علي طبله
مهندس معماري، بروفيسور في الهندسة المعمارية، باحث، كاتب وأديب
(Ali Tabla)
الحوار المتمدن-العدد: 8334 - 2025 / 5 / 6 - 23:24
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
المقدمة: نفط العراق من السيادة إلى الاستباحة
لم يكن النفط العراقي مجرد مورد اقتصادي، بل كان – ولا يزال – الركيزة الأساسية لهوية الدولة العراقية وسيادتها الوطنية. فمنذ تأميم النفط عام 1972 في عهد أحمد حسن البكر، أصبحت الثروة النفطية رمزًا للاستقلال السياسي والاقتصادي، وهو ما جعل العراق أحد أبرز النماذج في العالم العربي لإدارة الموارد الوطنية.
لكن الاحتلال الأميركي في عام 2003 لم يكن يهدف فقط إلى إسقاط نظام سياسي، بل كان يسعى لإعادة هيكلة الدولة العراقية على أسس جديدة تتوافق مع النيوليبرالية الاقتصادية، وجوهرها تسليم الثروات الوطنية لشركات عالمية بحجة “إعادة الإعمار”. ولعلّ أهم هذه الثروات هو النفط الذي يمثل أكثر من 92% من إيرادات الدولة العراقية (وزارة النفط، 2023)^1.
عبر سلسلة من جولات التراخيص، أُبرمت عقود مع شركات نفطية عالمية كان ظاهرها “عقود خدمة” لا تمنح ملكية الحقول للشركات، لكن واقعها أثبت أنها أخطر من عقود الامتياز التقليدية، لأنها أبقت العراق رهينة لشروط مجحفة، وفوّتت على الدولة فرصة بناء قطاع نفطي وطني مستقل.
في هذه المقالة، نقدم مقدمة لتحليل شامل لهذه العقود: كيف أُبرمت؟ من المستفيد؟ ما حجم الخسائر؟ وكيف فُرضت على العراق تحت غطاء دولي وتواطؤ داخلي؟ كما نكشف ملفات تتعلق بتشغيل العراقيين، الفساد في العقود، ودور الرأسمال المحلي والعربي في هذه اللعبة القذرة.
1. جولات التراخيص: فخ قانوني أم شراكة عادلة؟
في 2009، أطلقت وزارة النفط العراقية ما عُرف بـ “جولات التراخيص”، التي وُصفت بأنها محاولة لجذب استثمارات أجنبية لتعزيز إنتاج النفط الخام. شاركت شركات عالمية عملاقة مثل:
(BP) بريطانيا.
شل (هولندا).
إكسون موبيل (الولايات المتحدة).
سي إن بي سي (الصين).
توتال (فرنسا).
لوك أويل (روسيا).
الحكومة العراقية حينها ادّعت أن هذه العقود تعتمد على نموذج “عقود الخدمة” وليس عقود الامتياز، بمعنى أن الشركات لا تملك النفط بل تقدم خدمة مقابل رسوم ثابتة. لكن الاقتصاديين حذروا مبكرًا من أن هذه العقود:
- تمنح الشركات تحكمًا فعليًا في استراتيجيات الإنتاج.
- تُلزم العراق بتحمل كافة تكاليف الإنتاج، بينما تضمن للشركات هامش ربح مرتفع حتى في ظروف السوق المتقلبة.
- تتيح للشركات التلاعب بالتكاليف الرأسمالية والتشغيلية لزيادة أرباحها.
عقد الرميلة: الحالة النموذجية للنهب القانوني
الشركة: BP البريطانية بالتحالف مع CNPC الصينية.
الإنتاج: أكبر حقل نفطي في العراق بطاقة إنتاجية تزيد عن 1.5 مليون برميل يوميًا.
الشروط: تحصل BP على 2 دولار لكل برميل منتج، ولكن العراق يتحمل كامل تكاليف التطوير والتشغيل (وزارة النفط العراقية، 2016)^2.
حسب دراسة نشرها معهد تشاتام هاوس (2017)، أدت هذه الشروط إلى تحميل العراق أعباء مالية هائلة، ما جعل العائد الصافي للدولة أقل بكثير مما كان متوقعًا^3.
حقل مجنون: مثال آخر على الاستنزاف
الشركة: شل الهولندية (حتى انسحابها في 2018).
التقديرات: احتياطي مؤكد بنحو 38 مليار برميل.
الخسائر: العراق خسر سنويًا ما يعادل 4 إلى 5 مليارات دولار بسبب شروط العقد، الذي ألزم الدولة بتعويض أي خسائر للشركة المشغّلة (OilPrice، 2019)^4.
2. الإخلال بتشغيل العراقيين: الوعد الكاذب
تنص معظم عقود جولات التراخيص التي أبرمتها وزارة النفط على بند واضح يُلزم الشركات الأجنبية بـ توظيف ما لا يقل عن 85% من اليد العاملة من العراقيين، سواء في الوظائف الفنية أو الإدارية (وزارة النفط، 2010)^5. غير أن الواقع كشف عن خرق واسع النطاق لهذا الالتزام:
الحقائق بالأرقام:
- تقرير هيئة الإعلام والاتصالات العراقية (2022) أشار إلى أن نسبة العمالة العراقية في المشاريع النفطية الكبرى لم تتجاوز 35% في المتوسط، مع تفضيل الشركات استقدام عمالة أجنبية رخيصة من بنغلاديش والهند وباكستان وحتى بعض الدول العربية^6.
- حقل الرميلة وحده يوظف ما يقارب 5000 عامل أجنبي مقابل أقل من 2500 عراقي، رغم أنه يقع في محافظة البصرة ذات أعلى معدلات البطالة في البلاد (الاتحاد العام لنقابات العمال العراقيين، 2023)^7.
- النقابات العمالية وثّقت شكاوى متكررة من تمييز ممنهج ضد الكفاءات العراقية، خصوصًا في الوظائف الإدارية والهندسية المتوسطة والعليا.
شهادات من الداخل:
يقول مهندس نفط عراقي (رفض ذكر اسمه) في مقابلة مع صحيفة المدى (2022):
“نتعامل مع المشغّلين الأجانب كأننا عمال درجة ثانية. رغم أن لدينا خبرة أكبر في بعض المجالات، يتم تهميشنا لصالح موظفين أجانب أقل كفاءة وأرخص تكلفة.”
الأثر الاجتماعي:
هذا الإخلال تسبّب في:
- زيادة معدل البطالة في الجنوب النفطي.
- انتشار مظاهر الفقر والحرمان رغم الثروة النفطية الهائلة.
- توتر اجتماعي أدى إلى اندلاع احتجاجات واسعة في البصرة ومدن عدة اخرى وجرى قمع العديد منها منذ 2015 وحتى اليوم، أحد مطالبها الأساسية “الحق في العمل”.
3. دور صندوق النقد والبنك الدولي: الوصاية على ثروة العراق
منذ عام 2003، لعب صندوق النقد الدولي والبنك الدولي دورًا محوريًا في توجيه سياسات النفط العراقية. تحت شعار “الإصلاح الاقتصادي” و”جذب الاستثمارات”، فرضت هذه المؤسسات شروطًا تضمنت:
- الإصرار على توقيع عقود مع شركات نفطية عالمية بدل الاعتماد على شركة النفط الوطنية.
- تشجيع خصخصة بعض الخدمات النفطية (مثل النقل والتخزين والصيانة).
- فرض سقف معين للإنفاق العام على مشاريع البنية التحتية المرتبطة بقطاع النفط.
تقرير IMF Country Report No. 18/11 (2018)^8، أوصى بوضوح بضرورة “الاستمرار في فتح قطاع النفط والغاز أمام الشركات العالمية لضمان استدامة الإنتاج والإيرادات.”
الهيمنة القانونية:
لم يكتفِ الصندوق بإسداء النصائح، بل وضع “شروطًا ملزمة” في مقابل القروض والدعم المالي، ما جعل العراق عاجزًا فعليًا عن تعديل العقود أو الانسحاب منها دون المخاطرة بعواقب اقتصادية وخيمة.
4. فضائح العقود النفطية: قصص النهب الممنهج
رغم محاولة الحكومة العراقية تصوير عقود النفط على أنها شفافة، تكشف الوقائع عن فضائح هائلة طالت هذه العقود، أبرزها:
فضيحة حقل غرب القرنة: تلاعب بالحسابات
في 2020، كشف تقرير برلماني عن تلاعب شركة إكسون موبيل بإنتاج حقل غرب القرنة، حيث رفعت الشركة تكاليف التشغيل والصيانة بنسبة تزيد عن 30% دون مبرر، ما كبّد العراق خسائر تقدر بـ نحو 500 مليون دولار في عام واحد فقط (الصباح الجديد، 2021)^9.
عقود الصيانة والخدمات: بوابة للفساد
هيئة النزاهة العراقية (2022) كشفت عن إبرام عقود بمئات الملايين من الدولارات مع شركات “خدمات نفطية” مسجلة في الإمارات وتركيا، تبين لاحقًا أنها شركات وهمية أو واجهات لسياسيين عراقيين بارزين. قيمة هذه العقود وصلت إلى 300 مليون دولار دون تنفيذ فعلي للأعمال (هيئة النزاهة، 2022)^10.
عقد خط أنابيب البصرة–العقبة:
مشروع استنزاف جديد؟
مشروع خط أنابيب النفط الذي يربط البصرة بميناء العقبة الأردني، بتكلفة تتجاوز 9 مليارات دولار، أثار جدلًا واسعًا بسبب ما وصفه خبراء اقتصاد بأنه مشروع لا يحقق جدوى استراتيجية للعراق، بل يخدم أطرافًا إقليمية ويوفر منفذًا آمنًا لصادرات دول أخرى على حساب الثروة العراقية (العربي الجديد، 2023)^11.
5. دور السياسيين العراقيين والرأسمال العربي: تحالف الفساد العابر للحدود
منذ 2003، تحول ملف النفط إلى ميدان صراع بين القوى السياسية العراقية، حيث سعت كل جهة للاستحواذ على حصة من كعكة النفط عبر:
- الدفع بأفراد موالين في وزارة النفط وإدارات الشركات التابعة لها.
- تسهيل إبرام عقود مع شركات ذات صلات سياسية مقابل عمولات ضخمة.
- تقاسم الأرباح مع شركاء إقليميين، خاصة من الإمارات والكويت وقطر.
أمثلة معروفة:
- تقرير Financial Times (2019) أشار إلى أن بعض كبار السياسيين العراقيين يحتفظون بحسابات مصرفية ضخمة في بنوك خليجية تحتوي على تحويلات مشبوهة من شركات خدمات نفطية^12.
- شركة زين العراق – رغم كونها شركة اتصالات – تبيّن من تحقيق صحفي في The Intercept (2021) أنها متورطة عبر فروعها في تقديم خدمات لوجستية لشركات النفط، بما يعزز النفوذ الخليجي داخل قطاع النفط العراقي^13.
-
الخاتمة: بين الثروة النفطية والاحتلال الاقتصادي – أي مستقبل للعراق؟
يتضح من التحليل أن العراق لم يخسر فقط معركته النفطية من خلال العقود المجحفة، بل دخل في دوامة استنزاف اقتصادي مدعومة دوليًا ومتواطأ عليها داخليًا. لقد تحولت عقود النفط بعد 2003 إلى أداة لإدامة الهيمنة الغربية والخليجية على القرار الاقتصادي العراقي، بينما تقف الحكومة عاجزة عن استعادة زمام المبادرة.
الأخطر من ذلك أن هذه العقود جاءت في سياق استراتيجي أشمل:
- إضعاف شركة النفط الوطنية العراقية وتقزيم دورها.
- تعميق التبعية لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، اللذين يحددان الخطوط العريضة لسياسات الطاقة.
- مشاركة قوى سياسية عراقية في تسهيل النهب مقابل منافع شخصية، بما عمّق منظومة الفساد البنيوية.
هذا النموذج أعاد العراق فعليًا إلى ما قبل 1972، أي إلى مرحلة “استعمار النفط”، لكن هذه المرة بأدوات قانونية دولية وشراكات ظاهرها التنمية وباطنها الاستغلال.
توصيات استراتيجية للخروج من المأزق
- إعادة تفعيل شركة النفط الوطنية العراقية كمشغّل رئيسي للحقول الكبرى، مع صلاحيات حقيقية وموازنة مستقلة.
- مراجعة وإعادة التفاوض على عقود جولات التراخيص بما يحقق مصلحة العراق السيادية، مع إلغاء البنود المجحفة.
- فرض قيود صارمة على توظيف العمالة الأجنبية وإلزام الشركات بنسبة توطين تتجاوز 85%، تحت رقابة حكومية وشعبية.
- إنشاء هيئة مستقلة لمكافحة الفساد النفطي، تتعاون مع منظمات دولية لتتبع الأموال المنهوبة واستعادتها.
- تعزيز الشفافية: نشر نصوص العقود النفطية علنًا، وإشراك النقابات العمالية ومنظمات المجتمع المدني في الرقابة.
- تنويع الاقتصاد العراقي وتقليل الاعتماد على النفط كحيد أساسي من حيدة واحدة.
ملاحظة ختامية
إن الكتابة مسؤولية فكرية وأخلاقية تتطلب من الكاتب أن يتحرى الصدق، والموضوعية، والالتزام بقضايا العدالة والحرية. كما أن النقد الموجه لأي نص ينبغي أن يلتزم بضوابط الحوار الفكري المسؤول، فيُناقش الأفكار لا الأشخاص، ويبتعد عن الشخصنة والمناكفات التي تفسد الحوار وتضعف قيمته العلمية.
كل نص يُكتب، وكل نقد يُقدّم، يعكس مستوى وعي صاحبه، وأخلاقيته، وانحيازه.
لذلك، نهيب بالقراء الكرام الالتزام بثقافة الحوار الهادئ والبناء، لما فيه خدمة الحقيقة، وإنضاج النقاش، وإثراء الفضاء الفكري بقيم التعددية، والاحترام المتبادل، والسعي المشترك نحو مستقبل أفضل.
المراجع:
وزارة النفط العراقية. عقود جولات التراخيص: تحليل وتقييم. بغداد: وزارة النفط، 2015.
وزارة النفط العراقية. التقرير السنوي لحقل الرميلة. بغداد: وزارة النفط، 2016.
Chatham House. Iraq’s Oil Sector: Avoiding Resource Curse. لندن: تشاتام هاوس، 2017.
OilPrice. “Iraq’s Oil: The True Cost of Foreign Contracts.” 2019.
وزارة النفط العراقية. نصوص عقود جولات التراخيص. بغداد: وزارة النفط، 2010.
هيئة الإعلام والاتصالات العراقية. تقرير سوق العمل النفطي. بغداد: الهيئة، 2022.
الاتحاد العام لنقابات العمال العراقيين. ملف العمالة في قطاع النفط. بغداد: الاتحاد، 2023.
صندوق النقد الدولي. IMF Country Report No. 18/11. واشنطن: IMF، 2018.
الصباح الجديد. “لجنة الطاقة تكشف تلاعب شركة إكسون موبيل بحصص إنتاج النفط.” بغداد: الصباح الجديد، 2021.
هيئة النزاهة العراقية. تقرير عن عقود النفط الوهمية. بغداد: الهيئة، 2022.
العربي الجديد. “مشروع خط أنابيب البصرة–العقبة: قراءة نقدية.” 2023.
Financial Times. “Iraq’s Oil: Who Benefits?” 2019.
The Intercept. “شبكة النفوذ الخليجي داخل قطاع النفط العراقي.” 2021.
#علي_طبله (هاشتاغ)
Ali_Tabla#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟