلطة، وتخلق آليات السيطرة الاجتماعية والسياسية. وفي بلد مثل العراق، حيث يشكل النفط المورد الأساسي للدخل الوطني، تنقلب العلاقة بين الدولة والمجتمع: الدولة لا تستمد قوتها من الضرائب التي يدفعها المواطنون، بل من مورد خارجي مستقل عن المجتمع نفسه. هذا الاستقلال يسمح للدولة بأن تتحول إلى أداة لتوزيع الريع عبر شبكات الولاء، لا إلى أداة لتنظيم الإنتاج الاجتماعي.

حين تصبح الدولة وسيطاً بين الريع والمجتمع، تتراجع أهمية الإنتاج المادي، ويصبح التحكم بالموارد المالية أهم من تطوير الصناعة أو الزراعة أو البنى التحتية. وهكذا تتشكل أوليغارشية سياسية–مالية تتغذى على السيطرة على الدولة، لا على الاستثمار في الإنتاج. وينعكس ذلك على الطبقات الشعبية التي لا تجد في هذا النظام موطئ قدم إلا في شكل وظائف هشة أو عقود مؤقتة أو أعمال خدمية غير مستقرة، أو في الانخراط في أجهزة أمنية أو شبكات سياسية.

في هذا السياق، ينهار الأساس المادي الذي كانت تقوم عليه الحركة العمالية التقليدية. فالمعامل الكبرى تقلّصت أو أغلقت، والعمال انتقلوا إلى قطاع غير رسمي بلا حماية، والفلاحون تعرضوا لعملية تدمير بطيئة نتيجة السياسات الزراعية الخاطئة وضعف الدولة في إدارة المياه، وتحولت المدن إلى مراكز سكانية ضخمة تستقطب ملايين المهمشين الباحثين عن أي فرصة للبقاء.

في إعادة إنتاج التبعية عبر آليات توزيع الريع

تتكرر الظاهرة ذاتها في طريقة توزيع الريع. فبدلاً من أن يتحول الريع إلى مصدر لبناء اقتصاد إنتاجي قادر على التشغيل، يُستخدم كوسيلة لتثبيت السلطة. تتوزع العوائد عبر شبكات سياسية–طائفية–حزبية، وتتحول الوظائف إلى أدوات إرضاء، ويتحول الفساد إلى نمط حكم لا إلى انحراف فردي. ومن هنا يصبح الخطاب الذي يتحدث عن “محاربة الفساد” خطاباً سطحياً ما لم يُدمج في تحليل بنيوي يوضح أن الفساد ليس ظاهرة أخلاقية، بل هو أحد أشكال تحويل الريع إلى ملكية خاصة عبر قنوات السلطة.

في ظل هذا النموذج، تضعف النقابات، ويتشظى العمل، ويصبح العامل فرداً منعزلاً في مواجهة دولة لا تحتاج إليه، ورأسمال لا يستثمر، وأحزاب لا تنغرس في مواقع الإنتاج. هنا تحديداً يُفهم كيف تقهقر الحزب الشيوعي إلى الهامش: كان يعمل في فضاء اجتماعي تغيرت بنيته دون أن يغير أدواته أو رؤيته أو موقعه التنظيمي.

في أشكال العمل الجديدة: الطبقة العاملة المتغيرة بلا حامل تنظيمي

تغيّرت أشكال العمل في العراق بصورة جذرية. فبدلاً من العمال المزروعين في معامل كبيرة ذات هوية طبقية واضحة، ظهر ما يمكن تسميته بالعمالة المفككة: عمال الأجر اليومي، عمال الموانئ، عمّال القطاعات الخدمية، عمال البلديات، موظفو العقود، العاملات في البيوت والمتاجر، عمال الأمن الخاص، الشباب العاملون في تطبيقات النقل والتوصيل، العمال الموسميون في القطاع الزراعي. تعمل هذه الطبقات في ظروف غير مستقرة، وبعضها بلا تعاقد رسمي، وبعضها بلا حماية قانونية أو ضمان صحي أو اجتماعي.

هذه الفئات تشكل اليوم جوهر الطبقة العاملة العراقية، لكنها لم تجد حزباً يذهب إليها، ويقرأ واقعها، ويفهم شروط عملها، ويصوغ خطاباً نابعاً من تجربتها اليومية. وتحول ذلك إلى واحدة من أعقد فجوات التنظيم: وجود طبقة بلا حامل سياسي، وحزب بلا قاعدة اجتماعية واضحة.

في المرأة العاملة: نصف الطبقة الذي لم يُدرج في التحليل

تتعرض النساء العاملات لشكل مضاعف من الاستغلال، بحكم النوع الاجتماعي وبحكم الطبقة معاً. تعمل المرأة في العراق ضمن قطاعات تتسم بانخفاض الأجر، وسوء شروط العمل، وانعدام التنظيم النقابي، وانتشار العنف الاقتصادي والاجتماعي. وتتمركز النسبة الكبرى من النساء في الاقتصاد غير الرسمي الذي لا يقدّم أي حماية.

إن غياب الحزب عن هذا القطاع لا يمكن تفسيره بالمصادفة، بل يعكس خللاً في النظرية وفي الممارسة: إذ كان يُنظر للمرأة بوصفها “قضية” في خطاب تقدمي عام، لا بوصفها جزءاً من الطبقة العاملة التي يجب أن يكون الحزب موجوداً في صفوفها.

في الشباب: الطبقة الجديدة المهمشة التي لم تجد تنظيماً

يشكل الشباب أكثر من نصف المجتمع العراقي، ومعظمهم يعيش بطالة واسعة، أو يعمل في اقتصاد غير مستقر، أو ينجذب إلى الأجهزة المسلحة أو الهجرة. هؤلاء الشباب هم نتاج مجتمع يفتقد إلى إنتاج حقيقي، ويفتقد إلى توزيع عادل للثروة، ويعيش داخل بنية ريعية تستبعده من المشاركة الفعلية.

لكن الحزب لم ينجح في تحويل طاقة الشباب إلى قوة تنظيمية، رغم أن الحركات الاحتجاجية، وخاصة في تشرين، كشفت الجذر الطبقي لغضبهم. كانت الساحات مليئة بالطاقة الثورية التي كان يمكن أن تعيد تأسيس حركة سياسية جديدة لو كانت الأداة الطبقية جاهزة.

في تحولات الريف: الفلاحون بين فقدان الأرض وفقدان التنظيم

الريف العراقي تعرض لانهيارات كبرى: التصحر، وتدهور المياه، وتراجع الدولة عن دعم الزراعة، وفتح الحدود أمام السلع المستوردة. ومع هذه التحولات، فقد الفلاحون جزءاً كبيراً من قدرتهم على الإنتاج المستقل، وانتقل كثير منهم إلى المدن بحثاً عن عمل. هؤلاء الفلاحون السابقون أصبحوا جزءاً من طبقة العمال الهشة، لكنهم فقدوا الرابط الذي كان يربطهم بالحزب تاريخياً، حين كانت الخلايا الفلاحية جزءاً من قوته التنظيمية.

في المجتمع ككل: اتساع الفئات المسحوقة وتراجع الفئات المنظمة

ما نتج عن الريع، وعن الحرب، وعن الاحتلال، وعن انهيار الدولة، وعن الفساد البنيوي، وعن غياب الإنتاج، هو مجتمع واسع القاعدة، شديد الهشاشة، تتركز أغلبيته في مواقع لا تمتلك حماية ولا تمثيلاً. وفي أعلى هذا الهرم توجد أوليغارشية سياسية–مالية تستفيد من توزيع الريع، وتستخدم الطائفة والعشيرة والمليشيات كأدوات لإعادة إنتاج السيطرة.

في هذا الهيكل، لا يمكن لأي حزب أن يعمل ما لم يكن حاضراً في مواقع الفقر والهشاشة، لأن هذه المواقع ليست هامشاً، بل هي مركز المجتمع العراقي اليوم.

في ضرورة إعادة بناء النظرية على ضوء هذا التحول البنيوي

يجب ألا يُنظر إلى التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي شهدها العراق منذ الثمانينات وحتى اليوم على أنها مجرد تدهور. إنها تحولات بنيوية في طبيعة الطبقات، وفي شكل الدولة، وفي طبيعة العمل، وفي علاقة المجتمع بالدولة. ومن دون فهم هذا التحول وإعادة بناء النظرية التنظيمية على أساسه، يبقى الخطاب السياسي عائماً فوق السطح.

وهنا يتبيّن السبب الجذري لتراجع الحزب: لقد حافظ على أداة نظرية وتنظيمية صالحة لعراق الستينات والسبعينات، لكنه واجه عراقاً آخر تغيّرت فيه مواقع الطبقة، وأشكال العمل، وبنية الدولة، وطبيعة الريع، وحجم التهميش. لم يعد ممكناً إعادة التأسيس دون إعادة بناء هذه النظرية.

الجزء الرابع

أزمة التنظيم ومسار إعادة التأسيس الطبقي: حين يتحول الحزب إلى بنية منفصلة عن قاعدته الاجتماعية

في تشكّل الأزمة التنظيمية بوصفها أزمة بنيوية لا سلوكية

لا يمكن تفسير الأزمة التنظيمية للحزب الشيوعي العراقي بوصفها أزمة أشخاص أو أخطاء فردية أو سوء إدارة. فالأزمة، في جوهرها، هي أزمة بنيوية نشأت عن الانقطاع التاريخي عن الطبقة العاملة، وعن تحول الحزب إلى فضاء سياسي–ثقافي تعمل داخله شرائح من الطبقة الوسطى، بينما تراجعت الصلة بالأحياء الفقيرة وبمواقع العمل والعيش. هذا التحول أنتج بنية تنظيمية مغلقة على ذاتها، تزداد فيها مركزية القرار، وتتراجع فيها الحيوية الداخلية، وتضعف فيها المبادرة القاعدية.

حين يُفهم التنظيم بوصفه جهازاً إدارياً، لا علاقة عضوية له بالطبقة، يتحول الحزب إلى كيان يمكن أن يستمر شكلياً رغم تآكل مضمونه. وعندما تستمر القيادة ذاتها لسنوات طويلة دون تجديد، ويغيب التداول الفعلي، وتُهمّش الطاقات الجديدة، ويُستبعد النقد، يصبح التنظيم في حالة ثبات لا تسمح له بالتفاعل مع مجتمع يتغير جذرياً.

في غياب النقد الذاتي بوصفه مؤشراً على انسداد الأفق

لم يكن غياب النقد الذاتي مجرد خلل في النقاش الداخلي، بل كان علامة على أزمة أعمق: أزمة فقدان الثقة في قدرة الحزب على تجديد نفسه. فالنقد داخل حزب طبقي ليس تهديداً، بل شرطاً لحماية التنظيم من الجمود. وحين تتحول القيادة إلى دائرة مغلقة، يصبح النقد مساوياً للتمرد، ويصبح الاختلاف مؤشراً على عدم الولاء، وتصبح المبادرات الفكرية خطراً يجب صمته، فتخسر الحركة أعمق طاقاتها.

تجارب الرفاق الذين قدموا مساهمات فكرية جادة، أو مبادرات تنظيمية مسؤولة، ثم وجدوا أنفسهم أمام التهميش أو الإقصاء، تشكّل جزءاً من تاريخ لا يمكن تجاوزه. فلم يكن الإبعاد القسري ولا الطرد التنظيمي ولا سياسة تحويل الخلاف السياسي إلى قضية انضباطية مؤشرات قوة، بل علامات على أن الحزب فقد القدرة على احتضان قواه النقدية، وفقد القدرة على أن يكون حركة جماعية ذات عقل متعدد.

في أثر التغير الطبقي على الأزمة التنظيمية

حين تتغير الطبقة العاملة ولا يتغير التنظيم، يضعف الدور التاريخي للحزب. لقد ظهرت في العراق أشكال جديدة من العمالة الهشة وغير المستقرة، وظهرت قطاعات واسعة من الشباب والفقراء، لكن التنظيم ظل يعمل بأدوات ومفاهيم مرتبطة بمرحلة تاريخية لم تعد موجودة. غابت الخلايا المرتبطة بالمصانع، ولم تُبنَ خلايا بديلة في مواقع العمل الجديدة. وبدل أن يكون الحزب حاضراً وسط عمال البلديات، وعمال العقود، وعمال الكهرباء، والعاملات في القطاعات المنزلية، أصبح نشاطه متمركزاً حول مقرات حزبية لا تمتد جذرياً إلى مواقع الطبقة.

هذا الانفصال بين الواقع الطبقي والبنية التنظيمية جعل الحزب غير قادر على قراءة المجتمع، لأن النظرية لا تعمل في الفراغ؛ تحتاج إلى حامل طبقي ليمنحها معناها. وحين يغيب الحامل، تصبح النظرية كلمات، ويصبح التنظيم جسداً بلا روح.

في أثر الانزياح الليبرالي على مفهوم التنظيم

حين تحوّل الخطاب السياسي داخل الحزب إلى خطاب مدني–سياسي عام، تراجع الحديث عن الطبقة والتنظيم الطبقي، وبرز نوع من الفهم يرى أن التقدم الاجتماعي يمكن أن يتحقق من خلال شعارات مثل الدولة المدنية، ومحاربة الفساد، والإصلاح السياسي، دون ربط هذه القضايا بالبنية الطبقية للاقتصاد والدولة. هذا التحول الفكري انعكس مباشرة على التنظيم: فالحزب، بدل أن يكون بنية طبقية، صار أقرب إلى تيار سياسي يعمل ضمن فضاء مدني عام.

بهذا التحول، فقد الحزب علاقته بأدواته التاريخية: النقابات، الخلايا، التنظيم المحلي، والمبادرات الطبقية. وانفتح على فضاء سياسي لا يملك فيه قوة تنظيمية، ولا قاعدة طبقية، ولا موارد، ولا تأثير مباشر. وغاب بذلك مفهوم الحزب كأداة ثورية.

في غياب المشروع التنظيمي بعد 2003

بعد 2003، لم يعاد بناء التنظيم وفق شروط الواقع الجديد. فالمقرات الحزبية استُخدمت بدلاً من الخلايا، والاجتماعات التنظيمية حلت محل النشاط الميداني، والبيانات حلت محل التحليل الطبقي، والتحالفات المدنية أخذت مكان الوجود في مواقع العمل. ومع غياب مشروع تنظيمي طبقي، أصبحت قدرة الحزب على التأثير الاجتماعي محدودة جداً، حتى في لحظات الانفجار الاجتماعي الكبرى مثل احتجاجات 2011 و2015 و2018 و2019.

في كل هذه المحطات، ظهر أن الحزب يملك إرادة سياسية، لكنه يفتقر إلى الجهاز التنظيمي الذي يُحوّل الإرادة إلى وجود فعلي داخل المجتمع. فالحزب الذي يترك مواقع العمل، ويكتفي بالمقرات والمناسبات، لا يستطيع التأثير في لحظة انفجار طبقي.

في الحاجة إلى إعادة بناء التنظيم من الجذور

إعادة التأسيس المطلوبة ليست عملية تجميلية، بل إعادة صياغة للمفهوم ذاته: مفهوم الحزب بوصفه أداة طبقية. وهذا يتطلب مشروعاً تنظيمياً يبدأ من الأسفل، ويُعيد بناء الخلايا في مواقع العمل والعيش، ويخلق قيادة جديدة قادرة على التواصل مع الطبقة، لا على التحدث نيابة عنها من فوق. ويتطلب إعادة بناء النقابات على أساس كفاحية طبقية، لا على أساس التمثيل الشكلي. ويتطلب استعادة مبدأ المركزية الديمقراطية بوصفه علاقة جدلية بين المبادرة القاعدية والقرارات المركزية، وليس بوصفه آلية لضبط التنظيم.

إن التنظيم لا يُبنى بالخطاب، بل بالوجود. والحزب الذي يريد أن يعود إلى الطبقة يجب أن ينغرس في كل مساحة من مساحات الصراع الطبقي: في الميناء، وفي البلدية، وفي المصنع الصغير، وفي الجامعة، وفي محطات الكهرباء، وفي الأحياء الفقيرة، وفي الريف الذي أُفقِر. بدون هذا الانغراس، تبقى إعادة التأسيس مشروعاً نظرياً.

في ضرورة إنتاج الكادر الطبقي الجديد

أي إعادة تأسيس حقيقية تحتاج إلى جيل جديد من الكوادر. الكادر ليس وظيفة حزبية، بل علاقة عضوية مع الطبقة. والكادر الجديد لا يُولد من المقرات، بل من ساحات العمل والاحتجاج، ومن الواقع. يجب أن تكون مهمة الحزب اليوم خلق جيل قادر على فهم الاقتصاد الريعي، وعلى التواصل مع العمال، وعلى تنظيم الشرائح المهمشة، وعلى بناء خطاب سياسي واقعي. هذا الجيل هو الذي سيعيد وصل الحزب بالطبقة.

في العلاقة بين التنظيم والطبقة: من الانفصال إلى إعادة الاندماج

لن تكتمل إعادة التأسيس إلا حين يعود الحزب إلى موقعه الطبيعي داخل الطبقة. ولا يمكن لهذا أن يحدث ما لم تُفتح الأبواب للنقد الداخلي، وما لم يُعد العمل الميداني إلى مركز الحياة الحزبية، وما لم يُمنح الكادر الشاب والعمال والنساء والفقراء موقعهم الطبيعي داخل مؤسسات الحزب. إعادة الاندماج ليست عملية سريعة، لكنها المسار الوحيد الذي يعيد للحزب وظيفته التاريخية.
الجزء الخامس

الخاتمة النظرية–السياسية: إمكان إعادة التأسيس التاريخية واستعادة جوهر الحزب الطبقي

في استعادة السؤال الذي بدأنا منه: أزمة حزب أم أزمة وظيفة؟

حين نصل إلى هذا المفصل الأخير من التحليل، يصبح واضحاً أن الأزمة التي نعيشها اليوم ليست أزمة حزب من حيث الشكل، بل أزمة فقدان وظيفة طبقية من حيث الجوهر. فالحزب الذي كان، في لحظات تاريخية معيّنة، التعبير الأكثر وعياً عن مصالح العمال والفلاحين والكادحين، تحوّل تدريجياً إلى كيان يفكر ويتحرك خارج بنية الطبقة التي من المفترض أن يمثلها. وحين يفقد الحزب وظيفته الطبقية، لا تعوّضه الرموز، ولا تاريخ النضال، ولا التضحيات، ولا المكانة المعنوية، لأن الوظيفة هي جوهر الوجود.

إن أي تحليل يعالج الأزمة على أنها نتيجة “ظروف” أو “قمع” فقط، أو على أنها أزمة عضوية أو تنظيمية، يتجاهل حقيقة أن القمع، مهما كان قاسياً، لا يكسر حزباً يملك جذوره الطبقية. القمع يشتد، لكن الطبقة تبقى؛ والطبقة تبقى، فيستطيع الحزب أن يعيد بناء نفسه في كل مرة. أما حين يغيب الوجود الطبقي، فإن أي ضغط خارجي يتحول إلى عامل هدم شامل، لأن العمق الاجتماعي غير موجود.

وهنا تكمن الحقيقة الأصعب: لم تنهزم الحركة لأن الشعب “غير واعٍ”، ولا لأن العمال “اختفوا”، بل لأننا نحن الذين فقدنا القدرة على الاندماج في موقعهم الطبيعي.

في المسؤولية التاريخية: ما بين القمع والأخطاء الذاتية

لا يختلف اثنان على أن الشيوعيين العراقيين تعرضوا لأبشع حملات القمع في المنطقة، ربما منذ العهد الملكي وحتى 1978، ومن شباط الأسود إلى حملات صدام، ومن الحصار إلى الاحتلال. لكن لحظة الحقيقة تقتضي الاعتراف بأن القمع لم يكن العامل الوحيد، ولا العامل الرئيسي دائماً. كثير من الحركات الثورية في العالم واجهت قمعاً مشابهاً بل أعتى، لكنها أعادت بناء نفسها لأنها حافظت على علاقتها بالطبقة.

إن المسؤولية التاريخية تتوزع على عاملين:
عامل خارجي هو القمع، وعامل ذاتي هو التراجع الفكري والتنظيمي والانقطاع عن الطبقة. ولا معنى للنضال إذا لم نجرؤ على النظر في العامل الذاتي، لأنه وحده العامل الذي نستطيع تغييره.

ولذلك فإن مواجهة القمع تتطلب سياسة تنظيمية رشيدة، ونظرة طبقية واضحة، وأدوات نضال مستمرة. والذين يعتقدون أن القمع وحده هو سبب الضعف، ينسون أن لحظات النهوض الكبرى (1959، 1967، 1970، 2003، 2011، 2015، 2019) لم تُصنع بغياب القمع، بل رغم وجوده. لكن النهوض كان دوماً يحدث حين تكون الطبقة حاضرة في بنية الحزب، وحين يكون الحزب حاضراً في بنية الطبقة.

في ضرورة العودة إلى الطبقة بوصفها شرط الوجود

إن الخلاصة الكبرى لهذا النص هي أن الحزب لا يستطيع أن يستعيد دوره من دون العودة إلى الطبقة. العودة هنا ليست مجازاً ولا شعاراً، بل إعادة صياغة للوجود التنظيمي والنظري والسياسي. وتعني العودة إلى الطبقة ثلاث عمليات مترابطة:
إعادة الاندماج، إعادة التمثيل، وإعادة الصياغة.

الاندماج يعني وجوداً يومياً في مواقع العمل والعيش.
التمثيل يعني تحويل تجربة العمال والفقراء إلى سياسة.
الصياغة تعني إنتاج نظرية جديدة تستجيب لواقع العراق اليوم، لا لواقع قرن مضى.

وتعني العودة أيضاً أن الحزب يجب أن يعمل في الزمن الطويل، لأن الطبقة لا تبني وعيها دفعة واحدة، ولأن إعادة التأسيس لا تحدث في سنة أو سنتين، بل في حقبة كاملة. ويعني أيضاً أن الجماهير هي التي تختار قياداتها، لا أن تُفرض عليها من فوق. وأن الكادر الثوري لا يُستورد، بل يُصنع في ساحات العمل والنضال. وأن الوحدة الحقيقية لا تُبنى من النخب، بل من الطبقة نفسها.

في الوحدة: شرط النهوض لا نتيجة له

إن النداء الذي يجب أن يخرج من هذه المقالة ليس نداء نقد فقط، بل نداء وحدة. فالوحدة ليست قراراً تنظيمياً، بل ضرورة طبقية. والتشرذم الذي تعيشه الحركة الشيوعية اليوم لا يعود إلى اختلافات نظرية عميقة، بل إلى غياب الإطار الذي يستطيع احتواء الخلافات ضمن أفق طبقي. وعندما تغيب الطبقة عن التنظيم، تصبح الخلافات الشخصية أو الجزئية أو الثقافية أكبر من حجمها الحقيقي، وينهار الإطار المشترك.

إن الوحدة لا تنشأ من إلغاء الخلاف، بل من توفير فضاء تنظيمي يسمح بوجوده. ويجب أن نقر بأن الكثير من الانقسامات التي حدثت لم تكن ضرورية، بل كانت انعكاساً لسياسات إقصائية أو لغياب الحوار الداخلي أو لتحويل الخلاف السياسي إلى قضية انضباطية. ولا يمكن استعادة الحركة إلا عبر الدعوة إلى وحدة شاملة تضم الشيوعيين، والماركسيين المستقلين، والنقابيين، والعمال من خارج الأطر التنظيمية، واليساريين الجذريين، والنساء العاملات، والشباب.

في البرنامج: خارطة طريق لا يمكن تجاوزها

يقوم البرنامج الطبقي الحقيقي على قراءة مادية للواقع. وعندما نقول برنامجاً، لا نقصد ورقة سياسية تُنشر، بل نقصد الحركة التاريخية بكل اتجاهاتها. البرنامج المطلوب هو مسار طويل يبدأ من إعادة بناء الخلايا في مواقع العمل، وإعادة تطوير النقابات، وإعادة صياغة الموقف من الدولة، وتحديد موقف واضح من الاحتلال الأمريكي ومن آثار وجوده البنيوية، والتحليل العلمي للمحاصصة بوصفها بنية سلطوية مرتبطة بالريع لا ظاهرة ثقافية.

البرنامج يعني أيضاً إعادة إدراج المرأة العاملة، والعمال الشباب، وطبقات المهمشين، والفلاحين، في قلب المشروع. يعني صياغة رؤية للاقتصاد العراقي لا تستسلم للريع، بل تقترح مساراً لتطوير الصناعة والزراعة والخدمات والبنى التحتية. يعني كتابة اقتصاد سياسي جديد للعراق. ويعني فهم الدولة بوصفها جهازاً يعيد إنتاج التبعية، لا بوصفها جهازاً يمكن إصلاحه تقنياً.

في النظرية: استعادة جوهر الماركسية–اللينينية لا العودة الشكلية إليها

تستعيد الماركسية قيمتها حين تصبح أداة لتحليل الواقع، لا أداة لتكرار النصوص. وتستعيد اللينينية قيمتها حين تصبح منهجاً تنظيمياً وفكرياً، لا رمزاً تاريخياً. وهذا يتطلب تجديد النظرية، لا هدمها. فالنهج التشكيكي النقدي التجديدي ليس خروجاً من الماركسية، بل عودة إلى روحها الأساسية: الشك، النقد، والتحليل المادي للتاريخ.

إن الاستعادة النظرية تعني قراءة العراق بوصفه تشكيلة اجتماعية فريدة في العالم العربي، لها اقتصاد ريعي لكنه محكوم أيضاً بمنطق السوق العالمية، ولها طبقات تتغير بسرعة، ولها دولة تتفسخ وتُعاد صياغتها باستمرار، ولها بنية اجتماعية يختلط فيها ما تبقى من الماضي بما يتشكل في الحاضر. ولا يمكن لأي حزب أن يقود حركة طبقية دون فهم هذا الواقع المركّب.

في الخاتمة: إنقاذ الحزب هو إنقاذ إمكان التغيير

لا نقول إن الحزب الشيوعي يجب أن يُنقذ من أجل الحزب ذاته، بل نقول إن إنقاذ الحزب هو شرط لإنقاذ إمكانية التغيير في العراق. فغياب حامل طبقي منظم يعني ترك المجتمع لسياسات الطائفة، والعشيرة، والريع، والفساد، والسوق المنفلتة، والمليشيات. ولا يمكن لجماهير العمال والفلاحين والكادحين أن تنتج وعياً طبقياً من دون أداة سياسية. ومن دون هذه الأداة، يصبح الصراع الطبقي مشتتاً، ويُفرغ الغضب من مضمونه.

إن الخلاصة هي أن العراق يقف على حافة إمكانية تاريخية. إما أن تعاد صياغة الحركة الشيوعية وتُعاد وصلها بالطبقة، وإما أن يخرج التاريخ من يد الفئات التي يُفترض أنها قادرة على تغييره. ومن هنا يأتي النداء الأخير: إن إعادة التأسيس ليست رغبة سياسية، بل ضرورة طبقية. وإن العودة إلى الطبقة ليست شعاراً، بل شرط حياة. وإن الحركة الشيوعية، مهما ضعفت، تبقى الإمكان الوحيد لتحويل المأساة إلى مشروع تاريخي.

.



#علي_طبله (هاشتاغ)       Ali_Tabla#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أوقفوا الإبادة فورًا: الشعب الفلسطيني يقرر
- الاعتراف الغربي بدولة فلسطين و”مشروع ترامب للسلام”: تحليل ما ...
- التراث في الفكر العربي الحديث: قراءة ماركسية نقدية
- من هو عدونا؟ سؤال طبقي لا طائفي
- قراءة ماركسية تجديدية في صناعة الكراهية وتغييب الوطنية
- الطبقة العاملة العراقية – تحديات الوجود وأفق التغيير
- هيمنة الرأسمالية المالية في العراق
- الانتخابات والتحالفات في العراق – من الاحتلال إلى اللا-دولة
- التحولات الطبقية في العراق المعاصر: قراءة ماركسية نقدية في ض ...
- تحرير المفاهيم: من الاشتراكية المشوّهة إلى العدالة الجماعية ...
- الحرية لا تُنتزع بالخطب، بل بالسلطة الطبقية الواعية
- الاشتراكية والثورة: هل يمكن التحرر دون سلطة؟ رد على أحمد الج ...
- نحو الأممية الشبكية والتنظيم الافقي في الحزب الشيوعي: منهجية ...
- من الدولة إلى التنظيم الطبقي: في الرد على أطروحات أحمد الجوه ...
- نحو تجديد ماركسي-لينيني يتجاوز المأزق اللاسلطوي - رد على أحم ...
- النهج التجديدي في الماركسية واللينينية: قراءة جدلية نقدية في ...
- نظام المكونات في العراق: الهيمنة الإمبريالية وإعادة إنتاج ال ...
- عقود النفط بعد 2003: هل خسر العراق معركته الاقتصادية الكبرى؟
- القمع: قراءة ماركسية معمقة في سياق الدولة البرجوازية والدولة ...
- يا نساء العراق، توحدنَّ!


المزيد.....




- -مش خرابة بيوت-.. حلا شيحة تدعم دينا الشربيني وتوجهت برسالة ...
- من هو قائد الجيش الباكستاني، المشير عاصم منير، الذي حصل على ...
- إندونيسيا تستعد لإرسال قوات لضمان تحقيق الاستقرار في غزة
- مشروع قرار أمريكي لإنشاء قوة دولية في غزة
- المكسيك: عشرات الجرحى أغلبهم من الشرطة في احتجاجات ضد السياس ...
- لبنان يعتزم تقديم شكوى ضد إسرائيل بتهمة بناء جدار على أراضيه ...
- ما فرص نجاح مبادرة الرباعية حول السودان في ظل التصعيد الميدا ...
- شاهد.. لأول مرة علم فلسطين يرفرف على سارية كالغاري الكندية
- -كوب 30-.. احتجاجات للمطالبة بالعدالة المناخية وحماية الكوكب ...
- رامافوزا يقود حملة تنظيف جوهانسبرغ قبيل قمة الـ 20


المزيد.....

- رواية / رانية مرجية
- ثوبها الأسود ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- شيوعيون على مر الزمان ...الجزء الأول شيوعيون على مر الزمان ... / غيفارا معو
- حكمة الشاعر عندما يصير حوذي الريح دراسات في شعر محمود درويش / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- التاريخ يكتبنا بسبابته / د. خالد زغريت
- جسد الطوائف / رانية مرجية
- الحجز الإلكتروني المسبق لموسم الحنطة المحلية للعام 2025 / كمال الموسوي
- الأرملة السوداء على شفا سوريا الجديدة / د. خالد زغريت


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - علي طبله - العودة إلى الطبقة: في إعادة تأسيس الحركة الشيوعية العراقية دراسة نقدية