علي طبله
مهندس معماري، بروفيسور، كاتب وأديب
(Ali Tabla)
الحوار المتمدن-العدد: 8332 - 2025 / 5 / 4 - 04:52
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
المقدمة: احتلال جديد بوجه مالي
رغم أن العراق يُعد خامس أكبر دولة من حيث احتياطي النفط عالميًا (145 مليار برميل مثبت)، ورغم موارده الطبيعية الهائلة، فإنه يعيش حالة من الفقر والتدهور الاقتصادي المزمن، حيث يعاني أكثر من 7 ملايين عراقي من الفقر، وتصل معدلات البطالة إلى 40% بين الشباب (برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، 2023)^1. السؤال: كيف يتحول بلد نفطي بهذا الحجم إلى دولة منهارة اقتصاديًا؟
الاحتلال الأميركي للعراق في 2003 لم يكن احتلالًا عسكريًا تقليديًا فقط، بل مثّل بداية مشروع استعمار مالي–اقتصادي جديد، صُمّم ليعيد تشكيل الدولة العراقية بحيث تبقى رهينة لقرارات الخارج، حتى بعد انسحاب القوات القتالية.
هذه المقالة تفتح ملف الاحتلال المالي الحديث، موثقة بأرقام وبيانات متاحة، وتسلّط الضوء على أبرز أدوات الهيمنة:
السيطرة الأميركية على عائدات النفط عبر البنك الفيدرالي.
استبدال الدولار بسندات خزينة تحدّ من السيولة.
الاعتماد الإجباري على بنوك وسيطة (الأردنية والإماراتية) التي تستنزف أموال الدولة يوميًا.
شروط صندوق النقد والبنك الدولي التي دمّرت الاقتصاد الإنتاجي.
ملفات حساسة مثل ميناء الفاو وأزمات المياه والتدخلات الإقليمية.
البنك الفيدرالي الأميركي: شريان الاقتصاد العراقي في يد واشنطن
وفقًا للاتفاقيات التي فرضت على العراق منذ عام 2003، تُودَع جميع عائدات النفط العراقي في حسابات مجمّدة لدى البنك الفيدرالي الأميركي في نيويورك. تشير تقارير صحفية إلى أن إجمالي الأموال العراقية المودعة هناك تصل إلى نحو 120 مليار دولار (واشنطن بوست، 2020)^2.
ما يجعل هذه الآلية خطيرة هو أن العراق لا يمكنه التصرف في أمواله بحرية، بل يحتاج إلى موافقة مسبقة من واشنطن. وقد ظهر هذا بوضوح في 2023 عندما قامت الولايات المتحدة بتعليق تحويلات مالية كبيرة للعراق بحجة مكافحة تهريب الدولار إلى إيران، وهو ما أدى إلى انهيار قيمة الدينار العراقي إلى أكثر من 1600 دينار مقابل الدولار في ذروته (البنك المركزي العراقي، 2023)^3.
سندات الخزينة الأميركية: قيود إضافية على السيولة
الأكثر تعقيدًا أن الولايات المتحدة لا تسلّم العراق كامل أمواله بالدولار النقدي، بل تمنحه جزءًا كبيرًا على شكل سندات خزينة أميركية قصيرة ومتوسطة الأجل. وفق تصريح البنك المركزي العراقي (2022)، تبلغ قيمة السندات الأميركية التي يحتفظ بها العراق نحو 40 مليار دولار، ما يعمّق أزمة السيولة (البنك المركزي العراقي، 2022)^4.
هذه السندات لا يمكن تحويلها إلى سيولة نقدية إلا بشروط صعبة وبعد فترات زمنية محددة، ما يجعل العراق يعاني من شح النقد الأجنبي رغم ضخامة موارده النفطية.
البنوك الوسيطة: نزيف مالي يومي
واحدة من أبرز أدوات الاستنزاف المالي هي البنوك الوسيطة، حيث أُجبر العراق على تمرير عملياته المالية والتجارية عبر البنك الأردني التجاري وبعض البنوك الإماراتية. هذه البنوك تفرض عمولات ضخمة تتراوح بين 0.5% إلى 2% من قيمة التحويلات، ما يستهلك عشرات الملايين من الدولارات شهريًا (الشرق الأوسط، 2023)^5.
على سبيل المثال، خلال الربع الأول من 2023، قدرت خسائر العراق من العمولات البنكية بنحو 250 مليون دولار، وهو مبلغ ضخم لدولة تواجه عجزًا ماليًا مستمرًا.
صندوق النقد الدولي: الشروط القاسية وتفكيك الاقتصاد الوطني
منذ عام 2005، ارتبط العراق بشراكة مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي من خلال برامج “إصلاح اقتصادي” مثل اتفاقية التسهيل الائتماني، والتي فرضت عليه شروطًا قاسية:
رفع الدعم عن الوقود والمواد الغذائية (تم رفع أسعار الوقود أكثر من 5 مرات بين 2005–2020).
خصخصة الشركات الحكومية (تمت تصفية نحو 172 مصنعًا حكوميًا بين 2003–2023 بحجة إعادة الهيكلة)^6.
تحرير سعر صرف الدينار، ما جعله عرضة لتقلبات السوق وأزمات العملة.
تقليص الإنفاق على الخدمات الصحية والتعليمية.
النتيجة كانت كارثية:
ارتفع معدل الفقر الوطني إلى 25% بحسب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (2023)^1.
ارتفعت نسبة البطالة بين الشباب إلى 40%، وهي الأعلى في المنطقة^7.
تفكك القطاع الصناعي والزراعي، وتحول العراق إلى دولة مستوردة بالكامل حتى للسلع الأساسية (وزارة التجارة العراقية، 2022)^8.
ميناء الفاو الكبير: المشروع الاستراتيجي المعلق
يُعتبر ميناء الفاو الكبير المشروع الأكثر طموحًا في تاريخ العراق الحديث، إذ يهدف إلى:
ربط الخليج العربي بأوروبا عبر العراق وتركيا (ما يُعرف بـ”طريق الحرير الجديد”).
استيعاب طاقة تصل إلى 99 مليون طن سنويًا، بتكلفة تقدر بنحو 6 مليارات دولار (وزارة النقل العراقية، 2021)^9.
لكن المشروع تعرض لعراقيل:
ضغوط خليجية (خاصة من الكويت) لتعطيله أو تقزيمه، حفاظًا على أولوية ميناء مبارك الكبير الكويتي^10.
صراعات داخلية بين قوى سياسية حول العقود، حيث تم منح جزء كبير من المشروع لشركات أجنبية بشروط وُصفت بأنها “مجحفة” (صحيفة الصباح، 2023)^11.
اتهامات بوجود رشاوى وصلت إلى ملايين الدولارات لإبطاء تنفيذ المشروع.
حتى اليوم، لم يكتمل سوى جزء محدود جدًا من المشروع، رغم مضي أكثر من عقد على بدء العمل.
معاهدة الإطار الاستراتيجي: غطاء قانوني للوصاية
وقّع العراق والولايات المتحدة عام 2008 اتفاقية الإطار الاستراتيجي، التي نصت على:
تعزيز التعاون الأمني والعسكري.
دعم بناء الاقتصاد العراقي، مع بند يتيح للولايات المتحدة مراجعة السياسة النقدية للعراق.
هذا الاتفاق منح واشنطن أداة قانونية لمواصلة فرض وصايتها على القرار المالي العراقي حتى بعد الانسحاب العسكري الرسمي في 2011 (معهد واشنطن، 2020)^12.
ملفات الفساد: سرقات موثقة
الفساد في العراق تحول إلى منظومة هيكلية منذ 2003:
هيئة النزاهة العراقية (2023) قدرت الأموال المنهوبة منذ 2003 بأكثر من 450 مليار دولار^13.
سرقة القرن (2022): اختفاء 2.5 مليار دولار من أمانات الضرائب، وهي أكبر سرقة موثقة في تاريخ الدولة العراقية الحديث.
مزاد العملة: وفق تقارير مصرفية (2020)، تم تهريب ما يزيد عن 50 مليار دولار خلال 10 سنوات عبر عمليات بيع وهمية للدولار.
قطاع الكهرباء: أكثر من 70 مليار دولار أُنفقت منذ 2003 دون تحقيق أي استقرار في الطاقة الكهربائية (وزارة الكهرباء، 2023)^14.
أزمات المياه: السلاح الصامت
العراق يواجه أيضًا تهديدًا وجوديًا في ملف المياه، حيث تسيطر تركيا وإيران على منابع الأنهار الرئيسية:
تركيا شيدت سدودًا ضخمة (مثل سد إليسو) على نهر دجلة، ما خفض حصة العراق المائية بنسبة 50% (وزارة الموارد المائية، 2022)^15.
إيران حوّلت مجرى نهر الكارون، مما زاد ملوحة المياه في البصرة وأدى إلى أزمات صحية واقتصادية خطيرة.
خاتمة: بين الاحتلال المالي واستعادة السيادة – أي طريق للعراق؟
تكشف هذه المقالة أن الاحتلال الأميركي للعراق لم يكن مجرد احتلال عسكري تقليدي، بل مثّل بداية حقبة استعمار مالي أعادت تصميم الدولة العراقية على أسس هشّة:
تبعية اقتصادية محضة عبر البنك الفيدرالي الأميركي وسندات الخزينة.
استنزاف مالي يومي عبر البنوك الوسيطة في الأردن والإمارات.
سياسات صندوق النقد الدولي التي دمرت القطاعات الإنتاجية وأبقت العراق دولة ريعية مستوردة لكل شيء.
عقود النفط والغاز المجحفة التي منحت الشركات الأجنبية سيطرة كاملة على ثروات العراق.
فساد مالي ممنهج أجهز على أي أمل في إعادة الإعمار الحقيقي.
وبينما يحاول العراق النهوض بمشاريع استراتيجية مثل ميناء الفاو، تبقى هذه المشاريع رهينة صراعات إقليمية وداخلية، وأي تقدم فيها يُواجَه بعراقيل ممنهجة.
القضية الأخطر أن الاحتلال المالي ليس واضحًا للعيان كما هو الحال مع الاحتلال العسكري. إنه احتلال ناعم، يمر عبر الاتفاقيات والعقود والمصارف والمنظمات الدولية، ويستخدم أدوات حديثة لإبقاء الدولة العراقية في حالة “نصف سيادة.”
إن معركة استعادة السيادة الوطنية لا يمكن أن تنجح دون:
تحرير القرار المالي العراقي، بدءًا من استعادة السيطرة على عائدات النفط.
إعادة النظر جذريًا في علاقة العراق مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
فرض الشفافية ومكافحة الفساد على أعلى المستويات.
إطلاق مشروع اقتصادي وطني مستقل، يعيد بناء القطاعات الإنتاجية (الصناعة والزراعة).
بناء جبهة وطنية موحدة تقود معركة التحرر الاقتصادي جنبًا إلى جنب مع التحرر السياسي.
العراق يقف اليوم أمام مفترق طرق: إما أن يبقى أسير هذه المنظومة الاستعمارية الجديدة، أو أن ينهض بحراك شعبي وطني حقيقي يعيد وضع الاقتصاد العراقي في يد أبنائه.
المراجع
برنامج الأمم المتحدة الإنمائي. الفقر في العراق: حقائق وإحصاءات. نيويورك: الأمم المتحدة، 2023.
واشنطن بوست. “العراق تحت رحمة البنك الفيدرالي الأميركي.” 2020.
البنك المركزي العراقي. تقرير سنوي عن السياسة النقدية. بغداد: البنك المركزي العراقي، 2023.
البنك المركزي العراقي. احتياطات العراق من الدولار وسندات الخزينة الأميركية. بغداد: البنك المركزي العراقي، 2022.
الشرق الأوسط. “البنوك الوسيطة: استنزاف جديد للاقتصاد العراقي.” 2023.
وزارة الصناعة العراقية. تقرير إغلاق المصانع الحكومية. بغداد: وزارة الصناعة، 2022.
منظمة العمل الدولية. تقرير سوق العمل في العراق. جنيف: منظمة العمل الدولية، 2023.
وزارة التجارة العراقية. استراتيجية الاستيراد الوطنية. بغداد: وزارة التجارة، 2022.
وزارة النقل العراقية. مشروع ميناء الفاو الكبير: الواقع والمستقبل. بغداد: وزارة النقل، 2021.
صحيفة العربي الجديد. “ميناء مبارك وأزمة العراق مع الكويت.” 20
#علي_طبله (هاشتاغ)
Ali_Tabla#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟